فصل: باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن ففيه ‏"‏ وصل علي وعلى سائر النبيين ‏"‏ أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه ‏"‏ لا تتركن في التشهد الصلاة على وعلى أنبياء الله ‏"‏ الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ صلوا على أنبياء الله ‏"‏ الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه ‏"‏ إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني ‏"‏ أخرجه الطبراني ورويناه في ‏"‏ فوائد العيسوي ‏"‏ وسنده ضعيف أيضا، وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال ‏"‏ ما أعلم الصلاة ينبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهذا سند صحيح، وحكي القول به عن مالك وقال‏:‏ ما تعبدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره‏.‏

وقال عياض‏:‏ عامة أهل العلم على الجواز‏.‏

وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به‏.‏

وخالفه يحيى بن يحيى فقال‏:‏ لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع، قال عياض‏:‏ والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا‏:‏ يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه فقيل‏:‏ لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم‏.‏

وقالت طائفة لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ ولأنه لما علمهم السلام قال ‏"‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ‏"‏ ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، هو اختيار ابن تيمية من المتأخرين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة‏.‏

وقالت طائفة تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد‏.‏

وقال النووي‏:‏ هو خلاف الأولى وقالت طائفة‏:‏ تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهي قوله ‏(‏وصل عليهم‏)‏ ثم علق الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول‏:‏ اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وفي حديث جابر ‏"‏ إن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل ‏"‏ أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏)‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك ‏"‏ وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء الشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل‏:‏ يشرع مطلقا، وقيل بل تبعا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن ففيه ‏"‏ وصل علي وعلى سائر النبيين ‏"‏ أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه ‏"‏ لا تتركن في التشهد الصلاة على وعلى أنبياء الله ‏"‏ الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ صلوا على أنبياء الله ‏"‏ الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه ‏"‏ إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني ‏"‏ أخرجه الطبراني ورويناه في ‏"‏ فوائد العيسوي ‏"‏ وسنده ضعيف أيضا، وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال ‏"‏ ما أعلم الصلاة ينبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهذا سند صحيح، وحكي القول به عن مالك وقال‏:‏ ما تعبدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره‏.‏

وقال عياض‏:‏ عامة أهل العلم على الجواز‏.‏

وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به‏.‏

وخالفه يحيى بن يحيى فقال‏:‏ لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع، قال عياض‏:‏ والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا‏:‏ يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه فقيل‏:‏ لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم‏.‏

وقالت طائفة لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ ولأنه لما علمهم السلام قال ‏"‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ‏"‏ ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، هو اختيار ابن تيمية من المتأخرين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة‏.‏

وقالت طائفة تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد‏.‏

وقال النووي‏:‏ هو خلاف الأولى وقالت طائفة‏:‏ تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهي قوله ‏(‏وصل عليهم‏)‏ ثم علق الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول‏:‏ اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وفي حديث جابر ‏"‏ إن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل ‏"‏ أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏)‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك ‏"‏ وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء الشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل‏:‏ يشرع مطلقا، وقيل بل تبعا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

الشرح‏:‏

قوله في ثاني حديثي الباب ‏(‏عبد الله بن أبي بكر عن أبيه‏)‏ هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، مختلف في اسمه وقيل كنيته اسمه، وروايته عن عمرو بن سليم من الأقران، وولده من صغار التابعين، ففي السند ثلاثة من التابعين في نسق، والسند كله مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏وذريته‏)‏ بضم المعجمة وحكى كسرها هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل، وهي من ذرأ بالهمز أي خلق، إلا أن الهمزة سهلت لكثرة الاستعمال، وقيل بل هي من الذر أي خلقوا أمثال الذر وعليه فليس مهموز الأصل، والله أعلم‏.‏

واستدل به على أن المراد بآل محمد أزواجه وذريته كما تقدم البحث فيه في الكلام على آل محمد في الباب الذي قبله، واستدل به على أن الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث، وهو ضعيف لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب، أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ ‏"‏ صل على محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته ‏"‏ وأما على الثاني فواضح، واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت وأيده بقوله تعالى ‏(‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت‏)‏ ‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة‏)‏ كذا ترجم بهذا اللفظ، وأورده بلفظ‏:‏ ‏"‏ اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة ‏"‏ أورده من طريق يونس وهو ابن يزيد عن ابن شهاب، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه مثله، وظاهر سياقه أنه حذف منه شيء من أوله، وقد بينه مسلم من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه بهذا الإسناد بلفظ ‏"‏ اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة ‏"‏ ومن طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعله له زكاة ورحمة ‏"‏ ومن طريق الأعرج عن أبي هريرة مثل رواية ابن أخي ابن شهاب لكن قال ‏"‏ فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ‏"‏ ومن طريق سالم عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فأيما مؤمن آذيته ‏"‏ والباقي بمعناه بلفظ ‏"‏ أو ‏"‏ وأخرج من حديث عائشة بيان سبب هذا الحديث قالت ‏"‏ دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فسبهما ولعنهما، فلما خرجا قلت له، فقال‏:‏ أما علمت ما شارطت عليه ربي‏؟‏ قلت‏:‏ اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا ‏"‏ وأخرجه من حديث جابر نحوه، وأخرجه من حديث أنس وفيه تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل ولفظه ‏"‏ إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر؛ فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ‏"‏ وفيه قصة لأم سليم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏اللهم فأيما مؤمن‏)‏ الفاء جواب الشرط المحذوف لدلالة السياق عليه، قال المازري‏:‏ إن قيل كيف يدعو صلى الله عليه وسلم بدعوة على من ليس لها بأهل‏؟‏ قيل‏:‏ المراد بقوله ‏"‏ ليس لها بأهل ‏"‏ عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، فكأنه يقول‏:‏ من كان باطن أمره عندك أنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورا وزكاة، قال‏:‏ وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله انتهى‏.‏

وهذا مبني على قول من قال‏:‏ إنه كان يجتهد في الأحكام ويحكم بما أدى إليه اجتهاده، وأما من قال‏:‏ كان لا يحكم إلا بالوحي فلا يأتي منه هذا الجواب‏.‏

ثم قال المازري‏:‏ فإن قيل فما معنى قوله وأغضب كما يغضب البشر‏؟‏ فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب، لا أنها على مقتضى الشرع، فيعود السؤال، فالجواب أنه يحتمل أنه أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير بين فعله له عقوبة للجاني أو تركه والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى بعثه على لعنه أو جلده، ولا يكون ذلك خارجا عن شرعه‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف من تعدى حدود الله، فكأنه أظهر الإشفاق من أن يكون الغضب يحمله على زيادة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما وقعت، أو إشفاقا من أن يكون الغضب يحمله على زيادة يسيرة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما زادت، ويكون من الصغائر على قول من يجوزها، أو يكون الزجر يحصل بدونها‏.‏

ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلبا للاستجابة‏.‏

وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال الأخير فقال‏:‏ يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، ولكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك، كقولهم عقري حلقي وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدر، فعاهد ربه ورغب إليه أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة انتهى‏.‏

وهذا الاحتمال حسن إلا أنه يرد عليه قوله ‏"‏ جلدته ‏"‏ فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه، إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجميع مساقا واحدا إلا إن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه‏.‏

ثم أبدى القاضي احتمالا آخر فقال‏:‏ كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحق، لكن غضبه لله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفه وترك الإغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة ‏"‏ ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله ‏"‏ وهو في الصحيح‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا فمعنى قوله ‏"‏ ليس لها بأهل ‏"‏ أي من جهة تعين التعجيل‏.‏

وفي الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق معين في زمنه واضح، وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم فما أظنه يشمله، والله أعلم‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من الفتن‏)‏ ستأتي هذه الترجمة وحديثها في كتاب الفتن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

الشرح‏:‏

سيأتي في كتاب الفتن، وتقدم شيء من شرحه يتعلق بسبب نزول الآية المذكورة في آخر الحديث في تفسير سورة المائدة، وقوله ‏"‏أحفوه ‏"‏ بحاء مهملة ساكنة وفاء مفتوحة أي ألحوا عليه، يقال أحفيته إذا حملته على أن يبحث عن الخبر، وقوله‏:‏ ‏"‏ لاف ‏"‏ بالرفع ويجوز النصب على الحال، وقوله ‏"‏إذا لاحى ‏"‏ بمهملة خفيفة أي خاصم، وفي الحديث أن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع من حكمه فإنه لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، وفيه فهم عمر وفضل علمه‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من غلبة الرجال‏)‏ ذكر فيه حديث أنس في قصة خيبر، وذكر صفية بنت حيى، وتقدم شرح ذلك في المغازي وغيرها، وسيأتي منه التعوذ مفردا بعد أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ لَنَا غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فكنت أسمعه يكثر أن يقول‏)‏ استدل به على أن هذه الصيغة لا تدل على الدوام ولا الإكثار، وإلا لما كان لقوله ‏"‏ يكثر ‏"‏ فائدة، وتعقب بأن المراد بالدوام أعم من الفعل والقوة، ويظهر لي أن الحاصل أنه لم يعرف لذلك مزيلا، ويفيد قوله ‏"‏ يكثر ‏"‏ وقوع ذلك من فعله كثيرا‏.‏

قوله ‏(‏من الهم والحزن إلى قوله والجبن‏)‏ يأتي شرحه قريبا‏.‏

قوله ‏(‏وضلع الدين‏)‏ أصل الضلع وهو بفتح المعجمة واللام الاعوجاج، يقال ضلع بفتح اللام يضلع أي مال، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء ولا سيما مع المطالبة‏.‏

وقال بعض السلف ما دخل هم الدين قلبا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه‏.‏

قوله ‏(‏وغلبة الرجال‏)‏ أي شدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع هرجا ومرجا‏.‏

قال الكرماني‏:‏ هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأن أنواع الرذائل ثلاثة‏:‏ نفسانية وبدنية وخارجية، فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة‏:‏ العقلية والغضبية والشهوانية، فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية‏.‏

والعجز والكسل بالبدنية‏.‏

والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية فالأول مالي والثاني جاهي، والدعاء مشتمل على جميع ذلك‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من عذاب القبر‏)‏ تقدم الكلام عليه في أواخر كتاب الجنائز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة، وأم خالد بنت خالد اسمها أمة بتخفيف الميم بنت خالد بن سعيد بن العاص، تقدم ذكرها في اللباس وأنها ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبواها إليها، ثم قدموا المدينة وكانت صغيرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد حفظت عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبٍ كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من البخل‏)‏ كذا وقعت هذه الترجمة هنا للمستملي وحده، وهي غلط من وجهين‏:‏ أحدهما أن الحديث الأول في الباب وإن كان فيه ذكر البخل لكن قد ترجم لهذه الترجمة بعينها بعد أربعة أبواب وذكر فيه الحديث المذكور بعينه، ثانيهما أن الحديث الثاني مختص بعذاب القبر لا ذكر للبخل فيه أصلا فهو بقية من الباب الذي قبله وهو اللائق به، وقوله ‏"‏عن عبد الملك ‏"‏ هو ابن عمير كما سيأتي منسوبا في الباب المشار إليه‏.‏

قوله ‏(‏عن مصعب‏)‏ هو ابن سعد بن أبي وقاص، وسيأتي قريبا من رواية غندر عن شعبة عن عبد الملك عن مصعب بن سعد، ولعبد الملك بن عمير فيه شيخ آخر، فقد تقدم في كتاب الجهاد من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن ميمون عن سعد وقال في آخره ‏"‏ قال عبد الملك‏:‏ فحدثت به مصعبا فصدقه ‏"‏ وأورده الإسماعيلي من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وقال في آخره ‏"‏ فحدثت به عمرو بن ميمون فقال وأنا حدثني بهن سعد ‏"‏ وقد أورده الترمذي من طريق عبيد الله بن عمرو الرقى عن عبد الملك عن مصعب بن سعد وعمرو بن ميمون جميعا عن سعد وساقه على لفظ مصعب، وكذا أخرجه النسائي من طريق زائدة عن عبد الملك عنهما، وأخرجه البخاري من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وحده، وفي سياق عمرو أنه كان يقول ذلك دبر الصلاة، وليس ذلك في رواية مصعب‏.‏

وفي رواية مصعب ذكر البخل وليس في رواية عمرو، وقد رواه أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود هذه رواية زكريا عنه‏.‏

وقال إسرائيل عنه عن عمرو عن عمر بن الخطاب، ونقل الترمذي عن الدارمي أنه قال‏:‏ كان أبو إسحاق يضطرب فيه‏.‏

قلت‏:‏ لعل عمرو بن ميمون سمعه من جماعة، فقد أخرجه النسائي من رواية زهير عن أبي إسحاق عن عمرو عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمى منهم ثلاثة كما ترى، وقوله إنه ‏"‏ كان سعد يأمر ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يأمرنا ‏"‏ بصيغة الجمع، وجرير المذكور في الحديث الثاني هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر من صغار التابعين، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة وهو ومسروق شيخه من كبار التابعين، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلى عائشة، ورواية أبي وائل عن مسروق من الأقران، وقد ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي إسحاق المستملي عن الفربري في هذا الحديث ‏"‏ منصور عن أبي وائل ومسروق عن عائشة ‏"‏ بواو بدل عن قال‏:‏ والصواب الأول، ولا يحفظ لأبي وائل عن عائشة رواية‏.‏

قلت أما كونه الصواب فصواب لاتفاق الرواة في البخاري على أنه من رواية أبي وائل عن مسروق، وكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية منصور، وأما النفي فمردود فقد أخرج الترمذي من رواية أبي وائل عن عائشة حديثين أحدهما ‏"‏ ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهذا أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من رواية أبي وائل عن مسروق عن عائشة، والثاني ‏"‏ إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها ‏"‏ الحديث أخرجه أيضا من رواية عمرو بن مرة ‏"‏ سمعت أبا وائل عن عائشة ‏"‏ وهذا أخرجه الشيخان أيضا من رواية منصور والأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة، وهذا جميع ما في الكتب الستة لأبي وائل عن عائشة‏.‏

وأخرج ابن حبان في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عائشة حديث ‏"‏ ما من مسلم يشاك شوكة فما دونها إلا رفعه الله بها درجة ‏"‏ الحديث، وفي بعض هذا ما يرد إطلاق أبي علي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة‏)‏ عجز بضم العين المهملة والجيم بعدها زاي جمع عجوز مثل عمود وعمد، ويجمع أيضا على عجائز، وهذه رواية الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه، قال ابن السكيت‏:‏ ولا يقال عجوزة‏.‏

وقال غيره‏:‏ هي لغة رديئة‏.‏

وقوله ‏"‏ولم أنعم ‏"‏ هو رباعي من أنعم والمراد أنها لم تصدقهما أولا‏.‏

قوله ‏(‏فقلت يا رسول الله إن عجوزين وذكرت له فقال صدقتا‏)‏ قال الكرماني حذف خبر ‏"‏ إن ‏"‏ للعلم به والتقدير دخلنا‏.‏

قلت‏:‏ ظهر لي أن البخاري هو الذي اختصره، فقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه فساقه ولفظه ‏"‏ فقلت له‏:‏ يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة دخلتا علي فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال‏:‏ صدقتا ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن جرير شيخ عثمان فيه، فعلى هذا فيضبط ‏"‏ وذكرت ‏"‏ له بضم التاء وسكون الراء أي ذكرت له ما قالتا، وقوله ‏"‏تسمعه البهائم ‏"‏ تقدم شرحه مستوفى، وبينت طريق الجمع بين جزمه صلى الله عليه وسلم هنا بتصديق اليهوديتين في إثبات عذاب القبر وقوله في الرواية ‏"‏ عائذا بالله من ذلك ‏"‏ وكلا الحديثين عن عائشة، وحاصله أنه لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون في القبور فقال ‏"‏ إنما يفتن يهود ‏"‏ فجري على ما كان عنده من علم ذلك، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه وعلمه وأمر بإيقاعه في الصلاة ليكون أنجح في الإجابة، والله أعلم

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من فتنة المحيا‏)‏ أي زمن الحياة ‏(‏والممات‏)‏ أي زمن الموت من أول النزع وهلم جرا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ

الشرح‏:‏

حديث أنس وفيه ذكر العجز والكسل والجبن، وقد تقدم الكلام عليه في الجهاد والبخل، وسيأتي بعد بابين، والهرم والمراد به الزيادة في كبر السن، وعذاب القبر وقد مضى في الجنائز‏.‏

وأما فتنة المحيا والممات فقال ابن بطال هذه كلمة جامعة لمعان كثيرة، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جميع ما ذكر دفعا عن أمته وتشريعا لهم ليبين لهم صفة المهم من الأدعية‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم شرح المراد بفتنة المحيا وفتنة الممات في ‏"‏ باب الدعاء قبل السلام ‏"‏ في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار، واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره، ويقال فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته، وفي الغفلة عن المطلوب كقوله ‏(‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏)‏ وتستعمل في الإكراه على الرجوع عن الدين كقوله تعالى ‏(‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ واستعملت أيضا في الضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة، ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من المأثم والمغرم‏)‏ بفتح الميم فيهما‏.‏

وكذا الراء والمثلثة وسكون الهمزة والغين المعجمة، والمأثم ما يقتضي الإثم والمغرم ما يقتضي الغرم، وقد تقدم بيانه في ‏"‏ باب الدعاء قبل السلام ‏"‏ من كتاب الصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏من الكسل والهرم‏)‏ تقدما في الباب الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏والمأثم والمغرم‏)‏ والمراد الإثم والغرامة، وهي ما يلزم الشخص أداؤه كالدين‏.‏

زاد في رواية الزهري عن عروة كما مضى في ‏"‏ باب الدعاء قبل السلام ‏"‏ فقال له قائل ‏"‏ ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم ‏"‏ هكذا أخرجه من طريق شعيب عن الزهري، وكذا أخرجه النسائي من طريق سليمان بن سليم الحمصي عن الزهري فذكر الحديث مختصرا وفيه ‏"‏ فقال له يا رسول الله إنك تكثر التعوذ ‏"‏ الحديث، وقد تقدم بيانه هناك وقلت إني لم أقف حينئذ على تسمية القائل، ثم وجدت تفسير المبهم في الاستعاذة للنسائي أخرجه من طريق سلمة بن سعيد بن عطية عن معمر عن الزهري فذكر الحديث مختصرا ولفظه ‏"‏ كان يتعوذ من المغرم والمأثم ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما أكثر ما تتعوذ من المغرم، قال‏:‏ ‏"‏ إنه من غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ‏"‏ فعرف أن السائل له عن ذلك عائشة راوية الحديث‏.‏

قوله ‏(‏ومن فتنة القبر‏)‏ هي سؤال الملكين، وعذاب القبر تقدم شرحه‏.‏

قوله ‏(‏ومن فتنة النار‏)‏ هي سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ‏(‏كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير‏)‏ وسيأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب الاستعاذة من أرذل العمر ‏"‏ بعد ثلاثة أبواب‏.‏

قوله ‏(‏ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر‏)‏ تقدم الكلام على ذلك أيضا في ‏"‏ باب الدعاء قبل السلام قال الكرماني‏:‏ صرح في فتنة الغنى بذكر الشر إشارة إلى أن مضرته أكثر من مضرة غيره، أو تغليظا على أصحابه حتى لا يغتروا فيغفلوا عن مفاسده، أو إيماء إلى أن صورته لا يكون فيها خير، بخلاف صورة الفقر فإنها قد تكون خيرا انتهى‏.‏

وكل هذا غفلة عن الواقع، فإن الذي ظهر لي أن لفظ ‏"‏ شر ‏"‏ في الأصل ثابتة في الموضعين وإنما اختصرها بعض الرواة، فسيأتي بعد قليل في ‏"‏ باب الاستعاذة من أرذل العمر ‏"‏ من طريق وكيع وأبي معاوية مفرقا عن هشام بسنده هذا بلفظ ‏"‏ شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر ‏"‏ ويأتي بعد أبواب أيضا من رواية سلام بن أبي مطيع عن هشام بإسقاط ‏"‏ شر ‏"‏ في الموضعين، والتقييد في الغنى والفقر بالشر لا بد منه لأن كلا منهما فيه خير باعتبار، فالتقييد في الاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قل أم كثر، قال الغزالي‏:‏ فتنة الغنى الحرص على جمع المال وحبه حتى يكسبه من غير حله وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه، وفتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خير ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب، ولا في أي حالة تورط‏.‏

وقيل المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها، وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه‏.‏

قوله ‏(‏وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏)‏ في رواية وكيع ‏"‏ ومن شر فتنة المسيح الدجال ‏"‏ وقد تقدم أيضا في ‏"‏ باب الدعاء قبل السلام‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد إلخ‏)‏ تقدم شرحه في الكلام على حديث أبي هريرة في أوائل صفة الصلاة، وحكمة العدول عن الماء الحار إلى الثلج والبرد مع أن الحار في العادة أبلغ في إزالة الوسخ الإشارة إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ذكرهما آكد في هذا المقام، أشار إلى هذا الخطابي‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ وله توجيه آخر وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار لكونها تؤدي إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج ثم إلى أبرد منه وهو البرد بدليل أنه قد يجمد ويصير جليدا، بخلاف الثلج فإنه يذوب‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الزهري عن عروة كما أشرت إليه، وقيده بالصلاة ولفظه ‏"‏ كان يدعو في الصلاة ‏"‏ وذكرت هناك توجيه إدخاله في الدعاء قبل السلام، ولم يقع في رواية شعيب عن الزهري عند المصنف ذكر المأثم والمغرم، ووقع ذلك عند مسلم من وجه آخر عن الزهري، ولم يقع عندهما معا فيه قوله ‏"‏ اللهم اغسل عني خطاياي إلخ ‏"‏ وهو حديث واحد ذكر فيه كل من هشام بن عروة والزهري عن عروة ما لم يذكره الآخر‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ كُسَالَى وَكَسَالَى وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاستعاذة من الجبن والكسل‏)‏ تقدم شرحهما في كتاب الجهاد‏.‏

قوله ‏(‏كسالى وكسالى واحد‏)‏ بفتح الكاف وضمها، قلت‏:‏ وما قراءتان قرأ الجمهور بالضم وقرأ الأعرج بالفتح، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن السميفع بالفتح أيضا لكن أسقط الألف وسكن السين ووصفهم بما يوصف به المؤنث المفرد لملاحظة معنى الجماعة، وهو كما قرئ ‏(‏وترى الناس سكرى‏)‏ ‏.‏

والكسل الفتور والتواني وهو ضد النشاط‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سليمان‏)‏ هو ابن بلال، ووقع التصريح به في رواية أبي زيد المروزي‏.‏

قوله ‏(‏عمرو بن أبي عمرو‏)‏ هو مولى المطلب الماضي ذكره في ‏"‏ باب التعوذ من غلبة الرجال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فكنت أسمعه يكثر أن يقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من الهم إلى قوله والجبن‏)‏ تقدم شرح هذه الأمور الستة، ومحصله إن الهم لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط، والبخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة‏.‏

وقوله ‏"‏وضلع الدين ‏"‏ تقدم ضبطه وتفسيره قبل ثلاث أبواب، وقوله ‏"‏وغلبة الرجال ‏"‏ هي إضافة للفاعل، استعاذ من أن يغلبه الرجال لما في ذلك من الوهن في النفس والمعاش‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْبُخْلِ الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من البخل‏)‏ تقدم الكلام عليه قبل‏.‏

قوله ‏(‏البخل والبخل واحد‏)‏ يعني بضم أوله وسكون ثانيه وبفتحهما‏.‏

قوله ‏(‏مثل الحزن والحزن‏)‏ يعني في وزنهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلَاءِ الْخَمْسِ وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر‏)‏ في رواية السرخسي ‏"‏ وأعوذ بك من أن أرد ‏"‏ بزيادة ‏"‏ من ‏"‏ وسيأتي شرحه في الباب الذي بعده‏.‏

قوله ‏(‏وأعوذ بك من فتنة الدنيا‏)‏ كذا للأكثر، وأخرجه أحمد عن روح عن شعبة وزاد في رواية آدم الماضية قريبا عن شعبة ‏"‏ يعني فتنة الدجال ‏"‏ وحكى الكرماني أن هذا التفسير من كلام شعبة، وليس كما قال فقد بين يحيى بن أبي كثير عن شعبة أنه من كلام عبد الملك بن عمير راوي الخبر أخرجه الإسماعيلي من طريقه ولفظه ‏"‏ قال شعبة فسألت عبد الملك بن عمير عن فتنة الدنيا فقال‏:‏ الدجال ‏"‏ ووقع في رواية زائدة بن قدامة عن عبد الملك بن عمير بلفظ ‏"‏ وأعوذ بك من فتنة الدجال ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عثمان ابن أبي شيبة عن حسن بن علي الجعفي، وقد أخرجه البخاري في الباب الذي بعده عن إسحاق عن حسين بن علي بلفظ ‏"‏ من فتنة الدنيا ‏"‏ فلعل بعض رواته ذكره بالمعنى الذي فسره به عبد الملك بن عمير، وفي إطلاق الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا، وقد ورد ذلك صريحا في حديث أبي أمامة قال ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ إنه لم تكن فتنة في الأرض من ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ‏"‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ أَرَاذِلُنَا أَسْقَاطُنَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من أرذل العمر أراذلنا سقاطنا‏)‏ بضم المهملة وتشديد القاف جمع ساقط وهو اللئيم في حسبه ونسبه، وهذا قد تقدم القول فيه في أوائل تفسير سورة هود، وأورد فيه حديث أنس وليس فيه لفظ الترجمة لكنه أشار بذلك إلى أن المراد بأرذل العمر في حديث سعد بن أبي وقاص الذي قبله الهرم الذي في حديث أنس لمجيئها موضع الأخرى من الحديث المذكور‏.‏

*3*باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الدعاء برفع الوباء والوجع‏)‏ أي برفع المرض عمن نزل به سواء كان عاما أو خاصا، وقد تقدم بيان الوباء وتفسيره في ‏"‏ باب ما يذكر في الطاعون ‏"‏ من كتاب الطب، وأنه أعم من الطاعون، وأن حقيقته مرض عام ينشأ عن فساد الهواء وفد يسمى طاعونا بطريق المجاز، وأوضحت هناك الرد على من زعم أن الطاعون والوباء مترادفان بما ثبت هناك أن الطاعون لا يدخل المدينة وأن الوباء وقع بالمدينة كما في قصة العرنيين، وكما في حديث أبي الأسود أنه كان عند عمر فوقع بالمدينة بالناس موت ذريع وغير ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ اللهم حبب إلينا المدينة ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ انقل حماها إلى الجحفة ‏"‏ وهو يتعلق بالركن الأول من الترجمة وهو الوباء لأنه المرض العام، وأشار به إلى ما ورد في بعض طرقه حيث قالت في أوله ‏"‏ قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله ‏"‏ وقد تقدم بهذا اللفظ في آخر كتاب الحج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قُلْتُ فَبِشَطْرِهِ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ قُلْتُ آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ قَالَ سَعْدٌ رَثَى لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ

الشرح‏:‏

حديث سعد بن أبي وقاص ‏"‏ عادني النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من شكوى ‏"‏ الحديث وهو متعلق بالركن الثاني من الترجمة وهو الوجع، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوصايا، وقوله في آخره ‏"‏ قال سعد رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ ‏"‏ يرد قول من زعم أن في الحديث إدراجا، وأن قوله ‏"‏ يرثى له إلخ ‏"‏ من قول الزهري متمسكا بما ورد في بعض طرقه وفيه قال الزهري إلخ فإن ذلك يرجع إلى اختلاف الرواة عن الزهري هل وصل هذا القدر عن سعد أو قال من قبل نفسه‏:‏ والحكم للوصل لأن مع رواته زيادة علم وهو حافظ، وشاهد الترجمة من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏ فإن فيه إشارة إلى الدعاء لسعد بالعافية ليرجع إلى دار هجرته وهي المدينة ولا يستمر مقيما بسبب الوجع بالبلد التي هاجر منها وهي مكة، وإلى ذلك الإشارة بقوله ‏"‏ لكن البائس سعد بن خولة إلخ ‏"‏ وقد أوضحت في أوائل الوصايا ما يتعلق بسعد بن خولة‏.‏

ونقل ابن المزين المالكي أن الرثاء لسعد بن خولة بسبب إقامته مكة ولم يهاجر، وتعقب بأنه شهد بدرا ولكن اختلفوا متى رجع إلى مكة حتى مرض بها فمات‏؟‏ فقيل إنه سكن مكة بعد أن شهد بدرا وقيل مات في حجة الوداع، وأغرب الداودي فيما حكاه ابن التين فقال‏:‏ لم يكن للمهاجرين أن يقيموا بمكة إلا ثلاثا بعد الصدر، فدل ذلك أن سعد بن خولة توفي قبل تلك الحجة، وقيل مات في الفتح بعد أن أطال المقام بمكة بغير عذر، إذ لو كان له عذر لم يأثم، وقد قال صلى الله عليه وسلم حين قيل له إن صفية حاضت ‏"‏ أحابستنا هي ‏"‏ فدل على أن للمهاجر إذا كان له عذر أن يقيم أزيد من الثلاث المشروعة للمهاجرين‏.‏

وقال‏:‏ يحتمل أن تكون هذه اللفظة قالها صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع ثم حج فقرنها الراوي بالحديث لكونها من تكملته انتهى‏.‏

وكلامه متعقب في مواضع‏:‏ منها استشهاده بقصة صفية ولا حجة فيها لاحتمال أن لا تجاوز الثلاث المشروعة، والاحتباس الامتناع وهو يصدق باليوم بل بدونه‏.‏

ومنها جزمه بأن سعد بن خولة أطال المقام بمكة ورمزه إلى أنه أقام بغير عذر وإنه أثم بذلك إلى غير ذلك مما يظهر فساده بالتأمل‏.‏

*3*باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ النَّارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ومن عذاب النار ‏"‏ بدل فتنة النار‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنبأنا الحسين‏)‏ هو ابن علي الجعفي الزاهد المشهور، وإسحاق الراوي عنه هو ابن راهويه، وشيخه زائدة، هو ابن قدامة، وعبد الملك هو ابن عمير، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى قبل قليل‏.‏

*3*باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاستعاذة من فتنة الغنى‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة المذكور مختصرا من رواية وكيع عن هشام بن عروة، وقد تقدم شرحه‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التعوذ من فتنة الفقر‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة من طريق أبي معاوية عن هشام بتمامه، وقد تقدم شرحه أيضا مستوفى‏.‏

*3*باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ الْبَرَكَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة‏)‏ سقط هذا الباب والترجمة من رواية السرخسي والصواب إثباته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏شعبة قال سمعت قتادة عن أنس عن أم سليم أنها قالت يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له‏.‏

الحديث‏)‏ وفي آخره ‏(‏وعن هشام بن زيد سمعت أنس بن مالك مثله‏)‏ قلت هكذا قال غندر عن شعبة جعل الحديث من مسند أم سليم، وكذا أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه عن محمد بن جعفر وهو غندر هذا فذكر مثله، ولكنه لم يذكر رواية هشام بن زيد التي في آخره‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح، وأخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة فقال فيه ‏"‏ عن أم سليم ‏"‏ كما قال غندر، وكذا أخرجه أحمد عن حجاج بن محمد وعن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة، وأخرجه في ‏"‏ باب من خص أخاه بالدعاء ‏"‏ من رواية سعيد بن الربيع عن شعبة عن قتادة قال ‏"‏ سمعت أنسا قال قالت أم سليم ‏"‏ وظاهره أنه من مسند أنس وهو في الباب الذي يلي هذا كذلك، وكذا تقدم في ‏"‏ باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر ‏"‏ من طريق حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس قال ‏"‏ قالت أمي ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي والإسماعيلي من رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة‏.‏

وهذا الاختلاف لا يضر فإن أنسا حضر ذلك بدليل ما أخرجه مسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال ‏"‏ جاءت بي أمي أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ هذا ابني أنس يخدمك، فادع الله له، فقال‏:‏ اللهم أكثر ماله وولده ‏"‏ وأما رواية هشام بن زيد المعطوفة هنا فإنها معطوفة على رواية قتادة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة وهشام بن زيد جميعا عن أنس، وكذا صنيع مسلم حيث أخرجه من رواية أبي داود عن شعبة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ذكر الكرماني أنه وقع هنا ‏"‏ وعن هشام بن عروة قال ‏"‏ والأول هو الصحيح‏.‏

قوله ‏(‏أنها قالت يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له‏)‏ تقدم لهذا الحديث مبدأ من رواية حميد عن أنس في كتاب الصيام في ‏"‏ باب من زار قوما فلم يفطر عندهم ‏"‏ وقد بسطت شرحه هناك بما يغني عن إعادته، وذكرت طرفا منه قريبا في ‏"‏ باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر‏"‏‏.‏

*3*باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاسْتِخَارَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الدعاء عند الاستخارة‏)‏ هي استفعال من الخير أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانيه بوزن العنبة، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال‏)‏ بفتح الميم وتخفيف الواو جمع مولى، واسمه زيد، ويقال زيد جد عبد الرحمن وأبوه لا يعرف اسمه، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين، وكان ينسب إلى ولاء آل علي بن أبي طالب، وخرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن في زمن المنصور، فلما قتل محمد حبس عبد الرحمن المذكور بعد أن ضرب‏.‏

وقد وثقه ابن المعين وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وذكره ابن عدي في ‏"‏ الكامل ‏"‏ في الضعفاء، وأسند عن أحمد بن حنبل أنه قال‏:‏ كان محبوسا في المطبق حين هزم هؤلاء يعني بني حسن، قال‏:‏ وروي عن محمد بن المنكدر حديث الاستخارة وليس أحد يرويه غيره، وهو منكر، وأهل المدينة إذا كان حديث غلطا يقولون‏:‏ ابن المنكدر عن جابر، كما أن أهل البصرة يقولون‏:‏ ثابت عن أنس يحملون عليهما‏.‏

وقد استشكل شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ هذا الكلام وقال‏:‏ ما عرفت المراد به، فإن ابن المنكدر وثابتا ثقتان متفق عليهما‏.‏

قلت‏:‏ يظهر لي أن مرادهم التهكم والنكتة في اختصاص الترجمة للشهرة والكثرة‏.‏

ثم ساق ابن عدي لعبد الرحمن أحاديث وقال‏:‏ هو مستقيم الحديث والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال‏.‏

قلت‏:‏ يريد أن للحديث شواهد، وهو كما قال مع مشاححه في إطلاقه‏.‏

قال الترمذي بعد أن أخرجه‏:‏ حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموال، وهو مدني ثقة روي عنه غير واحد‏.‏

وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب‏.‏

قلت‏:‏ وجاء أيضا عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر، فحديث ابن مسعود أخرجه الطبراني وصححه الحاكم، وحديث أبي أيوب أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة أخرجهما ابن حبان في صحيحه، وحديث ابن عمر وابن عباس حديث واحد أخرجه الطبراني من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن عطاء عنهما، وليس في شيء منها ذكر الصلاة سوى حديث جابر، إلا أن لفظ أبي أيوب ‏"‏ أكتم الخطبة وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك ‏"‏ الحديث، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر، وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد رفعه ‏"‏ من سعادة ابن آدم استخارته الله ‏"‏ أخرجه أحمد وسنده حسن، وأصله عند الترمذي لكن بذكر الرضا والسخط لا بلفظ الاستخارة، ومن حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال‏:‏ اللهم خر لي واختر لي ‏"‏ وأخرجه الترمذي وسنده ضعيف، وفي حديث أنس رفعه ‏"‏ ما خاب من استخار ‏"‏ والحديث أخرجه الطبراني في ‏"‏ الصغير ‏"‏ بسند واه جدا‏.‏

قوله ‏(‏عن محمد بن المنكدر عن جابر‏)‏ وقع في التوحيد من طريق معن بن عيسى عن عبد الرحمن ‏"‏ سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن - أي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب - يقول أخبرني جابر السلمي ‏"‏ وهو بفتح السين المهملة واللام نسبة إلى بني سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار وعند الإسماعيلي من طريق بشر بن عمير ‏"‏ حدثني عبد الرحمن سمعت ابن المنكدر حدثني جابر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة‏)‏ في رواية معن ‏"‏ يعلم أصحابه ‏"‏ وكذا في طريق بشر بن عمير‏.‏

قوله ‏(‏في الأمور كلها‏)‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه‏.‏

قلت‏:‏ وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم‏.‏

قوله ‏(‏كالسورة من القرآن‏)‏ في رواية قتيبة عن عبد الرحمن الماضية في صلاة الليل ‏"‏ كما يعلمنا السورة من القرآن ‏"‏ قيل وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلها إلى الاستخارة كعموم الحاجة إلى القرآن في الصلاة ويحتمل أن يكون المراد ما يقع في حديث ابن مسعود في التشهد ‏"‏ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه ‏"‏ أخرجه المصنف في الاستئذان‏.‏

وفي رواية الأسود بن يزيد عن ابن مسعود ‏"‏ أخذت التشهد من في رسول الله كلمة كلمة ‏"‏ أخرجها الطحاوي، وفي حديث سلمان نحوه وقال حرفا حرفا، أخرجه الطبراني‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ التشبيه في تحفظ حروفه وترتب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه، ويحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به والتحقق لبركته والاحترام له، ويحتمل أن يكون من جهة كون كل منهما علم بالوحي‏.‏

قال الطيبي‏:‏ فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن‏.‏

قوله ‏(‏إذا هم‏)‏ فيه حذف تقديره يعلمنا قائلا إذا هم، وقد ثبت ذلك في رواية قتيبة ‏"‏ يقول إذا هم ‏"‏ وزاد في رواية أبي داود عن قتيبة ‏"‏ لنا ‏"‏ قال ابن أبي جمرة ترتيب الوارد على القلب على مراتب الهمة ثم اللمة ثم الخطرة ثم النية ثم الإرادة ثم العزيمة، فالثلاثة الأولى لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاثة الأخرى، فقوله ‏"‏ إذا هم ‏"‏ يشير إلى أول ما يرد على القلب يستخير فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده وقويت فيه عزيمته وإرادته فإنه يصير إليه له ميل وحب فيخشى أن يخفى عنه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة لأن الخاطر لا يثبت فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضيع عليه أوقاته‏.‏

ووقع في حديث ابن مسعود ‏"‏ إذا أراد أحدكم أمرا فليقل‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فليركع ركعتين‏)‏ يقيد مطلق حديث أبي أيوب حيث قال ‏"‏ صل ما كتب الله لك ‏"‏ ويمكن الجمع بأن المراد أنه لا يقتصر على ركعة واحدة للتنصيص على الركعتين ويكون ذكرهما على سبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو صلى أكثر من ركعتين أجزأ، والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يسلم من كل ركعتين ليحصل مسمى ركعتين، ولا يجزئ لو صلى أربعا مثلا بتسليمة، وكلام النووي يشعر بالإجزاء‏.‏

قوله ‏(‏من غير الفريضة‏)‏ فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلا، ويحتمل أن يريد بالفريضة عينها وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة كركعتي الفجر مثلا‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلا أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ‏.‏

كذا أطلق وفيه نظر‏.‏

ويظهر أن يقال‏:‏ إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معا أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو، ويفارق صلاة تحية المسجد لأن المراد بها شغل البقية بالدعاء والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها أو فيها، ويبعد الأجزاء لمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر‏.‏

وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص، قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال‏:‏ ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد والمستخير محتاج لذلك‏.‏

قال شيخنا‏:‏ ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله ‏(‏وربك يخلق ما يشاء ويختار‏)‏ وقوله ‏(‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية، ويؤخذ من قوله ‏"‏ من غير الفريضة ‏"‏ أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ ولم أر من قال بوجوب الاستخارة لورود الأمر بها ولتشبيهها بتعليم السورة من القرآن كما استدل بمثل ذلك في وجوب التشهد في الصلاة لورود الأمر به في قوله ‏"‏ فليقل‏"‏، ولتشبيهه بتعليم السورة من القرآن، فإن قيل الأمر تعلق بالشرط وهو قوله ‏"‏ إذا هم أحدكم بالأمر ‏"‏ قلنا‏:‏ وكذلك في التشهد إنما يؤمر به من صلى، ويمكن الفرق وإن اشتراكا فيما ذكر أن التشهد جزء من الصلاة فيؤخذ الوجوب من قوله ‏"‏ صلوا كما رأيتموني أصلي ‏"‏ ودل على عدم وجوب الاستخارة ما دل على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس في حديث ‏"‏ هل على غيرها‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا إن تطوع ‏"‏ انتهى، وهذا وإن صلح للاستدلال به على عدم وجوب ركعتي الاستخارة لكن لا يمنع من الاستدلال به على وجوب دعاء الاستخارة، فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإرشاد فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملا على ذكر الله والتفويض إليه كان مندوبا والله أعلم‏.‏

ثم نقول‏:‏ هو ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجراء، ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، فإن موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏.‏

الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلا وحالا‏.‏

قوله ‏(‏اللهم إني أستخيرك بعلمك‏)‏ الباء للتعليل أي لأنك أعلم، وكذا هي في قوله ‏"‏ بقدرتك ‏"‏ ويحتمل أن تكون للاستعانة كقوله ‏(‏بسم الله مجراها‏)‏ ويحتمل أن تكون للاستعطاف كقوله ‏(‏قال رب بما أنعمت علي‏)‏ الآية‏.‏

وقوله ‏"‏وأستقدرك ‏"‏ أي أطلب منك أن تجعل لي على ذلك قدرة، ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير‏.‏

قوله ‏(‏وأسألك من فضلك‏)‏ إشارة إلى أن إعطاء الرب فضل منه، وليس لأحد عليه حق في نعمه كما هو مذهب أهل السنة‏.‏

قوله ‏(‏فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم‏)‏ إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال‏:‏ أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة وعندما تخلقها في وبعد ما تخلقها‏.‏

قوله ‏(‏اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر‏)‏ في رواية معن وغيره ‏"‏ فإن كنت تعلم هذا الأمر ‏"‏ زاد أبو داود في رواية عبد الرحمن بن مقاتل عن عبد الرحمن بن أبي الموال ‏"‏ الذي يريد ‏"‏ وزاد في رواية معن ‏"‏ ثم يسميه بعينه ‏"‏ وقد ذكر ذلك في آخر الحديث في الباب، وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء، وعلى الثاني تكون الجملة حالية والتقدير فليدع مسميا حاجته‏.‏

وقوله ‏"‏إن كنت ‏"‏ استشكل الكرماني الإتيان بصيغة الشك هنا ولا يجوز الشك في كون الله عالما‏:‏ وأجاب بأن الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم‏.‏

قوله ‏(‏ومعاشي‏)‏ زاد أبو داود ‏"‏ ومعادي ‏"‏ وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة، ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه ولذلك وقع في حديث ابن مسعود في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط ‏"‏ في ديني ودنياي ‏"‏ وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني ‏"‏ في دنياي وآخرتي ‏"‏ زاد ابن حبان في روايته ‏"‏ وديني ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد في ديني ومعيشتي‏.‏

قوله ‏(‏وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله‏)‏ هو شك من الراوي ولم تختلف الطرق في ذلك، واقتصر في حديث أبي سعيد على ‏"‏ عاقبة أمري ‏"‏ وكذا في حديث ابن مسعود، وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة أو بدل الأخيرين فقط، وعلى هذا فقول الكرماني‏:‏ لا يكون الداعي جازما بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إن دعا ثلاث مرات يقول مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله‏.‏

قلت‏:‏ ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب ولا أبي هريرة أصلا‏.‏

قوله ‏(‏فاقدره لي‏)‏ قال أبو الحسن القابسي‏:‏ أهل بلدنا يكسرون الدال، وأهل الشرق يضمونها‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ معنى قوله اجعله مقدورا لي أو قدره، وقيل معناه يسره لي‏.‏

زاد معن ‏"‏ ويسره لي وبارك لي فيه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فاصرفه عني واصرفني عنه‏)‏ أي حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلقا به، وفيه دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه‏.‏

قوله ‏(‏واقدر لي الخير حيث كان‏)‏ في حديث أبي سعيد بعد قوله واقدر لي الخير أينما كان ‏"‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم رضني‏)‏ بالتشديد‏.‏

وفي رواية قتيبة ‏"‏ ثم أرضني ‏"‏ به أي اجعلني به راضيا، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط ‏"‏ ورضني بقضائك ‏"‏ وفي حديث أبي أيوب ‏"‏ ورضني بقدرك ‏"‏ والسر فيه أن لا يبقى قلبه متعلقا به فلا يطمئن خاطره‏.‏

والرضا سكون النفس إلى القضاء‏.‏

وفي الحديث شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ووقع في بعض طرقه عند الطبراني في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرا‏.‏

وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله، والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله والتبري من الحول والقوة إليه وأن يسأل ربه في أموره كلها‏.‏

واستدل به على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لأنه لو كان كذلك لاكتفى بقوله ‏"‏ إن كنت تعلم أنه خير لي ‏"‏ عن قوله ‏"‏ وإن كنت تعلم أنه شر لي إلخ ‏"‏ لأنه إذا لم يكن خيرا فهو شر، وفيه نظر لاحتمال وجود الواسطة‏.‏

واختلف فيما ذا يفعل المستخير بعد الاستخارة، فقال ابن عبد السلام‏:‏ يفعل ما اتفق، ويستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود وفي آخره، ثم يعزم، وأول الحديث ‏"‏ إذا أراد أحدكم أمرا فليقل ‏"‏ وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره‏.‏

ويستدل له بحديث أنس عند ابن السني ‏"‏ إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبعا ثم انظر إلى الذي يسبق في قلبك فإن الخير فيه ‏"‏ وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا، والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر حديث أبي سعيد ‏"‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏