فصل: باب الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوْ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان‏)‏ هذا لفظ رواية أبى داود من طريق يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي في هذا الحديث، وسنبين ما بينها وبين لفظ حديث الباب من التفاوت‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا زكريا‏)‏ هو ابن أبي زائدة‏.‏

‏(‏عن عامر‏)‏ هو الشعبي، وزكريا مدلس ولم أره من حديثه إلا بالعنعنة، لكن أخرجه أحمد عن يحيى القطان عن زكريا، والقطان لا يحمل من حديث شيوخه المدلسين إلا ما كان مسموعا لهم، صرح بذلك الإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأهويت‏)‏ أي مددت يدي، قال الأصمعي‏:‏ أهويت بالشيء إذا أومأت به‏.‏

وقال غيره‏:‏ أهويت قصدت الهواء من القيام إلى القعود‏.‏

وقيل الإهواء الإمالة، قال ابن بطال‏:‏ فيه خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من عادة مخدومه قبل أن يأمره‏.‏

وفيه الفهم عن الإشارة، ورد الجواب عما يفهم عنها لقوله ‏"‏ فقال دعهما ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏فإني أدخلتهما‏)‏ أي القدمين ‏(‏طاهرتين‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ وهما طاهرتان ‏"‏ ولأبي داود ‏"‏ فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ‏"‏ وللحميدي في مسنده ‏"‏ قلت يا رسول الله أيمسح أحدنا على خفيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان ‏"‏ ولابن خزيمة من حديث صفوان بن عسال ‏"‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا ‏"‏ قال ابن خزيمة ذكرته للمزني فقال لي‏:‏ حدث به أصحابنا، فإنه أقوى حجة للشافعي‏.‏

انتهى‏.‏

وحديث صفوان وإن كان صحيحا لكنه ليس على شرط البخاري، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس، وأشار المزني بما قال إلى الخلاف في المسألة، ومحصله أن الشافعي والجمهور حملوا الطهارة على الشرعية في الوضوء، وخالفهم داود فقال‏:‏ إذا لم يكن على رجليه نجاسة عند اللبس جاز له المسح، ولو تيمم ثم لبسهما لم يبح له عندهم لأن التيمم مبيح لا رافع، وخالفهم أصبغ‏.‏

ولو غسل رجليه بنية الوضوء ثم لبسهما ثم أكمل باقي الأعضاء لم يبح المسح عند الشافعي ومن وافقه على إيجاب الترتيب، وكذا عند من لا يوجبه بناء على أن الطهارة لا تتبعض، لكن قال صاحب الهداية من الحنفية‏:‏ شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة، قال‏:‏ والمراد بالكاملة وقت الحدث لا وقت اللبس، في هذه الصورة إذا كمل الوضوء ثم أحدث جاز له المسح، لأنه وقت الحدث كان على طهارة كاملة انتهى‏.‏

والحديث حجة عليه لأنه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطا لجواز المسح، والمعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد سلم أن المراد بالطهارة الكاملة، ولو توضأ مرتبا وبقي غسل إحدى رجليه فلبس ثم غسل الثانية ولبس لم يبح له المسح عند الأكثر، وأجازه الثوري والكوفيون والمزني صاحب الشافعي ومطرف صاحب مالك وابن المنذر وغيرهم لصدق أنه أدخل كلا من رجليه الخفين وهي طاهرة، وتعقب بأن الحكم المرتب على التثنية غير الحكم المرتب على الوحدة، واستضعفه ابن دقيق العيد لأن الاحتمال باق‏.‏

قال‏:‏ لكن إن ضم إليه دليل يدل على أن الطهارة لا تتبعض اتجه‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع‏.‏

‏(‏فائدة أخرى‏)‏ ‏:‏ لو نزع خفيه بعد المسح قبل انقضاء المدة عند من قال بالتوقيت أعاد الوضوء عند أحمد وإسحاق وغيرهما وغسل قدميه عند الكوفيين والمزني وأبي ثور، وكذا قال مالك والليث إلا إن تطاول‏.‏

وقال الحسن وابن أبي ليلي وجماعة‏:‏ ليس عليه غسل قدميه، وقاسوه على من مسح رأسه ثم حلقه أنه لا يجب عليه إعادة المسح، وفيه نظر‏.‏

‏(‏فائدة أخرى‏)‏ ‏:‏ لم يخرج البخاري ما يدل على توقيت المسح‏.‏

وقال به الجمهور‏.‏

وخالف مالك في المشهور عنه فقال‏:‏ يمسح ما لم يخلع، وروي مثله عن عمر‏.‏

وأخرج مسلم التوقيت من حديث علي كما تقدم من حديث صفوان بن عسال، وفي الباب عن أبي بكرة وصححه الشافعي وغيره‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ

وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يتوضأ من لحم الشاة‏)‏ نص على لحم الشاة ليندرج ما هو مثلها وما دونها بالأولى، وأما ما فوقها فلعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل لأن من خصه من عموم الجواز علله بشدة زهومته فلهذا لم يقيده بكونه مطبوخا، وفيه حديثان عند مسلم وهو قول أحمد واختاره ابن خزيمة وغيره من محدث الشافعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والسويق‏)‏ قال ابن التين‏:‏ ليس في أحاديث الباب ذكر السويق‏.‏

وأجيب بأنه دخل من باب الأولى لأنه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته فعدمه من السويق أولى، ولعله أشار بذلك إلى حديث الباب الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأكل أبو بكر‏.‏

الخ‏)‏ سقط قوله ‏"‏ لحما ‏"‏ من رواية أبي ذر إلا عن الكشميهني، وقد وصله الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن من طريق سليم بن عامر قال ‏"‏ رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا ‏"‏ ورويناه من طرق كثيرة عن جابر مرفوعا وموقوفا على الثلاثة مفرقا ومجموعا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أكل كتف شاة‏)‏ أي لحمه‏.‏

وللمصنف في الأطعمة ‏"‏ تعرق ‏"‏ أي أكل ما على العرق - بفتح المهملة وسكون الراء - وهو العظم، ويقال له العراق بالضم أيضا‏.‏

وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك كان في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما سيأتي من حديثها وهي خالة ابن عباس، كما أن ضباعة بنت عمه‏.‏

وبين النسائي من حديث أم سلمة أن الذي دعاه إلى الصلاة هو بلال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحتز‏)‏ بالمهملة والزاي أي يقطع، زاد في الأطعمة من طرق معمر عن الزهري ‏"‏ يأكل منها ‏"‏ وفي البيهقي من طريق صالح عن الزهري ‏"‏ يأكل ذراعا يحتز منها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فألقى السكين‏)‏ زاد في الأطعمة عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري ‏"‏ فألقاها والسكين‏"‏، وزاد البيهقي من طريق عبد الكريم بن الهيثم عن أبي اليمان في آخر الحديث‏:‏ قال الزهري‏:‏ فذهبت تلك - أي القصة - في الناس، ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ توضئوا مما مست النار ‏"‏ قال فكان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مست النار ناسخ وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره‏:‏ إن المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة‏.‏

وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال‏:‏ لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى النووي هذا في شرح المهذب‏.‏

وبهذا تظهر حكمة تصدير البخاري حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، قال النووي‏:‏ كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل‏.‏

وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب، والله أعلم‏.‏

واستدل البخاري في الصلاة بهذا الحديث على أن الأمر بتقديم العشاء على الصلاة خاص بغير الإمام الراتب، وعلى جواز قطع اللحم بالسكين، وفي النهي عنه حديث ضعيف في سنن أبي داود فإن ثبت خص بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الترف، وفيه أن الشهادة على النفي - إذا كان محصورا - تقبل‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ ليس لعمرو بن أمية رواية في البخاري إلا هذا الحديث والذي مضى في المسح فقط‏.‏

*3*باب مَنْ مَضْمَضَ مِنْ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من مضمض من السويق‏)‏ قال الداودي‏:‏ هو دقيق الشعير أو السلت المقلي‏.‏

وقال غيره‏:‏ ويكون من القمح‏.‏

وقد وصفه أعرابي فقال‏:‏ عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري، والإسناد مدنيون إلا شيخ البخاري‏.‏

وبشير بالموحدة والمعجمة مصغرا، ويسار بالتحتانية والمهملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالصهباء‏)‏ بفتح المهملة والمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهي أدنى خيبر‏)‏ أي طرفها مما يلي المدينة‏.‏

وللمصنف في الأطعمة وهي على روحة من خيبر‏.‏

وقال أبو عبيد البكري في معجم البلدان‏:‏ هي على بريد وبين البخاري في موضع آخر من الأطعمة من حديث ابن عيينة أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد أدرجت، وسيأتي الحديث قريبا بدون الزيادة من طريق سليمان بن بلال عن يحيى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم دعا بالأزواد‏)‏ فيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر، وإن كان بعضهم أكثر أكلا‏.‏

وفيه حمل الأزواد في الأسفار وأن ذلك لا يقدح في التوكل، واستنبط منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمـع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فثرى‏)‏ بضم المثلثة وتشديد الراء ويجوز تخفيفها، أي بل بالماء لما لحقه من اليبس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأكلنا‏)‏ زاد في رواية سليمان ‏"‏ وشربنا‏"‏‏.‏

وفي الجهاد من رواية عبد الوهاب ‏"‏ فلكنا وأكلنا وشربنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قام إلى المغرب فمضمض‏)‏ أي قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق وإن كان لا دسم له أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله تتبعه عن أحوال الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يتوضأ‏)‏ أي بسبب أكل السويق‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم وخيبر كانت سنة سبع‏.‏

قلت‏:‏ لا دلالة فيه، لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتى به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد، وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام‏.‏

الحديث‏:‏

و حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني عمرو‏)‏ هو ابن الحارث، وبكير هو ابن عبد الله بن الأشج، ومباحث المتن تقدمت في الباب الذي قبله‏.‏

ونصف الإسناد الأول مصريون ونصفه الأعلى مدنيون، ولعمرو بن الحارث فيه إسناد آخر إلى ميمونة ذكره الإسماعيلي مقرونا بالإسناد الأول، وليس في حديث ميمونة ذكر المضمضمة التي ترجم بها فقيل‏:‏ أشار بذلك إلى أنها غير واجبة بدليل تركها في هذا الحديث، مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه فتركها لبيان الجواز، وأفاد الكرماني أن في نسخة الفربري التي بخطه تقديم حديث ميمونة هذا إلى الباب الذي قبله، فعلى هذا هو من تصرف النساخ‏.‏

*3*بَاب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنْ اللَّبَنِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَمًا تَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

حديث قتيبة هذا أحد الأحاديث التي أخرجها الأئمة الخمسة وهم الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي عن شيخ واحد وهو قتيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شرب لبنا‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ ثم دعا بماء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن له دسما‏)‏ قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ فيه بيان علة الأمر بالوضوء مما مست النار، وذلك لأنهم كانوا ألفوا في الجاهلية قلة التنظيف فأمروا بالوضوء مما مست النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت نسخ‏.‏

كذا قال ولا تعلق لحديث الباب بما ذكر، إنما فيه بيان العلة للمضمضة من اللبن فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، ويستنبط منه استحباب غسل اليدين للتنظيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه‏)‏ أي عقيلا ‏(‏يونس‏)‏ أي ابن يزيد، وحديثه موصول عند مسلم، وحديث صالح موصول عند أبي العباس السراج في مسنده‏.‏

وتابعهم أيضا الأوزاعي أخرجه المصنف في الأطعمة عن أبي عاصم عنه بلفظ حديث الباب، لكن رواه ابن ماجه من طريق بن الوليد بن مسلم قال‏:‏ حدثنا الأوزاعي فذكره بصيغة الأمر ‏"‏ مضمضوا من اللبن ‏"‏ الحديث، كذا رواه الطبري من طريق أخرى عن الليث بالإسناد المذكور‏.‏

وأخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة وسهل بن سعد مثله، وإسناد كل منهما حسن والدليل على الأمر فيه للاستحباب ما رواه الشافعي عن ابن عباس راوي الحديث أنه شرب لبنا فمضمض ثم قال ‏"‏ لو لم أتمضمض ما باليت‏"‏‏.‏

وروى أبو داود بإسناد حسن عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فلم يتمضمض ولم يتوضأ‏"‏‏.‏

وأغرب ابن شاهين فجعل حديث أنس ناسخا لحديث ابن عباس، ولم يذكر من قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ‏.‏

*3*باب الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوْ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الوضوء من النوم‏)‏ أي هل يجب أو يستحب، وظاهر كلامه أن النعاس يسمى نوما، والمشهور التفرقة بينهما وأن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت، وفي العين والمحكم النعاس النوم، وقيل مقاربته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن لم ير من النعسة‏)‏ هو قول المعظم، ويتخرج من جعل النعاس نوما أن من يقول النوم حدث بنفسه يوجب الوضوء من النعاس، وقد روى مسلم في صحيحه في قصة صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالليل قال ‏"‏ فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني ‏"‏ فدل على أن الوضوء لا يجب على غير المستغرق‏.‏

وروى ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال ‏"‏ وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة ‏"‏ والخفقة بفتح المعجمة وإسكان الفاء بعدها قاف قال ابن التين‏:‏ هي النعسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ، كذا قال‏.‏

والظاهر أنه من الخاص بعد العام، قال أهل اللغة‏:‏ خفق رأسه إذا حركه وهو ناعس‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ خفق برأسه من النعاس‏:‏ أماله‏.‏

وقال الهروي‏:‏ معنى تخفق رءوسهم تسقط أذقانهم على صدورهم، وأشار بذلك إلى حديث أنس ‏"‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فينعسون حتى تخفق رءوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة ‏"‏ رواه محمد بن نصر في قيام الليل وإسناده صحيح وأصله عند مسلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ زاد الأصيلي ‏"‏ ابن عروة ‏"‏ والإسناد مدنيون إلا شيخ البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا نعس‏)‏ بفتح العين وغلطوا من ضمها‏.‏

قوله ‏(‏فليرقد‏)‏ وللنسائي من طريق أيوب عن هشام ‏"‏ فلينصرف ‏"‏ والمراد به التسليم من الصلاة، وحمله المهلب على ظاهره فقال‏:‏ إنما أمره بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك عفي عنه‏.‏

قال‏:‏ وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف المزني فقال‏:‏ ينقض قليله وكثيره‏.‏

فخرق الإجماع‏.‏

كذا قال المهلب، وتبعه ابن بطال وابن التين وغيرهما، وقد تحاملوا على المزني في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتابعين المصير إلى أن النوم حدث ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد وإسحاق بن راهويه، قال ابن المنذر‏:‏ وبه أقول لعموم حديث صفوان بن عسال يعني الذي صححه ابن خزيمة وغيره، ففيه ‏"‏ إلا من غائط أو بول أو نوم ‏"‏ فيسوي بينهما في الحكم، والمراد بقليله وكثيره طول زمانه وقصره لا مباديه، والذين ذهبوا إلى أن النوم مظنة الحدث اختلفوا على أقوال‏:‏ التفرقة بين قليله وكثيره وهو قول الزهري ومالك، وبين المضطجع وغيره وهو قول الثوري، وبين المضطجع والمستند وغيرهما وهو قول أصحاب الرأي، وبينهما والساجد بشرط قصده النوم وبين غيرهم وهو قول أبي يوسف، وقيل لا ينقض نوم غير القاعد مطلقا وهو قول الشافعي في القديم، وعنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقض أو داخلها فلا، وفصل في الجديد بين القاعد المتمكن فلا ينقض وبين غيره فينقض، وفي المهذب‏:‏ وإن وجد منه النوم وهو قاعد ومحل الحديث منه متمكن بالأرض فالمنصوص أنه لا ينقض وضوءه‏.‏

وقال في البويطي‏:‏ ينتقض، وهو اختيار المزني‏.‏

انتهى‏.‏

وتعقب بأن لفظ البويطي ليس صريحا في ذلك فإنه قال‏:‏ ومن نام جالسا أو قائما فرأى رؤيا وجب عليه الوضوء‏.‏

قال النووي‏:‏ هذا قابل للتأويل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أحدكم‏)‏ قال المهلب فيه إشارة إلى العلة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في مثل هذه الحال فقد انتقض وضوءه بالإجماع‏.‏

كذا قال وفيه نظر، فإن الإشارة إنما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلم منها، وأما النقض فلا يتبين من سياق الحديث لأن جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، وهو القائل إن قليل النوم لا ينقض فكيف بالنعاس، وما ادعاه من الإجماع منتقض فقد صح عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وسعيد بن المسيب أن النوم لا ينقض مطلقا، وفي صحيح مسلم وأبي داود ‏"‏ وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فينامون ثم يصلون ولا يتوضئون، فحمل على أن ذلك كان وهم قعود، لكن في مسند البراز بإسناد صحيح في هذا الحديث ‏"‏ فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيسب‏)‏ بالنصب ويجوز الرفع، ومعنى يسب يدعو على نفسه، وصرح به النسائي في روايته من طريق أيوب عن هشام، ويحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة قاله ابن أبي جمرة، وفيه الأخذ بالاحتياط لأنه علل بأمر محتمل، والحث على الخشوع وحضور القلب للعبادة واجتناب المكروهات في الطاعات وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ هذا الحديث ورد على سبب، وهو ما رواه محمد بن نصر من طريق ابن إسحاق عن هشام في قصة الحولاء بنت تويت كما تقدم في ‏"‏ باب أحب الدين إلى الله أدومه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو معمر‏)‏ هو عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وأيوب هو السختياني، والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا نعس‏)‏ زاد الإسماعيلي ‏"‏ أحدكم ‏"‏ ولمحمد بن نصر من طريق وهيب عن أيوب ‏"‏ فلينصرف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلينم‏)‏ قال المهلب‏:‏ إنما هذا في صلاة الليل، لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك‏.‏

انتهى‏.‏

وقد قدمنا أنه جاء على سبب، لكن العبرة بعموم اللفظ فيعمل به أيضا في الفرائض إن وقع ما أمن بقاء الوقت‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أشار الإسماعيلي إلى أن في هذا الحديث اضطرابا فقال‏:‏ رواه حماد بن زيد عن أيوب فوقفه وقال فيه‏:‏ عن أيوب قرئ على كتاب عن أبي قلابة فعرفته‏.‏

رواه عبد الوهاب الثقفي عن أيوب فلم يذكر أنسا‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا لا يوجب الاضطراب، لأن رواية عبد الوارث أرجح بموافقة وهيب والطفاوي له عن أيوب، وقول حماد عنه ‏"‏ قرئ علي ‏"‏ لا يدل على أنه لم يسمعه من أبي قلابة بل يحمل على أنه عرف أنه فيما سمعه من أبي قلابة‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الوضوء من غير حدث‏)‏ أي ما حكمه؛ والمراد تجديد الوضوء‏.‏

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في أول كتاب الوضوء عند ذكر قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏)‏ وأن كثير منهم قالوا‏:‏ التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا وضوء إلا من حديث ‏"‏ وحكى الشافعي عمن لقيه من أهل العلم أن التقدير‏:‏ إذا قمتم من النوم‏.‏

وتقدم أن من العلماء من حمله على ظاهره وقال‏:‏ كان الوضوء لكل صلاة واجبا، ثم اختلفوا هل نسخ أو استمر حكمه‏.‏

ويدل على النسخ ما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه أمر بالسواك‏.‏

وذهب إلى استمرار الوجوب قوم كما جزم به الطحاوي ونقله ابن عبد البر عن عكرمة وابن سيرين وغيرهما، واستبعده النووي وجنح إلى تأويل ذلك إن ثبت عنهم، وجزم بأن الإجماع استقر على عدم الوجوب‏.‏

ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب، وحصل بيان ذلك بالسنة كما في حديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قَالَ يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن يوسف‏)‏ هو الفريابي، وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثنا مسدد‏)‏ هو تحويل إلى إسناد ثان قبل ذكر المتن، وإنما ذكره وإن كان الأول أعلى لتصريح سفيان الثوري قيه بالتحديث، وعمرو بن عامر كوفي أنصاري وقيل بجلي، وصحح المزي أن البجلي راو آخر غير هذا الأنصاري، وليس لهذا في البخاري غير ثلاثة أحاديث كلها عن أنس، وليس للبجلي عنده رواية، وقد يلتبس به عمر بن عامر بضم العين راو آخر بصري سلمى أخرج له مسلم، وليس له في البخاري شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند كل صلاة‏)‏ أي مفروضة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس ‏"‏ طاهرا أو غير طاهر ‏"‏ وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث سويد المذكور في الباب يدل على أن المراد الغالب، قال الطحاوي يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه خاصة ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة، يعني الذي أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال ‏"‏ عمدا فعلته ‏"‏ وقال‏:‏ يحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أقرب، وعلى تقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف كنتم‏)‏ القائل عمرو بن عامر، والمراد الصحابة‏.‏

وللنسائي طريق شعبة عن عمرو أنه سأل أنسا ‏"‏ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ‏.‏

لكل صلاة‏؟‏ قال نعم‏"‏‏.‏

ولابن ماجه ‏"‏ وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يجزئ‏)‏ بالضم من أجزأ أي يكفي، وللإسماعيلي ‏"‏ يكفي‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَلَمَّا صَلَّى دَعَا بِالْأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى لَنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سليمان‏)‏ هو ابن بلال‏.‏

ومباحث المتن تقدمت قريبا، وأفادت هذه الطريق التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه، وليس لسويد بن النعمان عند البخاري إلا هذا الحديث الواحد وقد أخرجه في مواضع كما تقدمت الإشارة إليه، وهو أنصاري حارثي شهد بيعة الرضوان كما سيأتي في المغازي إن شاء الله تعالى وذكر ابن سعد أنه شهد قبل ذلك أحدا وما بعدها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏من الكبائر‏)‏ أي التي وعد من اجتنبها بالمغفرة‏.‏

*3*باب مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ لَا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏من الكبائر‏)‏ أي التي وعد من اجتنبها بالمغفرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عثمان‏)‏ هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، ومجاهد هو ابن جبر صاحب ابن عباس وقد سمع الكثير منه واشتهر بالأخذ عنه، لكن روى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد فأدخل بينه وبين ابن عباس طاوسا كما أخرجه المؤلف بعد قليل، وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيحمل على أن مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معا‏.‏

وقال الترمذي رواية الأعمش أصح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط‏)‏ أي بستان، وللمصنف في الأدب ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ‏"‏ فيحمل على أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مر به، وفي الأفراد للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية، وهو يقوي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شك والشك في قوله ‏"‏ أو مكة ‏"‏ من جرير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما‏)‏ قال ابن مالك‏:‏ في قوله ‏"‏ صوت إنسانين ‏"‏ شاهد على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه نحو أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو ‏(‏فقد صغت قلوبكما‏)‏ وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله‏:‏ ظهراهما مثل ظهور الترسين فإن لم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، فإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع‏.‏

وقوله ‏"‏يعذبان في قبورهما ‏"‏ شاهد لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعذبان‏)‏ في رواية الأعمش ‏"‏ مر بقبرين ‏"‏ زاد ابن ماجه ‏"‏ جديدين فقال‏:‏ إنهما ليعذبان ‏"‏ فيحتمل أن يقال‏:‏ أعاد الضمير على غير مذكور لأن سياق الكلام يدل عليه، وأن يقال أعاده على القبرين مجازا والمراد من فيهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما يعذبان في كببر‏.‏

ثم قال‏:‏ بلى‏)‏ أي إنه لكبير‏.‏

وصرح بذلك في الأدب من طريق عبد بن حميد عن منصور فقال ‏"‏ وما يعذبان في كبير‏.‏

وإنه لكبير ‏"‏ وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش ولم يخرجها مسلم، واستدل ابن بطال برواية الأعمش على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر، قال لأن الاحتراز من البول لم يرد قيه وعيد، يعني قبل هذه القصة‏.‏

وتعقب بهذه الزيادة، وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني ولفظه ‏"‏ وما يعذبان في كبير، بلى ‏"‏ وقال ابن مالك‏:‏ في قوله ‏"‏ في كبير ‏"‏ شاهد على ورود ‏"‏ في ‏"‏ للتعليل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏عذبت امرأة في هرة ‏"‏ قال‏:‏ وخفي ذلك على أكثر النحوين مع وروده في القرآن كقول الله تعالى ‏(‏لمسكم فيما أخذتم‏)‏ وفي الحديث كما تقدم، وفي الشعر فذكر شواهد‏.‏

انتهى‏.‏

وقد اختلف في معنى قوله ‏"‏ وإنه لكبير ‏"‏ فقال أبو عبد الملك البوني‏:‏ يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى إليه في الحال بأنه كبير، فاستدرك‏.‏

وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل الخبر‏.‏

وأجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه فقوله ‏"‏ وما يعذبان في كبير ‏"‏ إخبار بالحكم، فإذا أوحى إليه أنه كبير فأخبر به كان نسخا لذلك الحكم‏.‏

وقيل‏:‏ يحتمل أن الضمير في قوله ‏"‏ وأنه ‏"‏ يعود على العذاب، لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة ‏"‏ يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين ‏"‏ وقيل الضمير يعود على أحد الذنبين وهو النميمة لأنها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي‏.‏

وقال الداودي وابن العربي‏:‏ ‏"‏ كبير ‏"‏ المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلا، وإن كان كبيرا في الجملة‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى ليس بكبير في الصورة لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير الذنب‏.‏

وقيل ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين وهو عند الله كبير كقوله تعالى ‏(‏وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم‏)‏ ، وقيل ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك‏.‏

وهذا الأخير جزم به البغوي وغيره ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل ليس بكبير بمجرده وإنما صار كبيرا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يستتر‏)‏ كذا في أكثر الروايات بمثناتين من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة‏.‏

وفي رواية ابن عساكر ‏"‏ يستبرئ ‏"‏ بموحدة ساكنة من الاستبراء‏.‏

ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش ‏"‏ يستنزه ‏"‏ بنون ساكتة بعدها زاي ثم هاء، فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفظ منه، فتوافق رواية لا يستنزه لأنها من التنزه وهو الإبعاد، وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع عن الأعمش ‏"‏ كان لا يتوقى ‏"‏ وهي مفسرة للمراد‏.‏

وأجراه بعضهم على ظاهره فقال‏:‏ معناه لا يستر عورته‏.‏

وضعف بأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية واطرح اعتبار البول فيترتب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا، ولا يخفى ما فيه‏.‏

وسيأتي كلام ابن دقيق العيد قريبا‏.‏

وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقي‏.‏

وتعقب الإسماعيلي رواية الاستتار بما يحصل جوابه مما ذكرنا قال ابن دقيق العيد‏:‏ لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، يشير إلى ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ أكثر عذاب القبر من البول ‏"‏ أي بسبب ترك التحرز منه‏.‏

قال‏:‏ ويؤيده أن لفظ ‏"‏ من ‏"‏ في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد لأن مخرجه واحد‏.‏

ويؤيده أن في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه ‏"‏ أما أحدهما فيعذب في البول ‏"‏ ومثله للطبراني عن أنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من بوله‏)‏ يأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يمشي بالنميمة‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ هي نقل كلام الناس‏.‏

والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب‏.‏

انتهى‏.‏

وهو تفسير للنميمة بالمعنى الأعم، وكلام غيره يخالفه كما سنذكر ذلك مبسوطا في موضعه من كتاب الأدب‏.‏

قال النووي‏:‏ وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح‏.‏

وتعقبه الكرماني فقال‏:‏ هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء، فإنهم يقولون‏:‏ الكبيرة هي الموجبة للحد ولا حد على المشي بالنميمة‏.‏

إلا أن يقال‏:‏ الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة، لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة‏.‏

أو أن المراد بالكبيرة معنى غير المعنى الاصطلاحي‏.‏

انتهى‏.‏

وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين‏:‏ أحدهما هذا، والثاني ما فيه وعيد شديد‏.‏

قال‏:‏ وهم إلى الأول أميل‏.‏

والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر‏.‏

انتهى‏.‏

ولا بد من حمل القول الأول على أن المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة؛ وإلا لزم أن لا يعد عقوق الوالدين وشهادة الزور من الكبائر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عدهما من أكبر الكبائر‏.‏

وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول كتاب الحدود إن شاء الله تعالى‏.‏

وعرف بهذا الجواب عن اعتراض الكرماني بأن النميمة قد نص في الصحيح على أنها كبيرة كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم دعا بجريدة‏)‏ ، وللأعمش ‏"‏ فدعا بعسيب رطب ‏"‏ والعسيب بمهملتين بوزن فعيل هي الجريدة التي لم ينبت فها خوص، فإن نبت فهي السعفة‏.‏

وقيل إنه خص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف‏.‏

وروى النسائي من حديث أبي رافع بسند ضعيف أن الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئا في قبر فقال لبلال‏:‏ ائتني بجريدة خضراء ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكسرها‏)‏ أي فأتى بها فكسرها، وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه‏:‏ منها أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده‏.‏

ومنها أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش، وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابرا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، وأن جابرا سأله عن ذلك فقال ‏"‏ إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين ‏"‏ ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الآتي في قوله ‏"‏ لعله‏"‏، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك‏.‏

وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال‏:‏ ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ‏"‏ فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع كما تقدم ‏"‏ فسمع شيئا في قبر ‏"‏ وفيه ‏"‏ فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه ‏"‏ وفي قصة الواحد حمل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين ‏"‏ جعل على كل قبر جريدة‏"‏‏.‏

أنها ‏(‏كسرتين‏)‏ بكسر الكاف، والكسرة القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفا‏.‏

وفي رواية جرير عنه ‏"‏ باثنتين ‏"‏ قال النووي‏:‏ الباء زائدة للتوكيد والنصب على الحال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوضع‏)‏ وفي رواية الأعمش الآتية ‏"‏ فغرز ‏"‏ وهي أخص من الأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوضع على كل قبر منهما كسرة‏)‏ وقع في مسند عبد بن حميد من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ثم غرز عند رأس كل واحد منهما قطعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل له‏)‏ للأعمش ‏"‏ قالوا ‏"‏ أي الصحابة، ولم نقف على تعيين السائل منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لعله‏)‏ قال ابن مالك‏:‏ يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏"‏ أن ‏"‏ زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارة‏.‏

انتهى‏.‏

وقد ثبت في الرواية الآتية بحذف ‏"‏ أن ‏"‏ فقوى الاحتمال الثاني‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ شبه لعل بعسى فأتى بأن في خبره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخفف‏)‏ بالضم وفتح الفاء، أي العذاب عن المقبورين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما لم تيبسا‏)‏ كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي الكسرتان، وللكشميهني ‏"‏ إلا أن تيبسا ‏"‏ بحرف الاستثناء، وللمستملي ‏"‏ إلى أن ييبسا ‏"‏ بإلى التي للغاية والياء التحتانية أي العودان، قال المازري‏:‏ يحتمل أن يكون أوحى إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة‏.‏

انتهى‏.‏

وعلى هذا فلعل هنا للتعليل، قال‏:‏ ولا يظهر له وجه غير هذا‏.‏

وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي، كذا قال‏.‏

ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل، قال القرطبي‏:‏ وقيل إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث جابر، لأن الظاهر أن القصة واحدة‏.‏

وكذا رجح النووي كون القصة واحدة، وفيه نظر لما أوضحنا من المغايرة بينهما‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس‏.‏

قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها‏.‏

وكذلك فيما فيه بركة الذكر وتلاوة القرآن من باب الأولى‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الحكمة في كونهما ما دامتا لرطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزبانية‏.‏

وقد استنكر الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملا بهذا الحديث‏.‏

قال الطرطوشي‏:‏ لأن ذلك خاص ببركة يده‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله ‏"‏ ليعذبان‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة‏.‏

وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به‏.‏

وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما سيأتي في الجنائز من هذا الكتاب، وهو أولى أن يتبع من غيره‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما، وهو عمل مستحسن‏.‏

وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به‏.‏

وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا ببيانه‏.‏

ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح، وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم ‏"‏ من دفنتم اليوم هاهنا‏؟‏ ‏"‏ فدل على أنه لم يحضرهما، وإنما ذكرت هذا ذبا عن هذا السيد الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سيدا ‏"‏ وقال لأصحابه ‏"‏ قوموا إلى سيدكم ‏"‏ وقال ‏"‏ إن حكمه قد وافق حكم الله ‏"‏ وقال ‏"‏ إن عرش الرحمن اهتز لموته ‏"‏ إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القرطبي فيعتقد صحة ذلك وهو باطل‏.‏

وقد اختلف في المقبورين فقيل كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة ‏"‏ قال أبو موسى‏:‏ هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح، لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة، وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين وقال‏:‏ لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبينه، يعني كما في قصة أبي طالب‏.‏

قلت‏:‏ وما قاله أخبرا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي قدمنا أن مسلما أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر‏.‏

وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه ‏"‏ مر بقبرين جديدين ‏"‏ فانتفى كونهما في الجاهلية، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فقال‏:‏ من دفنتم اليوم هاهنا‏؟‏ ‏"‏ فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم، ويقوى كونهما كانا مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح ‏"‏ يعذبان، وما يعذبان في كبير ‏"‏ و ‏"‏ بلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول ‏"‏ فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين، لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر، وسيأتي الكلام عليه في الجنائز إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيه التحذير من ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب، ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة، خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة، والله أعلم‏.‏