فصل: المقدمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: حراسة الفضيلة (نسخة منقحة)




.المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه رسالة نُخرجها للناس لِتَثْبيتِ نساء المؤمنين على الفضيلة، وكشف دعاوى المستغربين إلى الرذيلة، إذ حياة المسلمين المتمسكين بدينهم اليوم، المبنية على إقامة العبودية لله تعالى، وعلى الطهر والعفاف، والحياء، والغيرة حياة محفوفة بالأخطار من كل جانب، بجلب أمراض الشبهات في الاعتقادات والعبادات، وأمراض الشهوات في السلوك والاجتماعيات، وتعميقها في حياة المسلمين في أسوأ مخطط مسخر لحرب الإسلام، وأسوأ مؤامرة على الأمة الإسلامية، تبناها: النظام العالمي الجديد في إطار نظرية الخلط -وهي المسماة في عصرنا: العولمة، أو الشوملة، أو الكوكبة- بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر، والصالح والطالح، والسنة والبدعة، والسني والبدعي، والقرآن والكتب المنسوخة المحرفة كالتوراة والإنجيل، والمسجد والكنيسة، والمسلم والكافر، ووحدة الأديان، ونظرية الخلط هذه أنكى مكيدة، لتذويب الدِّين في نفوس المؤمنين، وتحويل جماعة المسلمين إلى سائمة تُسَام، وقطيع مهزوز اعتقادُه، غارق في شهواته، مستغرق في ملذّاته، متبلد في إحساسه، لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً، حتى ينقلب منهم من غلبت عليه الشقاوة على عقبيه خاسراً، ويرتد منهم من يرتد عن دينه بالتدريج.
كل هذا يجري باقتحام الولاء والبراء، وتَسريب الحب والبغض في الله، وإلجام الأقلام، وكفّ الألسنة عن قول كلمة الحق، وصناعة الاتهامات لمن بقيت عنده بقية من خير، ورميه بلباس: الإرهاب والتطرف والغلو والرجعية، إلى آخر ألقاب الذي كفروا للذين أسلموا، والذين استغربوا للذين آمنوا وثبتوا، والذين غلبوا على أمرهم للذين استُضعفوا.
ومِن أشأم هذه المخاطر، وأشدّها نفوذاً في تمييع الأمة، وإغراقها في شهواتها، وانحلال أخلاقها، سعى دعاة الفتنة الذين تولوا عن حماية الفضائل الإسلامية في نسائهم ونساء المؤمنين، إلى مدارج الفتنة، وإشاعة الفاحشة ونشرها، وعدلوا عن حفظ نقاء الأعراض وحراستها إلى زلزلتها عن مكانتها، وفتح أبواب الأطماع في اقتحامها، كل هذا من خلال الدعوات الآثمة، والشعارات المضللة باسم حقوق المرأة، وحريتها، ومساواتها بالرجل.. وهكذا، من دعوات في قوائم يطول شرحها، تناولوها بعقول صغيرة، وأفكار مريضة، يترجلون بالمناداة إليها في بلاد الإسلام، وفي المجتمعات المستقيمة لإسقاط الحجاب وخلعه، ونشر التبرج والسفور والعري والخلاعة والاختلاط، حتى يقول لسان حال المرأة المتبرجة: هَيْتَ لكم أيها الإباحيون.
وقد تلطفوا في المكيدة، فبدؤوا بوضع لبنة الاختلاط بين الجنسين في رياض الأطفال، وبرامج الأطفال في وسائل الإعلام، وركن التعارف بين الأطفال، وتقديم طاقات -وليس باقات-الزهور من الجنسين في الاحتفالات، وهكذا يُخترق الحجاب، ويُؤسَّس الاختلاط، بمثل هذه البدايات التي يستسهلها كثير من الناس!!
وكثير من الناس تغيب عنهم مقاصد البدايات، كما تغيب عنهم معرفة مصادرها، كما في تجدد الأزياء –الموضة- الفاضحة الهابطة، فإنها من لدن البغايا اللائي خسرن أغراضهن، فأخذن بعرض أنفسهن بأزياء متجددة، هي غاية في العري والسفالة، وقد شُحنت بها الأسواق، وتبارى النساء في السبق إلى شرائها، ولو علموا مصدرها المتعفن، لتباعد عنها الذين فيهم بقية من حياء.
ومن البدايات المحرمة: إلباس الأطفال الملابس العارية، لما فيها من إيلاف الأطفال على هذه الملابس والزينة، بما فيها من تشبه وعُريّ وتهتك.
وهكذا سلكوا شتى السبل، وصاحوا بسفور المرأة وتبرجها من كل جانب، بالدعوة تارة، وبالتنفيذ تارة، وبنشر أسباب الفساد تارة، حتى صار الناس في أمر مريج، وتَزلْزَل الإيمان في نفوس كثيرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
إذاً!! لا بد من كلمة حق ترفع الضَّيم عن نساء المؤمنين، وتدفع شر المستغربين المعتدين على الدين والأمة، وتُعْلِن التذكير بما تعبّد الله به نساء المؤمنين من فرض الحجاب، وحفظ الحياء والعفة والاحتشام، والغيرة على المحارم، والتحذير مما حرّمه الله ورسوله من حرب الفضيلة بالتبرج والسفور والاختلاط، وتفقأ الحصرم في وجوه خونة الفضيلة، ودعاة الرذيلة، ليقول لسان حال العفيفة:
إليكَ عني! إليكَ عني ** فَلَسْتُ منك ولستَ مني

ولِيُثَبِّت الله بها من شاء من عباده على صيانة محارمهم وصون نسائهم من هذه الدعوات، وأنه لا مجال لحمل شيء منها محمل إحسان، لما يشاهده المسلمون من تيار الخلاعة والمجون والسفور، وشيوع الفاحشة في عامة المجتمعات الإسلامية التي سرت فيها هذه الدعايات المضللة.
بل إن الصحافة تسفّلت في النقيصة، فنشرت كلمات بعض المقبوحين بإعلان هواية مقدمات البغاء، مثل: المعاكسة، وقول بعض الوضعيين: إنه يهوى معاكسة بنات ذوي النسب، وهكذا من صيحات التشرد النفسي، والانفلات الأخلاقي.
وليتق الله امرؤ من أب أو ابن أو أخ أو زوج ونحوهم، ولاّه الله أمر امرأة أن يتركها تنحرف عن الحجاب إلى السفور، ومن الاحتشام إلى الاختلاط، والحذر من تقديم أطماع الدنيا وملاذّ النفوس على ما هو خير وأبقى من حفظ العِرض، والأجر العريض في الآخرة.
وعلى نساء المسلمين أن يتقين الله، وأن يسلمن الوجه لله، والقيادة لمحمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا يلتفتن إلى الهمل دعاة الفواحش والأفن.
ومن كان صادق الإيمان قوي اليقين تحصن بالله، واستقام على شرعه.
والآن هذه رسالة تنير السبيل في:
أصول في الفضيلة وحراستها وحث المؤمنات على التزامها.
وفي كشف دعاة المرأة إلى الرذيلة وتحذير المؤمنات من الوقوع فيها.
وبالفصل الأول يعلم قطعاً الرد على الثاني.
وفيما ذُكر -إن شاء الله- مقنع وهداية، وعظة وكفاية، لمن نوَّر الله بصيرته، وأراد هدايته وتثبيته، وكل امرئٍ حسيب نفسه، فلينظر موضع صَدَره وورده، وقد أبلغت وحسبي الله ونعم الوكيل.
هذا وإن هذه الرسالة خلاصة انتَخَلْتها واستخلصتها من نحو مئتي كتاب ورسالة ومقالة عن المرأة، عدا كتب التفسير والحديث والفقه ونحوها، ولم أرد إثقال هذه الرسالة بعزو بعض العبارات والجمل إلى مواضعها، اكتفاءً بهذه الإشارة، وإن مما يثبِّت الله به قلوب المؤمنين والمؤمنات، إظهار جملة من اللفتات لأسرار التنزيل في عدد من الآيات، وفي هذه الرسالة طائفة مباركة منها، كما ستراه في مثاني الصفحات.
وأسأل الله سبحانه أن يُلْبِسَها حُلَل القبول، والحمد لله رب العالمين.
المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد.
1/ 4/ 1420هـ.

.الفصل الأول: في ذكر عشرة أصول للفضيلة:

.الأصل الأول: وجوب الإيمان بالفوارق بين الرجل والمرأة:

الفوارق بين الرجل والمرأة، الجسدية والمعنوية والشرعية، ثابتة قدراً وشرعاً، وحساً وعقلاً.
بيان ذلك: أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة شطرين للنوع الإنساني: ذكراً وأنثى {وأنّه خلَق الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]، يشتركان في عِمارة الكون كلٌّ فيما يخصه، ويشتركان في عمارته بالعبودية لله تعالى، بلا فرق بين الرجال والنساء في عموم الدين: في التوحيد، والاعتقاد، وحقائق الإيمان، وإسلام الوجه لله تعالى، وفي الثواب والعقاب، وفي عموم الترغيب والترهيب، والفضائل. وبلا فرق أيضاً في عموم التشريع في الحقوق والواجبات كافة: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وقال سبحانه: {مَن عَمِلَ صالحاً مِن ذكرٍ أَو أُنثى وَهُو مؤمن فلنحْيِيَنَّه حياة طيبة} [النحل: 97]. وقال عز شأنه: {ومن يعمل من الصالِحَاتِ من ذكرٍ أو أنثَى وَهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظْلمون نقيراً} [النساء: 124].
لكن لما قَدَّر الله وقضى أن الذكر ليس كالأنثى في صِفة الخلقة والهيئة والتكوين، ففي الذكورة كمال خَلقي، وقوة طبيعية، والأنثى أنقص منه خلقة وجِبِلَّة وطبيعةً، لما يعتريها من الحيض والحمل والمخاض والإرضاع وشؤون الرضيع، وتربية جيل الأمة المقبل، ولهذا خلقت الأنثى من ضِلع آدم عليه السلام، فهي جزء منه، تابع له، ومتاع له، والرجل مؤتمن على القيام بشؤونها وحفظها والإنفاق عليها، وعلى نتاجهما من الذرية.
كان من آثار هذا الاختلاف في الخلقة: الاختلاف بينهما في القوى، والقُدرات الجسدية، والعقلية، والفكرية، والعاطفية، والإرادية، وفي العمل والأداء، والكفاية في ذلك، إضافة إلى ما توصل إليه علماء الطب الحديث من عجائب الآثار من تفاوت الخلق بين الجنسين.
وهذان النوعان من الاختلاف أنيطت بهما جملة كبيرة من أحكام التشريع، فقد أوجبا -ببالغ حكمة الله العليم الخبير- الاختلاف والتفاوت والتفاضل بين الرجل والمرأة في بعض أحكام التشريع، في المهمات والوظائف التي تُلائم كلَّ واحد منهما في خِلقته وتكوينه، وفي قدراته وأدائه، واختصاص كل منهما في مجاله من الحياة الإنسانية، لتتكامل الحياة، وليقوم كل منهما بمهمته فيها.
فخصَّ سبحانه الرجال ببعض الأحكام، التي تلائم خلقتهم وتكوينهم، وتركيب بنيتهم، وخصائص تركيبها، وأهليتهم، وكفايتهم في الأداء، وصبرهم وَجَلدهم ورزانتهم، وجملة وظيفتهم خارج البيت، والسعي والإنفاق على من في البيت.
وخص سبحانه النساء ببعض الأحكام التي تلائم خلقتهن وتكوينهن، وتركيب بنيتهن، وخصائصهن، وأهليتهن، وأداءهن، وضعف تحملهن، وجملة وظيفتهن ومهمتهن في البيت، والقيام بشؤون البيت، وتربية من فيه من جيل الأمة المقبل.
وذكر الله عن امرأة قولها: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36]، وسبحانه من له الخلق والأمر والحكم والتشريع: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54].
فتلك إرادة الله الكونية القدرية في الخلق والتكوين والمواهب، وهذه إرادة الله الدينية الشرعية في الأمر والحكم والتشريع، فالتقت الإرادتان على مصالح العباد وعمارة الكون، وانتظام حياة الفرد والبيت والجماعة والمجتمع الإنساني.
وهذا طرف مما اختص به كل واحد منهما:
فمن الأحكام التي اختص بها الرجال:
الله أنهم قوامون على البيوت بالحفظ والرعاية وحراسة الفضيلة، وكف الرذائل، والذود عن الحمى من الغوائل، وقَوّامون على البيوت بمن فيها بالكسب والإنفاق عليهم.
قال الله تعالى: {الرجال قَوَّامونَ على النسَاء بِما فضَّل اللهُ بعضهمْ على بعضٍ وبِما أنفقوا مِن أمْوالهم فالصَّالحِات قانتاتٌ حافظاتٌ للغيبِ بما حفظ الله} [النساء: 34].
وانظر إلى أثر هذا القيام في لفظ القرآن العظيم: {تَحْتَ} في قول الله تعالى في سورة التحريم: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} [التحريم: 10].
فقوله سبحانه: {تحت} إعلام بأنه لا سلطان لهما على زوجيهما، وإنما السلطان للزوجين عليهما، فالمرأة لا تُسَاوَى بالرجل ولا تعلو فوقه أبداً.
الله ومنها: أن النبوة والرسالة لا تكون إلا في الرجال دون النساء، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} [يوسف: 109].
قال المفسرون: ما بعث الله نبياً: امرأة، ولا ملكاً، ولا جنياً، ولا بدوياً.
الله وأن الولاية العامة، والنيابة عنها، كالقضاء والإدارة وغيرهما، وسائر الولايات كالولاية في النكاح، لا تكون إلا للرجال دون النساء.
الله وأن الرجال اختصوا بكثير من العبادات دون النساء، مثل: فرض الجهاد، والجُمع، والجماعات، والأذان والإقامة وغيرها، وجُعل الطلاق بيد الرجل لا بيدها، والأولاد ينسبون إليه لا إليها.
الله وأن للرجل ضعف ما للأنثى في الميراث، والدية، والشهادة وغيرها.
وهذه وغيرها من الأحكام التي اختص بها الرجال هو معنى ما ذكره الله سبحانه في آخر آية الطلاق [228 من سورة البقرة] في قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}.
وأما الأحكام التي اختص الله بها النساء فكثيرة تنتظم أبواب: العبادات، والمعاملات، والأنكحة وما يتبعها، والقضاء وغيرها، وهي معلومة في القرآن والسنة والمدونات الفقهية، بل أفردت بالتأليف قديماً وحديثاً.
ومنها ما يتعلق بحجابها وحراسة فضيلتها.
وهذه الأحكام التي اختص الله سبحانه بها كل واحد من الرجال والنساء تفيد أموراً، منها الثلاثة الآتية:
الأمر الأول: الإيمان والتسليم بالفوارق بين الرجال والنساء؛ الحسية والمعنوية والشرعية، وليرض كلٌّ بما كتب الله له قدراً وشرعاً، وأن هذه الفوارق هي عين العدل، وفيها انتظام حياة المجتمع الإنساني.
الأمر الثاني: لا يجوز لمسلم ولا مسلمة أن يتمنى ما خص الله به الآخر من الفوارق المذكورة، لما في ذلك من السخط على قدر الله، وعدم الرضا بحكمه وشرعه، وليسأل العبد ربَّه من فضله، وهذا أدب شرعي يزيل الحسد، ويهذب النفس المؤمنة، ويروضها على الرضا بما قدَّر الله وقضى.
ولهذا قال الله تعالى ناهياً عن ذلك: {ولا تتمنوا مَا فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجالِ نصيبٌ مِمَّا اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إنَّ اللهَ كانَ بكلِّ شيءٍ عليماً} [النساء: 32].
وسبب نزولها ما رواه مجاهد قال: قالت أم سلمة: أيْ رسول الله! أيغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟ فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله} رواه الطبري، والإمام أحمد، والحاكم وغيرهم.
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تتشهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، وذُكر أن ذلك نزل في نساء تمنين منازل الرجال، وأن يكون لهن ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق، انتهى.
الأمر الثالث: إذا كان هذا النهي- بنص القرآن- عن مجرد التمني، فكيف بمن ينكر الفوارق الشرعية بين الرجل والمرأة، وينادي بإلغائها، ويطالب بالمساواة، ويدعو إليها باسم المساواة بين الرجل والمرأة؟
فهذه بلا شك نظرية إلحادية؛ لما فيها من منازعة لإرادة الله الكونية القدرية في الفوارق الخَلقية والمعنوية بينهما، ومنابذة للإسلام في نصوصه الشرعية القاطعة بالفرق بين الذكر والأنثى في أحكام كثيرة، كما تقدم بعضها.
ولو حصلت المساواة في جميع الأحكام مع الاختلاف في الخِلقة والكفاية؛ لكان هذا انعكاساً في الفطرة، ولكان هذا هو عين الظلم للفاضل والمفضول، بل ظلم لحياة المجتمع الإنساني، لما يلحقه من حرمان ثمرة قُدراتِ الفاضل، والإثقال على المفضول فوق قدرته، وحاشا أن يقع مثقال خردلة من ذلك في شريعة أحكم الحاكمين، ولهذا كانت المرأة في ظل هذه الأحكام الغراء مكفولة في أمومتها، وتدبير منزلها، وتربية الأجيال المقبلة للأمة.
ورحم الله العلامة محمود بن محمد شاكر إذ قال معلقاً على كلام الطبري المتقدم [8/260]: ولكن هذا باب من القول والتشهي، قد لَجَّ فيه أهل هذا الزمان، وخلطوا في فهمه خلطاً لا خلاص منه إلا بصدق النية، وبالفهم الصحيح لطبيعة هذا البشر، وبالفصل بين ما هو أمانٍ باطلة لا أصل لها من ضرورة، وبالخروج من ربقة التقليد للأمم الغالبة، وبالتحرر من أسر الاجتماع الفاسد الذي يضطرب بالأمم اليوم اضطراباً شديداً، ولكن أهل ملتنا هداهم الله وأصلح شؤونهم قد انساقوا في طريق الضلالة، وخلطوا بين ما هو إصلاح لما فسد من أمورهم بالهمة والعقل والحكمة، وبين ما هو إفساد في صورة إصلاح، وقد غلا القوم وكثرت داعيتهم من ذوي الأحقاد، الذين قاموا على صحافة زمانهم، حتى تبلبلت الألسنة، ومرجت العقول، وانزلق كثير من الناس مع هؤلاء الدعاة، حتى صرنا نجد من أهل العلم ممن ينتسب إلى الدين من يقول في ذلك مقالة يبرأ منها كل ذي دين، وَفرْقٌ بين أن تحيا أمة رجالاً ونساءً حياة صحيحة سليمة من الآفات والعاهات والجهالات، وبين أن تُسقِطَ الأمةُ كلُ كلَّ حاجز بين الرجال والنساء، ويصبح الأمر كله أمر أمانٍ باطلة، تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق، كما قال أبو جعفر، لله دره ولله بلاؤه، فاللهم اهدنا سواء السبيل، في زمان خانت الألسنة فيه عقولها، وليحذر الذين يخالفون عن أمر الله، وعن قضائه فيهم، أن تصيبهم قارعة تذهب بما بقي من آثارهم في هذه الأرض، كما ذهبت بالذين من قبلهم انتهى.
فثبت بهذا الأصل الفوارق الحسية، والمعنوية، والشرعية، بين الرجل والمرأة.
وتأسيساً على هذا الأصل تأتي الأصول التالية، فهي الفوارق بينهما في الزينة والحجاب.

.الأصل الثاني: الحجاب العام:

الحجاب بمعناه العام: المنع والستر، فرض على كل مسلم من رجل أو امرأة، الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة، وأحدهما مع الآخر، كلٌّ بما يناسب فطرته، وجِبِلته، ووظائفه الحياتية التي شرعت له، فالفوارق الحجابية بين الجنسين حسب الفوارق الخَلقية، والقدرات، والوظائف المشروعة لكل منهما.
فواجب على الرجال ستر عوراتهم من السرة إلى الركبة عن الرجال والنساء، إلا عن زوجاتهم أو ما ملكت يمين الرجل.
ونهى الشرع عن نوم الصبيان في المضاجع مجتمعين، وأمر بالتفريق بينهم، مخافة اللمس والنظر، المؤدي إلى إثارة الشهوة.
وفي الصلاة نهى الرجل أن يصلي وليس على عاتقه شيء.
ولا يطوف بالبيت عريان من رجل أو امرأة.
ولا يصلي أحدهما وهو عريان، ولو كان وحده بالليل في مكان لا يراه أحد.
ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن المشي عُراة فقال: «لا تمشوا عراة».
ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا كان أحدنا خالياً أن يتعرى، قال- صلى الله عليه وسلم-: «فالله أحق أن يستحيا منه من الناس».
وفي الإحرام: معلومة الفوارق بين الجنسين.
ونهى الرجال عن الزينة المخلة بالرجولة من التشبه بالنساء في لباس أو حلية أو كلام، أو نحو ذلك.
ونهى الرجال عن الإسبال تحت الكعبين، والمرأة مأمورة بإرخاء ثوبها قدر ذراع لستر قدميها.
وأمر المؤمنين بِغضِّ أبصارهم عن العورات، وعن كل ما يثير الشهوة، وهذا أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام.
والنهي عن الخلوة من الرجال بالمردان، والنظر إليهم بشهوة، أو مع خوف ثورانها.
وهكذا.. من وسائل التزكية والتطهير من الذنوب والأرجاس، لما يورثه ذلك من حلاوة الإيمان ونور القلب، وقوته، وحفظ الفروج، والعزوف عن الفواحش والخنا، وخورام المروءة، وحفظ الحياء، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير».

.الأصل الثالث: الحجاب الخاص:

يجب شرعاً على جميع نساء المؤمنين التزام الحجاب الشرعي، الساتر لجميع البدن، بما في ذلك الوجه والكفان، والساتر لجميع الزينة المكتسبة من ثياب وحلي وغيرها من كل رجل أجنبي، وذلك بالأدلة المتعددة من القرآن والسنة، والإجماع العملي من نساء المؤمنين من عصر النبي- صلى الله عليه وسلم- مروراً بعصر الخلافة الراشدة، فتمام القرون المفضلة، مستمراً العمل إلى انحلال الدولة الإسلامية إلى دويلات في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وبدلالة صحيح الأثر، والقياس المطرد، وبصحيح الاعتبار بجلب المصالح ودرء المفاسد.
وهذا الحجاب المفروض على المرأة إن كانت في البيوت فمن وراء الجُدر والخدور، وإن كانت في مواجهة رجل أجنبي عنها داخل البيت أو خارجه فالحجاب باللباس الشرعي: العباءة والخمار الساتر لجميع بدنها وزينتها المكتسبة، كما دلَّت النصوص على أنَّ هذا الحجاب لا يكون حجاباً شرعياً إلا إذا توافرت شروطه، وأن لهذا الحجاب من الفضائل الجمة، الخير الكثيرة والفضل الوفير، ولذا أحاطته الشريعة بأسباب تمنع الوصول إلى هتكه أو التساهل فيه.
فآل الكلام في هذا الأصل إلى أربع مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الحجاب.
المسألة الثانية: بم يكون الحجاب؟
المسألة الثالثة: أدلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين.
المسألة الرابعة: في فضائل الحجاب.
وإليك بيانها:

.المسألة الأولى: تعريف حجاب المرأة شرعاً:

الحجاب: مصدر يدور معناه لغة على: السَّتر والحيلولة والمنع.
وحجاب المرأة شرعاً: هو ستر المرأة جميع بدنها وزينتها، بما يمنع الأجانب عنها من رؤية شيء من بدنها أو زينتها التي تتزين بها، ويكون استتارها باللباس وبالبيوت.
أما ستر البدن: فيشمل جَميعه، ومنه الوجه والكفان، كما سيأتي التدليل عليه في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى.
وأما ستر زينتها: فهو ستر ما تتزين به المرأة، خارجاً عن أصل خلقتها، وهذا معنى الزينة في قول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} [النور: 31]، ويسمى: الزينة المكتسبة، والمستثنى في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} هو الزينة المكتسبة الظاهرة، التي لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدنها، كظاهر الجلباب –العباءة- ويقال: الملاءة، فإنه يظهر اضطراراً، وكما لو أزاحت الريح العباءة عما تحتها من اللباس، وهذا معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {إلا ما ظهر منها} أي: اضطراراً لا اختياراً، على حدِّ قل الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعهاً} [البقرة: 286].
وإنما قلنا: التي لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدنها، احترازاً من الزينة التي تتزين بها المرأة، ويلزم منها رؤية شيء من بدنها، مثل: الكحل في العين، فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه، وكالخضاب والخاتم، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد، وكالقُرط والقِلادة والسُّوار، فإن رؤيتها تستلزم رؤية محله من البدن، كما لا يخفى.
ويدل على أن معنى الزينة في الآية: الزينة المكتسبة لا بعض أجزاء البدن أمران:
الأول: أن هذا هو معنى الزينة في لسان العرب.
الثاني: أن لفظ الزينة في القرآن الكريم، يراد به الزينة الخارجة، أي المكتسبة، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الأصل، فيكون معنى الزينة في آية سورة النور هذه على الجادة، إضافة إلى تفسير الزينة بالمكتسبة لا يلزم منها رؤية شيء من البدن المزين بها، أنه هو الذي به يتحقق مقصد الشرع من فرض الحجاب من الستر والعفاف والحياء وغض البصر، وحفظ الفرج، وطهارة قلوب الرجال والنساء، ويقطع الأطماع في المرأة، وهو أبعد عن الرِّيبة وأسباب الفساد والفتنة.

.المسألة الثانية: بِمَ يكون الحجاب؟

عرفنا أن الحجاب لفظ عام بمعنى: السَّتر، ويراد به هنا ما يستر بدن المرأة وزينتها المكتسبة من ثوب وحلي ونحوهما عن الرجال الأجانب، وهو بالاستقراء لدلالات النصوص يتكون من أحد أمرين:
الأول: الحجاب بملازمة البيوت؛ لأنها تحجبهن عن أنظار الرجال الأجانب والاختلاط بهم.
الثاني: حجابها باللباس، وهو يتكون من: الجلباب والخمار، ويقال: العباءة والمسفع، فيكون تعريف الحجاب باللباس هو:
ستر المرأة جميع بدنها، ومنه الوجه والكفان والقدمان، وستر زينتها المكتسبة بما يمنع الأجانب عنها رؤية شيء من ذلك، ويكون هذا الحجاب بـ الجلباب والخمار، وهما:
1- الخمار: مفرد جمعه: خُمُر، ويدور معناه على: السَّتر والتغطية، وهو: ما تغطي به المرأة رأسها ووجها وعنقها وجيبها.
فكل شيءٍ غطَّيْتَه وستَرْتَهُ فقد خَمَّرته.
ومنه الحديث المشهور: «خمِّروا آنيتكم» أي: غطُّوا فُوَّهتها ووجهها.
ومنه قول النميري:
يُخَمِّرنَ أطرافَ البَنَان من التُّقى ** ويَخْرجُنَ جنح اللَّيل معتجرات

ويسمى عند العرب أيضاً: المقنع، جمعه: مقانع، من التقنع وهو السَّتر، ومنه في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلَّى ركعتين رفع يديه يدعو يُقَنِّع بهما وجهه.
ويسمى أيضاً: النصيف، قال النابغة يصف امرأة:
سَقَطَ النصيف ولم تُرِدْ إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليدِ

ويسمى: الغدفة، ومادته: غَدَفَ، أصل صحيح يدل على سَتْرٍ وتغطية، يقال: أغدفت المرأة قناعها، أي: أرسلته على وجهها.
قال عنترة:
إِن تُغدِفِي دُونِي القناع فإنني ** طَبٌّ بأخذ الفارس المستلئم

ويقال: المسفع، وأصله في فصيح اللسان العربي: أي ثوب كان.
ويسمَّى عند العامة: الشيلة.
وصفة لبسه: أن تضع المرأة الخمار على رأسها، ثم تلويه على عنقها على صفة التحنك والإدارة على الوجه،، ثم تلقي بما فضل منه على وجهها ونحرها وصرها، وبهذا تتم تغطية ما جرت العادة بكشفه في منزلها.
ويشترط لهذا الخمار: أن لا يكون رقيقاً يشف عما تحته من شعرها ووجهها وعنقها ونحرها وصدرها وموضع قرطها، عن أم علقمة قالت: رأيت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها. رواه ابن سعد والإمام مالك في الموطأ وغيرهما.
2- الجلباب: جمعه جلابيب، وهو: كساء كثيف تشتمل به المرأة من رأسها إلى قدميها، ساتر لجميع بدنها وما عليه من ثياب وزينة.
ويقال له: المُلاءة، والمِلْحَفة، والرداء، والدثار، والكساء.
وهو المسمى: العباءة، التي تلبسها نساء الجزيرة العربية.
وصفة لبسها: أن تضعها فوق رأسها ضاربة بها على خمارها وعلى جميع بدنها وزينتها، حتى تستر قدميها.
وبهذا يعلم أنه يشترط في أداء هذه العبادة لوظيفتها -وهي ستر تفاصيل بدن المرأة وما عليها من ثياب وحلي- أن تكون كثيفة، لا شفافة رقيقة، وأن يكون لبسها من أعلى الرأس لا على الكتفين؛ لأن لبسها على الكتفين يخالف مُسَمَّى الجلباب الذي افترضه الله على نساء المؤمنين، ولما فيه من بيان تفاصيل بعض البدن، ولما فيه من التشبه بلبسة الرجال، واشتمالهم بأرديتهم وعباءاتهم.
وأن لا تكون هذه العباءة زينة في نفسها، ولا بإضافة زينة ظاهرة إليها، مثل التطريز.
وأن تكون العباءة –الجلباب- ساترة من أعلى الرأس إلى ستر القدمين، وبه يعلم أن لبس ما يسمى: نصف فَجَّة وهو ما يستر منها إلى الركب لا يكون حجاباً شرعياً.
تنبيه: من المستجدات كتابة اسم صاحبة العباءة عليها، أو الحروف الأولى من اسمها باللغة العربية أو غيرها، بحيث يقرؤها من يراها، وهذا عبث جديد بالمرأة، وفتنة عظيمة تجر البلاء إليها، فيحرم عمله والاتِّجار به.

.المسألة الثالثة: أدلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين:

معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها، وتلقيها بالقبول، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت، فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة، فمنعوا النساء من الخروج سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام، وعصور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكى ذلك جمع من الأئمة، منهم الحافظ ابن عبد البر، والإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم رحمهم الله تعالى، واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول.
وكانت بداية السفور بخلع الخمار عن الوجه في مصر، ثم تركيا، ثم الشام، ثم العراق، وانتشر في المغرب الإسلامي، وفي بلاد العجم، ثم تطور إلى السفور الذي يعني الخلاعة والتجرد من الثياب الساترة لجميع البدن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن له في جزيرة العرب بدايات، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يكف البأس عنهم.
والآن إلى إقامة الأدلة:

.أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:

تنوعت الأدلائل من آيات القرآن الكريم في سورتي النور والأحزاب على فرضية الحجاب فرضاً مؤبداً عاماً لجميع نساء المؤمنين، وهي على الآتي:

.الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}:

قال الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ وقلن قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وءاتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب: 32ـ33].
هذا خطاب من الله تعالى لنساء النبي- صلى الله عليه وسلم-، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك، وإنما خصَّ الله سبحانه نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- بالخطاب: لشرفهن، ومنزلتهن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولأنهن القدوة لنساء المؤمنين، ولقرابتهن من النبي- صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6]، مع أنه لا يتوقع منهن الفاحشة –وحاشاهن- وهذا شأن كل خطاب في القرآن والسنة، فإنه يراد به العموم، لعموم التشريع، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ما لم يرد دليل يدل على الخصوصية، ولا دليل هنا، كالشأن في قول الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم-: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65].
ولهذا فأحكام هاتين الآيتين وما ماثلهما هي عامة لنساء المؤمنين من باب الأولى، مثل: تحريم التأفيف في قول الله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍّ} [الإسراء: 23] فالضرب محرم من باب الأولى، بل في آيتي الأحزاب لِحاقٌ يدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن، وهو قوله سبحانه: {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} وهذه فرائض عامة معلومة من الدين بالضرورة.
إذا علم ذلك ففي هاتين الكريمتين عدد من الدلالات على فرض الحجاب وتغطية الوجه على عموم نساء المؤمنين من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: النهي عن الخضوع بالقول: نهى الله سبحانه وتعالى أمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين تبع لهن في ذلك عن الخضوع بالقول، وهو تليين الكلام وترقيقه بانكسار مع الرجال، وهذا النهي وقاية من طمع مَن في قلبه مرض شهوة الزنى، وتحريك قلبه لتعاطي أسبابه، وإنما تتكلم المرأة بقدر الحاجة في الخطاب من غير استطراد ولا إطناب ولا تليين خاضع في الأداء.
وهذا الوجه الناهي عن الخضوع في القول غاية في الدلالة على فرضية الحجاب على نساء المؤمنين من باب أولى، وإنَّ عدَم الخضوع بالقول من أسباب حفظ الفرج، وعدم الخضوع بالقول لا يتم إلا بداعي الحياء والعفة والاحتشام، وهذه المعاني كامنة في الحجاب، ولهذا جاء الأمر بالحجاب في البيوت صريحاً في الوجه بعده.
الوجه الثاني: في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} وهذه في حجب أبدان النساء في البيوت عن الرجال الأجانب.
هذا أمر من الله سبحانه لأمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين تبع لهن في هذا التشريع، بلزوم البيوت والسكون والاطمئنان والقرار فيها؛ لأنه مقر وظيفتها الحياتية، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة أو حاجة.
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة الله وهي في قعر بيتها» رواه الترمذي وابن حبان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [الفتاوى: 15/ 297]: لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل، ولهذا خُصَّت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل، لأن ظهورها للرجال سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في [الفتاوى: 15/ 379]: وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات، فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى: {والله جعل لكم مما خلقَ ظلاَلاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم} [النحل: 81]، فكل منها وقاية من الأذى الذي يكون سموماً مؤذياً كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك، انتهى.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}.
لما أمرهن الله سبحانه بالقرار في البيوت نهاهن تعالى عن تبرج الجاهلية بكثرة الخروج، وبالخروج متجملات متطيبات سافرات الوجوه، حاسرات عن المحاسن والزينة التي أمر الله بسترها، والتبرج مأخوذ من البرج، ومنه التَّوسُّع بإظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر، والذراع والساق ونحو ذلك من الخلقة أو الزينة المكتسبة؛ لما في كثرة الخروج أو الخروج بالأولى وصف كاشف، مثل لفظ: {كاملة} في قول الله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196].
ومثل لفظ: {الأولى} في قوله تعالى: {وأنه أهْلَكَ عاداً الأولى} [النجم:50].
والتبرج يكون بأمور يأتي بيانها في الأصل السادس إن شاء الله تعالى.

.الدليل الثاني: آية الحجاب:

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إنَاه ولكن إذا دُعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً لا جُناح عليهن في آبائهنَّ ولا أبنائهنَّ ولا إخوانهنَّ ولا أبناء إخوانهنَّ ولا أبناء أخواتهنَّ ولا نسائهنَّ ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيءٍ شهيداً} [الأحزاب: 53ـ55].
الآية الأولى عُرفت باسم: آية الحجاب؛ لأنها أول آية نزلت بشأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين، وكان نزولها في شهر ذي القعدة سنة خس من الهجرة.
وسبب نزولها ما ثبت من حديث أنس- رضي الله عنه- قال: قال عمر- رضي الله عنه-: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. رواه أحمد والبخاري في الصحيح.
وهذه إحدى موافقات الوحي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهي من مناقبه العظيمة.
ولما نزلت حجب النبي- صلى الله عليه وسلم- نساءه عن الرجال الأجانب عنهن، وحجب المسلمون نساءهم عن الرجال الأجانب عنهن، بستر أبدانهن من الرأس إلى القدمين، وستر ما عليها من الزينة المكتسبة، فالحجاب فرض عام على كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة، وقد تنوعت دلالة هذه الآيات على هذا الحكم من الوجوه الآتية:
الوجه الأول: لما نزلت هذه الآية حجب النبي- صلى الله عليه وسلم- نساءه، وحجب الصحابة نساءهم، بستر وجوههن وسائر البدن والزينة المكتسبة، واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين، ولهذا قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية [22/ 39]: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} يقول: وإذا سألتم أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً، فاسألوهن من وراء حجاب، يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن انتهى.
الوجه الثاني: في قول الله تعالى في آية الحجاب هذه: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} علة لفرض الحجاب في قوله سبحانه: {فاسألوهن من وراء حجاب} بمسلك الإيماء والتنبيه، وحكم العلة عام لمعلولها هنا؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة مطلوبة من جميع المسلمين، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة رضي الله عنهن.
فاتضح أن فرض الحجاب حكم عام على جميع النساء لا خاصاً بأزواج النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه، وهل يقول مسلم: إن هذه العلة: {ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن} غير مرادة من أحد من المؤمنين؟ فيالها من علة جامعة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من مقاصد فرض الحجاب إلا شملتها.
الوجه الثالث: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقَصْرُ أحكامها في دائرة أسبابها بلا دليل تعطيل للتشريع، فما هو حظ المؤمنين منها؟
وهذا ظاهر بحمد الله، ويزيده بياناً: أن قاعدة توجيه الخطاب في الشريعة، هي أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة؛ للاستواء في أحكام التكليف، ما لم يرد دليل يجب الرجوع إليه دالاًّ على التخصيص، ولا مخصص هنا، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في مبايعة النساء: «إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة».
الوجه الرابع: زوجات النبي- صلى الله عليه وسلم- أمهات لجميع المؤمنين، كما قال الله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، ونكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات:
{ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} [الأحزاب: 53]، وإذا كانت زوجات النبي- صلى الله عليه وسلم- كذلك، فلا معنى لقصر الحجاب عليهن دون بقية نساء المؤمنين، ولهذا كان حكم فرض الحجاب عاماً لكل مؤمنة، مؤبداً إلى يوم القيامة، وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدم من حجبهم نساءهم رضي الله عنهن.
الوجه الخامس: ومن القرائن الدالة على عموم حكم فرض الحجاب على نساء المؤمنين: أن الله سبحانه استفتح الآية بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} وهذا الاستئذان أدب عام لجميع بيوت النبي- صلى الله عليه وسلم- دون بقية بيوت المؤمنين، ولهذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره [3/505]:
حُظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ولهذا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إياكم والدخول على النساء» الحديث انتهى.
ومَن قال بتخصيص فرض الحجاب على أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- لزمه أن يقول بقصر حكم الاستئذان كذلك، ولا قائل به.
الوجه السادس: ومما يفيد العموم أن الآية بعدها: {لا جناح عليهن في آبائهن} فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام، وهو فرض الحجاب، ودعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهو غير مُسَلَّم إجماعاً، لما علم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها كالأب غير محجبة الوجه والكفين، أما غير المحارم فواجب على المرأة الاحتجاب عنهم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية [3/506]: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية [النور: 31] انتهى.
وتأتي الآية بتمامها في الدليل الرابع، وقد سمّاها ابن العربي رحمه الله تعالى: آية الضمائر؛ لأنها أكثر آية في كتاب الله فيها ضمائر.
الوجه السابع: ومما يفيد العموم ويبطل التخصيص: قوله تعالى: {ونساء المؤمنين} [في الآية: 59 من سورة الأحزاب] في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} وبهذا ظهر عموم فرض الحجاب على نساء المؤمنين على التأبيد.

.الدليل الثالث: آية الحجاب الثانية الآمرة بإدناء الجلابيب على الوجوه:

قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً} [الأحزاب: 59].
قال السيوطي رحمه الله تعالى: هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن، انتهى.
وقد خصَّ الله سبحانه في هذه الآية بالذكر أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- وبناته؛ لشرفهن ولأنهن آكد في حقه من غيرهن لقربهن منه، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6]، ثم عمم سبحانه الحكم على نساء المؤمنين، وهذه الآية صريحة كآية الحجاب الأولى، على أنه يجب على جميع نساء المؤمنين أن يغطين ويسترن وجوههن وجميع البدن والزينة المكتسبة، عن الرجال الأجانب عنهن، وذلك الستر بالتحجب بالجلباب الذي يغطي ويستر وجوههن وجميع أبدانهن وزينتهن، وفي هذا تمييز لهن عن اللائي يكشفن من نساء الجاهلية، حتى لا يتعرضن للأذى ولا يطمع فيهن طامع.
والأدلة من هذه الآية على أن المراد بها ستر الوجه وتغطيته من وجوه، هي:
الوجه الأول: معنى الجلباب في الآية هو معناه في لسان العرب، وهو: اللباس الواسع الذي يغطي جميع البدن، وهو بمعنى: الملاءة والعباءة، فتلبسه المرأة فوق ثيابها من أعلى رأسها مُدنية ومرخية له على وجهها وسائر جسدها، وما على جسدها من زينة مكتسبة، ممتداً إلى ستر قدميها.
فثبت بهذا حجب الوجه بالجلباب كسائر البدن لغةً وشرعاً.
الوجه الثاني: أن شمول الجلباب لستر الوجه هو أول معنى مراد؛ لأن الذي كان يبدو من بعض النساء في الجاهلية هو: الوجه، فأمر الله نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بستره وتغطيته، بإدناء الجلباب عليه، لأن الإدناء عُدِّي بحرف على، وهو دال على تضمن معنى الإرخاء، والإرخاء لا يكون إلا من أعلى، فهو هنا من فوق الرءوس على الوجوه والأبدان.
الوجه الثالث: أن ستر الجلباب للوجه وجميع البدن وما عليه من الثياب المكتسبة -الزينة المكتسبة- هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عنهم، وذلك فيما أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} الآية شَقَقن مُرُوطهن، فاعتجرن بها، فصَلَّين خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأنما على رءوسهن الغربان. رواه ابن مردويه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها. رواه البخاري في صحيحه.
والاعتجار: هو الاختمار، فمعنى: فاعتجرن بها، واختمرن بها: أي غطين وجوههن.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق، والحُيَّض، وذوات الخدور، أمَّا الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» متفق على صحته.
وهذا صريح في منع المرأة من بروزها أمام الأجانب بدون الجلباب، والله أعلم.
الوجه الرابع: في الآية قرينة نصية دالة على هذا المعنى للجلباب، وعلى هذا العمل الذي بادر إليه نساء الأنصار والمهاجرين رضي الله عن الجميع بستر وجوههن بإدناء الجلابيب عليها، وهي أن في قوله تعالى: {قل لأزواجك} وجوب حجب أزواجه- صلى الله عليه وسلم- وستر وجوههن، لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين، وفي هذه الآية ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم- مع بناته ونساء المؤمنين، وهو ظاهر الدلالة على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب على جميع المؤمنات.
الوجه الخامس: هذا التعليل {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} راجع إلى الإدناء، المفهوم من قوله: {يدنين} وهو حكم بالأولى على وجوب ستر الوجه؛ لأن ستره علامة على معرفة العفيفات فلا يؤذين، فهذه الآية نص على ستر الوجه وتغطيته، ولأن من تستر وجهها لا يطمع فيها طامع بالكشف عن باقي بدنها وعورتها المغلظة، فصار في كشف الحجاب عن الوجه تعريض لها بالأذى من السفهاء، فدل هذا على التعليل على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لجميع البدن والزينة بالجلباب، وذلك حتى يعرفن بالعفة، وأنهن مستورات محجبات بعيدات عن أهل الرّي والخنا، وحتى لا يفتتن ولا يفتن غيرهن فلا يؤذين.
ومعلوم أن المرأة إذا كانت غاية في الستر والانضمام، لم يقدم عليها من في قلبه مرض، وكّفَّت عنها الأعين الخائنة، بخلاف المتبرجة المنتشرة الباذلة لوجهها، فإنها مطموع فيها.
واعلم أن الستر بالجلباب، وهو ستر النساء العفيفات، يقتضي -كما تقدم في صفة لبسه- أن يكون الجلباب على الرأس لا على الكتفين، ويقتضي أن لا يكون الجلباب –العباءة- زينة في نفسه، ولا مضافاً إليه ما يزينه من نقش أو تطريز، ولا ما يلفت النظر إليه، وإلا كان نقضاً لمقصود الشارع من إخفاء البدن والزينة وتغطيتها عن عيون الأجانب عنها.
ولا تغتر المسلمة بالمترجلات اللاتي يتلذذن بمعاكسة الرجال لهن، وجلب الأنظار إليهن، اللائي يُعْلنَّ بفعلهن تعدادهن في المتبرجات السافرات، ويعدلن عن أن يكن مصابيح البيوت العفيفات التقيات النقيات الشريفات الطيبات، ثبّت الله نساء المؤمنين على العفة وأسبابها.

.الدليل الرابع: في آيتي سورة النور:

قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدن زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 30ـ31].
تعددت الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين على فرض الحجاب وتغطية الوجه من وجوه أربعة مترابطة، هي:
الوجه الأول: الأمر بغضِّ البصر وحفظ الفرج من الرجال والنساء على حدٍّ سواء في الآية الأولى وصدر الآية الثانية، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنا، وأن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأبعد عن الوقوع في هذه الفاحشة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية، ومن أعظمها غض البصر، وغض البصر لا يتم إلاّ بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يرتاب عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه، والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا جاء الأمر بالحجاب صريحاً في الوجه بعده.
الوجه الثاني: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} أي: لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب عن عمد وقصد، إلا ما ظهر منها اضطراراً لا اختياراً، ما لا يمكن إخفاؤه كظاهر الجلباب -العباءة، ويقال: الملاءة- الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وهي ما لا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، فإن ذلك معفوٌّ عن.
وتأمل سِراًّ من أسرار التنزيل في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} كيف أسند الفعل إلى النساء في عدم إبداء الزينة متعدياً وهو فعل مضارع: {يُبدين} ومعلوم أن النهي إذا وقع بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، وهذا دليل صريح على وجوب الحجاب لجميع البدن وما عليه من زينة مكتسبة، وستر الوجه والكفين من باب أولى.
وفي الاستثناء {إلا ما ظهر منها} لم يسند الفعل إلى النساء، إذ لم يجئ متعدياً، بل جاء لازماً، ومقتضى هذا: أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً، غير مخيرة في إبداء شيء منها، وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء منها إلا ما ظهر اضطراراً بدون قصد، فلا إثم عليها، مثل: انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح، أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار، فيكون معنى هذا الاستثناء: رفع الحرج، كما في قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119].
الوجه الثالث: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}: لما أوجب الله على نساء المؤمنين الحجاب للبدن والزينة في الموضعين السابقين، وأن لا تتعمد المرأة إبداء شيء من زينتها، وأن ما يظهر منها من غير قصد معفو عنه، ذكر سبحانه لكمال الاستتار، مبيناً أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، وبما أن القميص يكون مشقوق الجيب عادة بحيث يبدو شيء من العنق والنحر والصدر، بيَّن سبحانه وجوب ستره وتغطيته، وكيفية ضرب المرأة للحجاب على ما لا يستره القميص، فقال عز شأنه: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، والضرب: إيقاع شيء على شيء، ومنه: {ضربت عليهم الذلة} [آل عمران: 112] أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ضُربت عليه.
والخُمر: جمع خِمار، مأخوذ من الخمر، وهو: الستر والتغطية، ومنه قيل للخمر خمراً؛ لأنها تستر العقل وتغطيه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في [فتح الباري: 8/489]: ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها. انتهى.
ويقال: اختمرت المرأة وتخمَّرت، إذا احتجبت وغطَّت وجهها.
والجيوب مفردها: جيب، وهو شق في طول القميص.
فيكون معنى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاء محكماً على المواضع المكشوفة، وهي: الرأس، والوجه، والعنق، والنحر، والصدر. وذلك بِلَفِّ الخمار الذي تضعه المرأة على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهذا هو التقنع، وهذا خلافاً لما كان عليه أهل الجاهلية من سدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما هو قدامها، فأمرن بالاستتار.
ويدل لهذا التفسير المتسق مع ما قبله، الملاقي للسان العرب كما ترى، أن هذا هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عن الجميع، فعملن به، وعليها ترجم البخاري في صحيحه، فقال: باب: وليضربن بخمرهن على جيوبهن، وساق بسنده حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها.
قال ابن حجر في [الفتح: 8/489] في شرح هذا الحديث: قوله: فاختمرن: أي غطين وجوههن، وذكر صفته كما تقدم انتهى.
ومَن نازع فقال بكشف الوجه؛ لأن الله لم يصرح بذكره هنا، فإنا نقول له: إن الله سبحانه لم يذكر هنا: الرأس، والعنق، والنحر، والصدر، والعضدين، والذراعين، والكفين، فهل يجوز الكشف عن هذه المواضع؟ فإن قال: لا، قلنا: والوجه كذلك لا يجوز كشفه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، وكيف تأمر الشريعة بستر الرأس والعنق والنحر والصدر والذراعين والقدمين، ولا تأمر بستر الوجه وتغطيته، وهو أشد فتنة وأكثر تأثيراً على الناظر والمنظور إليه؟
وأيضاً ما جوابكم عن فهم نساء الصحابة رضي الله عن الجميع في مبادرتهن إلى ستر وجوههن حين نزلت هذه الآية؟
الوجه الرابع: {ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن}:
لما أمر الله سبحانه بإخفاء الزينة، وذكر جل وعلا كيفية الاختمار، وضربه على الوجه والصدر ونحوهما، نهى سبحانه لكمال الاستتار، ودفع دواعي الافتتان، نساء المؤمنين إذا مشين عن الضرب بالأرجل، حتى لا يُصوَّت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بذلك، فيكون سبباً للفتنة، وهذا من عمل الشيطان.
وفي هذا الوجه ثلاث دلالات:
الأولى: يحرم على نساء المؤمنين ضرب أرجلهن ليعلم ما عليهن من زينة.
الثانية: يجب على نساء المؤمنين ستر أرجلهن وما عليهن من الزينة، فلا يجوز لهن كشفها.
الثالثة: حرَّم الله على نساء المؤمنين كل ما يدعو إلى الفتنة، وإنه من باب الأولى والأقوى يحرم سفور المرأة وكشفها عن وجهها أمام الأجانب عنها من الرجال؛ لأن كشفه أشد داعية لإثارة الفتنة وتحريكها، فهو أحق بالستر والتغطية وعدم إبدائه أمام الأجانب، ولا يستريب في هذا عاقل.
فانظر كيف انتظمت هذه الآية حجب النساء عن الرجال الأجانب من أعلى الرأس إلى القدمين، وإعمال سد الذرائع الموصلة إلى تعمد كشف شيء من بدنها أو زينتها خشية الافتتان بها، فسبحان من شرع فأحكم.
الدليل الخامس: الرخصة للقواعد بوضع الحجاب، وأن يستعففن خير لهن:
قال الله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميعٌ عليمٌ} [النور: 60].
رخَّص الله سبحانه للقواعد من النساء، أي: العجائز، اللائي تقدم بهن السنّ، فقعدن عن الحيض والحمل ويئسن من الولد أن يضعن ثيابهن الظاهرة من الجلباب والخمار، التي ذكرها الله سبحانه في آيات ضرب الحجاب على نساء المؤمنين، فيكشفن عن الوجه والكفين، ورفع تعالى الإثم والجناح عنهن في ذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يَكُنَّ من اللاتي لم يبق فيهن زينة ولا هن محل للشهوة، وهن اللائي لا يرجون نكاحاً، فلا يَطْمعن فيه، ولا يُطْمَع فيهن أن يُنكحن؛ لنهن عجائز لا يَشتهين ولا يُشتَهين، أما من بقيت فيها بقية من جمال، ومحل للشهوة، فلا يجوز لها ذلك.
الشرط الثاني: أن يكن غير متبرجات بزينة، وهذا يتكون من أمرين:
أحدهما: أن يكنَّ غير قاصدات بوضع الثياب التبرج، ولكن التخفيف إذا احتجن إليه.
وثانيهما: أن يكن غير متبرجات بزينة من حلي وكحل وأصباغ وتجمل بثياب ظاهرة، إلى غير ذلك من الزينة التي يفتن بها.
فلتحذر المؤمنة التعسف في استعمال هذه الرخصة، بأن تدعي بأنها من القواعد، وليست كذلك، أو تبرز متزينة بأيٍّ من أنواع الزينة.
ثم قال ربنا جل وعلا: {وأن يستعففن خير لهن} وهذا تحريض للقواعد على الاستعفاف وأنه خير لهن وأفضل، وإن لم يحصل تبرج منهن بزينة.
فدلَّت هذه الآية على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لوجوههن وسائر أبدانهن وزينتهن؛ لأن هذه الرخصة للقواعد، اللاتي رُفع الإثم والجناح عنهن، إذ التهمة في حقهن مرتفعة، وقد بلغن هذا المبلغ من السن والإياس، والرخصة لا تكون إلا من عزيمة، والعزيمة فرض الحجاب في الآيات السابقة.
وبدلالة أن استعفاف القواعد خير لهن من الترخص بوضع الثياب عن الوجه والكفين، فوجب ذلك في حق من لم تبلغ سن القواعد من نساء المؤمنين، وهو أولى في حقهن، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة والوقوع في الفاحشة، وإن فعلن فالإثم والحرج والجناح.
ولذا فإن هذه الآية من أقوى الأدلة على فرض الحجاب للوجه والكفين وسائر البدن، والزينة بالجلباب والخمار.

.ثانياً: الأدلة من السنة:

تنوعت الأدلة من السنة المطهرة من وجوه متعددة بأحاديث متكاثرة بالتصريح بستر الوجه وتغطيته تارة، وبالتصريح عدم الخروج إلا بالجلباب العباءة تارة، وبالأمر بستر القدمين وإرخاء الثوب من أجل سترهما تارة، وبأن المرأة عورة والعورة واجب سترها تارة، وبتحريم الخلوة والدخول على النساء تارة، وبالرخصة للخاطب في النظر إلى مخطوبته تارة، وهكذا من وجوه السنن التي تحمي نساء المؤمنين وتحرسهن في حالٍ من العفة والحياء، والغيرة والاحتشام.
وهذا سياق جملة من الهدي النبوي في ذلك:
1- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا حاذَوا بنا سَدَلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي.
هذا بيان من عائشة رضي الله عنها عن النساء الصحابيات المحرمات مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن واجبين تعارضاً، واجب تغطية الوجه على المؤمنة، وواجب كشفه على المحرمة، فإذا كانت المحرمة بحضرة رجال أجانب أعملت الأصل وهو فرض الحجاب فتغطي وجهها، وإذا لم يكن بحضرتها أجنبي عنها كشفته وجوباً حال إحرامها، وهذا واضح الدلالة بحمد الله على وجوب الحجاب على جميع نساء المؤمنين.
والقول في عمومه كما تقدم في تفسير آية الأحزاب[35]، ويؤيد عمومه الحديث بعده.
2- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام.
رواه ابن خزيمة، والحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
3- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزلت: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن، فاختمرن بها.
رواه البخاري، وأبو داود، وابن جرير في التفسير، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في [فتح الباري: 8/490]: قوله: فاختمرن أي: غطين وجوههن انتهى.
وقال شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى في [أضواء البيان: 6/ 594ـ595]: وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزرهن، فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله في قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} المقتضي ستر وجوههن، وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} إلا من النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن، وقال ابن حجر في فتح الباري: ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه: ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها، فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان، كما جاء موضحاً في رواية البخاري المذكورة آنفاً، فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها وفهمها وتقاها، أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان يتنزيله كما ترى، فالعجب كل العجب ممن يدّعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة، ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدّم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى، انتهى.
4- حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، وفيه: وكان –صفوان- يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فَخَمَّرت وجهي عنه بجلبابي. متفق على صحته.
وقد تقدم في تفسير [آية الأحزاب: 53] أن فرض الحجاب لأمهات المؤمنين وعموم نساء المؤمنين.
5- وعن عائشة رضي الله عنها حديث قصتها مع عمها من الرضاعة –وهو أفلح أخو أبي القعيس- لما جاء يستأذن عليها بعد نزول الحجاب، فلم تأذن له حتى أذن له النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه عمها من الرضاعة. متفق على صحته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في [فتح الباري: 9/152]: وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب انتهى.
وهذا اختيار من الحافظ في عموم الحجاب، وهو الحق.
6- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس. متفق على صحته.
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، وهو أن المرأة لا يجوز لها الخروج من بيتها إلا متحجبة بجلبابها الساتر لجميع بدنها، وأن هذا هو عمل نساء المؤمنين في عصر النبي- صلى الله عليه وسلم-.
8- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخين شبراً» فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: «يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه» رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والاستدلال من هذا الحديث بأمرين:
الأول: أن المرأة كلها عورة في حق الأجنبي عنها، بدليل أمره- صلى الله عليه وسلم- بستر القدمين، واستثناء النساء من تحريم جر الثوب والجلباب لهذا الغرض المهم.
الثاني: دلالته على وجوب الحجاب لجميع البدن من باب قياس الأولى، فالوجه مثلاً أعظم فتنة من القدمين، فستره أوجب من ستر القدمين، وحكمة الله العلم الخبير تأبى الأمر بستر الأدنى وكشف ما هو أشد فتنة.
9- عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها» رواه الترمذي، وابن حبان، والطبراني في الكبير.
ووجه الدلالة منه: أن المرأة إذا كانت عورة وجب ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة وتغطيته.
وفي رواية أبي طالب عن الإمام أحمد: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها لا تبن منها شيئاً ولا خُفَّها.
وعنه أيضاً: كل شيء منها عورة حتى ظفرها، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: وهو قول مالك انتهى.
10- وعن عقبة بن عامر الجهني- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» متفق على صحته.
فهذا الحديث دال على فرض الحجاب، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- حذَّر من الدخول على النساء، وشَبَّه- صلى الله عليه وسلم- قريب الزوج بالموت، وهذه عبارة بالغة الشدة في التحذير، وإذا كان الرجال ممنوعين من الدخول على النساء وممنوعين من الخلوة بهن بطريق الأولى، كما ثبت بأحاديث أخر، صار سؤالهن متاعاً لا يكون إلا من وراء حجاب، ومَن دخل عليهن فقد خرق الحجاب، وهذا أمرٌ عام في حق جميع النساء، فصار كقوله تعالى: {فاسألوهن من وراء حجاب} عاماً في جميع النساء.
11- أحاديث الرخصة للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، وهي كثيرة، رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: أبوهريرة، وجابر، والمغيرة، ومحمد بن سلمة، وأبو حميد رضي الله عنه الجميع.
ونكتفي بحديث جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» فخطبت جارية فكنت أتخبّأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها. رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
ودلالة هذه السنة ظاهرة من وجوه:
1- أن الأصل هو تستر النساء واحتجابهن عن الرجال.
2- الرخصة للخاطب برؤية المخطوبة دليل على وجود العزيمة وهو الحجاب، ولو كن سافرات الوجوه لما كانت الرخصة.
3- تكلف الخاطب جابر- رضي الله عنه- بالاختباء لها، لينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها، ولو كن سافرات الوجوه خراجات ولاجات، لما احتاج إلى الاختباء لرؤية المخطوبة، والله أعلم.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في [تحقيق المسند: 14/ 236] عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رؤية المخطوبة: وهذا الحديث -وما جاء في معنى رؤية الرجل لمن أراد خطبتها- مما يلعب به الفجار الملاحدة من أهل عصرنا، عبيد أوربة، وعبيد النساء، وعبيد الشهوات، يحتجون به في غير موضع الحجة، ويخرجون به عن المعنى الإسلامي الصحيح: أن ينظر الرجل نظرة عابرة غير متقصية، فيذهب هؤلاء الكفرة الفجرة إلى جواز الرؤية الكاملة المتقصية، بل زادوا إلى رؤية ما لا يجوز رؤيته من المرأة، بل انحدروا إلى الخلوة المحرمة، بل إلى المخادنة والمعاشرة، لا يرون بذلك بأساً، قبحهم الله، وقبح نساءهم ومن يرضى بهذا منهم، وأشدّ إثماً في ذلك من ينتسبون إلى الدين، وهو منهم براء، عافانا الله، وهدانا إلى الصراط المستقيم انتهى.

.ثالثاً: القياس الجلي المطرد:

كما دلَّت الآيات والسنن على فرض الحجاب على نساء المؤمنين شاملاً ستر الوجه والكفين وسائر البدن والزينة، وتحريم إبداء شيء من ذلك بالسفور أو الحسور، فقد دلَّت هذه النصوص أيضاً بدليل القياس المطرد على ستر الوجه والكفين وسائر جميع البدن والزينة، وإعمالاً لقواعد الشرع المطهّر، الرامية إلى سدّ أبواب الفتنة عن النساء أن يُفْتَنَّ أو يُفْتتَنَ بهنَّ، والرامية كذلك إلى تحقيق المقاصد العالية وحفظ الأخلاق الفاضلة، مثل: العفة، والطهارة، والحياء، والغيرة، والاحتشام.
وصرف الأخلاق السافلة من عدم الحياء، وموت الغيرة، والتبذل، والتعري، والسفور، والاختلاط، وكما في قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وقاعدة ترك المباح إذا أفضى إلى مفسدة في الدِّين، ومن هذه المقايسات المطردة:
- الأمر بغض البصر وحفظ الفرج، وكشف الوجه أعظم داعية في البدن للنظر وعدم حفظ الفرج.
- النهي عن الضرب بالأرجل، وكشف الوجه أعظم داعية للفتنة من ذلك.
- النهي عن الخضوع بالقول، وكشف الوجه أعظم داعية للفنة من ذلك.
- الأمر بستر القدمين، والذراعين، والعنق، وشعر الرأس بالنص وبالإجماع، وكشف الوجه أعظم داعية للفتنة والفساد من ذلك.
وغير هذه القياسات كثير يُعلم مما تقدم، فيكون ستر الوجه واليدين وعدم السفور عنهما من باب الأولى والأقيس، وهو المسمى بالقياس الجلي، وهذا ظاهر لا يعتريه قادح، والحمد لله رب العالمين.
خلاصة وتنبيه:
أما الخلاصة: فمما تقدم يَعْلَمُ كلُّ من نوَّر الله بصيرته فرضَ الحجاب على نساء المؤمنين لجميع البدن وما عليه من زينة مكتسبة، بأدلة ظاهرة الدلالة من الوحي المعصوم من القرآن والسنة، وبدلالة القياس الصحيح، والاعتبار الرجيح للقواعد الشرعية العامة، ولذا جرى على موجبه عمل نساء المؤمنين من عصر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا في جزيرة العرب وغيرها من بلاد المسلمين، وأن السفور عن الوجه الذي يشاهد اليوم في عامة أقطار العالم الإسلامي هو بداية ما حل به من الحسور عن كثير من البدن، وعن كل الزينة إلى حدِّ الخلاعة والعري والتهتك والتبرج والتفسخ، المسمى في عصرنا باسم: السفور، وأن هذا البلاء حادث لم يحصل إلا في بدايات القرن الرابع عشر للهجرة على يد عدد من نصارى العرب والمستغربين من المسلمين، ومن تنصر منهم بعد الإسلام، كما بُيِّن في الفصل الثاني.
لهذا!! فيجب على المؤمنين الذي مسَّ نساءهم طائف من السفور أو الحسور أو التكشف أن يتقوا الله، فيحجبوا نساءهم بما أمر الله به بالجلباب –العباءة- والخمار، وأن يأخذوا بالأسباب اللازمة لأطرهنَّ وتثبيتهن عليه، لما أوجبه الله على أوليائهن من القيام الذي أساسه: الغيرة الإسلامية، والحميَّة الدينية، ويجب على نساء المؤمنين الاستجابة للحجاب –العباءة- والخمار، طواعية لله ولرسوله- صلى الله عليه وسلم- وتأسياً بأمهات المؤمنين ونسائه، والله ولي الصالحين من عباده وإمائه.
أما التنبيه والتحذير: فيجب على كل مؤمن ومؤمنة بهذا الدين الحذر الشديد من دعوات أعدائه من داخل الصف أو خارجه الرامية إلى التغريب، وإخراج نساء المؤمنين من حجابهن تاجِ العفة والحصانة إلى السفور والتكشف والحسور، ورميهنّ في أحضان الرجال الأجانب عنهن، وأن لا يغتروا ببعض الأقاويل الشاذة، التي تخترق النصوص، وتهدم الأصول، وتنابذ المقاصد الشرعية من طلب العفة والحصانة وحفظهما، وصد عاديات التبرج والسفور والاختلاط، الذي حلَّ بديار القائلين بهذا الشذوذ.
ونقول لكل مؤمن ومؤمنة: فيما هو معلوم من الشرع المطهر، وعليه المحققون، أنه ليس لدعاة السفور دليل صحيح صريح، ولا عمل مستمر من عصر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أن حدث في المسلمين حادث السفور في بدايات القرن الرابع عشر، وأن جميع ما يستدل به دعاة السفور عن الوجه والكفين لا يخلو من حال من ثلاث حالات:
1- دليل صحيح صريح، لكنه منسوخ بآيات فرض الحجاب كما يعلمه مَن حقق تواريخ الأحداث، أي قبل عام خمس من الهجرة، أو في حق القواعد من النساء، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.
2- دليل صحيح لكنه غير صريح، لا تثبت دلالته أمام الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة على حجب الوجه والكفين كسائر البدن والزينة، ومعلوم أن رد المتشابه إلى المحكم هو طريق الراسخين في العلم.
3- دليل صريح لكنه غير صحيح، لا يحتج به، ولا يجوز أن تعارض به النصوص الصحيحة الصريحة، والهدي المستمر من حجب النساء لأبدانهن وزينتهن، ومنها الوجه والكفان.
هذا مع أنه لم يقل أحد في الإسلام بجواز كشف الوجه واليدين عند وجود الفتنة ورقة الدين، وفساد الزمان، بل هم مجمعون على سترهما، كما نقله غير واحد من العلماء.
وهذه الظواهر الإفسادية قائمة في زماننا، فهي موجبة لسترهما، لو لم يكن أدلة أخرى.
وإن من الخيانة في النقل نسبةَ هذا القول إلى قائل به مطلقاً غير مقيد، لتقوية الدعوة إلى سفور النساء عن وجوههن في هذا العصر، مع ما هو مشاهد من رقة الدين والفساد الذي غَشِيَ بلاد المسلمين.
والواجب أصلاً هو ستر المرأة بدنها وما عليه من زينة مكتسبة، لا يجوز لها تعمد إخراج شيء من ذلك لأجنبي عنها، استجابةً لأمر الله سبحانه وأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وهدي الصحابة مع نسائهم، وعمل المسلمين عليه في قرون الإسلام المتطاولة. والحمد لله رب العالمين.

.المسألة الرابعة: في فضائل الحجاب:

تعبَّد اللهُ نساء المؤمنين بفرض الحجاب عليهن، الساتر لجميع أبدانهن وزينتهن، أمام الرجال الأجانب عنهن، تعبداً يثاب على فعله ويعاقب على تركه، ولهذا كان هتكه من الكبائر الموبقات، ويجر إلى الوقوع في كبائر أخرى، مثل: تعمّد إبداء شيء من البدن، وتعمّد إبداء شيء من الزينة المكتسبة، والاختلاط، وفتنة الاخرين، إلى غير ذلك من آفات هتك الحجاب.
فعلى نساء المؤمنين الاستجابة إلى الالتزام بما افترضه الله عليهن من الحجاب والستر والعفة والحياء طاعةً لله تعالى، وطاعة لرسوله- صلى الله عليه وسلم-، قال الله عز شأنه: {وَما كانَ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى الله ورسولُهُ أمراً أن يُّكون لهم الخيرَةُ من أمرهمْ ومن يَّعصِ الله ورسوله فقدْ ضلَّ ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36]. كيف ومن وراء افتراضه حكم وأسرار عظيمة، وفضائل محمودة، وغايات ومصالح كبيرة، منها:
1- حفظ العِرض: الحجاب حِرَاسةٌ شرعية لحفظ الأعراض، ودفع أسباب الرِّيبة والفتنة والفساد.
2- طهارة القلوب: الحجاب داعية إلى طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات، وعمارتها بالتقوى، وتعظيم الحرمات، وصَدَق الله سبحانه: {ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
3- مكارم الأخلاق: الحجاب داعية إلى توفير مكارم الأخلاق من العفة والاحتشام والحياء والغيرة، والحجب لمساويها من التَلوُّث بالشَّائِنات كالتبذل والتهتك والسُّفالة والفساد.
4- علامة على العفيفات: الحجاب علامة شرعية على الحرائر العفيفات في عفتهن وشرفهن، وبعدهن عن دنس الريبة والشك: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}، وصلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، وإن العفاف تاج المرأة، وما رفرفت العفة على دارٍ إلا أكسبتها الهناء.
ومما يستطرف ذكره هنا: أن النُّميري لما أنشد عند الحجاج قوله:
يُخمِّرْنَ أطراف البنان من التُّقى ** ويَخْرجن جُنحَ الليل معتجرات

قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة.
5- قطع الأطماع والخواطر الشيطانية: الحجاب وقاية اجتماعية من الأذى، وأمراض قلوب الرجال والنساء، فيقطع الأطماع الفاجرة، ويكف الأعين الخائنة، ويدفع أذى الرجل في عرضه، وأذى المرأة في عرضها ومحارمها، ووقاية من رمي المحصنات بالفواحش، وَإِدباب قالة السوء، ودَنَس الريبة والشك، وغيرها من الخطرات الشيطانية.
ولبعضهم:
حُورٌ حرائر ما هَمَمْنَ بِريبةٍ ** كَظِبَاء مَكَّة صيدهنَّ حرامُ

6- حفظ الحياء: وهو مأخوذ من الحياة، فلا حياة بدونه، وهو خلُق يودعه الله في النفوس التي أراد سبحانه تكريمها، فيبعث على الفضائل، ويدفع في وجوه الرذائل، وهو من خصائص الإنسان، وخصال الفطرة، وخلق الإسلام، والحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو من محمود خصال العرب التي أقرها الإسلام ودعا إليها، قال عنترة العبسي:
وأَغضُّ طَرفي إن بَدَت لي جارتي ** حتى يُواري جارتي مأواها

فآل مفعول الحياء إلى التحلي بالفضائل، وإلى سياج رادع، يصد النفس ويزجرها عن تطورها في الرذائل.
وما الحجاب إلا وسيلة فعالة لحفظ الحياء، وخلع الحجاب خلع للحياء.
7- الحجاب يمنع نفوذ التبرج والسفور والاختلاط إلى مجتمعات أهل الإسلام.
8- الحجاب حصانة ضد الزنا والإباحية، فلا تكون المرأة إناءً لكل والغ.
9- المرأة عورة، والحجاب ساتر لها، وهذا من التقوى، قال الله تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26]، قال عبد الرحمن بن أسلم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يتقي الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.
وفي الدعاء المرفوع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي» رواه أبو داود وغيره.
10- حفظ الغيرة: وبيانها مفصلاً إن شاء الله في الأصل العاشر.

.الأصل الرابع: قرار المرأة في بيتها عزيمة شرعية وخروجها منه رخصة تُقَدَّر بقدرها:

الأصل لزوم النساء البيوت، لقول الله تعالى: {وَقرْنَ في بيُوتِكنَّ} [الأحزاب:33].
فهو عزيمة شرعية في حقهن، وخروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو حاجة.
ولهذا جاء بعدها: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات كعادة أهل الجاهلية.
والأمر بالقرار في البيوت حجاب لهن بالجُدر والخُدُور عن البروز أمام الأجانب، وعن الاختلاط، فإذا برزن أمام الأجانب، وجب عليهن الحجاب باشتمال اللباس الساتر لجميع البدن، والزينة المكتسبة.
ومَن نظر في آيات القرآن الكريم، وجد أن البيوت مضافة إلى النساء في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى، مع أن البيوت للأزواج أو لأوليائهن، وإنما حصلت هذه الإضافة –والله أعلم- مراعاة لاستمرار لزوم النساء للبيوت، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن والتصاق به، لا إضافة تمليك.
قال الله تعالى: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب: 33]، وقال سبحانه: {واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34]، وقال عز شأنه: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].
وبحفظ هذا الأصل تتحقق المقاصد الشرعية الآتية:
1- مراعاة ما قضت به الفطرة، وحال الوجود الإنساني، وشرعة رب العالمين، من القسمة العادلة بين عباده من أن عمل المرأة داخل البيت، وعمل الرجل خارجه.
2- مراعاة ما قضت به الشريعة من أن المجتمع الإسلامي مجتمع فردي-أي غير مختلط- فللمرأة مجتمعها الخاص بها، وهو داخل البيت، وللرجل مجتمعه الخاص به، وهو خارج البيت.
3- قرار المرأة في عرين وظيفتها الحياتية-البيت- يكسبها الوقت والشعور بأداء وظيفتها المتعددة الجوانب في البيت: زوجة، وأمَّا، وراعية لبيت زوجها، ووفاء بحقوقه من سكن إليها، وتهيئة مطعم ومشرب وملبس، ومربية جيل.
وقد ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها» متفق على صحته.
4- قرارها في بيتها فيه وفاء بما أوجب الله عليها من الصلوات المفروضات وغيرها، ولهذا فليس على المرأة واجب خارج بيتها، فأسقط عنها التكليف بحضور الجمعة والجماعة في الصلوات، وصار فرض الحج عليها مشروطاً بوجود محرم لها.
وقد ثبت من حديث أبي أبي واقد الليثي- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه في حجته: «هذه ثم ظهور الحصر». رواه أحمد وأبو داود.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في التفسير: يعني: ثم الْزَمن ظهور الحصر ولا تخرجن من البيوت انتهى.
وقال الشيخ أحْمد شاكر رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث في [عمدة التفسير: 3/11]: فإذا كان هذا في النهي عن الحج بعد حجة الفريضة-على أن الحج من أعلى القربات عند الله- فما بالك بما يصنع النساء المنتسبات للإسلام في هذا العصر من التنقل في البلاد، حتى ليخرجن سافرات عاصيات ماجنات إلى بلاد الكفر، وحدهن دون محرم، أو مع زوج أو محرم كأنه لا وجود له، فأين الرجال؟! أين الرجال؟!! انتهى.
وأسقط عنها فريضة الجهاد، ولهذا فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يعقد راية لامرأة قط في الجهاد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا انتدبت امرأة لقتال ولا لمهمة حربية، بل إن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحروب دال على ضعف الأمة واختلال تصوراتها.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. رواه أحمد، والحاكم وغيرهما بسند صحيح.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث في [عمدة التفسير: 3/ 157]: وهذا الحديث يرد على الكذابين المفترين-في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خدرها، وعن صونها وسترها الذي أمر الله به، فيدخلونها في نظام الجند، عارية الأذرع والأفخاذ، بارزة المقدمة والمؤخرة، متهتكة فاجرة، يرمون بذلك في الحقيقة إلى الترفيه الملعون عن الجنود الشبان المحرومين من النساء في الجندية، تشبهاً بفجور اليهود والإفرنج، عليهن لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، انتهى.
5- تحقيق ما أحاطها به الشرع المطهر من العمل على حفظ كرامة المرأة وعفتها وصيانتها، وتقدير أدائها لعملها في وظائفها المنزلية.
وبه يُعلم أن عمل المرأة خارج البيت مشاركة للرجل في اختصاصه، يقضي على هذه المقاصد أو يخل بها، وفيه منازعة للرجل في وظيفته، وتعطيل لقيامه على المرأة، وهضم لحقوقه؛ إذ لا بد للرجل من العيش في عالمين:
عالم الطلب والاكتساب للرزق المباح، والجهاد والكفاح في طلب المعاش وبناء الحياة، وهذا خارج البيت.
وعالم السكينة والراحة والاطمئنان، وهذا داخل البيت، وبقدر خروج المرأة عن بيتها يحصل الخلل في عالم الرجل الداخلي، ويفقد من الراحة والسكون ما يخل بعمله الخارجي، بل يثير من المشاكل بينهما ما ينتج عنه تفكك البيوت، ولهذا جاء في المثل: الرجل يَجْنِي والمرأة تَبْني.
ومن وراء هذا ما يحصل للمرأة من المؤثرات عليها نتيجة الاختلاط بالآخرين.
إن الإسلام دين الفطرة، وإن المصلحة العامة تلتقي مع الفطرة الإنسانية وسعادتها؛ إذاً فلا يباح للمرأة من الأعمال إلا ما يلتقي مع فطرتها وطبيعتها وأنوثتها؛ لأنها زوجة تحمل وتلد وتُرضع، ورَبَّة بيت، وحاضنة أطفال، ومربية أجيال في مدرستهم الأولى المنزل.
وإذا ثبت هذا الأصل من أمر النساء بالقرار في البيوت، فإن الله سبحانه وتعالى حفظ لهذه البيوت حرمتها، وصانها عن وصول شك أو ريبة إليها، ومنع أي حالة تكشف عن عوراتها، وذلك بمشروعية الاستئذان لدخول البيوت من أجل البصر، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} [النور: 27ـ29].
حتى تستأنسوا: أي تستأذنوا، وتسلموا، فيؤذن لكم ويرد عليكم السلام.
وقد تواردت السنن الصحيحة بإهدار عين من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، وأن من الأدب للمستأذن أن لا يقف أمام الباب، ولكن عن يمينه أو شماله، وأن يطرق الباب طرقاً خفيفاً من غير مبالغة، وأن يقول: السلام عليكم، وله تكرار الاستئذان ثلاثاً.
كل هذا لحفظ عورات المسلمين وهن في البيوت، فكيف بمن ينادي بإخراجهن من البيوت متبرجات سافرات مختلطات مع الرجال؟ فالتزموا عباد الله بما أمركم الله به.
وإذا بدت ظاهرة خروج النساء من بيوتهن من غير ضرورة أو حاجة، فهو من ضعف القيام على النساء، أو فقده، وننصح الراغب في الزواج، بحسن الاختيار، وأن يتقي الخرَّاجة الولاّجة، التي تنتهز فرصة غيابه في أشغاله، للتجول في الطرقات، ويعرف ذلك بطبيعة نسائها، ونشأة أهل بيتها.

.الأصل الخامس: الاختلاط محرم شرعاً:

إن العِفَّة حجاب يُمَزِّقه الاختلاط، ولهذا صار طريق الإسلام التفريق والمباعدة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، فالمجتمع الإسلامي –كما تقدم- مجتمع فردي لا زوجي، فللرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن، ولا تخرج المرأة إلى مجتمع الرجال إلا لضرورة أو حاجة بضوابط الخروج الشرعية.
كل هذا لحفظ الأعراض والأنساب، وحراسة الفضائل، والبعد عن الرِّيب والرذائل، وعدم إشغال المرأة عن وظائفها الأساس في بيتها، ولذا حُرِّم الاختلاط، سواء في التعليم، أم العمل، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات العامة والخاصة، وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض ومرض القلوب، وخطرات النفس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة.
ولهذا في أهل الإسلام لا عهد لهم باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب عنهن، وإنما حصلت أول شرارة قدحت للاختلاط على أرض الإسلام من خلال: المدارس الاستعمارية الأجنبية والعالمية، التي فتحت أول ما فتحت في بلاد الإسلام في لبنان كما بينته في كتاب المدارس الاستعمارية-الأجنبية العالمية- تاريخها ومخاطرها على الأمة الإسلامية.
وقد علم تاريخياً أن ذلك من أقوى الوسائل لإذلال الرعايا وإخضاعها، بتضييع مقومات كرامتها، وتجريدها من الفضائل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كما عُلِم تاريخياً أن التبذل والاختلاط من أعظم أسباب انهيار الحضارات، وزوال الدول، كما كان ذلك لحضارة اليونان والرومان، وهكذا عواقب الأهواء والمذاهب المضلة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [الفتاوى: 13/182]: إن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجَعْدِ المعطِّل وغيره من الأسباب انتهى.
ولهذا حرمت الأسباب المفضية إلى الاختلاط، هتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء، ومنها:
- تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، للأحاديث المستفيضة كثرة وصحة، ومنها: خلوة السائق، والخادم، والطبيب وغيرهم بالمرأة، وقد تنتقل من خلوة إلى أخرى، فيخلو بها الخادم في البيت، والسائق في السيارة، والطبيب في العيادة، وهكذا!!.
- تحريم سفر المرأة بلا محرم، والأحاديث فيه متواترة معلومة.
- تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، بنص القرآن والسنة.
- تحريم دخول الرجال على النساء، حتى الأحماء-وهم أقارب الزوج- فكيف بالجلسات العائلية المختلطة، مع ما هن عليه من الزينة، وإبراز المفاتن، والخضوع بالقول، والضحك..؟!!
- تحريم مسّ الرجل بدن الأجنبية، حتى المصافحة للسلام.
- تحريم تشبه أحدهما بالآخر.
- وشرع لها صلاتها في بيتها، فهي من شعائر البيوت الإسلامية، وصلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها خير من صلاتها في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كما ثبت الحديث بذلك.
- ولهذا سقط عنها وجوب الجمعة، وأُذن لها بالخروج للمسجد وفق الأحكام التالية:
1- أن تؤمن الفتنة بها وعليها.
2- أن لا يترتب على حضورها محذور شرعي.
3- أن لا تزاحم الرجال في الطريق ولا في الجامع.
4- أن تخرج تَفِلةً غير متطيبة.
5- أن تخرج متحجبة غير متبرجة بزينة.
6- إفراد باب خاص للنساء في المساجد، يكون دخولها وخروجها معه، كما ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود وغيره.
7- تكون صفوف النساء خلف الرجال.
8- خير صفوف النساء آخرها بخلاف الرجال.
9- إذا نابَ الإمامَ شيء في صلاته سَبَّح رجل، وصفقت امرأة.
10- تخرج النساء من المسجد قبل الرجال، وعلى الرجال الانتظار حتى انصرافهن إلى دُورهن، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، في صحيح البخاري، وغيره.
إلى غير ذلك من الأحكام التي تباعد بين أنفاس النساء والرجال، والله أعلم.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن دعاة الإباحية، لهم بدايات تبدو خفيفة، وهي تحمل مكايد عظيمة، منها في وضع لبنة الاختلاط، يبدؤون بها من رياض الأطفال، وفي برامج الإعلام، وركن التعارف الصحفي بين الأطفال، وتقديم طاقات-وليس باقات- الزهور من الجنسين في الاحتفالات.
وهكذا.. من دواعي كسر حاجز النفرة من الاختلاط، بمثل هذه البدايات، التي يستسهلها كثير من الناس.
فليتق الله أهلُ الإسلام في مواليهم، وليحسبوا خطوات السير في حياتهم، وليحفظوا ما استرعاهم الله عليه من رعاياهم، والحذر الحذر من التفريط والاستجابة لفتنة الاستدراج إلى مدارج الضلالة، وكل امرئٍ حسيب نفسه.

.الأصل السادس: التبرج والسفور محرمان شرعاً:

التبرج أعم من السفور، فالسفور خاص بكشف الغطاء عن الوجه، والتبرج: كشف المرأة وإظهارها شيئاً من بدنها أو زينتها المكتسبة أمام الرجال الأجانب عنها، وتفصيل ذلك هو:
أن التبرج بمعنى الظهور، ويراد هنا: إظهار المرأة شيئاً من بدنها أو زينتها لظهورها.
وقيل: إن التبرج مأخوذ من ظهور المرأة من برجها، أي: قصرها، والبروج: القصور، كما في قول الله تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78]، وبرج المرأة بيتها، والله تعالى يقول في حق النساء: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33].
وإنما سُمِّي القصر برجاً لِسِعَتِه، مأخوذ من البرج، وهو السَّعة، ومنه ما يجري على ألسنة بعض الداعين: اللهم ابرج لي وله، أي: وسِّع لي وله.
وأما السفور: فهو مأخوذ من السَّفْر، وهو كشف الغطاء، ويختص بالأعيان، فيقال: امرأة سافر، وامرأة سافرة، إذا كشفت الغطاء والخمار عن وجهها، ولهذا قال سبحانه: {وجوه يومئذ مسفرة} [عبس: 38] أي: مشرقة، فخص سبحانه الإسفار بالوجوه دون بقية البدن.
وبما تقدم يُعلم أن السُّفُور يعني: كشف الوجه، أما البرج فيكون بإبداء الوجه أو غيره من البدن أو من الزينة المكتسبة، فالسفور أخص من التبرج، وأن المرأة إذا كشفت عن وجهها فهي سافرة متبرجة، وإذا كشفت عما سوى الوجه من بدنها أو الزينة المكتسبة فهي متبرجة حاسرة.
هذه حقيقة التبرج، والسفور.
وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على تحريم تبرج المرأة، وهو إظهارها شيئاً من بدنها أو زينتها المكتسبة التي حرَّم الله عليها إبداءها أمام الرجال الأجانب عنها.
كما دلَّ الكتاب والسنة والإجماع العملي على تحريم سفور المرأة، وهو كشفها الغطاء عن وجهها.
والتبرج يعبر عنه وعن غيره من مظاهر الفساد بلفظ: التكشف، والتهتك، والعُري، والتحلل الخُلُقي، والإخلال بناموس الحياة، وداعية الإباحية: الزنا.
وهو محرّم في الشرائع السابقة، وهو في القانون الوضعي محرم على الورق وليس له نصيب من الواقع؛ لأنه ممنوع بعصا القانون.
أما في الإسلام فهو محرّم بوازع الإيمان، ونفوذ سلطانه على قلوب أهل الإسلام طواعية لله تعالى ولرسوله- صلى الله عليه وسلم-، وتحلياً بالعفة والفضيلة، وبعداً عن الرذيلة، وانكفافاً عن الإثم، واحتساباً للأجر والثواب، وخوفاً من أليم العقاب، فَعَلى نساء المسلمين أن يتقين الله، فينتهين عما نهى الله عنه ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، حتى لا يُسهمن في إدباب الفساد في المسلمين، بشيوع الفواحش، وهدم الأسر والبيوت، وحلول الزنا، وحتى لا يكنَّ سبباً في استجلاب العيون الخائنة، والقلوب المريضة إليهن، فيَأْثمن ويُؤثِّمن غيرهن.
والتبرج يكون بأمور:
يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة، مثل: ملابسها التي تحت جلبابها -أي عباءتها-.
ويكون التبرج بتثني المرأة في مشيتها وتبخترها وترفلها وتكسرها أمام الرجال.
ويكون التبرج بالضرب بالأرجل، ليُعلم ما تخفي من زينتها، وهو أشد تحريكاً للشهوة من النظر إلى الزينة.
ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال، وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها.
والنسوة المتبرجات هنَّ: المترجلات، والمتشبهات بالرجال، أو بالنساء الكافرات.
والمترجلات يسميهن بعض الأوربيين باسم: الجنس الثالث.
والأدلة على تحريم التبرج آيات من كتاب الله، منها آيتان نصٌّ في النهي عن التبرج، وهما:
قول الله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33].
وقول الله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم} [النور: 60].
وآيات ضرب الحجاب وفرضه على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين ونهيهن عن إبداء الزينة، نصوص قاطعة على تحريم التبرج والسفور.
ومن السنة: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صنفانِ من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يَجِدْن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» رواه مسلم في الصحيح.
وهذا نص فيه وعيد شديد، يدل على أن التبرج من الكبائر؛ لأن الكبيرة: كل ذنب توعد الله عليه بنار أو غضب أو لعنةٍ أو عذابٍ أو حِرمانٍ من الجنة.
وقد أجمع المسلمون على تحريم التبرج، وكما حكاه العلامة الصنعاني في حاشيته [منحة الغفار على ضوء النهار: 4/ 2011 ـ2012].
وبالإجماع العملي على عدم تبرج نساء المؤمنين في عصر النبي- صلى الله عليه وسلم-، وعلى ستر أبدانهن وزينتهن، حتى انحلال الدولة العثمانية في عام 1342هـ وتوزع العالم الإسلامي وحلول الاستعمار فيه.
ولبعضهم قصيدة رنانة، يرد بها على دعاة السفور، مطلعها:
مَنع السُّفُورَ كتابُنا ونبيُّنا ** فاسْتَنْطِقي الآثارَ والآياتِ

وليحذر المسلم من بدايات التبرج في محارمه، وذلك بالتساهل في لباس بناته الصغيرات بأزياء لو كانت على بالغات لكانت فسقاً وفجوراً، مثل: إلباسها القصير، والضيق، والبنطال، والشفاف الواصف لبشرتها، إلى غير ذلك من ألبسة أهل النار، كما تقدم في الحديث الصحيح، وفي هذا من الإلف للتبرج والسفور، وكسر حاجز النفرة، وزوال الحياء، ما لا يخفى، فليتق الله من ولاّه الله الأمر.

.الأصل السابع: لَمَّا حرَّم الله الزنى حَرَّم الأسباب المفضية إليه:

قاعدة الشرع المطهّر: أن الله سبحانه إذا حرّم شيئاً حرّم الأسباب والطرق والوسائل المفضية إليه، تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من الوصول إليه، أو القرب من حماه، ووقاية من اكتساب الإثم، والوقوع في آثاره المضرة بالفرد والجماعة.
ولو حرَّم الله أمراً، وأبيحت الوسائل الموصلة إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وحاشا شريعة رب العالمين من ذلك.
وفاحشة الزنى من أعظم الفواحش، وأقبحها وأشدها خطراً وضرراً وعاقبةً على ضروريات الدين، ولهذا صار تحريم الزنى معلوماً من الدين بالضرورة.
قال الله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32].
ولهذا حرِّمت الأسباب الموصلة إليه من: السفور ووسائله، والتبرج ووسائله، والاختلاط ووسائله، وتشبه المرأة بالرجل، وتشبهها بالكافرات.. وهكذا من أسباب الرِّيبة، والفتنة، والفساد.
وتأمَّل هذا السر العظيم من أسرار التنزيل، وإعجاز القرآن الكريم، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في فاتحة سورة النور شناعة جريمة الزنى، وتحريمه تحريماً غائباً، ذكر سبحانه من فاتحتها إلى تمام ثلاث وثلاثين آية أربع عشرة وسيلة وقائية، تحجب هذه الفاحشة، وتقاوم وقوعها في مجتمع الطهر والعفاف جماعة المسلمين، وهذه الوسائل الواقية: فعلية، وقولية، وإرادية، وهي:
1- تطهير الزناة والزواني بالعقوبة الحدية.
2- التطهر باجتناب نكاح الزانية وإنكاح الزواني، إلا بعد التوبة ومعرفة الصدق فيها.
وهاتان وسيلتان واقيتان تتعلقان بالفعل.
3- تطهير الألسنة عن رمي الناس بفاحشة الزنى، ومَن قال ولا بيِّنة فيُشرع حد القذف في ظهره.
4- تطهير لسان الزوج عن رمي زوجته بالزنا ولا بينة، وإلا فاللعان.
5- تطهير النفوس وحجب القلوب عن ظن السوء بمسلم بفعل الفاحشة.
6- تطهير الإرادة وحجبها عن محبة إشاعة الفاحشة في المسلمين، لما في إشاعتها من إضعاف جانب من ينكرها، وتقوية جانب الفسقة والإباحيين.
ولهذا صار عذاب هذا الصنف أشد من غيره، كما قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور: 19].
ومحبة إشاعة الفاحشة تنتظم جميع الوسائل القبيحة إلى هذه الفاحشة، سواء كانت بالقول، أم بالفعل، أم بالإقرار، أو ترويج أسبابها، وهكذا.
وهذا الوعيد الشديد ينطبق على دعاة تحرير المرأة في بلاد الإسلام من الحجاب، والتخلص من الأوامر الشرعية الضابطة لها في عفتها، وحشمتها وحيائها.
7- الوقاية العامة بتطهير النفس من الوساوس والخطرات، التي هي أولى خطوات الشيطان في نفوس المؤمنين ليوقعهم في الفاحشة، وهذا غاية في الوقاية من الفاحشة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور: 21].
8- مشروعية الاستئذان عند إرادة دخول البيت، حتى لا يقع النظر على عورة من عورات أهل البيوت.
9، 10- تطهير العين من النظر المحرم إلى المرأة الأجنبية، أو منها إلى الرجل الأجنبي عنها.
11- تحريم إبداء المرأة زينتها للأجانب عنها.
12- منع ما يحرم الرجل ويثيره، كضرب المرأة برجلها، ليسمع صوت خلخالها، فيجلب ذوي النفوس المريضة إليها.
13، 14- الأمر بالاستعفاف لمن لا يجد ما يستطيع به الزواج، وفعل الأسباب.
والقرآن العظيم والسنة المشرفة، مملوءان من تشريع الأسباب والتدابير الواقية من هذه الفاحشة في حق الرجال، وفي حق النساء.
فمنها في حق الرجال مع الرجال:
وجوب ستر عورة الرجل، فلا يجوز للرجل كشف عورته من السرة إلى الركبة.
ومنها: حجب نظر الرجل عن النساء الأجنبيات.
ومنها: حجب الرجل عن مجالسة المردان من الذكور، والنظر إليهم تلذذاً.
ومنها في حق النساء مع النساء.
ومن أعظم الأسباب والتدابير الواقية من الزنى: فرض الحجاب على نساء المسلمين، لما يحمله من حفظهن وحياتهن في عفة وستر وصون وحشمة وحياء، ومجافاة للخنا، وطرد لنواقضها من التبذل والتسفل، وانتزاع الحياء.

.الأصل الثامن: الزواج تاج الفضيلة:

الزواج سنة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38].
وهو سبيل المؤمنين، استجابة لأمر الله سبحانه: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنهم الله من فضله} [النور: 32-33].
فهذا أمرٌ من الله عز شأنه للأولياء بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامي-جمع أيم- وهم من لا أزواج لهم من رجال ونساء، وهو من باب أولى أمر لهم بإنكاح أنفسهم طلباً للعفة والصيانة من الفاحشة.
واستجابة لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن مسعود- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» متفق على صحته.
والزواج تلبية لما في النوعين: الرجل والمرأة من غريزة النكاح-الغريزة الجنسية- بطريق نظيف مثمر.
ولهذه المعاني وغيرها لا يختلف المسلمون في مشروعية الزواج، وأن الأصل فيه الوجوب لمن خاف على نفسه العنت والوقوع في الفاحشة، لا سيما مع رقة الدين، وكثرة المغريات، إذ العبد ملزم بإعفاف نفسه، وصرفها عن الحرام، وطريق ذلك: الزواج.
ولذا استحب العلماء للمتزوج أن ينوي بزواجه إصابة السنة، وصيانة دينه وعرضه، ولهذا نهى الله سبحانه عن العَضْلِ، وهو:
منع المرأة من الزواج، قال الله تعالى: {ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232].
ولهذا أيضاً عظَّم الله سبحانه شأن الزواج، وسَمَّى عقده: {ميثاقاً غليظاً} في قوله تعالى: {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} [النساء: 21].
وانظر إلى نضارة هذه التسمية لعقد النكاح، كيف تأخذ بمجامع القلوب، وتحيطه بالحرمة والرعاية، فهل يبتعد المسلمون عن اللقب الكنسي العقد المقدس الوافد إلى كثير من بلاد المسلمين في غمرة اتباع سَنَن الذين كفروا؟!!
فالزواج صلة شرعية تُبْرم بعقد بين الرجل والمرأة بشروطه وأركانه المعتبرة شرعاً، ولأهميته قَدَّمه أكثر المحدِّثين والفقهاء على الجهاد، ولأن الجهاد لا يكون إلا بالرجال، ولا طريق له إلا بالزواج، وهو يمثل مقاماً أعلى في إقامة الحياة واستقامتها، لما ينطوي عليه من المصالح العظيمة، والحكم الكثيرة، والمقاصد الشريفة، منها:
1- حفظ النسل وتوالد النوع الإنساني جيلاً بعد جيل، لتكوين المجتمع البشري، لإقامة الشريعة وإعلاء الدين، وعمارة الكون، وإصلاح الأرض، قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً} الآية [النساء: 1]، وقال الله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً} [الفرقان: 54].
أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الآدمي من ماء مهين، ثم نشر منه ذرية كثيرة وجعلهم أنساباً وأصهاراً متفرقين ومجتمعين، والمادة كلها من ذلك الماء المهين، فسبحان الله القادر البصير.
ولذا حثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- على تكثير الزواج، فعن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» رواه الإمام أحمد في مسنده.
وهذا يرشح الأصل المتقدم للفضيلة: القرار في البيوت لأن تكثير النسل غير مقصود لذاته، ولكن المقصود-مع تكثيره- صلاحه واستقامته وتربيته وتنشئته، ليكون صالحاً مصلحاً في أمته وقُرَّة عين لوالديه، وذِكراً طيباً لهما بعد وفاتهما، وهذا لا يأتي من الخراجة الولاجة، المصروفة عن وظيفتها الحياتية في البيت، وعلى والده الكسب والإنفاق لرعايته، وهذا من أسباب الفروق بين الرجل والمرأة.
2- حفظ العرض، وصيانة الفرج، وتحصيل الإحصان، والتحلي بفضيلة العفاف عن الفواحش والآثام.
وهذا المقصد يقتضي تحريم الزنى ووسائله من التبرج والاختلاط والنظر، ويقتضي الغيرة على المحارم من الانتهاك، وتوفير سياجات لمنع النفوذ إليها، ومن أهمها: ضرب الحجاب على النساء، فانظر كيف انتظم هذان المقصدان العمل على توفير أصول الفضيلة-كما تقدم-.
3- تحقيق مقاصد الزواج الأخرى، من وجود سكن يطمئن فيه الزوج من الكدر والشقاء، والزوجة من عناء الكد والكسب: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
فانظر كيف تتم صلة ضعف النساء بقوة الرجال، فيتكامل الجنسان.
والزواج من أسباب الغنى ودفع الفقر والفاقة، قال الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور: 32].
والزواج يرفع كل واحد منهما من عيشه البطالة والفتنة إلى معاش الجد والعفة، ويتم قضاء الوطر واللذة والاستمتاع بطريقه المشروع: الزواج.
وبالزواج يستكمل كل من الزوجين خصائصه، وبخاصة استكمال الرجل رجولته لمواجهة الحياة وتحمل المسؤولية.
وبالزواج تنشأ علاقة بين الزوجين مبنية على المودة والرحمة والعطف والتعاون، قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
وبالزواج تمتد الحياة موصولة بالأسر الأخرى من القرابات والأصهار، مما يكون له بالغ الأثر في التناصر والترابط وتبادل المنافع.
إلى آخر ما هنالك من المصالح التي تكثر بكثرة الزواج، وتقل بقلته، وتفقد بفقده.
وبالوقوف على مقاصد الزواج، تعرف مضار الانصراف عنه؛ من انقراض النسل، وانطفاء مصابيح الحياة، وخراب الديار، وقبض العفة والعفاف، وسوء المنقلب.
ومن أقوى العلل للإعراض عن الزواج: ضعف التربية الدينية في نفوس الناشئة، فإن تقويتها بالإيمان يكسبها العفة والتصون، فيجمع المرء جهده لإحصان نفسه {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق: 2].
ومن أقوى العلل للإعراض عن الزواج: تفشي أوبئة السفور والتبرج والاختلاط؛ لأن العفيف يخاف من زوجة تستخف بالعفاف والصيانة، والفاجر يجد سبيلاً محرماً لقضاء وطره، متقلباً في بيوت الدعارة، نعوذ بالله من سوء المنقلب.
فواجب لمكافحة الإعراض عن الزواج: مكافحة السفور والتبرج والاختلاط، وبهذا يُعلم انتظام الزواج لأصول الفضيلة المتقدمة.

.الأصل التاسع: وجوب حفظ الأولاد عن البدايات المضلة:

من أعظم آثار الزواج: إنجاب الأولاد، وهم أمانة عند مَن ولّي أمرهم من الوالدين أو غيرهما، فواجب شرعاً أداء هذه الأمانة بتربية الأولاد على هدي الإسلام، وتعليمهم ما يلمهم في أمور دينهم ودنياهم، وأول واجب غرس عقيدة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتعميق التوحيد الخالص في نفوسهم، حتى يخالط بشاشة قلوبهم، وإشاعة أركان الإسلام في نفوسهم، والوصية بالصلاة، وتعاهدهم بصقل مواهبهم، وتنمية غرائزهم بفضائل الأخلاق، ومحاسن الآداب، وحفظهم عن قرناء السوء وأخلاط الردى.
وهذه المعالم التربوية معلومة من الدين بالضرورة، ولأهميتها أفردها العلماء بالتصنيف، وتتابعوا على ذكر أحكام المواليد في مثاني التآليف الفقهية وغيرها.
وهذه التربية من سُنن الأنبياء، وأخلاق الأصفياء.
وانظر إلى هذه الموعظة الجامعة، والوصية الموعبة النافعة، من لقمان لابنه: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكُرْ لي ولِوالديك إليَّ المصير وإن جاهداك على أن تُشْرِك بي ما ليس لَكَ بِهِ علمٌ فلا تطعهما وَصَاحبْهُمَا في الدُّنيا معروفاً واتَّبِعْ سبيلَ مَن أنابَ إليَّ ثم إليَّ مَرجعُكم فأنبئكم بما كُنتُم تَعمَلون يا بُنيَّ إنها إِن تكُ مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ فتكُن في صخرةٍ أو في السماء أو في الأرضِ يأتِ بها الله إنَّ الله لطيفٌ خبيرٌ يَا بُنيَّ أَقِمِ الصَّلاة وأمُرْ بِالمَعروفِ وانهَ عن المنكر واصبِر على ما أصابَكَ إنَّ ذلك مِن عَزْم الأمور ولا تُصَعِّر خدَّك للنَّاسِ ولا تمشِ في الأرضِ مرحاً إنَّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور واقصِدْ في مشيكَ واغْضض من صَوتكَ إنَّ أَنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحميرِ} [لقمان: 13- 19].
قد انتظمت هذه الموعظة من الوالد لولده أصول التربية، وتكوين الولد، وهي ظاهرة لمن تأملها.
وقال الله عز شأنه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6].
فالولد من أبيه، فيشمله لفظ: {أنفسكم}، والولد من الأهل فيشمله: {وأهليكم}، وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في تفسير هذه الآية، أنه قال: علموهم وأدبوهم، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [العيال: 1/ 495].
والذرية الصالحة من دعاء المؤمنين كما في قول الله تعالى: {والذين يقولون ربنا هبْ لنَا من أزْواجِنَا وذُرِّياتنا قرةَ أعينٍ واجْعلنَا للمتِّقينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: الرجل يرى زوجته وولده مطيعين لله عز وجل، وأي شيء أقر لعينه من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله عزو جل ذكره. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [العيال: 2/ 617].
وفي الحديث المتفق على صحته عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهل بيته وهو مسؤول عنهم».
وجليٌّ من هذه النصوص، وجوب تربية الأولاد على الإسلام، وأنها أمانة في أعناق أوليائهم، وأنها من حق الأولاد على أوليائهم من الآباء والأوصياء وغيرهم، وأنها من صالح الأعمال التي يتقرب بها الولدان إلى ربهم، ويستمر ثوابها كاستمرار الصدقة الجارية، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية»، وأن المفرط في هذه الأمانة آثم عاصٍ لله تعالى، يحمل وزر معصيته أمام ربه، ثم أمام عباده.
عن حميد الضَّبعي قال: كُنَّا نسمع أن أقواماً سحبوهم عيالاتهم على المهالك. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [العيال: 2/ 622].
والله سبحانه يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} [التغابن: 14].
ومن عدواتهم للوالدين: التفريط في تربيتهم، لما يؤول إليه من التأثيم.
قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى: كان يقال: إذا بلغ الغلام فلم يزوجه أبوه فأصاب فاحشة أثم الأب. رواه ابن أبي الدنيا في [كتاب العيال: 1/172].
وقال مقاتل بن محمد العتكي: حضرت مع أبي وأخي عند أبي إسحاق إبراهيم الحربي، فقال إبراهيم الحربي لأبي: هؤلاء أولادك؟ قال: نعم، قال: احذر لا يرونك حيث نهاك الله فتسقط من أعينهم. كما في صفة الصفوة لابن الجوزي.
وأن هذا التفريط يوجب عزل ولايته، أو ضم صالح إليه، إذ القاعدة أنه لا ولاية لكافر ولا لفاسق، لخطر تلك المحاضن على المواليد في إسلامهم وأخلاقهم.
والشأن هنا في تشخيص البدايات المضرة، والأوليات المضلة التي يواجهها الأطفال، الذين بلغوا مرحلة التمييز بين الأشياء بالتفريق بين النافع والضار، والتمييز يختلف باختلاف قدرات الأطفال، وهي تلك البدايات التي يتساهل فيها في تربية الذرية بدافع العاطفة والوجدان، حتى إذا بلغ المولود رشده كان قد استمرأ هذه الأذايا، وخالطت دمه وقلبه، وكسرت حاجز النفرة بينه وبين ما يضره أو يضله، فيبقى الوالدان والأولياء في اضطراب ونكد، ومكابدة في العودة بهم إلى طريق السلامة، فكأن لسان الحال يقول: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56].
فصار حقاً علينا بيان هذا الأصل، الذي يقوم على أسس الفطرة، والعقيدة الصحيحة، والعقل السليم، في دائرة الكتاب والسنة، ولفت نظر الأولياء إليه، ليكون وعاءً للتربية الأولية للمواليد، وحفظهم من البدايات المضرة بدينهم ودنياهم، فمن هذه البدايات المضرة بالفضائل، لا سيما الحجاب:
1- حضانة الفاسق:
2- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» الحديث. رواه البخاري في صحيحه.
3- فهذا الحديث العظيم يبين مدى تأثير الوالدين على المولود، وتحويله في حال الانحراف عن مقتضى فطرته إلى الكفر أو الفسوق، وهذه بداية البدايات.
4- ومنه إذا كانت الأم غير محتجة ولا محتشم، وإذا كانت خرَّاجة ولاجة، وإذا كانت متبرجة سافرة أو حاسرة، وإذا كانت تغشى مجتمعات الرجال الأجانب عنها، وما إلى ذلك، فهي تربية فعلية للبنت على الانحراف، وصرف لها عن التربية الصالحة ومقتضياتها القويمة من التحجب والاحتشام والعفاف والحياء، وهذا ما يسمى: التعليم الفطري.
5- ومنه يُعلم ما للخادمة والمربية في البيت من أثر كبير على الأطفال سلباً أو إيجاباً.
6- ولهذا قرر العلماء أنه لا حضانة لكافر ولا لفاسق، لخطر تلك المحاضن على الأولاد في إسلامهم وأخلاقهم واستقامتهم.
7- 2- الاختلاط في المضاجع:
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». رواه الإمام أحمد، وأبو داود.
فهذا الحديث نص في النهي عن بداية الاختلاط داخل البيوت، إذا بلغ الأولاد عشر سنين، فواجب على الأولياء التفريق بين أولادهم في مضاجعهم، وعدم اختلاطهم، لغرس العفة والاحتشام في نفوسهم، وخوفاً من غوائل الشهوة التي تؤدّي إليها هذه البداية في الاختلاط، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
قال إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى: أول فساد الصبيان بعضهم من بعض. كما في [ذم الهوى لابن الجوزي].
3- الاختلاط في رياض الأطفال:
هذه أولى بدايات الاختلاط خارج البيوت، وإذا كان الاختلاط في المضاجع بين الأولاد-وهم إخوة- داخل البيوت بإشراف آبائهم مما نهى عنه الشرع، فكيف به خارج البيوت مع غياب رقابة الوالدين؟!! فليتق الله الوالدان من الزجّ بأولادهم في هذه المحاضن المختلطة.
4- تقديم طاقات الزهور:
هذه من بدايات السفور والتبرج والحسور، ومن بدايات نزع الحياء، وتمزيق الغيرة، وهي تغرس في نفس الطفلة هذه البدايات، وتسري في بنات جنسها كسريان النار في الهشيم، فاتقوا الله عباد الله في ذراريكم.
5- بداية التبرج في اللباس:
إلباسُ الصبيَّة المميزة، الأزياءَ المحرمة على البالغة، كالألبسة الضيقة، أو الشفافة، أو التي لا تستر جميع بدنها، كالقصير منها، أو ما فيه تصاوير، أو صلبان، أو تشبه بلباس الرجال، أو الكافرات، إلى غير ذلك من ألبسة العُريّ والتَّهتُّك، التي ثبت بالاستقراء أنها من لدن البغايا، المتاجرات بأعراضهن، نسأل الله الستر وحسن العاقبة.

.الأصل العاشر: وجوب الغيرة على المحارم وعلى نساء المؤمنين:

الغيرة: هي السياج المعنوي لحماية الحجاب، ودفع التبرج والسفور والاختلاط، والغيرة هي: ما ركّبه الله في العبد من قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر، والغيرة في الإسلام خلق محمود، وجهاد مشروع؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه» متفق عليه.
ولقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مَن قُتل دون أهله فهو شهيد». رواه الترمذي، ولفظ لفظ: «من مات دون عرضه فهو شهيد».
فالحجاب باعث عظيم على تنمية الغيرة على المحارم أن تنتهك، أو يُنال منها، وباعث على توارث هذا الخلق الرفيع في الأسر والذراري: غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين على محارم المؤمنين من أن تنال الحرمات، أو تخدش بما يجرح كرامتها وعفتها وطهارتها ولو بنظرة أجنبي إليها.
ولهذا صار ضد الغيرة: الدياثة، وضد الغيور: الديُّوث. وهو الذي يُقر في أهله ولا غيرة له عليهم.
ولذا سَدَّ الشرع المطهر الأسباب الموصلة إلى هتك الحجاب وإلى الدياثة، وإليك هذا البيان النفيس للشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى عند حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- مرفوعاً: «ما من امرأة تطيبت للمسجد فيقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه اغتسالها من الجنابة». رواه أحمد، قال رحمه الله تعالى في تحقيقه للمسند [15/ 108- 109] ما نصه: وانظر أيها الرجل المسلم، وانظري أيتها المرأة المسلمة هذا التشديد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في خروج المرأة متطيبة تريد المسجد لعبادة ربها، أنها لا تقبل لها صلاة إن لم تغتسل من الطيب كغسل الجنابة، حتى يزول أثر الطيب.
انظر إلى هذا، وإلى ما يفعل نساء عصرنا المتهتكات الفاجرات الداعيات، وهنَّ ينتسبن إلى الإسلام زوراً وكذباً، يساعدهن الرجال الفجار الأجرياء على الله وعلى رسوله وعلى بديهيات الإسلام، يزعمون جميعاً أن لا بأس بسفور المرأة، وبخروجها عارية باغية، وباختلاطها بالرجال في الأسواق وأماكن اللهو والفجور، ويجترؤون جميعاً فيزعمون أن الإسلام لم يحرم عليها السفر في البعثات التي يسمونها علمية، ويجيزون لها أن تتولى المناصب السياسية.
بل انظروا إلى منظر هؤلاء الفواجر في الأسواق والطرقات، وقد كشفن عن عوراتهن التي أمر الله ورسوله بسترها، فترى المرأة وقد كشفت عن رأسها متزينة متهتك، وكشفت عن ثدييها، وعن صدرها وظهرها، وعن إبطيها وما تحت إبطيها، وتلبس الثياب التي لا تستر شيئاً، والتي تشف عما تحتها، وتظهره في أجمل مظهر لها، بل إننا نرى هذه المنكرات في نهار رمضان، لا يستحين، ولا يستحي مَن استرعاه الله إياهن من الرجال، بل من أشباه الرجال الدياييث، ثم قل بعد ذلك: أهؤلاء-رجالاً ونساءً- مسلمون؟!! انتهى.
أقول: وإذا أردت أن تعرف فضل الحجاب وستر النساء وجوههن عن الأجانب فانظر إلى حال المتحجبات، ماذا يحيط بهن من الحياء، والبعد عن مزاحمة الرجال في الأسواق، والتصون التام عن الوقوع في الرذائل، أو أن تمتد إليهن نظرات فاجر؟ وإلى حال أوليائهن: ماذا لديهم من شرف النفس والحراسة لهذه الفضائل في المحارم؟ وقارن هذا بحال المتبرجة السافرة عن وجهها التي تُقَلِّب وجهها في وجوه الرجال، وقد تساقطت منها هذه الفضائل بقدر ما لديها من سفور وتهتك، وقد ترى السافرة الفاجرة تحادث أجنبياً فاجراً تظن من حالهما أنهما زوجان بعقد أُشْهِد عليه أبو هريرة- رضي الله عنه-، ولو رآها الديوث زوجها وهي على هذه الحال، لما تحركت منه شعرة، لموات غيرته، نعوذ بالله من موت الغيرة ومن سوء المنقلب.
وأين هؤلاء الأزواج من أعرابي رأي من ينظر إلى زوجته، فطلقها غيرة على المحارم، فلما عُوتب في ذلك، قال قصيدته الهائية المشهورة، ومنها:
وأترك حبها من غير بغض ** وذاك لكثرة الشركاء فيه

إذا وقع الذباب على طعام ** رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورود ماءٍ ** إذا رأت الكلاب وَلَغنَ فيه

وأين هؤلاء الأزواج من عربية سقط نصيفها-خمارها- عن وجهها، فالتقطته بيدها، وغطَّت وجهها بيدها الأخرى، وفي ذلك قيل:
سَقَطَ النَّصِيفُ ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتَّقَتْنا باليد

وأعلى من ذلك وأجل ما ذكره الله سبحانه في قصة ابنتي شيخ مدين: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} [القصص: 25] فقد جاء عن عمر- رضي الله عنه- بسند صحيح أنه قال: جاءت تمشي على استحياء قَائِلَةً بثوبها على وجهها، لَيْسَت بِسَلْفَعٍ مِن النساء ولاّجةً خرَّاجة. والسلفع من النساء: الجريئة السليطة، كما في تفسير ابن كثير [3/384] رحمه الله تعالى.
وفي الآية أيضاً من الأدب والعفة والحياء، ما بلغ ابنة الشيخ مبلغاً عجيباً في التحفظ والتحرز، إذ قالت: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} فجعلت الدعوة على لسان الأب، ابتعاداً عن الرَّيب والرِّيبة.

.الفصل الثاني: كشف دعاة المرأة إلى الرَّذيلة:

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى:
لا يخدعنَّك عن دين الهُدى نَفَرٌ ** لم يُرزَقُوا في التماس الحق تأييدا

عُمْي القلوب عَرُوا عن كل قَائدةٍ ** لأنهم كفروا بالله تقليداً

[الحديقة لمحب الدين الخطيب].
أما بعد: فهذه هي الفضيلة لنساء المؤمنين، وهذه هي الأصول التي تقوم عليها وتحرسها من العدوان عليها، لكن بعض مَن في قلوبهم مرض يأبون إلا الخروج عليها، بنداءاتهم المعلنة في ذلك، فمعاذ الله أن يَمُرَّ على السمع والبصر، إعلان المنكر والمناداة به، وهضم المعروف والصدّ عنه، ولا يكون للمصلحين مِنَّا في وجه هذا العدوان صَوتٌ جَهيزٌ بإحسان يَبْلُغُ الحاضر والباد، إقامة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي به يُنافَحُ عن الدين، ويُنصح للمسلمين عن الترذي في هوة صيحات العابثين، وبه تُحْرَسُ الفضائل، وتكبت الرذائل، ويؤخذ على أيدي السفهاء، ومعلوم أن فشُوَّ المنكرات يكون بالسكوت عن الكبائر والصغائر، وبتأويل الصغائر، لا سيما ونحن نُشاهد كظيظاً من زِحام المعدومين المجهولين من أهل الرَّيب والفتن، المستغربين المُسَيَّرين بحمل الأقلام المتلاعبة بدين الله وشرعه، يختالون في ثياب الصحافة والإعلام، وقد شرحوا بالمنكر صدراً، فانبسطت ألسنتهم بالسوء، وجَرَت أقلامهم بالسُّوأَى، وجميعها تلتئم على معنى واحد: التطرف الجنوني في مزاحمة الفطرة، ومنابذة الشريعة، وجرِّ أذيال الرذائل على نساء المسلمين، وتفريغهن من الفضائل، بدعوتهم الفاجرة في بلاد الإسلام إلى: حرية المرأة والمساواة بين المرأة والرجل في جميع الأحكام، للوصول إلى: جريمة التبرج والاختلاط وخلع الحجاب.
ونداءاتهم الخاسرة من كل جانب بتفعيل الأسباب لخلعه من البقية الباقية في نساء المسلمين، اللائي أسلمن الوجه لله تعالى، وسلَّمن القيادة لمحمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم-.
نسأل الله لنا ولهن الثبات، ونبرأ إلى الله من الضلالة، ونعوذ بالله من سوء المنقلب.
وهؤلاء الرُّماة الغاشون لأمتهم، المشؤومون على أهليهم وبني جنسهم بل على أنفسهم، قد عَظُمت جرَاءتهم، وتَلَوَّن مَكْرُهم، بكلمات تخرج من أفمامهم، وتجري بها أقلامهم، إذ أخذوا يهدمون في الوسائل، ويخترقون سدَّ الذرائع إلى الرذائل، ويتقحَّمون الفضائل، ويهوِّنون من شأنها، ويسخرون منها ومن أهلها.
نعم قد كتب أولئك المستغربون في كل شؤون المرأة الحياتية، وخاضوا في كل المجالات العلمية، إلا في أمومتها وفطرتها، وحراسة فضيلتها.
كل هذا البلاء المتناسل، واللّغو الفاجر، وسَقَط القول المتآكل، تفيض به الصحف وغيرها باسم التباكي والانتصار للمرأة في حقوقها، وحريتها، ومساواتها بالرجل في كل الأحكام، حتى يصل ذوو الفَسَالة المستغربون إلى هذه الغاية الآثمة؛ إنزال المرأة إلى جميع ميادين الحياة، والاختلاط، وخلع الحجاب، بل لتمد المرأة يدها بطوعها إلى وجهها، فتسفع عنه خمارها مع ما يتبعه من فضائل.
وإذا خُلع الحجاب عن الوجه فلا تسأل عن انكسار عيون أهل الغيرة، وتقلص ظلِّ الفضيلة وانتشار الرذيلة، والتحلل من الدين، وشيوع التبرج والسفور والتهتك والإباحية بين الزناة والزواني، وأن تهب المرأة نفسها لمن تشاء.
وفي تفسير ابن جرير عند قول الله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27]، قال مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: يزني أهل الإسلام كما يزنون، قال: هي كهيئة: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]. انتهى.
ويتصاعد شأن القضية، من قضية المرأة إلى قضية إفساد العالم الإسلامي، وهذه الخطة الضالة ليست وليدة اليوم، فإنها جادة الذين مكروا السيئات من قبل في عدد من الأقطار الإسلامية، حتى آلت الحال-واحسرتاه- إلى واقع شاع فيه الزنا، وشُرعت فيه أبواب بيوت الدعارة ودور البِغاء بأذون رسمية، وعمرت خشبات المسارح بالفن الهابط من الغِناء والرقص والتمثيل، وسُنّت القوانين بإسقاط الحدود، وأن لا تعزير عن رضا.. وهكذا، من آثار التدمير في الأعراض، والأخلاق والآداب.
ولا ينازع في هذا الواقع الإباحي الأثيم إلا من نزع الله البصيرة من قلبه.
فهل يُريد أُجَراء اليوم أن تصل الحال إلى ما وصلت إليه البلاد الأخرى من الحال الأخلاقية البائسة، والواقع المر الأثيم؟
أمام هذا العدوان السافر على الفضيلة، والانتصار الفاجر للرذيلة، وأمام تجاوز حدود الله، وانتهاك حرمات شرعه المطهر، نُبَين للناس محذرين من دخائل أعدائهم: أن في الساحة أُجَراء مستغربين، ولهم أتباع أجراء من سَذَجة الفساق، أتابع كل ناعق، يُفوِّقون سهامهم لاستلاب الفضيلة من نساء المؤمنين، وإنزال الرذيلة بهن، ويجمع ذلك كلَّه قول الله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى [8/214- 215]: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله {أن تميلوا} عن الحق، وعما أذن الله لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله وترك طاعته {ميلاً عظيما}.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأن الله عز وجل عمَّ بقوله: {ويريد الذين يتبعون الشهوات} فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك، من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة، فإذا كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما دل عليه ظاهرها، دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس، وإذا كان ذلك كذلك كان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات: اليهود والنصارى، والزناة، وكل متبع باطلاً؛ لأن كلَّ متبع ما نهاه الله عنه مُتَّبعٌ شهوة نفسه، فإذا كان ذلك بتأويل الآية الأولى، وجبت صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك. انتهى.
وقد سلك أولئك الجناة لهذا خطة غضبية ضالة في مجالات الحياة كافة، بلسان الحال، أو بلسان المقال.

.ففي مجال الحياة العامة:

1- الدعوة إلى خلع الحجاب عن الوجه-الخمار- والتخلص من الجلباب-الملاءة- ويقال: العباءة.
وهذا بلسان الحال دعوة إلى خلع الحجاب عن جميع الجسد، ودعوة إلى اللباس الفاتن بأنواعه: الفاتن في شكله، والتعري بلبس القصير، والضيق الواصف للأعضاء، والشفاف الذي يشف عن جسد المرأة.
ودعوة إلى التشبه بالرجال في اللباس.
ودعوة إلى التشبه بالنساء الكوافر في اللباس.
2- الدعوة إلى منابذة حجب النساء في البيوت عن الأجانب بالاختلاط في مجالات الحياة كافة.
وفيه:
3- الدعوة إلى دمج المرأة في جميع مجالات تنمية الحياة.
وهذا دعوة إلى ظهور المرأة في الطرقات والأماكن العامة متبرجة سافرةً.
4- الدعوة إلى مشاركتها في الاجتماعات، واللجان، والمؤتمرات، والندوات، والاحتفالات، والنوادي.
وفي هذا دعوتها إلى الخضوع بالقول، والملاينة في الكلام، ودعوتها إلى مصافحة الرجل الأجنبي عنها، ومنها مصافحتها لخطيبها وَلَمَّا يُعقد بينهما.
ودعوة لها إلى خروجها من بيتها أمام الأجانب في حال تُثير الفتنة في اللباس، والمشية، وإعمال المساحيق، والتمضخ بالطيب، ولبس ما يجعلهن كَواعب، ولبس الكعب العالي، وهكذا من وسائل الإغراء والإثارة والفتنة.
5- الدعوة إلى فتح النوادي لهن، والأمسيات الشعرية، والدعوة للجميع.
6- الدعوة إلى فتح مقاهي الإنترنت النسائية والمختلطة.
7- الدعوة إلى قيادتها السيارة، والآلات الأخرى.
8- الدعوة إلى التساهل في المحارم، ومنها:
الدعوة إلى سفر المرأة بلا محرم، ومنه سفرها غرباً وشرقاً لتعلم بلا محرم، وسفرها لمؤتمرات: رجالات الأعمال.
9- الدعوة إلى الخلوة بالأجنبية، ومنها: خلوة الخاطب بمخطوبته ولما يُعقد بينهما.
10- الدعوة إلى قيامها بالفنِّ، ومنه:
11- الدعوة إلى قيامها بدورها في الفن، والغناء، والتمثيل.
وهذا ينتهي بالدعوة إلى مشاركتها في اختيار ملكة الجمال.
12- الدعوة إلى مشاركتها في صناعة الأزياء الغربية.
13- الدعوة إلى فتح أبواب الرياضة للمرأة، ومنه:
المطالبة بإنشاء فريق كرة قدم نسائي.
المطالبة بركوب النساء الخيل للسباق.
المطالبة برياضة النساء على الدراجات العادية والنارية.
14- فتح المسابح لهن في المراكز والنوادي وغيرها.
15- وفي شَعْر المرأة ضروب من الدعايات الآثمة، كالتنمص في الحاجبين، وقص شعر الرأس تشبهاً بالرجال، أو بالنساء الكافرات، وفتح بيوت الكوافير لهن.
16- وأولاً وأخيراً: الدعوة الحادة إلى تصوير المرأة في الوثائق والبطاقات، وبخاصة في بطاقة الأحوال، وجواز السفر.. والتركيز عليها، لأنها بوابة سريعة النفوذ إلى: خلع الحجاب وانخلاع الحياء.

.وفي مجال الإعلام:

17- تصوير المرأة في الصحف والمجلات.
18- خروجها في التلفاز مغنية، وممثلة، وعارضة أزياء، ومذيعة.. وهكذا.
19- عرض برامج مباشرة تعتمد على المكالمات الخاضعة بالقول بين النساء والرجال في الإذاعة والتلفاز.
20- ترويج المجلات الهابطة المشهورة بنشر الصور النسائية الفاتنة.
21- استخدام المرأة في الدعاية والإعلان.
22- الدعوة إلى الصداقة بين الجنسين عبر برامج في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وتبادل الهدايا بالأغاني وغيرها.
23- إشاعة صور القُبُلات والاحتضان بين الرجال وزوجاتهم على مستوى الزعماء والوزراء في وسائل الإعلام المتنوعة.

.وفي مجال التعليم:

24- الدعوة إلى التعليم المختلط في بعضها إلى الصفوف الدنيا منه.
25- الدعوة إلى تدريس النساء للرجال وعكسه.
26- الدعوة إلى إدخال الرياضة في مدارس البنات.
وهذا داعية إلى المطالبة بفتح: مدرسة الفنون الجميلة للنساء.

.وفي مجال العمل والتوظيف:

27- الدعوة إلى توظيف المرأة في مجالات الحياة كافة بلا استثناء كالرجال سواء.
28- ومنه الدعوة إلى عملها في: المتاجر، والفنادق، والطائرات، والوزارات، والغُرف التجارية، وغيرها كالشركات، والمؤسسات.
29- الدعوة إلى إنشاء مكاتب نسائيه للسفر والسياحة، وفي الهندسة والتخطيط.
وهذا داعية إلى الدعوة إلى عمل المرأة في المهن الحرفية كالسباكة، والكهرباء وغيرها.
30- الدعوة إلى جعل المرأة مندوبة مبيعات.
والدعوة إلى إدخالها في نظام الجندية والشُّرط.
والدعوة إلى إدخالها في السياسة في المجالس النيابية، والانتخابات، والبرلمانات.
والدعوة إلى إيجاد مصانع للنساء.
31- الدعوة إلى توظيفهن في التوثيق الشرعي، وفتح أقسام نسائية في المحاكم.
وهكذا في سلسلة طويلة من المطالبات، التي تنتهي أيضاً بما لم يطالب به، نسأل الله سبحانه أن يبطل كيدهم، وأن يكف عن المسلمين شرَّهم، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

.توجيه النقد:

هذه مُثُلٌ من دعوات الأخسرين أعمالاً في شأن المرأة رَكَّزت عليها الصحافة بوقاحة خلال عام 1419هـ، جرى استخلاصها من ثمانِ إضْبَارات، كل قصاصة فيها تحمل اسم الصحيفة، وعددها، وأسماء كتابها، وهم أمشاج مبتلون بهذا التغريب، وبعضهم أضاف إلى هذا الفجور فجوراً آخر من السخرية بالحجاب والمتحجبات، وكلمات نابية في بعض أحكام الشريعة الغراء، وحملتها، إلى غير ذلك من مواقف نرى أن أصحابها على خطر عظيم يتردد بين الكفر والنفاق والفسوق والعصيان.
وكانت هذه الأذايا تثار في وقت مضى، واحدة تلو الأخرى بعد زمن، ويقضي عليها العلماء في مهدها، ويصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرمون في آثارهم بالشُّهب، وفي أيامنا هذه كَفَأ الجُناة المِتْكَل مَمْلوءاً بِهذِهِ الرذائل في بضعة شهور بكل قوة وجرأة واندفاع، ومن خبيث مكرهم تحيُّن الإلقاء بها في أحوال العُسر والمَكْرَه، وزحمة الأحداث.
وهذه الدعوات الوافدة المستوفدة قد جمعت أنواع التناقضات ذاتاً، وموضوعاً، وشكلاً.
فإذا نظرت إلى كاتبيها وجدتهم يحملون أسماء إسلامية، وإذا نظرت إلى المضمون والإعداد وجدته مِعول هدم في الإسلام، لا يحمله إلا مستغرب مسيّر، أشرب قلبه بالهوى والتفرنج، ومعلوم أن القول والفعل دليل على ما في القلب من إيمان ونفاق!!
وإذا نظرت إلى الصياغة وجدت الألفاظ المولَّدة، والتراكيب الركيكة، واللحن الفاحش، وتصَيُّد عبارات صحفية تُقَمَّش من هنا وهناك على جادة القص واللزق، طريقة العجزة الذين قعدت بهم قدراتهم عن أن يكونوا كتاباً، وقد آذوا من له في لسان العرب والذوق البياني أدنى نصيب.
وهكذا مَن جَهِل لسان العرب، وجهل القرآن، وجهل السنة، أتى بمثل هذه العجائب.
هذا مع يحيط بهم من غرور واستعلاء، تولَّد من نفخ بعضهم في بعض.
أفمثل هذا الفريق الفاشل يجوز أن تنصب له منابر الصحافة، ويوجه الفكر في الأمة؟ ألا إن هذا مما يملأ النفس ألماً وحزناً وأسفاً على أمة يكون أمثال هؤلاء كتبة فيها، وهذه كتابتهم.
عارٌ والله أن يصبح توجه الأخلاق في هذا العصر بأقلام هذه الفئة المضَلِّلة المسَيَّرة، التي خالفت جماعة المسلمين، وفارقت سبيلهم، واشتغلت بتطميس الحق، ونصرة الهوى، عليهم من الله ما يستحقون، وحسابهم عند ربهم، ونحذرهم سطوة الله وغضبه ومقته، ولن يغلب الله غالب، ونتلو عليهم قول الله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} [البقرة: 235]، وقول الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم} [النحل: 116-117].
وهؤلاء الصَّخَّابون في أعمدة الصحف على مسامع الملأ يبغضهم الله، ويمقتهم سبحانه، كما ثبت من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبغض كلَّ جَعْظَريٍّ جوَّاظ-أي: مختال متعاظم- سَخَّابٍ بالأسواق، جِيفة بالليل حِمَار بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة» رواه ابن حبان في صحيحه.
قال الشيخ العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر المتوفى سنة 1377هـ رحمه الله تعالى في تعليقه على صحيح ابن حبان [1/230]: وهذا الوصف النبوي الرائع، الذي سما بتصويره إلى القمة في البلاغة والإبداع، لهؤلاء الفئام من الناس –أستغفر الله، بل من الحيوان- تجده كل يوم في كثير ممن ترى حولك، ممن ينتسبون إلى الإسلام، بل تراه في كثير من عظماء الأمم الإسلامية، عظمة الدنيا لا الدين، بل لقد تجده فيمن يلقبون منهم أنفسهم بأنهم علماء، ينقلون اسم العلم عن معناه الإسلامي الحقيقي، المعروف في الكتاب والسنة، إلى علوم من علوم الدنيا والصناعات والأموال، ثم يملؤهم الغرور، فيريدون أن يحكموا على الدين بعلمهم الذي هو الجهل الكامل، ويزعمون أنهم أعرف بالإسلام من أهله، وينكرون المعروف منه، ويعرفون المنكر، ويردون من يرشدهم أو يرشد الأمة إلى معرفة دينها ردّاً عنيفاً، يناسب كل جعظري جواظ منهم، فتأمل هذا الحديث واعقله، ترهم أمامك في كل مكان انتهى.
ولا نرى موضعاً صحيحاً لهؤلاء الجناة إلا جعلهم في محاضن التعليم لآداب الإسلام، تحت سياط المعلمين، ومؤدبي الأحداث.
ورحم الله الشيخ أحمد بن محمد شاكر إذ أبدى وأعاد في بيان حل سلف هؤلاء من أشقياء الكنانة، فقال رحمه الله تعالى في مقدمة تحقيق جامع الترمذي [1/71-72]: وليعلم من يريد أن يعلم.. من رجل استولى المبشرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم، يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي، وقد عُدَّ من المسلمين-أو عليهم- في دفاتر المواليد وفي سِجلاّت الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلْبِسَهُ جنسيةً ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآن ليخضعه لما تعلَّم من أستَاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمةً، إذ هو لا يفقه منه شيئاً.
أو من رجل مثلِ سابقه، إلا أنه أراح نفسه، فاعتنق ما نفثوه في روحه من دين وعقيدة، ثم هو يأبى أن يعرف الإسلامَ ديناً أو يعترف به، إلا في بعض شأنه، في التسمِّي بأسماء المسلمين، وفي شيء من الأنكحة والمواريث ودفن الموتى.
أو من رجلٍ عُلِّم في مدارسَ منسوبةٍ للمسلمين، فعرف من أنواع العلوم كثيراً، ولكنه لم يعرف من دينه إلاّ نزراً أو قشوراً، ثم خدعه مدنية الإفرنج وعلومهم عن نفسه، فظنهم بلغوا في المدنية الكمال والفضل، وفي نظريات العلوم اليقين والبداهة، ثم استخفّه الغرور، فزعم لنفسه أنه أعرفُ بهذا الدين وأعلمُ من علمائه وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدين يميناً وشمالاً، يرجو أن ينقذه من جمود رجال الدين!! وأن يصفيه من أوهام رجال الدين!!.
أو من رجل كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدين وعداوته، ممن قال فيهم القائل: كفروا بالله تقليداً.
أو من رجل ممن ابتليت بهم الأمة المصرية في هذا العصر، ممن يسمّيهم أخونا النابغة الأديب الكبير كامل كيلاني: المجدِّدينات.
أو من رجل، أو من رجل..، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
إن هذه المطالب المنحرفة تُساق باسم تحرير المرأة في إطار نظريتين هما: حرية المرأة والمساواة بين المرأة والرجل، وهما نظريتان غربيتان باطلتان شرعاً وعقلاً، لا عهد للمسلمين بهما، وهما استجرار لجادة الأخسرين أعمالاً، الذين بغوا من قبل في أقطار العالم الإسلامي الأخرى، فسَعوا تحت إطارهما في فتنة المؤمنات في دينهن، وإشاعة الفاحشة بينهن، إذ نادوا بهذه المطالب المنحرفة عن سبيل المؤمنين، ثم صرحوا بنقطة البداية: خلع الحجاب عن الوجه، ثم باشروا التنفيذ لخلعه، ودوسه تحت الأقدام، وإحراقه بالنار، وعلى إثر هذه الفعلات، صدرت القوانين آنذاك في بعض الجمهوريات مثل: تركيا، وتونس، وإيران، وأفغانستان، وألبانيا، والصومال، والجزائر، بمنع حجاب الوجه، وتجريم المتحجبة، وفي بعضها معاقبة المتحجبة بالسجن والغرامة المالية!!!
وهكذا يُساق الناس إلى الرذائل والتغريب بعصا القانون، حتى آلت حال كثير من نساء المؤمنين في العالم الإسلامي إلى حالٍ تنافس الغرب الكافر في التبرج والخلاعة، والتحلل والإباحية، وفتح دور الزنى بأذون رسمية، حتى جعلوا للبغاء-فوق الإباحة- نظاماً رسمياً لتأمين الزانى والزانية!! وما تبع ذلك من إسقاط الحدود، وانتشار الزنى، وفقد المرأة بكارتها في سن مبكرة، بل صار الزنى بالقريبات، وزواج المرأة بالمرأة الأخرى، وتأجير الأرحام!!
وأعقب ذلك بَذْلُ وسائل منع الحمل، وتكثيف الدعاية لها في الصحافة، مع فقدان أولى وسائل التحفظ: عدم الصرف إلا بوصفة طبيب لامرأة ذات زوج بإذنه عند الاقتضاء الطبي، وقد ارتفعت الجريمة بين النساء، وتعدَّدت حالات الانتحار في صفوفهن، لِتحطم معنوياتهن.
كما أعقب ذلك: تحديد النسل، ومنع تعدد الزوجات، وتبني غير الراشدة-اللقطاء- واتخاذ الخدينات، حتى بلغت الحال اللعينة أن من وجدت معه امرأة فادّعى أنها صديقته أُطلق سراحه، وإن أقرَّ أنها زوجة ثانية طبق بحقه القانون اللعين.
فما شرعه الله من الزواج والنسل هو على التحديد في القانون، وما حرمه الله من اتخاذ الخدينات، وتبني اللقطاء، على الإباحة المطلقة قانوناً!!
فأين هم من قول الله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2]؟
وتصاعد لقاء هذه الإباحية عدد العوانس، وعدد المطلقات لأتفه الأسباب، وانخفض عدد المواليد الشرعيين، لما فيهم –زعموا- من إشغال الأم عن عملها خارج دارها، وارتفع عدد اللقطاء –المواليد سفاحاً- وانتشرت الأمراض المزمنة التي أعيا الأطباء علاجها.
فغرَّبوا-حسيبهم الله- جماعة المسلمين، وأثخنوهم بجراح دامية في العرض والدين، وأشمتوا بأمتهم الكافرين، وأثَّموهم، وأبعدوهم عن دينهم، وتولوا هم عن دينهم الحق، وخدموا الكفرة من اليهود والنصارى والملاحدة الشيوعيين وغيرهم، والتقت الداران: دار الإسلام مع دار الكفر، على هذه البهيمة الساقطة، حتى لا يكاد المسلم أن يُفرِّق في ذلك بين الدارين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والآن آل الكلام في نقد هذه المطالب المنحرفة منحصراً في أمرين:
الأمر الأول: في تاريخ هاتين النظريتين: الحرية والمساواة، وآثارهما التدميرية في العالم الإسلامي.
ليُعلم أن النداء بتحرير المرأة تحت هاتين النظريتين: حرية المرأة ومساواة المرأة بالرجل، إنما ولدتا على أرض أوربة النصرانية في فرنسا، التي كانت ترى أن المرأة مصدر المعاصي، ومكمن السيئات والفجور، فهي جنس نجس يجتنب، ويحبط الأعمال، حتى ولو كان أُمَّاً أو أختاً.
هكذا نشر رهبان النصارى في أوربا هذا الموقف المعادي المتوتر من المرأة بينما كانوا –أي أولاء الرهبان- مكمن القذارة في الجسد والروح، ومجمع الجرائم الأخلاقية، ورجال الاختطاف للأطفال، لتربيتهم في الكنائس، وإخراجهم رهباناً حاقدين، حتى تكاثر عدد الرهبان، وكونوا جمعاً مهولاً أمام الحكومات والرعايا.
ومن هذه المواقف الكهنوتية الغالية الجافية، صار الناس في توتر وكبت شديدين، حتى تولدت من ردود الفعل لديهم، هاتان النظريتان: المناداة بتحرير المرأة باسم: حرية المرأة وباسم: المساواة بين الرجل والمرأة، وشعارهما: رفض كل شيءٍ له صلة بالكنيسة وبرجال الدين الكنسي، وتضاعفت ردود الفعل، ونادوا بأن الدين والعلم لا يتفقان، وأن العقل والدين نقيضان، وبالغوا في النداءات للحرية المتطرفة الرامية إلى الإباحية والتحلل من أي قيد أو ضابط فطري أو ديني يَمس الحرية، حتى طغت هذه المناداة بحرية المرأة، إلى المناداة بمساواتها بالرجل بإلغاء جميع الفوارق بينهما وتحطيمها، دينية كانت أم اجتماعية، فكل رجل، وكل امرأة، حرٌّ يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لا سلطان عليه لدين، ولا أدب، ولا خلق، ولا سلطة. حتى وصلت أوربة ومن ورائها الأمريكتان وغيرهما من بلاد الكفر إلى هذه الإباحية، والتهتك، والإخلال بناموس الحياة، وصاروا مصدر الوباء الأخلاقي للعالم.
إن المطالبات المنحرفة لتحرير المرأة بهذا المفهوم الإلحادي تحت هاتين النظريتين المولدتين في الغرب الكافر، هي العدوى التي نقلها المستغربون إلى العالم الإسلامي، فماذا عن تاريخ هذه البداية المشؤومة، التي قلَبَت جُلَّ العالم الإسلامي من جماعة مسلمة يحجبون نساءهم، ويحمونهن، ويقومون على شؤونهن، ويقمن هنَّ بما افترضها لله عليهن، إلى هذه الحال البائسة من التبرج والانحلال والإباحية؟!!
تقدم غير مرة أن نساء المؤمنين كن محجبات، غير سافرات الوجوه، ولا حاسرات الأبدان، ولا كاشفات عن زينة، منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري.
وأنه على مشارف انحلال الدولة الإسلامية في آخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وتوزعها إلى دول، دبَّ الاستعمار الغربي الكافر لبلاد المسلمين، وأخذوا يرمون في وجوههم بالشبه، والعمل على تحويل الرعايا من صبغة الإسلام إلى صبغة الكفر والانحلال.
وكانت أول شرارة قُدحت لضرب الأمة الإسلامية هي في سفور نسائهم في وجوههن، وذلك على أرض الكنانة، في مصر، حين بعث والي مصر محمد علي باشا البعوث إلى فرنسا للتعلم، وكان فيهم واعظ البعوث: رفاعة رافع الطهطاوي، المتوفى سنة 1290، وبعد عودته إلى مصر، بذر البذرة الأولى للدعوة إلى تحرير المرأة، ثم تتابع على هذا العمل عدد من المفتونين المستغربين ومن الكفرة النصارى، منهم:
الصليبي النصراني مرقس فهمي الهالك سنة 1374 في كتابه: المرأة في الشرق الذي هدف فيه إلى نزع الحجاب، وإباحة الاختلاط.
وأحمد لطفي السيد، الهالك سنة 1382، وهو أول من أدخل الفتيات المصريات في الجامعات مختلطات بالطلاب، سافرات الوجوه، لأول مرة في تاريخ مصر، يناصره في هذا عميد الفجور العربي: طه حسين، الهالك سنة 1393.
وقد تولى كبر هذه الفتنة داعية السفور: قاسم أمين، الهالك سنة 1362 الذي ألّف كتابه: تحرير المرأة، وقد صدرت ضده معارضات العلماء، وحكم بعضهم بردته، بمصر، والشام، والعراق، ثم حصلت له أحوال ألف على إثرها كتابه: المرأة الجديدة، أي: تحويل المسلمة إلى أوربية.
وساعد على هذا التوجه من البلاط الأميرة نازلي مصطفى فاضل، وهذه قد تنصرت وارتدت عن الإسلام.
ثم منفذ فكرة قاسم أمين داعية السفور: سعد زغلول، الهالك سنة 1346، وشقيه أحمد فتحي زغلول الهالك سنة 1332.
ثم ظهرت الحركة النسائية بالقاهرة لتحرير المرأة عام 1919م برئاسة هدى شعراوي، الهالكة سنة 1367، وكان أول اجتماع لهن في الكنيسة المرقصية بمصر سنة 1920م، وكانت هدى شعراوي أول مصرية مسلمة رفعت الحجاب-نعوذ بالله من الشقاء- في قصة تمتلئ النفوس منها حسرة وأسى، ذلك أن سعد زغلول لما عاد من بريطانيا مُصَنَّعاً بجميع مقومات الإفساد في الإسلام، صُنِع لاستقباله سرادقان، سرادق للرجال، وسرادق للنساء، فلما نزل من الطائرة عمد إلى سرادق النساء المتحجبات، واستقبلته هدى شعراوي بحجابها لينزعه، فمد يده -يا ويلهما-، فنزع الحجاب عن وجهها، فصفق الجميع ونزعن الحجاب.
واليوم الحزين الثاني: أن صفية بنت مصطفى فهمي زوجة سعد زغلول، التي سماها بعد زواجه بها: صفية هانم سعد زغلول، على طريقة الأوربيين في نسبة زوجاتهم إليهم، كانت في وسط مظاهرة نسائية في القاهرة أمام قصر النيل، فخلعت الحجاب مع من خلعنه، ودُسْنَه تحت الأقدام، ثم أشعلن به النار، ولذا سُمي هذا الميدان باسم: ميدان التحرير.
وهكذا تتابع أشقياء الكنانة: إحسان عبد القدوس، ومصطفى أمين، ونجيب محفوظ، وطه حسين، ومن النصارى: شبلي شميل، وفرح أنطون –نعوذ بالله من الشقاء وأهله-، يؤازرهم في هذه المكيدة للإسلام والمسلمين الصحافة، إذ كانت هي أولى وسائل نشر هذه الفتنة، حتى أُصْدِرَت مجلة باسم: مجلة السفور نحو سنة 1900م، وهرول الكُتَّاب الماجنون بمقالاتهم القائمة على المطالبة بما يُسند السفور والفساد، ويهجم على الفضائل والأخلاق من خلال وسائل الإفساد الآتية:
نشر صور النساء الفاضحة، والدمج بين المرأة والرجل في الحوار والمناقشة، والتركيز على المقولة المحدَثَة الوافدة: المرأة شريكة الرجل، أي: الدعوة إلى المساواة بينهما، وتسفيه قيام الرجل على المرأة، وإغراؤها بنشر الجديد في الأزياء الخليعة ومحلات الكوافير، وبرك السباحة النسائية والمختلطة، والأندية الترفيهية، والمقاهي، ونشر الحوادث المخلة بالعرض، وتمجيد الممثلات والمغنيات ورائدات الفن والفنون الجميلة.
يساند هذا الهجوم المنظم أمران:
الأمر الأول: إسنادهم من الداخل، وضعف مقاومة المصلحين لهم بالقلم واللسان، والسكوت عن فحشهم، ونشر الفاحشة، وإسكات الطرف الآخر، وعدم نشر مقالاتهم، أو تعويقها، وإلصاق تُهم التطرف والرجعية بهم، وإسناد الولايات إلى غير أهلها من المسلمين الأمناء الأقوياء.
هكذا صارت البداية المشؤومة للسفور في هذه الأمة بنزع الحجاب عن الوجه، وهي مبسوطة في كتاب: المؤامرة على المرأة المسلمة للأستاذ أحمد فرج، وفي كتاب: عودة الحجاب [ج/1] للشيخ محمد بن أحمد إسماعيل، ثم أخذت تدب في العالم الإسلامي في ظرف سنوات قلائل، كالنار الموقدة في الهشيم، حتى صدرت القوانين الملزمة بالسفور، ففي تركيا أصدر الملحد أتاتورك قانوناً بنزع الحجاب سنة 1920م، وفي إيران أصدر الرافضي رضا بهلوي قانوناً بنزع الحجاب سنة 1926م، وفي أفغانستان أصدر محمد أمان قراراً بإلغاء الحجاب، وفي ألبانيا أصدر أحمد زوغوا قانوناً بإلغاء الحجاب، وفي تونس أصدر أبو رقيبة قانوناً بمنع الحجاب وتجريم تعدد الزوجات، ومن فعل فيعاقب بالسجن سنة وغرامة مالية!!
ولذا قال العلامة الشاعر العراقي محمد بهجت الأثري رحمه الله تعالى:
أبو رقيبة لا امتدتْ لَه رقبة ** لم يتق الله يوماً لا ولا رقبة

وفي العراق تولى كبر هذه القضية –المناداة بنزع الحجاب- الزهاوي والرُّصافي، نعوذ بالله من حالهما.
وانظر خبر اليوم الحزين في نزع الحجاب في الجزائر كما في كتاب: التغريب في الفكر والسياسة والاقتصاد [ص:33-139] في 13 ماي عام 1958م قصة نزع الحجاب، قصة تتقطع منها النفس حَسَرات، ذلك أنه سُخِّر خطيب جمعة بالنداء في خطبته إلى نزع الحجاب، ففعل المبتلى، وبعدها قامت فتاة جزائرية فنادت بمكبر الصوت بخلع الحجاب، فخلعت حجابها ورمت به، وتبعها فتيات-منظمات لهذا الغرض- نزعن الحجاب، فصفق المسَخَّرون، ومثله حصل في مدينة وهران، ومثله حصر في عاصمة الجزائر: الجزائر، والصحافة من وراء هذا إشاعة، وتأييداً.
وفي المغرب الأقصى، وفي الشام بأقسامه الأربعة: لبنان، وسوريا، والأردن، وفلسطين، انتشر السفور والتبرج والتهتك والإباحية على أيدي دعاة البعث تارة، والقومية تارة أخرى، إلا أن المصادر التي تم الوقوف عليها لم تسعف في كيفية حصول ذلك، ولا في تسمية أشقيائها، فلا أدري لماذا أعرض الكُتَّاب ومُسَجِّلوا الأحداث آنذاك عن تسجيل البداية المشؤومة في القطر الشامي خاصة، مع أن الإنفجار الجنسي والعري، والتهتك والإباحية على حال لا تخفى.
أما في الهند وباكستان فكانت حال نساء المؤمنين على خير حال من الحجاب-درع الحشمة والحياء-. وفي التاريخ نفسه-حدود عام 1950م- بدأت حركة تحرير المرأة والمناداة بجناحيها: الحرية والمساواة، وترجم لذلك كتاب قاسم أمين تحرير المرأة، ثم من وراء ذلك الصحافة في الدعاية للتعليم المختلط ونزع الخمار، حتى بلغت هذه القارة من الحال ما لا يشكى إلا إلى الله تعالى منه، وهو مبسوط في كتاب: أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهندية لخادم حسين [ص:182-195].
ولهذه بداية مشؤومة في أطرار الجزيرة العربية في الكويت، والبحرين، وبعض الإمارات العربية المتحدة، وإطلالة مشؤومة في قطر، ووجود للخنا والتقذر به بأذون رسمية في بعضها.
وهكذا تحت وطأة سعاة الفتنة بالنداء بتحرير المرأة باسم الحرية والمساواة، آلت نهاية المرأة الغربية بداية للمرأة المسلمة في هذه الأقطار.
فباسم الحرية والمساواة:
- أخرجت المرأة من البيت تزاحم الرجل في مجالات حياته.
- وخُلع منها الحجاب وما يتبعه من فضائل العفة والحياء والطهر والنقاء.
- وغمسوها بأسفل دركات الخلاعة والمجون، لإشباع رغباتهم الجنسية.
- ورفعوا عنها يد قيام الرجال عليها، لتسويغ التجارة بعرضها دون رقيب عليها.
- ورفعوا حواجز منع الاختلاط والخلوة، لتحطيم فضائلها على صخرة التحرر، والحرية والمساواة.
- وتَمَّ القضاء على رسالتها الحياتية، أُمَّاً وزوجة، ومربية أجيال، وسكناً لراحة الأزواج، إلى جعلها سلعة رخيصة مهينة مبتذلة في كف كل لاقط من خائن وفاجر.
إلى آخر ما هنالك من البلاء المتناسل، مما تراه محرراً في عدد من كتاب الغيورين، ومنها: كتاب: حقوق المرأة في الإسلام لمؤلفه محمد بن عبدالله عرفة.
هذه هي المطالب المنحرفة في سبيل المؤمنين، وهذه هي آثارها المدمرة في العالم الإسلامي.
الأمر الثاني: إعادة المطالب المنحرفة، لضرب الفضيلة في آخر معقل للإسلام، وجعلها مِهاداً للجهر بفساد الأخلاق.
إن البداية مدخل النهاية، وإن أول عقبة يصطدم بها دعاة المرأة إلى الرذيلة هي الفضيلة الإسلامية: الحجاب لنساء المؤمنين، فإذا أسفرن عن وجوههن حَسَرْن عن أبدانهن وزينتهن التي أمر الله بحجبها وسترها عن الرجال الأجانب عنهن، وآلت حال نساء المؤمنين إلى الانسلاخ من الفضائل إلى الرذائل، من الانحلال والتهتك والإباحية، كما هي سائدة في جل العالم الإسلامي، نسأل الله صلاح أحوال المسلمين.
واليوم يمشي المستغربون الأجراء على الخطى نفسها، فيبذلون جهودهم مهرولين، لضرب فضيلة الحجاب في آخر معقل للإسلام، حتى تصل الحال-سواء أرادوا أم لم يريدوا- إلى هذه الغايات الإلحادية في وسط دار الإسلام الأولى والأخيرة، وعاصمة المسلمين، وحبيبة المؤمنين: جزيرة العرب التي حمى الله قلبها وقبلتها منذ أسلمت ببعثة خادم الأنبياء والمرسلين إلى يومنا هذا من أن ينفذ إليها الاستعمار، والإسلام فيها-بحمد الله- ظاهر، والشريعة نافذة، والمجتمع فيها مسلم، لا يشوبه تجنس كافر، وهؤلاء المفتونون السَّخابون على أعمدة الصحف اتَّبعوا سنن من كان مثلهم من الضالين من قبل، فنقلوا خطتهم التي واجهوا بها الحجاب إلى بلادنا وصحافتنا، وبدأوا من حيث بدأ أولئك بمطالبهم هذه يُجَرِّمون الوضع القائم، وهو وضع إسلامي في الحجاب، وفيه الطهر والعفاف، وكل من الجنسين في موقعه حسب الشرع المطهر، فماذا ينقمون؟
وإن ما تقدم بيانه من أصول الفضيلة، ترد على هذه المطالب المنحرفة الباطلة، الدائرة في أجواء الرذيلة؛ من السفور عن الوجه، والتبرج، والاختلاط، وسلب قيام الرِّجال على النساء، ومنازعة المرأة في اختصاص الرجل، وهكذا من الغايات المدمرة.
وإن حقيقة هذه المطالب المنحرفة عن سبيل المؤمنين، إعلان بالمطالبة بالمنكر، وهجر للمعروف، وخروج على الفطرة، وخروج على الشريعة، وخروج على الفضائل والقيم بجميع مقوماتها، وخروج على القيادة الإسلامية التي تحكم الشرع المطهر، وجعل البلاد مِهاداً للتبرج والسفور والاختلاط والحسور.
وهذا نوع من المحاربة باللسان-والقلم أحد اللسانين- وقد يكون أنكى من المحاربة باليد، وهو من الإفساد في الأرض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [الصارم المسلول: 2/ 735]: وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد انتهى.
لهذا فإن المتعين إجراؤه هو ما يأتي:
1- على مَن بسط الله يده إصدار الأوامر الحاسمة للمحافظة على الفضيلة من عاديات التبرج والسفور والاختلاط، وكفُّ أقلام الرعاع السُّفوريّين عن الكتابة في هذه المطالب، حماية للأمة من شرورهم، وإحالة مَن يَسْخر من الحجاب إلى القَضاء الشرعي، ليطبق عليهم ما يقضي به الشرع من عقاب.
وإلحاق العقاب بالمتبرجات؛ لأنهن شراك للافتتان، وهن أولى بالعقاب من الشاب الذي يتعرض لهن، إذ هي التي أغرته فَجَرَّته إلى نفسها.
2- على العلماء وطلبة العلم بذل النصح، والتحذير من قالة السوء، وتثبيت نساء المؤمنين على ما هن عليه من الفضيلة، وحراستها من المعتدين عليها، والرحمة بهن بالتحذير من دعاة السوء، عبيد الهوى.
3- على كل مَن ولاه الله أمر امرأة من الآباء والأبناء والأزواج وغيرهم، أن يتقوا الله فيما وُلُّوا من أمر النساء، وأن يعملوا الأسباب لحفظهن من السفور والتبرج والاختلاط، والأسباب الداعية إليها، ومن دعاة السفور.
وليعلموا أن فساد النساء سببه الأول تساهل الرجال.
4- على نساء المؤمنين أن يتقين الله في أنفسهن، وفي مَن تحت أيديهن من الذراري، بلزوم الفضيلة، والتزام اللباس الشرعي والحجاب بلبس العباءة والخمار، وأن لا يمشين وراء دعاة الفتنة وعشاق الرذيلة.
5- ننصح هؤلاء الكتاب بالتوبة النصوح، وأن لا يكونوا باب سوء على أهليهم، وأمتهم، وليتقوا الله سخط الله ومقته وأليم عقابه.
6- على كل مسلم الحذر من إشاعة الفاحشة ونشرها وتكثيفها، وليعلم أن محبتها كما بينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [الفتاوى: 15/ 332،344] لا تكون بالقول والفعل فقط، بل تكون بذلك، وبالتحدث بها، وبالقلب، وبالركون إليها، وبالسكوت عنها، فإن هذه المحبة تُمَكِّن من انتشارها، وتُمَكن من الدفع في وجه من ينكرها من المؤمنين، فليتق الله امرؤ مسلم من محبة إشاعة الفاحشة، قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور: 19].
هذا ما أردت بيانه، وما على أهل العلم والإيمان إلا البلاغ والبيان، للتخفف من عهدته، ورجاء انتفاع من شاء الله من عباده، وللنصح به، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» خرجه مسلم في صحيحه.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في [الحِكَم الجديرة بالإذاعة: ص43]: رُوي عن الإمام أحمد أنه قيل له: إن عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا، فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من يُنكر، ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم.
وما يتذكر إلا أولوا الألباب، والله يتولى الجزاء والحساب، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.