فصل: ذكرُ حكم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنع مِن بيع الماء الذي يشترك فيه الناسُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

الحكم السادس‏:‏ خبثُ كسبِ الحجَّام، ويدخُلُ فيه الفاصد والشارط، وكل من يكون كسبُه من إخراج الدم، ولا يدخل فيه الطبيبُ، ولا الكحَّال ولا البيطارُ لا في لفظه ولا في معناه، وصحَّ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنَّه حكم بخُبثه وأَمَرَ صَاحَبِه أَنْ يَعْلِقَه نَاضِحَه أَوْ رَقِيقَهُ‏)‏ وصحَّ عنه أنه احتجمَ وأعطى الحجامَ أجرَهُ‏)‏‏.‏

فأشكل الجمعُ بينَ هذين على كثير من الفقهاء، وظنوا أن النهىَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوى، فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكِلاب، وأكلِ أثمانها‏:‏ لما أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلابِ، ثم قال‏:‏ ‏(‏ما لى وللكلاب‏)‏، ثم رخص في كلب الصيد، وكلبِ الغنم، وكان بيعُ الكلاب إذ ذاك والانتفاعُ به حراماً، وكان قاتله مؤدياً للفرض عليه في قتله، ثم نُسِخَ ذلك، وأباح الاصطيادَ به، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه، قال‏:‏ ومثلُ ذلك نهيُه صلى الله عليه وسلم عن كسبِ الحجَّام، وقال‏:‏ ‏(‏كسبُ الحجام خبيث‏)‏ ثم أعطى الحجام، أجرَه، وكان ذلك ناسخاً لمنعه وتحريمه ونهيه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأسهلُ ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفى الحديث نفسه ما يُبطلها، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلِ الكلاب، ثم قال‏:‏ ‏(‏ما بالُهم وبالُ الكلاب‏)‏ ثم رخَّص لهم في كلب الصيد‏.‏

وقال ابنُ عمر أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتلِ الكِلابِ إلا كَلْبَ الصيدِ أو كلب غَنمٍ أو ماشِية‏.‏

وقال عبدُ اللَّه بن مغفَّل‏:‏ أمرنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلابِ ثم قال ما بالُهم وبَالُ الكِلاَب، ثم رخَّصَ في كلب الصيد، وكلب الغنم‏.‏ والحديثانِ في

‏(‏الصحيح‏)‏ فدلَّ على أن الرخصة في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلبُ الذي أذن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرَّم ثمنه، وأخبر أنه خبيثٌ دونَ الكلب الذي أمر بقتله، فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادةُ ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه، بل قد أُمِرُوا بقتله‏.‏

ومما يُبين هذا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة التي تُبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهى ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجَّامُ وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم تَجْرِ العادةُ ببيعه، وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه، وإذا تبين هذا، ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام، بل دعوى النسخ فيها أبعد‏.‏

وأما إعطاءُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم الحجام أجره، فلا يُعارض قوله ‏(‏كسب الحجام خبيث‏)‏ فإنه لم يقل‏:‏ إن إعطاءه خبيث، بل إعطاؤه إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز ولكن هو خبيثٌ بالنسبة إلى الآخذ، وخبثُه بالنسبة إلى أكله، فهو خبيثُ الكسب، ولم يلزم مِن ذلك تحريمُه، فقد سمى النبىُّ صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبىِّ صلى الله عليه وسلم الحجَّام أجرَه حِل أكلِه فضلاً عن كون أكله طيباً، فإنه قال‏:‏ ‏(‏إنِّى لأُعْطِى الرَّجُلَ العَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَ نَارَاً‏)‏، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد كان يُعطى المؤلفةَ قلوبُهم مِن مال الزكاة والفىء مع غناهم، وعدم حاجتهم إليه، ليبذُلوا من الإسلام والطاعة ما يَجِبُ عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يَحِلُّ لهم توقُف بذله على الأخذ، بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بلا عوض‏.‏

وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً من أحد الطرفين، مكروهاً أو محرماً من الطرف الآخر، فيجب على الباذلِ أن يَبْذُلَ ويحرم على الآخذ أن يأخذه‏.‏

وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل، لكن هذا خبيثُ الرائحة، وهذا خبيثٌ لكسبه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما أطيبُ المكاسب وأحلُّها‏؟‏ قيل هذا فيه ثلاثةُ أقوال للفقهاء‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كسبُ التجارة‏.‏

والثانى‏:‏ أنَّه عملُ اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الزِّراعةُ، ولكل قولٍ مِن هذه وجه مِن الترجيح أثراً ونظراً، والراجح أن أحلَّها الكسبُ الذي جعل منه رِزق رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو كسبُ الغانمين وما أُبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسبُ قد جاء في القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره، وأثنى على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم، ولهذا اختاره اللَّه لخيرِ خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ بالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَى السَّاعَةِ حَتَّي يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ عَلىَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِى‏)‏، وهو الرزقُ المأخوذُ بعزة وشرف وقهر لأعداء اللَّه، وجعل أحب شىء إلى اللَّه، فلا يُقاومه كسب غيره‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفَحْلِ وضِرابِه

في صحيح البخارى عن ابن عمر أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن عَسْبِ الفَحْلِ‏.‏

وفى صحيح مسلمٍ عن جابر أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل‏.‏ وهذا الثانى تفسير للأول، وسمى أجرة ضِرابه بيعاً إما لكون المقصودِ هو الماءَ الذي له، فالثمنُ مبذول في مقابلة عين مائه، وهو حقيقةُ البيع، وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعاً، إذ هي عقد معاوضة وهى بيع المنافع، والعادة أنهم يستأجِرُون الفحل للضِّرَابِ، وهذا هو الذي نُهِى عنه، والعقدُ الوارد عليه باطل، سواء كان بيعاً أو إجارة، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم أحمدُ والشافعى، وأبو حنيفة وأصحابهم‏.‏

وقال أبو الوفاء بن عقيل‏:‏ ويحتمِلُ عندي الجواز، لأنه عقد على منافع الفحل، ونزوه على الأنثى وهى منفعة مقصودة، وماء الفحل يدخل تبعاً، والغالب حصولُه عقيبَ نزوه، فيكون كالعقد على الظئر، ليحصُلَ اللبنُ في بطن الصبى، وكما لو استأجر أرضاً، وفيها بئر ماء، فإن الماء يدخل تبعاً وقد يغتفر في الأتباع ما لا يُغتفر فى المتبوعات‏.‏

وأما مالك فَحُكىَ عنه جوازُه، والذي ذكره أصحابه التفصيل، فقال صاحب ‏(‏الجواهر‏)‏ في باب فساد العقد من جهة نهى الشارع‏:‏ ومنها بيعُ عَسْب الفَحْلِ، ويُحمل النهى فيه على استئجار الفحل على لِقاح الأنثى وهو فاسد، لأنه غيرُ مقدورعلى تسليمه، فأما أن يستأجِرَه على أن ينزو عليه دفعاتٍ معلومة، فذلك جائز، إذ هو أمَدٌ معلوم في نفسه، ومقدورٌ على تسليمه‏.‏

والصحيحُ تحريمُه مطلقاً وفسادُ العقد به على كل حال، ويحرُم على الآخر أخذُ أجرةِ ضرابه، ولا يحرم على المعطى، لأنه بذل ماله في تحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمنع من هذا كما في كسب الحجام، وأجرة الكسَّاح، والنبى صلى الله عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله‏.‏

وقد علَّل التحريمَ بعدة علل‏.‏

إحداها‏:‏ أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق بإختيار الفحل وشهوته‏.‏

الثانية‏:‏ أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمى، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال واللَّه أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكما لها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم في أنفسهم، وقد جعل اللَّه سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند اللَّه قبيح‏.‏

ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له، فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْ حَقِّهَا إطْراقَ فَحْلِهَا وإعَارَةَ دَلْوِهَا‏)‏ فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا أهدى صاحبُ الأنثى إلى صاحب الفحل هديةً، أو ساق إليه كرامة، فهل له أخذُها‏؟‏ قيل‏:‏ إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط في الباطن لم يَحِلَّ له أخذُه، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به، قال أصحابُ أحمد والشافعى‏:‏ وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية، أو كرامة من غيرِ إجارة، جاز، واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى اللَّه عنه، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إذا كان إكراماً، فلا بأس، ذكره صاحب ‏(‏المغنى‏)‏ ولا أعرف حالَ هذا الحديث، ولا من خرَّجه، وقد نص أحمد في رواية ابن القاسم على خلافه، فقيل له‏:‏ ألا يكونُ مثلَ الحجَّامِ يُعطى، وإن كان منهياً عنه‏؟‏ فقال‏:‏ لم يبلغنا أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئاً كما بلغنا في الحجام‏.‏

واختلف أصحابنا في حمل كلام أحمد رحمه اللَّه على ظاهره، أو تأويله، فحمله القاضي على ظاهره، وقال‏:‏ هذا مقتضى النظر، لكن ترك مقتضاه في الحجام، فبقى فيما عداه على مقتضى القياس‏.‏ وقال أبو محمد في ‏(‏المغنى‏)‏‏:‏ كلام أحمد يُحمل على الورع لا على التحريم، والجواز أرفقُ بالناس، وأوفقُ للقياس‏.‏

ذكرُ حكم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنع مِن بيع الماء الذي يشترك فيه الناسُ

ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال‏:‏ نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاء‏.‏

وفيه عنه قال‏:‏ نهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن بَيْع ضِرَابِ الفَحْلِ، وَعَنْ بَيْعِ المَاءِ والأَرْضِ لِتُحْرَث، فعن ذلك نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبى هُريرة رضى اللَّه عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمنَعَ بهِ الكَلأُ‏)‏ وفى لفظ آخر ‏(‏لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا به الكَلأَ‏)‏، وقال البخارى في بعض طرقه‏:‏ ‏(‏لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلإِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ مَنَعَ فَضْل مَائِهِ أَوْ فَضْل كَلَئِهِ، مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى اللَّهُ عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاثٌ لاَ يُمْنَعْنَ‏:‏ المَاءُ والكَلأُ والنَّارُ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سننه‏)‏ أيضاً عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال‏:‏ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمونَ شُركَاءُ في ثَلاَثٍ‏:‏ المَاءُ والنَّارُ والكَلأُ، وثَمَنُهُ حَرَامٌ‏)‏‏.‏

وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى اللَّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏(‏ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَيُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏:‏ رَجُلٌ كَانَ لضهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ من ابنِ السَّبِيلِ، وَرجُلٌ بَايَع إمامَه لا يُبَايعُهُ إلا لِلدُّنْيَا فإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، رَضِىَ، وإنْ لَمْ يعْطِهِ مِنْهَا، سَخطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَقَالَ‏:‏ واللَّهِ الذي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيةَ‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُون بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏، وفى سنن أبى داود عن بُهَيْسَة قالت‏:‏ استأذن أبى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعلَ يدنو منه ويلتزمُه، ثم قال‏:‏ يانبى اللَّه ما الشىءُ الذي لا يَحِلُّ منعُه‏؟‏ قال‏:‏ الماء قَالَ‏:‏ ‏(‏يا نبىَّ اللَّهِ ما الشىءُ الذي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ‏؟‏ قَالَ المِلْحُ، قال‏:‏ يانبِىَّ اللَّهِ ما الشَّىءُ الذي لاَ يحِلُّ مَنْعُهُ‏؟‏ قال‏:‏ أن تَفْعَلَ الخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ‏)‏‏.‏

الماء خلقه اللَّه في الأصل مشتركاً بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم، فلا يكون أحدٌ أخصَّ به مِن أحد، ولو أقام عليه، وتَنَأَ عليه، قال عمرُ ابن الخطاب رضى اللَّه عنه ابنُ السبيل أحقُّ مِن التَّانىء عليه، ذكره أبو عبيد عنه‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ابنُ السبيلِ أول شاربٍ‏.‏

فأما من حازه في قِربته أو إنائه، فذاك غيرُ المذكور في الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعَها كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأنَ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتَى، بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ‏)‏ رواه البخارى‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن على رضى اللَّه عنه قال‏:‏ أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في مغنم يَوْم بدر، وأعطانى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شَارِفاً آخر، فأنختُهما يوماً عِند بابِ رجل من الأنصار وأنا أُريدُ أنْ أَحْمِلَ عَليهما إذخراً لأبيعه‏.‏ وذكر الحديثَ فهذا في الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه، وكذلك السمكُ وسائر المباحات، وليس هذا محلَّ النهى بالضرورة ولا محلَّ النهى أيضاً بيعُ مياه الأنهار الكِبار المشتركة بين الناس، فإن هذا لا يُمكن منعُها، والحجرُ عليها، وإنما محل النهى صور، أحدها‏:‏ المياه المنتقعة مِن الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة، فهى مشتركة بينَ الناس، وليس أحد أحقَّ بها مِن أحد إلا بالتقديمِ لقُرب أرضه كما سيأتى إن شاء اللَّه تعالى، فهذا النوعُ لا يَحِلُّ بيعُه ولا منعُه، ومانعُه عاصٍ مستوجبٌ لوعيد اللَّه ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلو اتخذ في أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء، أو حفر بئراً، فهل يملِكُه بذلك، ويحل له بيعُه‏؟‏ قيل‏:‏ لا ريب أنه أحقُّ به مِن غيره، ومتى كان الماءُ النابع في ملكه، والكلأ والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه، لم يجبُ عليه بذلُه، نص عليه أحمد، وهذا لا يدخُلُ تحتَ وعيدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه إنما توعَّد مَنْ منع فضل الماء، ولا فضلَ في هذا‏.‏

فصل

وما فَضَل منه عن حاجته وحاجةِ بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدمى مثلُه أو بهائمه، وبَذَلَه بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدَّم إلى الماء ويشربَ ويسقى ما شيته، وليس لصاحب الماء منعُه مِن ذلك، ولا يلزم الشارب وساقى البهائم عِوَضٌ وهل يلزمُه أن يبذُلَ له الدلوَ والبَكرة والحبلَ مجاناً، أو له أن يأخُذَ أجرته‏؟‏ على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه، أظهرهُما دليلاً وجوبُه، وهو مِن الماعون‏.‏ قال أحمد‏:‏ إنما هذا في الصحارى والبرية دون البنيانِ يعنى‏:‏ أن البنيان إذا كان فيه الماءُ، فليس لأحد الدخولُ إليه إلا بإذن صاحبه، وهل يلزمُه بذْل فضل مائه لزرعِ غيره‏؟‏ فيه وجهان، وهما روايتان عن أحمد‏.‏

أحدهما لا يلزمُه، وهو مذهب الشافعى، لأن الزرع لا حُرمة له في نفسه، ولهذا لا يجبُ على صاحبه سقيه بخلاف الماشيةَ‏.‏

والثانى‏:‏ يلزمه بذلُه، واحتج لهذا القول بالأحاديثِ المتقدمة وعمومِها وبما رُوى عن عبيد اللَّه بن عمرو أنَّ قَيِّمَ أرضه بالوهط كتب إليه يُخبره أنه سقى أرضه، وفَضَل له مِن الماء فضلٌ يُطلب بثلاثين ألفاً، فكتب إليه عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنهما‏:‏ أقم قِلْدَكَ، ثم اسق الأدنى، فالأدنى، فإنى سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهَى عن بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ‏.‏

قالُوا‏:‏ وفى منعه من سقى الزرع إهلاكُه وإفسادُه، فحرم كالماشية‏.‏ وقولُكم‏:‏ لا حرمة له، فلصاحبه حُرمة، فلا يجوزُ التسبُّب إلى إهلاك ماله، ومن سلَّم لكم أنه لا حُرمة للزرع‏؟‏ قال أبو محمد المقدسى‏:‏ ويحتمِلُ أن يمنع نفى الحرمة عنه، فإن إضاعةَ المال منهى عنها، وإتلافَه محرم، وذلك دليل على حرمته‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان في أرضه أو داره بئر نابعة، أو عين مستنبطة، فهل تكون ملكاً له تبعاً لملك الأرض والدار‏؟‏ قيل‏:‏ أما نفسُ البئر وأرض العين، فمملوكةً لمالك الأرض، وأما الماءُ، ففيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، ووجهان لأصحاب الشافعى‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه غيرُ مملوك، لأنه يجرى مِن تحت الأرض إلى مُلكه، فأشبه الجارى في النهر إلى ملكه‏.‏

والثانى‏:‏ أنه مملوك له، قال أحمد في رجل له أرضٌ ولآخر ماء، فاشترك صاحبُ الأرض وصاحبُ الماء في الزرع‏:‏ يكون بينهما‏؟‏ فقال‏:‏ لا بأس، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر‏.‏

وفى معنى الماء المعادنُ الجارية في الأملاك كالقَارِ والنَّفط والمُوميا، والمِلح، وكذلك الكلأ النابتُ في أرضه كُلُّ ذلك يُخرج على الروايتين في الماء، وظاهر المذهب أن هذا الماء لا يُملك، وكذلك هذه الأشياء قال أحمد‏:‏ لا يُعجبنى بيعُ الماء البتة، وقال الأثرم‏:‏ سمعتُ أبا عبد اللَّه يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضُهم لهذا يوم، ولهذا يومان يتَّفِقُون عليه بالحصص، فجاء يومى ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم‏؟‏ قال‏:‏ ما أدرى، أما النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فنهى عن بيع الماء، قيل‏:‏ إنه ليس يبيعُه، إنما يكريه، قال‏:‏ إنَّما احتالُوا بهذا لِيُحسِّنُوه، فأى شىء هذا إلا البيع‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وأحاديثُ اشتراكِ الناسِ في الماء دليلٌ ظاهر على المنع من بيعه، وهذه المسألة التي سئل عنها أحمد هي التي قد ابتُلىَ بها الناسُ في أرض الشام وبساتينه وغيرها، فإن الأرضَ والبستان يكونُ له حقٌّ مِن الشُّرب مِن نهر، فيفصل عنه، أو يبنيه دوراً، وحوانيت، ويُؤجر ماءَه، فقد توقف أحمد أولاً، ثم أجابَ بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماءِ، فلما قيل له‏:‏ إن هذه إجارة، قال‏:‏ هذه التسميةُ حِيلة، وهى تحسينُ اللفظ، وحقيقة العقد البيعُ، وقواعِدُ الشريعة تقتضى المَنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له حقُّ التقديم في سقى أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره، فإذا استغنى عنه، لم يجز له المعاوضةُ عنه، وكان المحتاج إليه أولى به بعده، وهذا كمن أقام على معدن، فأخذ منه حاجته، لم يَجُزْ له أن يبيعَ باقيَهُ بعدَ نزعه عنه‏.‏

وكذلك مَنْ سبق إلى الجلوس في رَحْبَةٍ أو طريق واسعة، فهو أحقُّ بها ما دام جالساً، فإذا استغنى عنها، وأجر مقعده، لم يَجُزْ، وكذلك الأرضُ المباحة إذا كان فيها كلأ أو عشب، فسبق بدوابه إليه، فهو أحقُّ بِرَعْيهِ ما دامت دوابُّه فيه، فإذا طلب الخروج مِنها، وبيعَ ما فَضَل عنه، لم يكن له ذلك وهكذا هذا الماءُ سواء، فإنَّه إذا فارق أرضَه، لم يبق له فيه حقُّ، وصار بمنزلة الكلأ الذي لا اختصاص له به، ولا هو في أرضه‏.‏

فإن قيل‏:‏ الفرقُ بينهما أن هذا الماء في نفس أرضه، فهو منفعةٌ مِن منافعها، فملكه بملكها كسائِرِ منافعها بخلاف ما ذكرتم مِن الصور، فإن تلك الأعيان ليست من ملكه، وإنما له حقُّ الانتفاع والتقديم إذا سبق خاصة‏.‏

قيل‏:‏ هذه النكتة التي لأجلها جوَّزَ من جوَّز بيعه، وجعل ذلك حقاً مِن حقوق أرضه، فَمَلَكَ المعاوضة عليه وحدَه كما يملِكُ المعاوضة عليه مع الأرض، فُيقال‏:‏ حقُّ أرضه في الانتفاع لا في ملك العين التي أودعها اللَّه فيها بوصف الاشتراك، وجعل حقَّه في تقديم الانتفاع على غيره في التحجر والمعاوضة، فهذا القولُ هو الذي تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم، وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئاً، لأنه مباح في الأصل، فأشبه ما لو عشَّشَ في أرضه طائر، أو حصل فيها ظبى، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه، فأخذه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل له منعُه مِن دخول ملكه، وهل يجوزُ دخولُه في ملكه بغير إذنه‏؟‏

قيل‏:‏ قد قال بعضُ أصحابنا‏:‏ لا يجوزُ له دخولُ ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه، وهذا لا أصل له في كلام الشارع، ولا في كلام الإمام أحمد، بل قد نص أحمد على جواز الرعى في أرضٍ غيرِ مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه‏.‏ فالصوابُ أنه يجوز له دخولُها لأخذ ما له أخذُه، وقد يتعذَّرُ عليه غالباً استئذان مالكها، ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقى بهائمه ورعى الكلأ، ومالك الأرض غائب، فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان في ذلك إضرار ببهائمه‏.‏

وأيضاً فإنه لا فائدة لهذا الإذن، لأنه ليس لصاحب الأرض منعُه مِن الدخول، بل يجبُ عليه تمكينُه، فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرامٌ عليه شرعاً لا يَحِلُّ له منعُه من الدخول، فلا فائدة في توقف دخوله على الإذن‏.‏

وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقِّه الذي جعله له الشارعُ إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعاً، بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله، فلا يجوزُ له الدخولُ بغير إذن، فأما إذا كان في الصحراء، أو دار فيها بئر ولا أنيسَ بها، فله الدخولُ بإذنٍ وغيرِه، وقد قال اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 29‏]‏، وهذا الدخولُ الذي رفع عنه الجناح هو الدخولُ بلا إذن، فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنِسُوا ويُسلِّموا على أهلها، والاستئناس هنا‏:‏ الاستئنذان، وهى في قراءة بعضِ السلف كذلك، ثم رفع عنهم الجُناح في دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم، فدلَّ ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة، لأخذ حقِّه من الماء والكلأ، فهذا ظاهرُ القرآن، وهُوَ مقتضى نص أحمد وباللَّه التوفيق‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولُون في بيع البئر والعين نفسها‏:‏ هل يجوزُ‏؟‏ قال الإمام أحمد‏:‏ إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره، ويجوز بيع البئر نفسِها والعين، ومشتريها أحقُّ بمائها، وهذا الذي قاله الإمام أحمد هو الذي دلّت عليه السنة، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ يَشْتَرى بِئْرَ رُومَةَ يُوَسعُ بِهَا عَلَى المُسلِمينَ وَلَهُ الجَنَّةُ‏)‏ أو كما قال، فاشتراها عثمانُ بن عفان رضى اللَّه عنه مِن يهودى بأمرِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وَسبَّلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىُّ يبيعُ ماءَها‏.‏ وفى الحديث أن عثمان رضى اللَّه عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً، ثم قال لليهودى اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً، وإما أنْ تَنْصِبَ لك عليها دلواً، وأَنْصِبَ عليها دلواً، فاختار يوماً ويوماً، فكان الناسُ يستقون منها في يوم عثمان لِليومين، فقال اليهودىُّ‏:‏ أفسدتَ علىَّ بئرى، فاشترى باقيها، فاشتراه بثمانية آلاف، فكان في هذا حجةٌ على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها، وتسبيلها، وصحةِ بيع ما يُسقى منها، وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة، وعلى كون المالك أحقَّ بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان الماءُ عندكم لا يملك، ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته، فكيف أمكن اليهودى تحجُّرَه حتى اشترى عثمانُ البئرَ وسبَّلَها، فإن قلتم‏:‏ اشترى نفسَ البئر وكانت مملوكةً، ودخل الماءُ تبعاً، أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ أرض غيره لأخذ الكلأ والماء، وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ولا بُد، إما ملك الماء بملك قراره، وإما على أنه لا يجوز دخولُ الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها‏.‏

قيل‏:‏ هذا سؤال قوى، وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد مِن هذينِ المذهبين، ومن منع الأمرين، يُجيب عنه بأن هذا كان في أوَّلِ الإسلام، وحين قدم النبى صلى الله عليه وسلم وقبل تقرر الأحكام، وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكةُ بالمدينة، ولم تكن أحكامُ الإسلام جاريةً عليهم، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لما قدم، صالحهم، وأقرَّهم على ما بأيديهم، ولم يتعرَّض له، ثم استقرت الأحكام، وزالت شوكةُ اليهود لعنهم اللَّه، وجرت عليهم أحكامُ الشريعة، وسباق قصة هذه البئر ظاهر في أنها كانت حينَ مقدمِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم المدينة في أول الأمر‏.‏

فصل

وأما المياهُ الجاريةُ، فما كان نابعاً من غير ملك كالأنهار الكبار وغيرِ ذلك، لم يملك بحال، ولو دخل إلى أرض رجل، لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه، فلا يملك بذلك، ولكل واحدة أخذُه وصيده، فإن جعل له في أرضه مصنعاً أو بركة يجتمع فيها، ثم يخرج منها، فهو كنقع البئر سواه، وفيه من النزاع ما فيه وإن كان لا يخرج منها، فهو أحقُّ به للشرب والسقى، وما فضل عنه، فحكمه حكم ما تقدم‏.‏

وقال الشيخ في ‏(‏المغنى‏)‏‏:‏ وإن كان ماءٌ يسيرٌ في البركة لا يخرج منها، فالأولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار‏.‏

ثم قال‏:‏ فأما المصانعُ المتخذة لمياه الأمطار تجتمعُ فيها ونحوها مِن البرك وغيرها فالأولى أن يُملك ماؤها، ويصح بيعه إذا كان معلوماً، لأنه مباح حصله في شىءٍ مُعَدٍّ له، فلا يجوز أخذُ شىء منه إلا بإذن مالكه‏.‏

وفى هذا نظر، مذهباً ودليلاً، أما المذهبُ، فإن أحمد قال‏:‏ إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره، ومعلوم أن ماءَ البئر لا يُفارقها، فهو كالبِركة التي اتخذت مقراً كالبئر سواء، ولا فرقَ بينهما، وقد تقدم مِن نصوص أحمد ما يدل على المنع مِن بيع هذا، وأما الدليل فما تقدم من النُّصوص التي سقناها، وقوله في الحديث الذي رواه البخارى في وعيد الثلاثة، ‏(‏والرَّجُلُ عَلَى فَضْلٍ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ‏)‏ ولم يُفرق بين أن يكونَ ذلك الفضلُ في أرضه المختصة به، أو في الأرض المباحة، وقوله‏:‏ ‏(‏النَّاسُ شُركَاءُ في ثَلاَثٍ‏)‏ ولم يشترط في هذه الشركة كون مقره مشتركاً، وقوله وقد سئل‏:‏ ما الشىء الذي لا يَحِلٌّ منعه‏؟‏ فقال‏:‏ الماء، ولم يشترط كون مقره مباحاً، فهذا مقتضى الدليل في هذه المسألة أثراً ونظراً‏.‏

ذِكرُ حُكمِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في منع الرجلِ مِن بيع ما ليس عنده

في ‏(‏السُّنَنِ‏)‏ و‏(‏المسند‏)‏ من حديث حَكيم بن حزام قال‏:‏ قلتُ يا رسولَ اللَّهِ يأتينى الرجلُ يسألنى من البيع ما ليس عندى، فأبيعه منه، ثم أبتاعُه مِن السوق، فقال ‏(‏لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ نحوه من حديث ابن عمرو رضى اللَّه عنه، ولفظه‏:‏ ‏(‏لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ في بَيْع، وَلاَ ربْحُ مَا لَم يُضْمَنْ، ولاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظُ مِن لفظه صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن نوعاً مِن الغَرَرِ، فإنه إذا باعه شيئاً معيناً، ولَيس في ملكه ثم مضى لِيشتريه، أو يسلمه له، كان متردداً بينَ الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القِمَار، فَنُهِىَ عنه‏.‏ وقد ظنَّ بعضُ الناس أنه إنما نهى عنه، لكونه معدوماً، فقال‏:‏ لا يَصِحُّ بيعُ المعدوم، وروى في ذلك حديثاً أنه صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ بَيْعِ المَعْدُومِ، وهذا الحديثُ لا يُعرف في شىء مِن كتب الحديث، ولا له أصلَ، والظاهر أنه مروى بالمعنى من هذا الحديث، وغَلِظَ مَنْ ظَنَّ أن معناهما واحد، وأن هذا المنهى عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضى اللَّه عنه لا يلزمُ أن يكون معدوماً، وإن كان، فهو معدوم خاص، فهو كبيع حَبَلِ الحَبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً وتردداً في حصوله‏.‏

والمعدوم ثلاثةُ أقسام‏:‏ معدوم موصوف في الذمة، فهذا يجوز بيعُه اتفاقاً، وإن كان أبو حنيفة شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيثُ الجملة، وهذا هو السَّلَمُ، وسيأتى ذكره إن شاء اللَّه تعالى‏.‏

والثانى‏:‏ معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثرَ منه وهو نوعانِ‏:‏ نوع متفق عليه ونوع مختلَف فيه، فالمتَّفَق عليه بيعُ الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، فاتفق الناسُ على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاحُ واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ العقد، ولكن جاز بيعها للموجود، وقد يكون المعدومُ متصلاً بالموجود، وقد يكون أعياناً أخر منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد‏.‏

والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت، فهذا فيه قولان، أحدهما‏:‏ أنه يجوزُ بيعُها جملة، ويأخذها المشترى شيئاً بعد شىء، كما جرت به العادة، ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُدُوِّ صلاحها، وهذا هو الصحيحُ مِن القولين الذي استقر عليه عمل الأمة، ولا غنى لهم عنه، ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولا أثر ولا قياس صحيح، وهو مذهب مالك وأهلٍ المدينة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية‏.‏

والذين قالوا‏:‏ لا يُباع إلا لُقْطَةً لا ينضبِطُ قولُهم شرعاً ولا عُرفاً ويتعذَّرُ العملُ به غالباً، وإن أمكن، ففى غاية العسر، ويؤدى إلى التنازع والاختلاف الشديد، فإن المشترى يُريد أخذَ الصغار والكِبار، ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يُؤثر ذلك، وليس في ذلك عرف منضبط، وقد تكون المقثأة كثيرةً، فلا يستوعِبُ المشترى اللُّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة أخرى، ويختلط المبيع بغيره، ويتعذَّرُ تمييزُه، ويتعذر أو يتعسَّر على صاحب المقثأة أن يُحْضِرَ لها كُلَّ وقت مَن يشترى ما تجدَّد فيها، ويُفرده بعقد، وما كان هكذا، فإن الشريعة، لا تأتى به، فهذا غيرُ مقدورٍ ولا مشروع، ولو أُلزم الناسُ به، لفسدت أموالُهم وتعطلَّت مصالِحُهمْ ثم إنَّه يتضمن التفريقَ بينَ متماثلين مِن كل الوجوه، فإن بُدو الصَّلاحِ في المقاثىء بمنزلة بُدوِّ الصلاح في الثمار، وتلاحقُ أجزائها كتلاحُقِ أجزاءِ الثِّمارِ، وجَعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما خُلِقَ في الصورتين واحدٌ، فالتَفريقُ بينهما تفريق بين متماثلين‏.‏

ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لُقْطَةً لُقْطَةً مِن الفساد والتعذُّرِ قالوا‏:‏ طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ أصلَها معها، ويقال‏:‏ إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم، وهو بيعٌ معدوم وغرر، فإن هذا لا يرتفعُ ببيع العروقِ التي لا قيمة لها، وإن كان لها قيمة، فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول، وليس للمشتري قصدٌ في العروق، ولا يدفع فيها الجملةَ مِن المال، وما الذي حصل ببيعِ العُروق معها مِن المصلحة لهما حتى شرط، وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطاً في صِحة بيعِ الثمرة المتلاحقةِ كالتينِ والتُوت وهي مقصودة، فكيف يكونُ بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ مقصودة، والمقصودُ أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود، ولا تأثيرَ للمعدُومِ، وهذا كالمنافع المعقودِ عليها في الإِجارة، فإنها معدومة، وهي مورد العقدَ، لأنها لا يُمكِنُ أن تَحْدُثَ دفعةً واحدة، والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدم الحجر عليهم فيما لا بُدَّ لهم منه، ولا تتمُّ مصالِحُهم في معاشهم إلا به‏.‏

فصل

الثالث‏:‏ معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ- وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها‏.‏

وقد ظنَّ طائفة أن بيعَ السَّلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما ليسَ عنده، وليس هو كما ظنُّوه، فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة، ثابتٍ فيها، مقدورٍ على تسليمه عند محله، ولا غرر في ذلك، ولا خطر، بل هو جعل المال في ذمة المسلَّم إليه، يجب عليه أداؤُه عند محله، فهو يُشبه تأجيلَ الثمن في ذمة المشتري، فهذا شغلٌ لِذمة المشتري بالثمن المضمون، وهذا شغلٌ لذمة البائع بالمبيع المضمون، فهذا لون، وبيعُ ما ليس عنده لونٌ، ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث فصلاً مفيداً وهذه سياقته‏.‏

قال‏:‏ للناس في هذا الحديثِ أقوالٌ قيل‏:‏ المرادُ بذلك أن يبيعَ السِّلعةَ المعينة التي هي مال الغير، فيبيعُها، ثم يتملَّكُها، ويُسلمها إلى المشتري، والمعنى‏:‏ لا تَبعْ ما ليسَ عِنْدَك من الأعيان، ونقل هذا التفسير عن الشافعي، فإنه يُجوِّز السلمَ الحال، وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان، ليكون بيع ما في الذمة غَير داخل تحته سواءً كان حالاً أو مؤجلاً‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هذا ضعيف جداً، فإن حكيم بن حزام ما كان يبغ شيئاً معيناً هو ملك لغيره، ثم ينطلِقُ فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون‏:‏ نطلبُ عبد فلان، ولا دارَ فلان، وإنما الذي يفعلُه الناسُ أن يأتيَه الطالبُ، فيقولُ‏:‏ أريدُ طعاماً كذا وكذا، أو ثوباً كذا وكذا، أو غير ذلك، فيقول‏:‏ نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثم يذهب، فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده، هذا هو الذي يفعله من يفعلُه مِن الناس، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي‏)‏ لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري، فالطالبُ طلب الجنسَ لم يطلُبْ شيئا معيناً، كما جرت به عادةُ الطالب لما يُؤكل ويُلبس ويُركب، إنما يطلب جنس ذلك، ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه، مما هو مثلُه أو خيرٌ منه، ولهذا صار الإِمامُ أحمد وطائفةٌ إلى القول الثاني، فقالوا‏:‏ الحديثُ على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السَّلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديثُ بجوازِ السَّلَمِ المؤجلِ، فبقي هذا في السَلَمِ الحالَ‏.‏

والقول الثالث - وهو أظهر الأقوال -‏:‏ إن الحديثَ لم يرد به النهي عن السلم المؤجَّل، ولا الحال مطلقاً، وإنما أريد به أن يبيعَ ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له، ولا يقدِرُ على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يَملِكه، ويضمنه، ويقدر على تسليمه، فهو نهي عن السلم الحالى إذا لم يكن عند المستسلِفِ ما باعه، فليزم ذمته بشيء حالٍّ، ويربح فيه، وليس هو قادراً على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه، فقد يحصُل وقد لا يحصُل، فهو مِن نوع الغرر والمخاطرة، وإذا كان السلم حالاًّ، وجب عليه تسليمُه في الحال، وليس بقادرٍ على ذلك، ويربح فيه على أن يَملكه ويضمنه، وربما أحاله على الذي ابتاع منه، فلا يكونُ قد عمل شيئاً، بل أكل المال بالباطل، وعلى هذا فإذا كان السَّلم الحالُّ والمسلم إليه قادراً على الإِعطاء، فهو جائز، وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجَّل، فالحالُّ أولى بالجواز‏.‏

ومما يُبين أن هذا مرادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم، لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك، فبيعُ المعين الذي لم يملكْه أولى بالمنع، وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، فإنما سأله عن بيعه حالاًّ، فإنه قال‏:‏ أبيعُه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له‏:‏ ‏(‏لاَ تَبْع ما لَيْس عِنْدَكَ‏)‏، فلو كان السلفُ الحال لا يجوزُ مطلقاً، لقال له ابتداء‏:‏ لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحبَ هذا القول يقول‏:‏ بيعُ ما في الذمة حالاًّ لا يجوز، ولو كان عنده ما يُسلمه، بل إذا كان عنده، فإنه لا يبيع إلا معيناً لا يبيع شيئاً في الذمة، فلما لم ينه النبيُ صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقاً، بل قال‏:‏ ‏(‏لاَ تَبعْ ما ليس عندك‏)‏، علم أنه صلى الله عليه وسلم فرَّق بين ما هو عنده ويملِكه ويقدِر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة‏.‏

ومن تدبَّر هذا تبيَّن له أن القولَ الثالثَ هو الصوابُ، فإن قيل‏:‏ إن بيعَ المؤجَّل جائزٌ للضرورة وهو بيعُ المفاليس، لأن البائع احتاج أن يبيعَ إلى أجل، وليس عنده ما يبيعه الآن، فأما الحال، فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه، فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة، أو بيع عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئاً مطلقاً‏؟‏‏.‏ قيل‏:‏ لا نسلم أن السَّلمَ على خلاف الأصل، بل تأجيلُ المبيع كتأجيل الثمن، كلاهما مِن مصالح العالم‏.‏

والناسُ لهم في مبيع الغائب ثلاثةُ أقوال‏:‏ منهم من يُجوِّزه مطلقاً، ولا يجوزه معيناً موصوفاً كالشافعي في المشهور عنه، ومنهم من يجوِّزه معيناً موصوفاً، ولا يجوزه مطلقاً كأحمد وأبي حنيفة، والأظهرُ جوازُ هذا وهذا، ويقال لِلشافِعي مثل ما قال هو لغيره‏:‏ إذا جاز بيعُ المطلق الموصوف في الذمة، فالمعينُ الموصوفُ أولى بالجواز، فإن المطلق فيه مِن الغرر والخطر والجهل أكثرُ مما في المعيَّن، فإذا جاز بيعُ حنطة مطلقة بالصفة، فجوازُ بيعها معينة بالصفة أولى، بل لو جَازَ بيع المعين بالصفة، فللمشتري الخيار إذا رآه، جاز أيضاً، كما نقل عن الصحابة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَمَ الحال بلفظ البيع‏.‏

والتحقيقُ‏:‏ أنه لا فرقَ بينَ لفظٍ ولفظٍ، فالاعتبارُ في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها، ونفسُ بيعِ الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمى سلفاً إذا عجل له الثمن، كما في ‏(‏المسند‏)‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنَّه نَهَى أن يُسْلِمَ في الحَائِطِ بِعَيْنهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلاَحُهُ‏)‏، فإذا بَدَا صَلاحُهُ، وقال‏:‏ أسلمت إليك في عشرة أوسق مِن تمر هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول‏:‏ ابتعت عشرة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخَر قبضُه إلى كمال صلاحه، فإذا عجَّل له الثمن قيل له‏:‏ سلف، لأن السلفَ هو الذي تقدم، والسالف المتقدم قال الثه تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثلاً لِلآخِرين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 56‏]‏ والعرب تُسمي أوَل الرواحل السالفة، ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألحق بِسَلَفِنَا الصَالِحِ عُثمَان بن مَظْعُونٍ‏)‏‏.‏ وقول الصديق رضي الله عنه‏:‏ لأقاتلنَّهم حتى تنفرِدَ سالفتي‏.‏ وهي العنق‏.‏

ولفظ السلف يتناولُ القرضَ والسلم، لأن المقرض أيضاً أسلف القرض، أي‏:‏ قدمه، ومنه هذا الحديث ‏(‏لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ‏)‏ ومنه الحَديثُ الآخر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ بَكْراً، وقَضَى جَمَلاً رَبَاعِياً‏)‏ والذي يبيعُ ما ليس عنده لا يقصِدُ إلا الربح، وهو تاجر، فَيَسْتَلِفُ بسعر، ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن، فإنه يكون قد أتعبَ نفسه لغيره بلا فائدة، وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول‏:‏ أعطني، فأنا أشتري لك فذه السلعة، فيكون أميناً، أما أنه يبيعها بثمنٍ معين يقبضه، ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن مِن غير فائدة في الحال، فهدا لا يفعلُه عاقل، نعم إذا كان هناك تاجرٌ، فقد يكون محتاجاً إلى الثمن، فَيَسْتَسْلِفُهُ وينتفعُ به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة، فهذا يقع في السلم المؤجَّل، وهو الذي يسمى بيعَ المفاليس، فإنه يكون محتاجاً إلى الثمن وهو مفلس، وليس عنده في الحال ما يبيعُه، ولكن له ما ينتظره مِن مَغَلٍّ أو غيره، فيبيعه في الذمة، فهذا يفعل مع الحاجة، ولا يُفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتَّجِرَ بالثمن في الحال، أو يرى أنه يحصل به مِن الربح أكثر مما يفوتُ بالسلم، فإن المستسلف يبيعُ السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً، والمسلف يرى أن يشتريَها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تُباع بمثل رأس مال السلم لم يُسلم فيها، فيذهب نفعُ ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر، أقرضه ذلك قرضاً، ولا يجعل ذلك سَلَماً إلا إذا ظنَّ أنه في الحال أرخصُ منه وقتَ حلول الأجل، فالسلمُ المؤجَّل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلِف إلى الثمن، وأما الحال، فإن كان عنده، فقد يكونُ محتاجاً إلى الثمن، فيبيعُ ما عنده معيناً تارة، وموصوفاً أخرى، وأما إذا لم يكن عنده، فإنه لا يفعلُه إلا إذا قصد التجارة والربحَ، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص منه‏.‏

ثم هذا الذي قدَّره قد يحصُل كما قدره، وقد لا يحصُل له تلك السلعة التي يُسلف فيها إلا بثمن أغنى مما أسلف فيندم، وإن حصلت بسعر أرخصَ مِن ذلك، قدم السلف إذ كان يُمكنه أن يشترِيَه هو بذلك الثمن، فصار هذا مِن نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد يُباع بدون ثمنه، فإن حصل، نَدِم البائع، وإن لم يحصل، نَدِمَ المشتري، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وبيعُ الملاقِيحِ والمضامينِ، ونحو ذلك مما قد يحصُل، وقد لا يحصل، فبائعُ ما ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل، وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر‏.‏ والمخاطرة مخاطرتان‏:‏ مخاطرة التجارة وهو أن يشتريَ السلعة بقصد أن يبيعَها ويربحَ ويتوكَّل على اللّهِ في ذلك، والخطر الثاني‏:‏ الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل، فهذا الذي حرَّمه اللّه تعالى ورسوله مثل بيعِ الملامسة والمنابذة، وحَبَلِ الحَبَلَة والملاقيح والمضامين، وبيع الثمار قبل بُدو صلاحها، ومن هذا النوع يكونُ أحدهما قد قَمَرَ الآخرَ، وظلمه، ويتظلم أحدُهما مِن الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقص سعرُها، فهذا من اللّه سبحانه ليس لأحد فيه حِيلة، ولا يتظلَّم مثلُ هذا مِن البائع، وبيعُ ما ليس عنده مِن قسم القمار والميسر، لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده، والمشتري لا يعلم أنه يبيعه، ثم يشتري مِن غيره، وأكثرُ الناس لو عَلِمُوا ذلك لم يشتروا منه، بل يذهبون ويشترون مِن حيث اشترى هو، وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم، فإذا اشترى التاجر السلعة، وصارت عنده ملكاً وقبضاً، فحينئذ دخل في خطر التجارة، وباع بيع التجارة كما أحله اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنكُم بِالبَاطِلِ إلاّ أَنْ تكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏، واللّه أعلم‏.‏

ذكر حُكمِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم في بيع الحَصَاةِ والغَرَرِ والمُلامسة والمنَابَذَةِ

في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عنه‏:‏ ‏(‏أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُلامَسَةِ والمنَابَذَةِ‏)‏ زاد مسلم‏:‏ ‏(‏أمَّا المُلاَمَسَةُ‏:‏ فأنَ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِه بِغَيْرِ تَأمُلٍ، والمُنَابَذَةُ‏:‏ أَن يَنبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَه إلى الآخَرِ، ولَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ منْهُمَا إلى ثَوْب صَاحبه الآخَرِ‏)‏‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ ولُبْسَتَينِ‏:‏ نَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ في البَيعِ‏.‏ والمُلاَمَسَةُ‏:‏ لمسُ الرجلِ ثوبَ الآخر بيده بالليلِ أو بالنهارِ ولا يقْلِبُه إلا بذلك، والمنابذة‏:‏ أن يَنْبِذَ الرجلُ إلى الرجل ثوبَه، وينبذ الآخر ثوبَه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض‏)‏‏.‏

أما بيعُ الحصاةِ، فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه، كبيع الخيار، وبيع النسيئة ونحوهما، وليس مِن باب إضافة المصدر إلى مفعوله، كبيع الميتة والدم‏.‏

والبيوعُ المنهى عنها ترجعُ إلى هذين القِسمين، ولهذا فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول‏:‏ ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول‏:‏ لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول‏:‏ لي بكُلِّ حصاة درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول‏:‏ أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما‏:‏ إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول‏:‏ أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار‏.‏

فصل

وأما بيعُ الغَرَرِ، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغَرَرُ‏:‏ هو المَبيع نفسه، وهو فعل بمعنى مفعول، أي‏:‏ مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض والمسلوب، وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته، أو ما يرضى له به زيد، أو يهبه له، أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصولُه أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يُعرف حقيقته ومقداره، ومنه بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وهو نتاج النتاج في أحد الأقوال، والثاني‏:‏ أنه أجل، فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم، وكِلاهما غرر، والثالث‏:‏ أنه بيعُ حمل الكرم قبل أن يبلغ، قاله المبرد‏.‏ قال‏:‏ والحبْلة‏:‏ الكرم بسكون الباء وفتحها، وأما ابنُ عمر رضي الله عنه، فإنه فسره بأنه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه، وإليه ذهب مالك والشافعي، وأما أبو عبيدة، ففسره ببيع نتاج النتاج، وإليه ذهب أحمد، ومنه بيعُ الملاقيح والمضامين، كما ثبت في حديث سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عَن المضامينِ والملاقيح‏.‏ قال أبو عُبيد‏:‏ الملاقيح ما في البطون من الأجنَّةِ، والمضامين‏:‏ ما في أَصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد‏:‏

إنَّ المَضَامِينَ الَّتي في الصُّلْبِ مَاءُ الفُحُولِ في الظُّهُورِالحُدْبِ

ومِنه بيعُ المَجْرِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ المجر ما في بطن الناقة، والمجر‏:‏ الربا، والمجر‏:‏ القِمار، والمجر‏:‏ المحاقلَة والمزابنة‏.‏

ومنه بيعُ الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرُهما في نفس الحديث، ففي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ‏:‏ المُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ، أَمَا المُلاَمَسَةُ فَأَنْ يلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما ثَوبَ صاحبه بغير تأمل والمنابذة‏:‏ أن ينبِذ كُلُّ واحد منهما ثوبَه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه، هذا لفظ مسلم‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي سعيد قال‏:‏ نهانا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن بيعيين ولبستين في البيع، والملامسة‏:‏ لمسُ الرجل ثوبَ الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يَقْلِبُهُ إلا بذلك، والمُنابذة‏:‏ أن يَنبذ الرجل إلى الرجل ثوبَه، وينبِذَ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض‏.‏

وفُسِّرَتِ الملامسةُ بأن يقول‏:‏ بعتُك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، فهو عليك بكذا، والمنابذة بأن يقول‏:‏ أي ثوب نبذته إلي، فهو علي بكذا، وهذا أيضاً نوع من الملامسة والمنابذة، وهو ظاهر كلام أحمد رَحِمَهُ الله، والغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ شرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر‏.‏

فصل

وليس مِن بيع الغَرَرِ بيع المغيَّبَات في الأرض كاللفتِ والجَزَرِ والفِجل والقَلقَاس والبَصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يَعْرِفُها أهل الخبرة بها، وظاهرُها عنوانُ باطنها، فهو كظاهر الصُّبْرَةِ مع باطنها، ولو قُدِّرَ أن في ذلك غرراً، فهو غرر يسير يُغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجباً للمنع، فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة لا تخلُو عن غرر، لأنه يعرض فيه موتُ الحيوان، وانهدام الدار، وكذا دخولُ الحمام، وكذا الشربُ من فم السقاء، فإنه غيرَ مقدر مع اختلاف الناس في قدره، وكذا بيوعُ السَّلم، وكذا بيع الصُبْرةِ العظيمة التي لا يُعلم مكيلُها، وكذا بيعُ البيضِ والرُّمَّان والبطيخ والجوز واللوز والفستق، وأمثال ذلك مما لا يخلو مِن الغرر، فليس كُلُ غرر سبباً للتحريم، والغررُ إذا كان يسيراً أو لا يُمكن الاحترازُ منه، لم يكن مانعاً مِن صحة العقد، فإن الغررَ الحاصِل في أساسات الجدران، وداخل بطون الحيوان، أو آخر الثمار التي بدا صلاحُ بعضِها دونَ بعض لا يُمكن الاحترازُ منه، والغررُ الذي في دخولِ الحمام، والشرب من السِّقاء ونحوه غرر يسير، فهذان النوعان لا يمنعانِ البيع بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحترازُ منه، وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وما كان مساوياً لها لا فرقَ بينها وبينَه، فهذا هو المانعُ مِن صحة العقد‏.‏

فإذا عُرِفَ هذا، فبيعُ المغيبات في الأرض، انتفى عنه الأمرانِ، فإن غررَه يسير، ولا يُمكن الاحترازُ منه، فإن الحقول الكِبار لا يُمكن بيعُ ما فيها مِن ذلك إلا وهو في الأرض، فلو شرط لبيعه إخراجَه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة، وفساد الأموال ما لا يأتي به شرع، وإن منع بيعه إلا شيئاً فشيئاً كلما أخرجَ شيئاً باعه، ففي ذلك مِن الحرج والمشقة، وتعطيلِ مصالح أربابِ تلك الأموالِ، ومصالح المشتري ما لا يخفى، وذِّلك مما لا يُوجبه الشارعُ، ولا تقومُ مصالحُ الناس بذلك البتة حتى إن الذين يمنعون مِن بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم خَرَاجٌ كذلك، أو كان ناظراً عليه، لم يجد بُداً مِن بيعه في الأرض اضطراراً إلى ذلك، وبالجملة، فليس هذا مِن الغرر الذي نهى عنه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا نظير لما نهى عنه من البيوع‏.‏

فصل

وليس منه بيعُ المسك في فأرته، بل هو نظيرُ ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفُستق وجوز الهند، فإن فأرته وعاء له تصونُه مِن الآفات، وتحفظ عليه رطوبته ورائحتَه، وبقاؤه فيها أقربُ إلى صيانته مِن الغش والتغير، والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض، وجرت عادة التجار بيعه وشرائه فيها، ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلِف، فليس مِن الغرر في شيء، فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات، وعلى القاعدة الأخرى‏:‏ هو ما طُوِيَتْ معرفتُه، وجُهِلَتْ عينُه، وأما هذا ونحوه، فلا يُسمى غرراً لا لغةً ولا شرعاً ولا عُرفاً، ومن حَرَّمَ بيعَ شيء، وادعى أنه غُرِّرَ، طُولِب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعاً، وجوازُ بيع المسك في الفأرة أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو الراجحُ دليلاً، والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في التمر، والبيض في الدجاج، واللبن في الضرع، والسمن في الوعاء، والفرقُ بين النوعين ظاهر‏.‏

ومنازعوهم يجعلونه مثلَ بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صِوانه، لأنه من مصلحته، ولا ريبَ أنه أشبهُ بهذا منه بالأول، فلا هو مما نهى عنه الشارعُ، ولا في معناه، فلم يشمَلْهُ نهيُه لفظاً ولا معنى‏.‏

وأما بيعُ السمن في الوعاء، ففميه تفصيل، فإنه إن فتحه، ورأى رأسه بحيث يدُلُه على جنسه ووصفه، جاز بيعُه في السِّقاء، لكنه يصيرُ كبيع الصُّبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره، ولم يُوصف له، لم يجز بيعُه، لأنه غرر، فإنه يختلِفُ جنساً ونوعاً ووصفاً، وليس مخلوقاً في وعائه كالبيضِ والجوز واللوز والمسك في أوعيتها، فلا يصح إلحاقُه بها‏.‏

وأما بيعُ اللبن في الضرع، فمنعه أصحابُ أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه التفصيلُ، فإن باع الموجودَ المشاهدَ في الضرع، فهذا لا يجوز مفرداً، ويجوز تبعاً للحيوان، لأنه إذا بيعَ مفرداً تعذر تسليمُ المبيع بعينه، لأنه لا يُعرف مقدارُ ما وقع عليه البيع، فإنه وإن كان مشاهداً كاللبن في الظرف، لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع، فاختلط المبيعُ بغيره على وجه لا يتميز، وإن صح الحديثُ الذي رواه الطَّبرانِي في ‏(‏مُعْجَمِهِ‏)‏ من حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر، أو لَبَنٌ في ضَرْعٍ‏)‏ فهذا إن شاء اللّه محمله، وأما إن باعه آصعاً معلومة من اللبن يأخذه مِن هذه الشاة، أو باعه لبنَها أياماً معلومة، فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها لا يجوزُ، وأما إن باعه لبناً مطلقاً موصوفاً في الذمة، واشترط كونه مِن هذه الشاة أو البقرة، فقال شيخنا‏:‏ هذا جائز، واحتج بما في ‏(‏المسند‏)‏ من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه‏.‏ قال فإذا بدا صلاحه، وقال‏:‏ أسلمتُ إليك في عشرة أوسق مِن تمرِ هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول‏:‏ ابتعتُ منك عشرَة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخر قبضُه إلى كمال صلاحه، هذا لفظه‏.‏

فصل

وأما إن أجره الشاةَ أو البقرة أو النَاقة مدةً معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة، فهذا لا يُجَوِّزُه الجمهورُ‏؟‏ واختار شيخُنا جوازه، وحكاه قولاً لبعض أهل العلم، وله فيها مصنَّفٌ مفرد، قال‏:‏ إذا استأجر غنماً أو بقراً، أو نوقاً أيامَ اللبن بأجرة مسماة، وعلفُها على المالِك، أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخُذَ اللبن، جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظِّئر قال‏:‏ وهذا يُشبه البيع، ويُشبه الإِجارة، ولهذا يذكرُه بعضُ الفقهاء في البيع، وبعضُهم في الإِجارة، لكن إذا كان اللبن يحصُل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم، فإنه يشبه استئجار الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلِفُها، وإنما يأخذُ المشتري لبناً مقدراً، ففذا بيعٌ محضٌ، وإن كان يأخذ اللبن مطلقاً، فهو بيعٌ أيضاً، فإن صاحب اللبن يُوفيه اللبن بخلاف الظئر، فإنما هي تسقي الطفل، وليس فذا داخلاً فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم مِن بيع الغَرَرِ، لأن الغرر تردُّدٌ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه، لأنه مِن جنس القمار الذي هو الميسر، والله حرم ذلك لما فيه مِن أكل المال بالباطل، وذلك مِن الظلم الذي حرمه اللّهُ تعالى، وهذا إنما يكون قماراً إذا كان أحدُ المتعاوضين يحصلُ له مال، والآخر قد يحصُل له وقد لا يحصل، فهذا الذي لا يجوزُ كما في بيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وبيع حَبَلِ الحَبَلَةِ، فإن البائع يأخذُ مال المشتري، والمشتري قد يحصل لَهُ شَيء، وقد لا يَحصُل، ولا يعرف قدر الحاصل، فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع الأعيان بالإِجارة مثل منفعة الأرض والدابة، ومثلِ لبن الظئر المعتاد، ولبنِ البهائم المعتاد، ومثلِ الثمر والزرع المعتاد، فهذا كُلُّهُ من باب واحد وهو جائز‏.‏

ثم إن حصل على الوجه المعتاد، وإلا حطَّ عن المستأجر بقدر ما فات مِن المنفعة المقصودة، وهو مثلُ وضع الجائحة في البيع، ومثلُ ما إذا تلف بعضُ المبيع قبل التمكن مِن القبض في سائر البيوع‏.‏

فإن قيل‏:‏ مَوْرِدُ عقد الإِجارة إنما هو المنافع، لا الأعيان، ولفذا لا يَصِحُ استئجارُ الطعامِ ليأكله، والماء ليشربه، وأما إجارة الظئر، فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حَجرها، وإلقامُه ثديها، واللبنُ يدخل ضمناً وتبعاً، فهو كنقع البئر في إجارة الدار، ويغتفر فيما دخل ضمناً وتبعاً ما لا يُغتفر في الأصول والمتبوعات‏.‏

قيل‏:‏ الجواب عن هذا من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ منع كون عقد الإِجارة لا يَرِدُ إلا على منفعة، فإن هذا ليس ثابتاً بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإِجماع، بل الثابتُ عن الصحابة خلافه، كما صحَّ عن عمر رضي اللّه عنه أنه قَبَل حديقة أسيدِ بنِ حضير ثلاث سنين، وأخذ الأجرة فقضى بها دينَه، والحديقة‏:‏ هي النخل، فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها، وهو مذهبُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، ولا يُعلم له في الصحابة مخالف، واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أَصحَابِ أحمد، واختيار شَيْخنا، فقولُكم‏:‏ إن مورد عقد الإِجارة لا يكون إلا منفعة غيرُ مسلم، ولا ثابت بالدليل، وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل، والماء للشرب، وهذا مِن أفسد القياس، فإن الخبز تذهب عينُه ولا يُسْتَخْلَفُ مثله بخلاف اللبن ونقع البئر، فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئاً فشيئاً، كان بمنزلة المنافع‏.‏

يوضحه الوجه الثاني‏:‏ وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارِيَّة ونحوها فيجوزُ أن يقف الشَّجَرة لِينتفع أهلُ الوقف بثمراتها كمَا يقفُ الأرض، لينتفعَ أهلُ الوقف بِغلَّتِها، ويجوز إعارةُ الشجرة، كما يجوز إعارة الظهر، وعاريَّة الدارِ، ومنيحةُ اللبن، وهذا كُلُ تبرع بنماء المال وفائدته، فإن من دفع عقاره إلى مَنْ يسكنُه، فهو بمنزلة مَنْ دفع دابتَه إلى من يركبها، وبمنزلة مَن دفع شجرة إلى من يستثمِرُها، وبمنزلة مَنْ دفع أرضَه إلى من يزرَعُها، وبمنزلة مَنْ دفع شاته إلى من يشربُ لبنها، فهذه الفوائدُ تدخُلُ في عقود التبرع، سواء كان الأصل مُحَبَّساً بالوقف، أو غير محبس‏.‏ ويدخل أيضاً في عقود المشاركات، فإنه إذا دفع شاة، أو بقرة، أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء مِن دَرِّها ونسلها، صحَّ على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك يدخلُ في العقود للإِجارات‏.‏

يوضحه الوجه الثالث‏:‏ وهو أن الأعيانَ نوعانِ‏:‏ نوع لا يستخلف شيئاً فشيئاً، بل إذا ذهب، ذهب جملة، ونوع يُسْتَخْلَفُ شيئاً فشيئاً، كُلَّما ذهبَ منه شيء، خلفه شيء مثله، فهذا رتبةٌ وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تُسْتَخْلَفْ، فينبغي أن ينظر في شَبَهِهِ بأيِّ النوعين، فيُلحق به، ومعلوم أن شَبَهَهُ بالمنافع أقوى، فإلحاقه بها أولى‏.‏

يوضحه الوجه الرابع‏:‏ وهو أن اللّه سبحانه نصَّ في كتابه على إجارة الظئر، وسمَّى ما تأخذه أجراً، وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظِّئرِ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُم فآتُوهُنَّ أُجُورَهنَّ وأتَمِرُوا بَينَكُمْ بِمَعروفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، قال شيخنا‏:‏ وإنما ظن الظانُّ أنها خلافُ القياس حيث توهَّم أن الإِجارة لا تكون إلا على منفعة، وليس الأمرُ كذلك، بل الإِجارة تكونُ على كل ما يُستوفى مع بقاء أصله، سواء كان عيناً أو منفعة، كما أن هذه العينَ هي التي تُوقف وتُعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعيرُ بلا عوض يستوفيه المستأجرُ وبالعوض، فلما كان لبن الظئر، مستوفى مع بقاء الأصل، جازت الإِجارة عليه كما جازت على المنفعة، وهذا محضُ القياس، فإن هذه الأعيانَ يُحدثها الله شيئاً بعد شيءٍ، وأصلُها باقٍ كما يُحدِثُ اللهُ المنافعَ شيئاً بعد شيء، وأصلُها باقٍ‏.‏

ويوضحه الوجهُ الخامِسُ‏:‏ وهو أن الأصل في العقود وجوبُ الوفاء إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً، أو حرَّم حلالاً، فلا يحرُم مِن الشروط والعقود إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه، وليس مع المانعين نصّ بالتحريم البتة، وإنما معهم قياسٌ قد عُلِمَ أن بينَ الأصل والفرع فيه مِن الفرق ما يمنع الإِلحاق، وأن القياسَ الذي مع مَنْ أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لأصله، وهذا ما لا حيلة فيه، وباللّه التوفيق‏.‏

يوضحه الوجه السادس‏:‏ وهو أن الذين منعوا فذه الإِجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتةً بالنص والإِجماع، والمقصودَ بالعقد إنما هو اللبنُ، وهو عينٌ، تمحَّلُوا لجوازها أمراً يعلمون هم والمرضعةُ والمستأجرُ بطلانَه، فقالوا‏:‏ العقدُ إنما وقع على وضعها الطفل في حَجرها وإلقامه ثديها فقط، واللبن يدخل تبعاً، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليسَ كذلك، وأن وضع الطفل في حَجرها ليس مقصودا أصلاً، ولا ورد عليه عقدُ الإِجارة، لا عرفاً ولا حقيقةً ولا شرعاً، ولو أرضعت الطفلَ وهو في حَجر غيرها، أو في مهده، لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصودُ إلقامَ الثدي المجرد، لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي، ولو لم يكن لها لبن، فهذا هو القياسُ الفاسِدُ حقاً، والفقه البارد، فكيف يقال‏:‏ إن إجارةَ الظِّئر على خلاف القياس، ويُدعى أن هذا هو القياسُ الصحيح‏.‏

الوجه السابع‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم، ندب إلى منيحة العَنْز والشاة للبنها، وحضَّ على ذلك، وذكر ثوابَ فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة، فإن هِبة المعدوم المجهول لا تَصِحّ، وإنما هو عاريَّة الشاة للانتفاع بلبنها كما يُعيره الدابة لركوبها، فهذا إباحة للانتفاع بدرها، وكلاهما في الشرع واحد، وما جاز أن يُستوفى بالعاريَّة جاز أن يُستوفى بالإِجارة، فإن موردَهما واحد، وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر‏.‏

والوجه الثامن‏:‏ ما رواه حرب الكرماني في ‏(‏مسائله‏)‏‏:‏ حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير تُوفّي وعليه سِتةُ آلافِ دِرْهمٍ دَين، فدعا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ‏(‏غُرماءَه، فَقَبَلَهُمْ أرضَه سنتينِ‏)‏، وفيها الشجر والنخلُ، وحدائقُ المدينة الغالب عليها النخلُ والأرضُ البيضاء فيها قليل، فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها، ومن ادعى أن ذلك خلاف الإِجماع، فَمِنْ عدمِ علمه، بل ادعاء الإِجماع على جواز ذلك أقربُ، فإن عمر رضي اللّه عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة في مَظِنَّةِ الاشتهار، ولم يُقابلها أحد بالإِنكار، بل تلقاها الصحابةُ بالتسليم والإِقرار، وقد كانوا يُنكرون ما هو دُونَها وإن فعله عمرُ رضي اللّه عنه، كما أنكر عليه عِمرانُ بن حصين وغيرُه شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة، وسنبين إن شاء اللّه تعالى أنها محضُ القياس، وأن المانعين منها لا بد لهم منها، وأنهم يتحيَّلُون عليها بحيل لا تجوز‏.‏

الوجه التاسع‏:‏ أن المستوفَى بعقد الإِجارة على زرعِ الأرض هو عينٌ مِن الأعيان وهو المغلّ الذي يستغله المستأجرُ، وليس له مقصودٌ في منفعة الأرضِ غير ذلك، وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع، فذلك تَبَعٌ‏.‏

فإن قيل‏:‏ المعقودُ عليه هو منفعة شَقِّ الأرضِ وبذرها وفلاحتها والعينُ تتولَّد من هذه المنفعة، كما لو استأجر لحفر بئر، فخرج منها الماء، فالمعقودُ عليه هو نفس العمل لا الماء‏.‏

قيل‏:‏ مستأجرُ الأرض ليس له مقصود في غير المغل، والعملُ وسيلة مقصودةٌ لغيرها، ليس له فيه منفعة، بل هو تعب ومشقة، وإنما مقصودُه ما يُحدِثُه الله مِن الحَبِّ بسقيه وعمله، وهكذا مستأجِرُ الشاة للبنها سواء مقصودُه ما يُحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيامِ عليها، فلا فرقَ بينهما البتة إلا ما لا تُناط به الأحكامُ مِن الفروق الملغاة، وتنظيرُكم بالاستئجار لحفر البئر تنظيرٌ فاسد، بل نظيرُ حفرِ البئر أن يستأجر أكاراً لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها، ولا ريب أن تنظيرَ إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محضُ القياس وهو كما تقدَّم أصحُ مِن التنظير بإجارة الخبز للأكل‏.‏

يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظمُ بكثر مِن الغَرَرِ الذي في إجارة الحيوان للبنه، فإن الآفات والموانعَ التي تعرض للزرع أكثرُ مِن آفات اللبن، فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض، فلأن يُغفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى‏.‏

فصل

فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة‏.‏

أحدها‏:‏ منعه بيعاً وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ جوازه بيعاً وإجارة‏.‏

والثالث‏:‏ جوازه إجارة لا بيعاً، وهو اختيار شيخنا رحمه اللّه‏.‏

وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان، أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما مرفوعاً‏:‏ ‏(‏نَهَى أن يُباع صُوفٌ عَلى ظَهْرٍ، أو سَمْنٌ في لَبَنٍ، أوْ لَبَنٌ في ضَرْعٍ‏)‏، وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره‏.‏

والثاني حديثٌ رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جَهْضَمُ بن عبد اللّه اليماني، عن محمد بن إبراهيم البَاهِلي، عن محمد بن زيد العبدي، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخُدري رضي اللّهُ عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص‏)‏، ولكن لهذا الإِسناد لا تقومُ به حجة، والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابتٌ بالنهي عن الملاقيح والمضامين، والنهي عن شراء العبد الآبق، وهو آبق معلومٌ بالنهي عن بيع الغرر، والنهي عن شراء المغانم حتى تُقْسَمَ داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده، فهو بيعُ غررٍ ومخاطرة، وَكذلك الصدقاتُ قبلَ قبضها، وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبلَ قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت ملكه عليه، وتعيينه له، وانقطاع تعلق غيره به، فالمغانمُ والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي‏.‏ وأما ضربةُ الغائِص، فغرر ظاهر لا خفاءَ به‏.‏

وأما بيعُ اللبن في الضرع، فإن كان معيناً لم يمكن تسليمُ المبيع بعينه، وإن كان بيعَ لبن موصوف في الذمة، فهو نظيرُ بيع عشرة أقفزة مطلقة مِن هذه الصبرة وهذا النوع له جهتان‏:‏ جهة إطلاق وجهةُ تعيين، ولا تنافي بينهما، وقد دل على جوازه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه، رواه الإِمام أحمد‏.‏ فإذا أسلم إليه في كيل معلوم مِن لبن هذه الشاة وقد صارت لبوناً، جاز، ودخل تحت قوله‏:‏ ‏(‏ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن‏)‏، فهذا إذنٌ لبيعه بالكيل والوزن معيناً أو مطلقاً، لأنه لم يُفصِّل، ولم يشترط سوى الكيلِ والوزنِ، ولو كان التعيين شرطاً لذكره‏.‏

فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياماً معلومة من غير كيل ولا وزن‏.‏

قيل‏:‏ إن ثبت الحديثُ، لم يجز بيعُه إلا بكيل أو وزن، وإن لم يثبت، وكان لبنُها معلوماً لا يختلِفُ بالعادة، جاز بيعُه أياماً، وجرى حكمُه بالعادة مجرى كَيْلِهِ أو وزنه، وإن كان مختلفاَ فمرة يزيدُ، ومرة يَنْقُصُ، أو ينقطعُ، فهذا غرر لا يجوز، وهذا بخلافِ الإِجارة، فإنَّ اللبن يحدُث على مُلكه بعلفه الدابة كما يحدُث الحبُ على ملكه بالسَّقي، فلا غَرَرَ في ذلك، نعم إن نَقَصَ اللبنُ عن العادة، أو انقطع، فهو بمنزلة نُقصان المنفعة في الإِجارة، أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة، هذا قياسُ المذهب، وقال ابن عقيل، وصاحب ‏(‏المغني‏)‏‏:‏ إذا اختار الإِمساك لزمته جميعُ الأجرة، لأنه رضي بالمنفعة ناقصةَ، فلزِمَه جميعُ العِوَض، كما لو رضي بالمبيع معيبا، والصحيحُ أنه يسقُطُ عنه من الأجرة بقدر ما نَقَصَ مِن المنفعة، لأنه إنما بذل العوضَ الكامِلَ في منفعة كاملةٍ سليمة، فإذا لم تسلم له، لم يلزمه جميعُ العوض‏.‏

وقولهم‏:‏ إنه رضي بالمنفعة معيبة، فهو كما لو رضي بالبيع معيباً، جوابه مِن وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إن رضي به معيباً، بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب، فَرِضَاهُ بالعيب مع الأرش لا يُسقط حقه‏.‏

الثاني‏:‏ إن قلنا‏:‏ إنه لا أرش لممسك له الرد، لم يلزم سقوط الأرش في الإِجارة، لأنه قد استوفى بعضَ المعقود عليه، فلم يُمكنه ردُّ المنفعة كما قبضها، ولأنه قد يكونُ عليه ضرر في رد باقي المنفعة، وقد لا يتمكن من ذلك، فقد لا يجد بداً من الإِمساك، فإلزامُه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهراً، ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه، ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء، أو مستأجر دابة للسفر فتتعيبُ في الطريق، فالصوابُ أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد، وأنه في الإِجارة له الأرش‏.‏

والذي يُوضح هذا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة، بقدر ما أذهبت عليه الجائحة مِن ثمرته ويُمسك الباقي بقسطه من الثمن، وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة، ولم تجر العادةُ بأخذها جملة واحدة، وإنما تؤخذ شيئاً فشيئأ، فهي بمنزلة المنافع في الإِجارة سواء، والنبي صلى الله عليه وسلم في المصرَّاة خيَّر المشتري بين الرد وبين الإِمساك بلا أرشٍ، وفي الثمار جعل له الإِمساك مع الأرش، والفرقُ ما ذكرناه، والإِجارة أشبهُ ببيع الثمار، وقد ظهر اعتبارُ هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن‏.‏ فإن قيل‏:‏ فالمنافع لا تُوضع فيها الجائحةُ باتفاق العلماء‏.‏

قيل ليس هذا مِن باب وضع الجوائح في المنافع، ومَن ظنَّ ذلك، فقد وهم، قال شيخُنا‏:‏ وليس هذا مِن باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها، وقد اتفق العلماءُ على أن المنفعة في الإِجارة إذا تلفت قبل التمكن مِن استيفائها، فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيواناً فيموت قبلَ التمكن، مِن قبضه وهو بمنزلة أن يشتريَ قفيزاً مِن صُبرة فتتلفَ الصُّبرةُ قبل القبض والتمييز، فإنه مِن ضمان البائع بلا نزاع، ولهذا لو لم يتمكن المستأجر مِن ازدراع الأرض لآِفة حصلت لم يكن عليه الأجرةُ‏.‏

وإن نبت الزرع، ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن مِن حصاده، ففيه نزاع، فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة، وطائفة فرقت، والذين فرَّقوا بينه وبينَ الثمرة والمنفعة قالوا‏:‏ الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة، وهنا الزرع ليس معقوداً عليه، بل المعقودُ عليه هو المنفعة وقد استوفاها، والذين سَوَّوْا بينهما، قالوا المقصودُ بالإِجارة هو الزرعُ، فإذا حالت الآفةُ السماوية بينَه وبينَ المقصودِ بالإِجارة، كان قد تلف المقصودُ بالعقد قبل التمكن مِن قبضه، وإن لم يُعاوض على زرع، فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر مِن حصول الزرع، فإذا حصلت الآفةُ السماوية المفسدةُ للزرع قبلَ التمكن مِن حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها، بل تلفت قبل التمكن مِن الانتفاع، ولا فرق بينَ تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة، ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعدَ الزرع مطلقاً بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها‏.‏

فصل

وأما بيعُ الصوف على الظهر، فلو صحَّ فذا الحديثُ بالنهي عنه، لوجبَ القولُ به، ولم تسغ مخالفته وقد اختلف الروايةُ فيه عن أحمد، فمرةً منعه، ومرَّة أجازه بشرط جَزِّهِ في الحال، ووجه هذا القول أنه معلوم يُمكن تسليمُه، فجاز بيعُه كالرطبة، وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزولُ بجزِّهِ في الحال، والحادث يسير جداً لا يمكن ضبطُه، هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزِّه في الحال، ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً، وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح، وغايته بيع معدوم‏.‏ لم يخلق تبعاً للموجود، فهو كأجزاء الثمار التي لم تُخلق، فإنها تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصوف وقتاً معيناً يُؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقتَ كمالها‏.‏

ويُوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا‏:‏ متصلٌ بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه، وهذا من أفسدِ القياس، لأن الأعضاء لا يُمكن تسليمها مع سلامة الحيوان‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه‏؟‏ قيل‏:‏ اللبن في الضرع، يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعاً، فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه، دَرَّ، بخلاف الصوف‏.‏ والله أعلم وأحكم‏.‏

49