فصل: باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏لا يستنجى‏)‏ بضم أوله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ هَذَا رِكْسٌ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏زهير‏)‏ هو ابن معاوية الجعفي الكوفي‏.‏

والإسناد كله كوفيون، وأبو إسحاق هو السبيعي وهو تابعي وكذا شيخه عبد الرحمن وأبوه الأسود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس أبو عبيدة‏)‏ أي ابن عبد الله بن مسعود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ذكره‏)‏ أي لي‏.‏

‏(‏ولكن عبد الرحمن بن الأسود‏)‏ أي هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة حدثني عبد الرحمن، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن - مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له - لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق، فمراد أبي إسحاق هنا بقوله ‏"‏ ليس أبو عبيدة ذكره ‏"‏ أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة وإنما أرويه عن عبد الرحمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو الأسود بن يزيد النخعي صاحب ابن مسعود‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ هو الأسود ابن عبد يغوث الزهري، وهو غلط فاحش فإن الأسود الزهري لم يسلم فضلا عن أن يعيش حتى يروى عن عبد الله بن مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتى الغائط‏)‏ أي الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم أجد‏)‏ وللكشميهني فلم أجده أي الحجر الثالث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بثلاثة أحجار‏)‏ فيه العمل بما دل عليه النهي في حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ولا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار ‏"‏ رواه مسلم، وأخذ بهذا الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزاد حتى ينقى، ويستحب حينئذ الإيتار لقوله ‏"‏ ومن استجمر فليوتر‏"‏، وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال ‏"‏ ومن لا فلا حرج‏"‏، وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب‏.‏

قال الخطابي‏:‏ لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين‏.‏

ونطيره العدة بالأقراء فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذت روثة‏)‏ زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثه حمار، ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وألقى الروثة‏)‏ استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة قال‏:‏ لأنه لو كان مشترطا لطلب ثالثا، كذا قال، وغفل رحمه الله عما أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود في هذا الحديث فإن فيه ‏"‏ فألقى الروثة وقال‏:‏ إنها ركس، ائتني بحجر ‏"‏ ورجاله ثقات أثبات‏.‏

وقد تابع عليه معمر أبو شعبة الواسطي وهو ضعيف أخرجه الدارقطني، وتابعهما عمار بن رزيق أحد الثقات عن أبي إسحاق، وقد قيل إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي، وعلى تقدير أن يكون أرسله عنه فالمرسل حجة عند المخالفين وعندنا أيضا إذا اعتضد، واستدلال الطحاوي فيه نظر بعد ذلك لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات وذلك حاصل ولو بواحد، والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ورماه ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف وقال أبو الحسن بن القصار المالكي‏:‏ روى أنه أتاه بثالث، لكن لا يصح، ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة‏.‏

انتهى‏.‏

وفيه نظر أيضا لأن الزيادة ثابتة كما قدمناه، وكأنه إنما وقف على الطريق التي عند الدارقطني فقط‏.‏

ثم يحتمل أن يكون لم يخرج منه شيء إلا من سبيل واحد‏.‏

وعلى تقدير أن يكون خرج منهما فيحتمل أن يكون اكتفى للقبل بالمسح في الأرض وللدبر بالثلاثة، أو مسح من كل منهما بطرفين‏.‏

وأما استدلالهم على عدم الاشتراط للعدد بالقياس على مسح الرأس ففاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النص الصريح كما قدمناه من حديث أبي هريرة وسلمان والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا ركس‏)‏ كذا وقع هنا بكسر الراء وإسكان الكاف فقيل‏:‏ هي لغة في رجس بالجيم، ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث فإنها عندهما بالجيم، وقيل الركس الرجيع رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة‏.‏

قاله الخطابي وغيره‏.‏

والأولى أن يقال رد من حالة الطعام إلى حالة الروث‏.‏

وقال ابن بطال لم أر هذا الحرف في اللغة، يعني الركس بالكاف‏.‏

وتعقبه أبو عبد الملك بأن معناه الرد كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏أركسوا فيها‏)‏ أي ردوا، فكأنه قال‏:‏ هذا رد عليك‏.‏

انتهى‏.‏

ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال ركسه ركسا إذا رده‏.‏

وفي رواية الترمذي‏:‏ هذا ركس يعني نجسا، وهذا يؤيد الأول‏.‏

وأغرب النسائي فقال عقب هذا الحديث‏:‏ الركس طعام الجن، وهذا إن ثبت في اللغة فهو مريح من الإشكال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه‏)‏ يعني يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن أبي إسحاق وهو جده قال‏:‏ حدثني عبد الرحمن يعني ابن الأسود بن يزيد بالإسناد المذكور أولا، وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر كما حكى ذلك عن سليمان الشاذكوني حيث قال‏:‏ لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا‏.‏

قال ‏"‏ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن ‏"‏ ولم يقل ذكره لي‏.‏

انتهى‏.‏

وقد استدل الإسماعيلي أيضا على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن بكون يحيى القطان رواه عن زهير فقال بعد أن أخرجه من طريقه‏:‏ والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان أو بالتصريح من قوله فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس‏.‏

وقد أعله قوم بالاضطراب وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي إسحاق في كتاب العلل واستوفيته في مقدمة الشرح الكبير، لكن رواية زهير هذه ترجحت عند البخاري بمتابعة يوسف حفيد أبي إسحاق وتابعهما شريك القاضي وزكريا بن أبي زائدة وغيرهما، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليث بن أبي سليم وحديثه يستشهد به أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏

ومما يرجحها أيضا استحضار أبي إسحاق لطريق أبي عبيدة وعدوله عنها بخلاف رواية إسرائيل عنه عن أبي عبيدة فإنه لم يتعرض فيها لرواية عبد الرحمن كما أخرجه الترمذي وغيره، فلما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبو عبيدة دل على أنه عارف بالطريقين وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح والله أعلم‏.‏

*3*باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الوضوء مرة مرة‏)‏ أي لكل عضو، والحديث المذكور في الباب مجمل، وقد تقدم بيانه في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً

الشرح‏:‏

سفيان هو الثوري، والراوي عنه الفريابي لا البيكندي، وصرح أبو داود والإسماعيلي في روايتهما بسماع سفيان له من زيد بن أسلم‏.‏

*3*باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد بن محمد المكي‏)‏ هو أبو الوليد الأزرقي جد أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة، وفي طبقته أحمد بن محمد المكي أيضا لكن كنيته أبو محمد واسم جده عون ويعرف بالقواس‏.‏

وقد وهم من زعم أن البخاري روى عنه، وإنما روى عن أبي الوليد، ووهم أيضا من جعلهما واحدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن جده‏)‏ عني سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق الذي ولي إمرة المدينة وكان يجهز البعوث إلى مكة كما تقدم في حديث أبي شريح الخزاعي، وكان عمرو هذا قد تغلب على دمشق في زمن عبد الملك بن مروان، فقتله عبد الملك وسير أولاده إلى المدينة، وسكن ولده مكة لما ظهرت دولة بني العباس فاستمروا بها، ففي الإسناد مكيان ومدنيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اتبعت‏)‏ تشديد التاء المثناة، أي سرت وراءه، والواو في قوله ‏"‏ وخرج ‏"‏ حالية وفي قوله ‏"‏ وكان ‏"‏ استئنافية‏.‏

وفي رواية أبي ذر فكان بالفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدنوت منه‏)‏ زاد الإسماعيلي ‏"‏ أستأنس وأتنحنح، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ أبو هريرة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابغني‏)‏ بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي طلبته لك‏.‏

وفي رواية بالقطع أي أعني على الطلب، يقال أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أستنفض‏)‏ بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، قال القزاز‏:‏ قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال‏:‏ وهذا موضع استنظف، أي بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي‏.‏

انتهى‏.‏

والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجى، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال‏:‏ الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف‏.‏

انتهى‏.‏

ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ استنجى ‏"‏ بدل أستنفض وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تأتني‏)‏ كأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله استنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصا بالأحجار - كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية - لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها، وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له صلى الله عليه وسلم لما فرغ ‏"‏ ما بال العظم والروث‏؟‏ قال‏:‏ هما من طعام الجن ‏"‏ والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما‏.‏

نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياسا من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم‏.‏

ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجسا ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس‏.‏

ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم وقال ‏"‏ إنهما لا يطهران ‏"‏ وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهيا عنه، وسيأتي في كتاب المبعث بيان قصة وفد الجن وأي وقت كانت إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأعرضت‏)‏ كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني ‏"‏ واعترضت ‏"‏ بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما قضى‏)‏ أي حاجته ‏(‏أتبعه‏)‏ بهمزة قطع أي ألحقه، وكني بذلك عن الاستنجاء‏.‏

وفي الحديث جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الحسين بن عيسى‏)‏ هو البسطامي بفتح الموحدة، ويونس هو المؤدب، وفليح ومن فوقه مدنيون، وعبد الله بن زيد هو ابن عاصم المازني، وحديثه هذا مختصر من حديث مشهور في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بعد من حديث مالك وغيره، لكن ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين‏.‏

نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عيينة في حديث عبد الله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين ومسح الرأس وتثليث غسل الوجه، لكن في الرواية المذكورة نظر سنشير إليه بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

وعلى هذا فحق حديث عبد الله بن زيد أن يبوب له غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا‏.‏

وقد روى أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وهو شاهد قوي لرواية فليح هذه، فيحتمل أن يكون حديثه هذا المجمل غير حديث مالك المبين لاختلاف مخرجهما‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عطاء بن يزيد‏)‏ و الليثي المدني‏.‏

والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين‏:‏ حمران وهو بضم المهملة ابن أبان، وعطاء، وابن شهاب‏.‏

وفي الإسناد الذي يليه أربعة من التابعين‏:‏ حمران وعروة ومما قرينان، وابن شهاب وصالح بن كيسان وهما قرينان أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دعا بإناء‏)‏ وفي رواية شعيب الآتية قريبا ‏"‏ دعا بوضوء‏"‏، وكذا لمسلم من طريق يونس، وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأفرغ‏)‏ أي صب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على كفيه ثلاث مرارا‏)‏ كذا لأبي ذر وأبي الوقت، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أدخل يمينه‏)‏ يه الاغتراف باليمين‏.‏

واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمضمض واستنثر‏)‏ وللكشميهني ‏"‏ واستنشق ‏"‏ بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد‏.‏

نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل وجهه‏)‏ فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطا للعبادة‏.‏

وسيأتي ذكر حكمة الاستنثار في الباب الذي يليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويديه إلى المرفقين‏)‏ أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها تقديم اليمنى على اليسرى والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضا قوله‏:‏ ‏(‏ثم مسح برأسه‏)‏ هو بحذف الباء في الروايتين المذكورتين، وليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول، قال أبو داود في السنن‏:‏ أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة؛ وكذا قال ابن المنذر إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء‏.‏

والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء‏.‏

وبالغ أبو عبيدة فقال‏:‏ لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحو وضوئي هذا‏)‏ قال النووي‏:‏ إنما لم يقل ‏"‏ مثل ‏"‏ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره‏.‏

قلت‏:‏ لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه ‏"‏ من توضأ مثل هذا الوضوء ‏"‏ وله في الصيام من رواية معمر ‏"‏ من توضأ وضوئي هذا‏"‏، ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران ‏"‏ توضأ مثل وضوئي هذا ‏"‏ وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازا، لأن ‏"‏ مثل ‏"‏ وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود‏.‏

والله تعالى علم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم صلى ركعتين‏)‏ فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، ويأتي فيهما ما يأتي في تحية المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحدث فيهما نفسه‏)‏ المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه يقتضي تكسبا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه‏.‏

ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ لم يسر فيهما‏.‏

ورده النووي فقال‏:‏ الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة‏.‏

نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب‏.‏

ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقا، ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث ‏"‏ لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا‏"‏‏.‏

وهي في الزهد لابن المبارك أيضا والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبيا أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا، وسيأتي بقية مباحث ذلك في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ذنبه‏)‏ ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك‏.‏

وفي الحديث التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم، والترغيب في الإخلاص، وتحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها‏.‏

ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تغتروا ‏"‏ أي فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأني للعبد بالاطلاع على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن إبراهيم‏)‏ أي ابن سعد، وهو معطوف على قوله ‏"‏ حدثني إبراهيم بن سعد ‏"‏ وزعم مغلطاي وغيره أنه معلق، وليس كذلك، فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بالإسنادين معا، وإذا كانا جميعا عند يعقوب فلا مانع أن يكونا عند الأويسي‏.‏

ثم وجدت الحديث الثاني عند أبي عوانة في صحيحه - من حديث الأويسي المذكور - فصح ما قلته بحمد الله تعالى، وقد أوضحت ذلك في تعليق التعليق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن عروة يحدث‏)‏ يعني أن شيخي ابن شهاب اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان، فحدثه به عطاء على صفة وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافا وإنما هما حديثان متغايران، وقد رواهما معاذ بن عبد الرحمن فأخرج البخاري من طريقه نحو سياق عطاء، ومسلم من طريقه نحو سياق عروة، وأخرجه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لولا آية‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ في كتاب الله ‏"‏ ولأجل هذه الزيادة صحف بعض رواته آية فجعلها ‏"‏ أنه ‏"‏ بالنون المشددة وبهاء الشان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويصلي الصلاة‏)‏ أي المكتوبة‏.‏

وفي رواية لمسلم ‏"‏ فيصلي هذه الصلوات الخمس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبين الصلاة‏)‏ أي التي تليها كما صرح به مسلم في رواية هشام بن عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يصليها‏)‏ أي يشرع في الصلاة الثانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عروة‏:‏ الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا‏)‏ يعني الآية التي في البقرة إلى قوله اللاعنون كما صرح به مسلم، ومراد عثمان رضي الله عنه أن هذه الآية تحرض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد تقدم نحو ذلك لأبي هريرة في كتاب العلم، وإنما كان عثمان يرى ترك تبليغهم ذلك لولا الآية المذكورة خشية عليهم من الاغترار والله أعلم‏.‏

وقد روى مالك هذا الحديث في الموطأ عن هشام بن عروة، ولم يقع في روايته تعيين الآية فقال من قبل نفسه‏:‏ أراه يريد ‏(‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‏)‏ ‏.‏

انتهى‏.‏

وما ذكره عروة راوي الحديث بالجزم أولى‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا قَالَ عُرْوَةُ الْآيَةَ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عطاء بن يزيد‏)‏ و الليثي المدني‏.‏

والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين‏:‏ حمران وهو بضم المهملة ابن أبان، وعطاء، وابن شهاب‏.‏

وفي الإسناد الذي يليه أربعة من التابعين‏:‏ حمران وعروة ومما قرينان، وابن شهاب وصالح بن كيسان وهما قرينان أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دعا بإناء‏)‏ وفي رواية شعيب الآتية قريبا ‏"‏ دعا بوضوء‏"‏، وكذا لمسلم من طريق يونس، وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأفرغ‏)‏ أي صب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على كفيه ثلاث مرار‏)‏ كذا لأبي ذر وأبي الوقت، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أدخل يمينه‏)‏ يه الاغتراف باليمين‏.‏

واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمضمض واستنثر‏)‏ وللكشميهني ‏"‏ واستنشق ‏"‏ بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد‏.‏

نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل وجهه‏)‏ فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطا للعبادة‏.‏

وسيأتي ذكر حكمة الاستنثار في الباب الذي يليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويديه إلى المرفقين‏)‏ أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها تقديم اليمنى على اليسرى والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضا قوله‏:‏ ‏(‏ثم مسح برأسه‏)‏ هو بحذف الباء في الروايتين المذكورتين، وليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول، قال أبو داود في السنن‏:‏ أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة؛ وكذا قال ابن المنذر إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء‏.‏

والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء‏.‏

وبالغ أبو عبيدة فقال‏:‏ لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحو وضوئي هذا‏)‏ قال النووي‏:‏ إنما لم يقل ‏"‏ مثل ‏"‏ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره‏.‏

قلت‏:‏ لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه ‏"‏ من توضأ مثل هذا الوضوء ‏"‏ وله في الصيام من رواية معمر ‏"‏ من توضأ وضوئي هذا‏"‏، ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران ‏"‏ توضأ مثل وضوئي هذا ‏"‏ وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازا، لأن ‏"‏ مثل ‏"‏ وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود‏.‏

والله تعالى علم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم صلى ركعتين‏)‏ فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، ويأتي فيهما ما يأتي في تحية المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحدث فيهما نفسه‏)‏ المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه لأن قوله يحدث يقتضي تكسبا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه‏.‏

ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ لم يسر فيهما‏.‏

ورده النووي فقال‏:‏ الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة‏.‏

نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب‏.‏

ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقا، ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث ‏"‏ لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا‏"‏‏.‏

وهي في الزهد لابن المبارك أيضا والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبيا أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا، وسيأتي بقية مباحث ذلك في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ذنبه‏)‏ ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك‏.‏

وفي الحديث التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم، والترغيب في الإخلاص، وتحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها‏.‏

ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تغتروا ‏"‏ أي فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأني للعبد بالاطلاع على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن إبراهيم‏)‏ أي ابن سعد، وهو معطوف على قوله ‏"‏ حدثني إبراهيم بن سعد ‏"‏ وزعم مغلطاي وغيره أنه معلق، وليس كذلك، فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بالإسنادين معا، وإذا كانا جميعا عند يعقوب فلا مانع أن يكونا عند الأويسي‏.‏

ثم وجدت الحديث الثاني عند أبي عوانة في صحيحه - من حديث الأويسي المذكور - فصح ما قلته بحمد الله تعالى، وقد أوضحت ذلك في تعليق التعليق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن عروة يحدث‏)‏ يعني أن شيخي ابن شهاب اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان، فحدثه به عطاء على صفة وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافا وإنما هما حديثان متغايران، وقد رواهما معاذ بن عبد الرحمن فأخرج البخاري من طريقه نحو سياق عطاء، ومسلم من طريقه نحو سياق عروة، وأخرجه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لولا آية‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ في كتاب الله ‏"‏ ولأجل هذه الزيادة صحف بعض رواته آية فجعلها ‏"‏ أنه ‏"‏ بالنون المشددة وبهاء الشان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويصلي الصلاة‏)‏ أي المكتوبة‏.‏

وفي رواية لمسلم ‏"‏ فيصلي هذه الصلوات الخمس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبين الصلاة‏)‏ أي التي تليها كما صرح به مسلم في رواية هشام بن عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يصليها‏)‏ أي يشرع في الصلاة الثانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عروة‏:‏ الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا‏)‏ يعني الآية التي في البقرة إلى قوله اللاعنون كما صرح به مسلم، ومراد عثمان رضي الله عنه أن هذه الآية تحرض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد تقدم نحو ذلك لأبي هريرة في كتاب العلم، وإنما كان عثمان يرى ترك تبليغهم ذلك لولا الآية المذكورة خشية عليهم من الاغترار والله أعلم‏.‏

وقد روى مالك هذا الحديث في الموطأ عن هشام بن عروة، ولم يقع في روايته تعيين الآية فقال من قبل نفسه‏:‏ أراه يريد ‏(‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‏)‏ ‏.‏

انتهى‏.‏

وما ذكره عروة راوي الحديث بالجزم أولى‏.‏

والله أعلم‏.‏