فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}
تقوى الله: طاعته واجتناب ما نهى عنه الشرع. الوسيلة: ما يتوسل به الإنسان إلى ثواب الله، والفعل (وسل) بمعنى تقرَّب، واسمٌ لأعلى منزلة في الجنة. الجهاد: من الجهد والمشقة. سبيل الله: كل معمل في طريق الخير والفضيلة وفي الدفاع عن العقيدة والوطن، فكل عمل في هذه الأمور هو جهاد في سبيل الله.
بعد أن ذكَر الله تعالى ان اليهود قد هموا ببسْط أيديهم إلى الرسول الكريم حسداً منهم لقوله، وغروراً بدينهم وأنفسهم أمر المؤمنين ان يتّقوا ربهم. وذلك باجتناب نواهيه، والتقرب إلى ثوابه ومرضاته بالايمان والعمل الصالح. ثم أمرهم ان يجاهدوا في سبيله بإعلاء كلمته، ومحاربة اعدائه، كل ذلك للفوز بالفلاح.
اما الوسيلة التي هي منزلة من اعلى منازل الجنة فقد وردت في الأحاديث الصحيحة عن عدد من الصحابة الكرام.
روى البخاري وأحمد وأصحاب السنن عن جابر بن عبدالله ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: «من قال حين يسمع الأذان: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة».

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}
ان الذين جحدوا ربوبية ربهم، وعبدوةا غيره، وماتوا على كفرهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم أبداً، فلو ملكوا ما في الأرض كلها وضِعفه معه وأرادوا ان يجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة لما قَبل منهم ذلك، ولا أخرجهم من النار. فلا سبيل إلى خلاصهم من العقاب.
روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع. فيقال: هل تفتدي بتراب الأرض ذهباً؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبتَ، سألتُك أقلَّ من ذلك لم تفعل، فيؤم به إلى النار».

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
النكال: العقاب. أو العبرة، {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]. بعد أن بيّن سبحانه عقاب الذين {يحاربون الله ورسوله}، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ذكّرنا بعقاب اللصوص السارقين. وقد جمع في هذه الآيات الكريمة بين الوازع الداخلي وهو الايمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
يا ولاة الأمور، اقطعوا يد من يسرق مِن الكف إلى الرسغ. وذلك لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة. وتُقطع اليد اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في الغالب.
والسرقة هي أخذُ مال الغير المحرَزِ خفيةً، فلابد ان يكون المسروق مالاً مقوَّما. والمبلغ المتفق بينَ فقهاء المسلمين على عقوبة سرقته هو ربعُ دينار. ولابد أن يكون هذا المالُ محفوظاً في دار أو مخزن وان يأخذه السارق من هناك. فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مالٍ إذا سرقهن أو أنكره. وكذلك الخادم المأذون له بدخول البيت لا يُقطع فيما يسرق. ولا على المستعير إذا جَحَد العارية. ولا على سارق الثمار في الحقل. ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته.
ولا قطْع حين يسرق الشريكُ من مال شريكه، ولا على الذي يسرق من بيت مال المسلمين. وعقوبة هؤلاء هي التعزير أو الحبس اوة ما يراه القاضي.
والشُبهة تَدرأ الحدَّ، فشبهة الجوع والحاجة تدرأه، وشبهة الشركة في المال تدرأه، ورجوع المعترف وتوبته تدرأ. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام «إدرأوا الحُدودَ بالشُبُهات» وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب: «لأَنْ أَعطِّلَ الحدودَ بالشُبهاتِ أحبُّ إليَّ من أن أقيمَها بالشُبُهات».
والعقوبة هنا على السرقة الصريحة، أمّا السرقة الضمنية، كالالتواء في التجارة وسرقة أقوات الشعب بتهريب الأموال إلى خارج دار الإسلام فلهنا أحكام أخرى.
والاسلام يكفل حق كل فرد من الحصول على ضرورات الحياة، فمن حق كل فرد (حتى غير المسلم) الحصولُ على ضرورات الحياة، أن يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يؤويه، وان يوفَّر له العمل ما دام قادراً. فإذا تعطَّل لعدم وجود العمل، أو لعدم قدرته على العمل فله الحق بأن تؤمِّن له الدولة الضروري من العيش. فاذا سرق وهو مكفيّ الحاجة، فإنهن لا يُعذر، ولا ينبغي لأحد ان يرأف به.
فأما حين توجد شُبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الإسلام هو درءُ الحدود بالشُبهات. ولذلك لم يوجِب سيدنا عمر القطعَ في عام الرّمادَة حيث عمَتِ المجاعة. كذلك لم يقطع عندما سرق غلمانُ حاطبٍ بن أَبي بلتعة ناقةً رجل من مزينة ثم تبين للخليفة ان سيِّدهم يتركهم جياعاً.
هكذا يجب ان نفهم الحدودَ في الاسلام: يضع الضمانات للجميع، ويتخذ أسباب الوقاية قبل العقوبة.
{والله عزيز حكيم} عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي، حيكم في وضعه الحدود والعقوبات بما تقتضي المصلحة.
قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأ هذه الآية فقلت {والله غفور رحيم} سهواً. فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد، فأعدت. ثم تنبّهت فقلت {والله عزيز حكيم}. فقال: الآن أصبت فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا {عزيز حكيم} فأمَرَ بالقطع، ولو غفر ورحم لما أمر به. فقد فهم الاعرابي ان مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة.
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ...}.
فمن تاب عن السرقة بعد ظلمه لنفسه باقترافها، وأصلح إيمانه بفعل الخير فإن الله يقبل توبته ويغفر به.
ولا يسقط الحد عن التائب، ولا تصحّ التوبة الا بإعادة المال المسروق بعينه ان كان باقيا أو دفعٍ قيمته إن هكل.
ثم بيّن الشارع أن عقاب السراق والعفَو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض...} يدبّره بحكمته ان وضَع هذا العقاب لمن يسرق، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء إذا صدقوا التوبة. انه يعذّب العاصي تربية له، وتأميناً للعباد من أذاه وشره. كما يرحم التائب بالغفران ترغيباً له.

.تفسير الآيات (41- 43):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
الحزن: ألمٌ يجده الإنسان عند فَوت ما يحب. سارعَ في كذا: أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا الكفّار داخلين في الكفر. الفتنة: الاختبار، كما يُفتن الذهب بالنار. السحت: ما خبُث من المكاسب وحرم. المقسِط: العادل.
يا أيها الرسول: خطاب للنبي، وقد ورد الخطاب في جميع القرآن الكريم بعبارة {يا أيّها النبي} إلا هنا في هذه الآية، والآية 67 من هذه السورة {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. هذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتعليمٌ للمؤمنين ان يخاطبوه بهذا الوصف العظيم.
أيها الرسول، لا تهتم بهؤلاء المنافقين الذين يتنقلون في مراتب الكفر من أدناها إلى أَعلاها، ويسارعون في التحيز إلى اعداء المؤمنين عندما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرّهم، وينصرك عليهم وعلى من ناصرهم.
{مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ...}
.. الذين أدّعوا بألسنتهم ولم يؤمن قلوبهم.
{وَمِنَ الذين هِادُواْ..}.
ومن اليهود الذي يُكثرون الاستماعَ إلى ما يقوله رؤساؤهم وأحبارهم في النبي صلى الله عليه وسلم والاستجابة لطائفة منهم، لم يحضروا مجلسَك تكبُّراً وبغضاً. فهم جواسيس بين المسلمين يبلّغون رؤساءَهم أعداءَ الإسلام كل ما يقفون عليه من أخبار، ويحرّفون ما يحرفون، ثم ينقلون تلك الأكاذيب إلى الأحبار المتخلّفين عن الحضور.
{يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..}.
اي يحرّفون كلام التوراة بعد أن ثبّته الله في مواضعه المعّينة إما تحريفاً لفظياً بإبدال كلماته، أو باخفائه وكتمانه تسهيلاً لزيادةٍ فيه أو النقص منه، وإما تحريفاً معنوياً بالالتواء في التفسير.
روى الامام أحمد والبخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال: «ان اليهود أتوا النبي صلى لله عليه وسلم برجلٍ منهم امرأةٍ قد زنيا فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نُسَخِّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم ان فيها الرجم، فأتُوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتُم صادقين. فجاؤوا بالتوراة مع قارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا. فقرأ، حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقي له: ارفع يدك. فرفع يده، فاذا هي تلوح» يعني آية الرجم «فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنّا كنّا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله فرُجما».
ومن قبيل ذلك ما قاله مارتن لوثر في كتابه: اليهود وأكاذيبهم. هؤلاء هم الكاذبون الحقيقيون مصّاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس وإفساده، من الدفة إلى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم... الخ وهي كلمة طويلة.
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ...}
يقول اولئك الرؤساء لأتباعهم الذين أرسلوهم ليسألوا النبيّ عن حكم الرجل والمرأة الزانين إن اعطاكم محمد رخصة بالجَلد عوضاً عن الرجّم فخُذوها، وارضوا بها، وإن حكَمَ بالرَّجم فارفضوا ذلك.
{وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ...}
ومن يُرد الله اختباره في دينه فيُظهره الاختبارُ ضلالَه وكفره، فلن تملِك له يا محمد شيئاً من الهداية. هؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود.. قد أظهرت فتنةُ الله لهم مقدارَ فسادهم، فهم يقلبون الكذب ويحرفون كلام الله، اتباعاً لأهوائهم ومرضاة رؤسائهم. لا تحزن البتةَ على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الايمان، ولا تخفْ عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين.
{أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله...} إنّ ا لذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق فلن تستطيع ان تهديهم، لهم في الدنيا خِزي وذلّ ولهم في الآخرة عذاب شديد.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}
اعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب، للتأكيد، وبيان أن أمرهم كلَّه مبينٌّ على الكذب. كما وصفهم بأنهم أكالون للسحت، أي الحرام، لأنه انتشر بينهم، كالرشوة والربا واختلاص الأموال. وكل ذلك شائع في مجتمعنا نحن الآن مع الأسف.

.قراءات: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويقعوب السُّحُت بضمتين، وهما لغتان.

{فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ...}
فإن جاؤوك لِتحكم بينم فأنت مخيَّر بين الحكم بينهم والاعراض عنهم. فإن اخترتَ الإعراض عنهم فلن يضروك بأي شيء، لأن الله عاصمُك من الناس. {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}. وإن اخترتَ ان تحكم بينم فاحكم بالعدل الذي أمَر الله بيه، وهو ما تضمّنه القرآن واشتملت عليه شريعة الاسلام. ان الله يحب العادلين. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين}.
عجباً لهم كيف يطلبون حكمك في قضاياهم مع ان حكم الله منصوص عليه عندهم في التوراة، هي شريعتهم، ثم يرفضون ما حكمتَ به لأنه لم يوافق هواهم!! ان أمرهم لمن أعجب العجب، وما سببُ ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين لا بالتوراة ولا بك أيضا.

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
التوراة: الكتاب الذين أُنزل على موسى. الذين هادوا: اليهود: الربانيون: المنسوبون إلى الرب. الأحبار: جمع حَبر، وهو العالِمخ، بما استحفظوا من كتاب الله: بما طُلب اليهم حفظه منه. شهود: رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به.
بعد أن ذكر سبحانه حال اليهود من تَرْكِهم حكم التوراة، وطلبِهم من النبي ان يحكم بينهم، ثم رفضهم الحكم لمّا خالف اهواءهم بيّن لنا سبحانه وتعالى صفة التوراة التي يرفضونها فقال:
التوراة هداية أُنزلت على موسى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عن العمل بها، لما عَرَض لهم من الفساد. وفي ذلك من العبرة ان الانتماء إلى الدين لا ينفع أهلَه إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وان إيثار اليهود اهواءهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
انا انزلنا التوراة على موسى مشتملة على الهدى والارشاد.
وبهذا الهدى والنور خرج بنو اسرائيل من وثنية الفراعنة إلى طريق التوحيد..
بموجب التروامة هذه كان يحكم النبيّون الذي أخلصوا في دينهم، موسى ومن بعده من أنبياء بني اسرائيل إلى وقت عيسى عليه السلام. كذلك كان يحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، أو بإذنهم حالَ وجودهم. كانوا شهودا رقباء على ذلك الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به.
وقبل ان ينتهي السياق من الحديث عن التوراة يتجه الحديث إلى المؤمنين عامة، فيدعوهم إلى الحكم بكتاب الله، ويذكّرهم أن من واجب كل من اسُحفظ على كتاب الله ان يحفظه.
{فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون...}
فلا تخافوا الناس في أحكامهم، وخافوني انا ربكم ربّ العالمين. ولا تجروا وراء طمعكم فتبدّلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلا من متاع الدنيا كالرشوة والجاة وغيرها. ان كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله أو أخفاه وحكَم بغيره لهو كافر، يستر الحق ويبدي الباطل. فأين يقع حكّمنا هذه الأيام!