فصل: باب حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفْطَارِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي التطوع ‏(‏وإفطاره‏)‏ أي في خلل صيامه‏.‏

قال الزين بن المنبر‏:‏ لم يضف المصنف الترجمة التي قبل هذه للنبي صلى الله عليه وسلم وأطلقها ليفهم الترغيب للأمة في الاقتداء به في إكثار الصوم في شعبان، وقصد بهذه شرح حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك‏.‏

ثم ذكر البخاري في الباب حديثين‏:‏ الأول حديث ابن عباس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يَصُومُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي بشر‏)‏ هو جعفر بن أبي وحشية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد بن جبير‏)‏ في رواية شعبة عن أبي بشر ‏"‏ حدثني سعيد بن جبير ‏"‏ أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه، ولمسلم من طريق عثمان بن حكيم ‏"‏ سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب فقال‏:‏ سمعت ابن عباس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا قط غير رمضان‏)‏ في رواية شعبة عند مسلم ‏"‏ ما صام شهرا متتابعا ‏"‏ وفي رواية أبي داود الطيالسي ‏"‏ شهرا تاما منذ قدم المدينة غير رمضان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويصوم‏)‏ في رواية مسلم من الطريق التي أخرجها البخاري ‏"‏ وكان يصوم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يقول القائل لا والله لا يفطر‏)‏ في رواية شعبة ‏"‏ حتى يقولوا ما يريد أن يفطر‏"‏‏.‏

الحديث الثاني حديث أنس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ لَا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا فِي الصَّوْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني محمد بن جعفر‏)‏ أي ابن أبي كثير المدني، وحميد هو الطويل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى نظن‏)‏ بنون الجمع وبالتحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة على المخاطبة، ويؤيده قوله بعد ذلك ‏"‏ إلا رأيته ‏"‏ فإنه روي بالضم والفتح معا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن لا يصوم‏)‏ بفتح الهمزة ويجوز في يصوم النصب والرفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سليمان عن حميد أنه سأل أنسا في الصوم‏)‏ كنت أظن أن سليمان هذا هو ابن بلال لكن لم أره بعد التتبع التام من حديثه فظهر لي أنه سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر، وقد وصل المصنف حديثه عقب هذا وفيه ‏"‏ سألت أنسا عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث أتم من طريق محمد بن جعفر، لكن تقدم بعض هذا الحديث في الصلاة وقال فيه ‏"‏ تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر ‏"‏ فهذا يدل على التعدد، ويحتمل أن تكون الواو مزيدة كما تقدمت الإشارة إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنْ الشَّهْرِ صَائِمًا إِلَّا رَأَيْتُهُ وَلَا مُفْطِرًا إِلَّا رَأَيْتُهُ وَلَا مِنْ اللَّيْلِ قَائِمًا إِلَّا رَأَيْتُهُ وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتُهُ وَلَا مَسِسْتُ خَزَّةً وَلَا حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلَا عَبِيرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته‏)‏ يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة في وسطه وتارة من آخره، كما كان يصوم تارة من أول الشهر وتارة من وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه وقت من أوقات الليل قائما أو في وقت من أوقات الشهر صائما فراقبه المرة بعد المرة فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم ولا أنه كان يستوعب الليل قياما‏.‏

ولا يشكل على هذا قول عائشة في الباب قبله ‏"‏ وكان إذا صلى صلاة دوام عليها ‏"‏ وقوله في الرواية الأخرى الآتية بعد أبواب ‏"‏ كان عمله ديمة ‏"‏ لأن المراد بذلك ما اتخذه راتبا لا مطلق النافلة، فهذا وجه الجمع بين الحديثين وإلا فظاهرهما التعارض والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني محمد‏)‏ كذا للأكثر ولأبي ذر ‏"‏ هو ابن سلام‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا مسست‏)‏ بكسر المهملة الأولى على الأفصح، وكذا شممت بكسر الميم الأولى وفتحها لغة حكاها الفراء، ويقال في مضارعه أشمه وأمسه بالفتح فيهما على الأفصح وبالضم على اللغة المذكورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من رائحة‏)‏ كذا للأكثر وللكشميهني ‏"‏ من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان على أكمل الصفات خلقا وخلقا فهو كل الكمال وجل الجلال وجملة الجمال عليه أفضل الصلاة والسلام، وسيأتي شرح ما تضمنه هذا الحديث في ‏"‏ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ في أوائل السيرة النبوية إن شاء الله تعالى مستوفى‏.‏

وفي حديثي الباب استحباب التنفل بالصوم في كل شهر، وأن صوم النفل المطلق لا يختص بزمان إلا ما نهى عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدي به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى‏:‏ فصام وأفطر، وقام ونام، أشار إلى ذلك المهلب‏.‏

وفي حديث ابن عباس الحلف على الشيء وإن لم يكن هناك من ينكره مبالغة في تأكيده في نفس السامع‏.‏

*3*باب حَقِّ الضَّيْفِ فِي الصَّوْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حق الضيف في الصوم‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لو قال حق الضيف في الفطر لكان أوضح لكنه كان لا يفهم منه تعيين الصوم فيحتاج أن يقول من الصوم‏.‏

وكأن ما ترجم به أخصر وأوجز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ يَعْنِي إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَقُلْتُ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ قَالَ نِصْفُ الدَّهْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ قال أبو علي الجياني لم ينسب إسحاق هذا عن أحد منهم‏.‏

قلت‏:‏ لكن جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ بأنه ابن راهويه لأنه أخرجه من مسنده ثم قال‏:‏ أخرجه البخاري عن إسحاق، ويؤيده أن ابن راهويه لا يقول في الرواية عن شيوخه إلا صيغة الإخبار وكذلك هو هنا، وهارون بن إسماعيل شيخه هو الخزاز كان تاجرا صدوقا ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر في الاعتكاف كلاهما من روايته عن علي بن المبارك، وقد أخرج كلا من الحديثين من غير طريقه، ويحيى هو ابن أبي كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث‏)‏ هكذا أورده مختصرا وفسر البخاري المراد منه بقوله ‏"‏ يعني إن لزورك عليك حقا ‏"‏ إلى آخر ما ذكر من الحديث، وهو على طريقة البخاري في جواز اختصار الحديث، وقد أورده في الباب الذي يليه من طريق الأوزاعي، وأورده في الأدب من طريق حسين المعلم كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، وأورده قريبا من طريق الزهري عن أبي سلمة وسعيد ابن المسيب، ومن طريق أبي العباس الأعمى من وجهين، ومن طريق مجاهد وأبي المليح كلهم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص بالحديث مطولا ومختصرا، ورواه جماعة من الكوفيين والبصريين والشاميين عن عبد الله ابن عمرو مطولا ومختصرا، فمنهم من اقتصر على قصة الصلاة ومنهم من اقتصر على قصة الصيام ومنهم من ساق القصة كلها، ولم أره من رواية أحد من المصريين عنه مع كثرة روايتهم عنه، وسأذكر الكلام عليه في الباب الذي يليه، وأنبه على ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة سوى ما تقدم شرحه في أبواب التهجد، وسيأتي ما يتعلق بحق الضيف في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى وهو المستعان‏.‏

*3*باب حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حق الجسم في الصوم‏)‏ أي على المتطوع، والمراد بالحق هنا المطلوب، أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، فأما الواجب فيختص بما إذا خاف التلف وليس مرادا هنا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل‏)‏ زاد مسلم من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى ‏"‏ فقلت بلى يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير ‏"‏ وفي الباب الذي يليه ‏"‏ أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ‏"‏ وللنسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال ‏"‏ قال لي عبد الله بن عمرو‏:‏ يا ابن أخي إني قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهادا شديدا، حتى قلت‏:‏ ‏"‏ لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل ليلة ‏"‏ ويأتي في ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ من طريق مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال ‏"‏ أنكحني أبي امرأة ذات حسب وكان يتعاهدها، فسألها عن بعلها فقالت‏:‏ نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه‏.‏

فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ الفتى، فلقيته بعد ‏"‏ فذكر الحديث، زاد النسائي وابن خزيمة وسعيد بن منصور من طريق أخرى عن مجاهد ‏"‏ فوقع علي أبي فقال زوجتك امرأة فعضلتها وفعلت وفعلت، قال فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ألقني به، فأتيته معه ‏"‏ ولأحمد من هذا الوجه ‏"‏ ثم أنطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني ‏"‏ وسيأتي بعد أبواب من طريق أبي المليح عن عبد الله بن عمرو قال ‏"‏ ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة ‏"‏ ويأتي بعد باب من طريق أبي العباس عن عبد الله بن عمرو ‏"‏ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم وأصلي الليل، فإما أرسل لي وإما لقيته ‏"‏ ويجمع بينهما بأن يكون عمرو توجه بابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تفعل‏)‏ زاد بعد بابين ‏"‏ فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ‏"‏ الحديث، وقد تقدم تفسيره في كتاب التهجد، وزاد في رواية ابن خزيمة من طريق حصين عن مجاهد ‏"‏ إن لكل عامل شرة ‏"‏ وهو بكسر المعجمة وتشديد الراء ‏"‏ ولكل شرة فترة ‏"‏ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن لعينيك عليك حقا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لعينك ‏"‏ بالإفراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن لزورك‏)‏ بفتح الزاي وسكون الواو لضيفك، والزور مصدر وضع موضع الاسم كصوم في موضع صائم ونوم في موضع نائم، ويقال للواحد والجمع والذكر والأنثى زور، قال ابن التين‏:‏ ويحتمل أن يكون زور جمع زائر كركب جمع راكب وتجر جمع تاجر، زاد مسلم من طريق حسين المعلم عن يحيى ‏"‏ وإن لولدك عليك حقا ‏"‏ وزاد النسائي من طريق أبي إسماعيل عن يحيى ‏"‏ وإنه عسى أن يطول بك عمر ‏"‏ وفيه إشارة إلى ما وقع لعبد الله بن عمرو بعد ذلك من الكبر والضعف كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن بحسبك‏)‏ بإسكان السين المهملة أي كافيك والباء زائدة، ويأتي في الأدب من طريق حسين المعلم عن يحيى بلفظ ‏"‏ وإن من حسبك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تصوم من كل شهر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ في كل شهر‏"‏‏.‏

‏(‏فإذن ذلك‏)‏ هو بتنوين إذن، وهي التي يجاب بها ‏"‏ إن ‏"‏ وكذا ‏"‏ لو ‏"‏ صريحا أو تقديرا، وإن هنا مقدرة كأنه قال‏:‏ إن صمتها فإذن ذلك صوم الدهر، وروي بغير تنوين وهي للمفاجأة وفي توجيهها هنا تكلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني أجد قوة، قال فصم صيام نبي الله داود‏)‏ في هذه الرواية اختصار، فإن في رواية حسين المذكورة ‏"‏ فصم من كل جمعة ثلاثة أيام ‏"‏ ويأتي في الباب بعده ‏"‏ فصم يوما وأفطر يومين ‏"‏ وفي رواية أبي المليح ‏"‏ يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام، قلت يا رسول الله، قال خمسا، قلت يا رسول الله، قال سبعا، قلت يا رسول الله، قال تسعا، قلت يا رسول الله، قال إحدى عشرة‏"‏‏.‏

واستدل به عياض على تقديم الوتر على جميع الأمور، وفيه نظر لما في رواية مسلم من طريق أبي عياض عن عبد الله بن عمرو ‏"‏ صم يوما يعني من كل عشرة أيام ولك أجر ما بقي، قال إني أطيق أكثر من ذلك، قال صم ولك أجر ما بقي، قال إني أطيق أكثر من ذلك، قال صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال إني أطيق أكثر من ذلك قال صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال إني أطيق أكثر من ذلك، قال صم صوم داود ‏"‏ وهذا يقتضي أنه أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم بستة ثم بتسعة ثم باثني عشر ثم بخمسة عشر، فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر فلما قال إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يوما فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله ابن عمرو عن أبي داود ‏"‏ فلم يزل يناقصني وأناقصه ‏"‏ ووقع للنسائي في رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ‏"‏ صم الاثنين والخميس من كل جمعة ‏"‏ وهو فرد من أفراد ما تقدم ذكره‏.‏

وقد استشكل قوله ‏"‏ صم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر ما بقي ‏"‏ مع قوله ‏"‏ صم كل عشرة أيام يومين ولك أجر ما بقي الخ ‏"‏ لأنه يقتضي الزيادة في العمل والنقص من الأجر، وبذلك ترجم له النسائي، وأجيب بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف، قال عياض‏:‏ قال بعضهم معنى ‏"‏ صم يوما ولك أجر ما بقي ‏"‏ أي من العشرة، وقوله ‏"‏صم يومين ولك أجر ما بقي ‏"‏ أي من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر، وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر، وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه لما ذكر في أجر نيته على حاله سواء صام منه قليلا أو كثيرا كما تأوله في حديث ‏"‏ نية المؤمن خير من عمله ‏"‏ أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله‏.‏

انتهى‏.‏

والحديث المذكور ضعيف، وهو في ‏"‏ مسند الشهاب ‏"‏ والتأويل المذكور لا بأس به، ويحتمل أيضا إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم فينقص الأجر باعتبار ذلك، على أن قوله في نفس الخبر ‏"‏ صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي ‏"‏ يرد الحمل الأول، فإنه يلزم منه - على سياق التأويل المذكور - أن يكون التقدير‏:‏ ولك أجر أربعين، وقد قيده في نفس الحديث بالشهر والشهر لا يكون أربعين، وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائي من طريق ابن أبي ربيعة عن عبد الله بن عمرو بلفظ ‏"‏ صم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر تلك التسعة ‏"‏ ثم قال فيه ‏"‏ من كل تسعة أيام يوما ولك أجر تلك الثمانية ‏"‏ ثم قال ‏"‏ من كل ثمانية أيام يوما ولك أجر السبعة ‏"‏ قال ‏"‏ فلم يزل حتى قال صم يوما وأفطر يوما ‏"‏ وله من طريق شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن جده بلفظ ‏"‏ صم يوما ولك أجر عشرة، قلت زدني، قال‏:‏ صم يومين ولك أجر تسعة، قل زدني قال‏:‏ صم ثلاثة ولك أجر ثمانية ‏"‏ فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تزد عليه‏)‏ أي على صوم داود، زاد أحمد وغيره من رواية مجاهد ‏"‏ قلت قد قبلت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كبر‏:‏ يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال النووي‏:‏ معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليه فعله لعجزه، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى أن لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف، قلت‏:‏ ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية حصين المذكورة ‏"‏ وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك، وكان يقول‏:‏ لأن أكون قبلت الرخصة أحب إلي مما عدل به، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره‏"‏‏.‏

*3*باب صَوْمِ الدَّهْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صوم الدهر‏)‏ أي هل يشرع أو لا‏؟‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم ينص على الحكم لتعارض الأدلة واحتمال أن يكون عبد الله بن عمرو خص بالمنع لما اطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه من مستقبل حاله، فيلتحق به من في معناه ممن يتضرر بسرد الصوم، ويبقى غيره على حكم الجواز لعموم الترغيب في مطلق الصوم كما سيأتي في الجهاد من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنك لا تستطيع ذلك‏)‏ يحتمل أن يريد به الحالة الراهنة لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتكلف ذلك ويدخل به على نفسه المشقة ويفوت به ما هو أهم من ذلك، ويحتمل أن يريد به ما سيأتي بعد إذا كبر وعجز كما اتفق له سواء، وكره أن يوظف على نفسه شيئا من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه لما تقرر من ذم من فعل ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصم من الشهر ثلاثة أيام‏)‏ بعد قوله ‏"‏ فصم وأفطر ‏"‏ بيان لما أجمل من ذلك وتقرير له على ظاهره، إذ الإطلاق يقتضي المساواة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل صيام الدهر‏)‏ يقتضي أن المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة لأن المراد به هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازا‏.‏

قوله بعد ذكر صيام داود ‏(‏لا أفضل من ذلك‏)‏ ليس فيه نفي المساواة صريحا، لكن قوله في الرواية الماضية في قيام الليل من طريق عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو ‏"‏ أحب الصيام إلى الله صيام داود ‏"‏ يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقا، ورواه الترمذي من وجه آخر عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو بلفظ ‏"‏ أفضل الصيام صيام داود‏"‏، وكذلك رواه مسلم من طريق أبي عياض عن عبد الله، ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضلة، وسأذكر بسط ذلك في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب حَقِّ الْأَهْلِ فِي الصَّوْمِ

رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حق الأهل في الصوم رواه أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعني حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء التي تقدمت قبل خمسة أبواب، وفيها قول سلمان لأبي الدرداء ‏"‏ وإن لأهلك عليك حقا ‏"‏ وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد تقدم الكلام عليه قبل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَطَاءً أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ وَأُصَلِّي اللَّيْلَ فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ فَقَالَ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ وَتُصَلِّي فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا قَالَ إِنِّي لَأَقْوَى لِذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ وَكَيْفَ قَالَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى قَالَ مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ عَطَاءٌ لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ مَرَّتَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو بن علي‏)‏ الفلاس، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل وهون شيوخ البخاري الذين أكثر عنهم، وربما روي عنه بواسطة ما فاته منه كما في هذا الموضع، وكأنه اختار النزول من طريقه هذه لوقوع التصريح فيها بسماع ابن جريج له من عطاء وهو ابن أبي رباح، وأبو العباس يأتي القول فيه بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم‏)‏ سبقت تسمية الذي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأنه عمرو بن العاص والد عبد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتصلي‏)‏ في رواية مسلم من وجه آخر عن ابن جريج ‏"‏ وتصلي الليل، فلا تفعل ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏فإن لعينيك‏)‏ في رواية السرخسي والكشميهني ‏"‏ لعينك ‏"‏ بالإفراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عليك حظا‏)‏ كذا فيه في الموضعين بالظاء المعجمة، وكذا لمسلم، وعند الإسماعيلي ‏"‏ حقا ‏"‏ بالقاف، وعنده وعند مسلم من الزيادة ‏"‏ وصم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر التسعة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني لأقوى لذلك‏)‏ أي لسرد الصيام دائما‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وكيف‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ وكيف كان داود يصوم يا نبي الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يفر إذا لاقى‏)‏ زاد النسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ‏"‏ وإذا وعد لم يخلف ‏"‏ ولم أرها من غير هذا الوجه، ولها مناسبة بالمقام وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه فيكون كمن وعد فأخلف، كما أن في قوله ‏"‏ ولا يفر إذا لاقى ‏"‏ إشارة إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم، قال الخطابي‏:‏ محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقى بعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود عليه السلام ‏"‏ وكان لا يفر إذا لاقى لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عطاء‏)‏ أي بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا أدري كيف ذكر صيام الأبد الخ‏)‏ أي أن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لا صام من صام الأبد ‏"‏ وقد روى أحمد والنسائي هذه الجملة وحدها من طريق عطاء، وسيأتي بعد باب بلفظ ‏"‏ لا صام من صام الدهر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا صام من صام الأبد مرتين‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ قال عطاء‏:‏ فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد ‏"‏ واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر، قال ابن التين استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه‏:‏ نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله ‏"‏ لا أفضل من ذلك‏"‏، ودعاؤه على من صام الأبد‏.‏

وقيل معنى قوله ‏"‏ لا صام ‏"‏ النفي أي ما صام كقوله تعالى ‏(‏فلا صدق ولا صلى‏)‏ وقوله في حديث أبي قتادة عند مسلم وقد سئل عن صوم الدهر ‏"‏ لا صام ولا أفطر ‏"‏ أو ‏"‏ ما صام وما أفطر ‏"‏ وفي رواية الترمذي ‏"‏ لم يصم ولم يفطر ‏"‏ وهو شك من أحد رواته ومقتضاه أنهما بمعنى واحد، والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك‏.‏

وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر، وهي رواية عن أحمد‏.‏

وشذ ابن حزم فقال يحرم، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال ‏"‏ بلغ عمر أن رجلا يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول‏:‏ كل يا دهري ‏"‏ ومن طريق أبي إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر فقال عمرو بن ميمون‏:‏ لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه‏.‏

واحتجوا أيضا بحديث أبي موسى رفعه ‏"‏ من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، وعقد بيده ‏"‏ أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، وظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل مها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراما‏.‏

وإلى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال‏:‏ قوله لا صام من صام الأبد إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخير فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، وروي عن عائشة نحوه، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر ‏"‏ لا صام ولا أفطر ‏"‏ وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله ‏"‏ لا صام ولا أفطر ‏"‏ لمن لم يعلم تحريمها‏.‏

وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقا، وإلى ذلك ذهب الجمهور، قال السبكي‏:‏ أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقا، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب، ويتجه أن يقال إن علم أنه يفوت حقا واجبا حرم، وإن علم أنه يفوت حقا مندوبا أولى من الصيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم ‏"‏ ذكر العلة التي بها زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر ‏"‏ وساق الحديث الذي فيه ‏"‏ إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك ‏"‏ ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو الذي مضى فإن في بعض طرقه عند مسلم ‏"‏ أنه قال يا رسول الله إني أسرد الصوم ‏"‏ فحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ‏"‏ لا أفضل من ذلك ‏"‏ أي في حقك فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقا، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد فلو كان السرد ممتنعا لبينه له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز قاله النووي، وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر فقد قال أسامة بن زيد ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال لا يفطر ‏"‏ أخرجه أحمد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر، وأجابوا عن حديث أبي موسى المقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون ‏"‏ على ‏"‏ بمعنى أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدد‏.‏

وحكى رده عن أحمد‏.‏

وقال ابن خزيمة سألت المزني عن هذا الحديث فقال‏:‏ يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره لأن من ازداد لله عملا وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلته كرامة، ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي فقالوا‏:‏ له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا‏.‏

بل رب عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة‏.‏

والأولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوت حقا واجبا بذلك فإنه يتوجه إليه الوعيد، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزني، ومن حجتهم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث الباب كما تقدم في الطريقين الماضيين ‏"‏ فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر ‏"‏ وقوله فيما رواه مسلم ‏"‏ من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر ‏"‏ قالوا فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به وأنه أمر مطلوب، وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلا عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما، ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه، واختلف المجيزون لصوم الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا وما كان أكثر أجرا كان أكثر ثوابا، وبذلك جزم الغزالي أولا وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجرا على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل‏.‏

وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور، ومقدار الفائت من ذلك مع مقدار الحاصل غير متحقق، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله ‏"‏ لا أفضل من ذلك ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنه أحب الصيام إلى الله تعالى‏"‏‏.‏

وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضا بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق كما تقدم، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل تضعف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارا ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يوما ويفطر يوما فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالبا من تفويت الحقوق كما تقدمت الإشارة إلي فيما تقدم قريبا في حق داود عليه السلام، ولا يفر إذا لاقى لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه أنه قيل له إنك لتقل الصيام، فقال‏:‏ إني أخاف أن يضعفني عن القراءة والقراءة أحب إلي من الصيام، نعم إن فرض أن شخصا لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلا ولا يفوت حقا من الحقوق التي خوطب بها لم يبعد أن يكون في حقه أرجح، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم ‏"‏ الدليل على أن صيام داود إنما كان أعدل الصيام وأحبه إلى الله لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره بخلاف من يتابع الصوم ‏"‏ وهذا يشعر بأن من لا يتضرر في نفسه ولا يفوت حقا أن يكون أرجح، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال‏:‏ فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتى أن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيرا‏.‏

والله أعلم بالصواب‏.‏

*3*باب صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صوم يوم وإفطار يوم‏)‏ ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو من طريق شعبة عن مغيرة عن مجاهد عنه مختصرا، وقد أخرجه في ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ من طريق أبي عوانة عن مغيرة مطولا، وسيأتي الكلام عليه فيما يتعلق بقراءة القرآن هناك، وقد تقدم الكلام على فوائد الزيادة المتعلقة بالصيام قريبا‏.‏

*3*باب صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صوم داود عليه السلام‏)‏ أورد فيه حديث عبد الله بن عمرو من وجهين، وقد قدمت محصل فوائدهما المتعلقة بالصيام‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ أفرد ترجمة صوم يوم وإفطار يوم بالذكر للتنبيه على أفضليته، وأفرد صيام داود عليه السلام بالذكر للإشارة إلى الاقتداء به في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمَكِّيَّ وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وكان شاعرا وكان لا يتهم في حديثه‏)‏ فيه إشارة إلى أن الشاعر بصدد أن يتهم في حديثه لما تقتضيه صناعته من سلوك المبالغة في الإطراء وغيره، فأخبر الراوي عنه أنه مع كونه شاعرا كان غير متهم في حديثه، وقوله ‏"‏في حديثه ‏"‏ يحتمل مرويه من الحديث النبوي ويحتمل فيما هو أعم من ذلك، والثاني أليق وإلا لكان مرغوبا عنه، والواقع أنه حجة عند كل من أخرج الصحيح، وأفصح بتوثيقه أحمد وابن معين وآخرون، وليس له مع ذلك في البخاري سوى هذا الحديث وحديثين أحدهما في الجهاد والآخر في المغازي وأعادهما معا في الأدب، وقد تقدم حديث الباب في التهجد من وجه آخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونفهت‏)‏ بكسر الفاء أي تعبت وكلت، ووقع في رواية النسفي ‏"‏ نثهت ‏"‏ بالمثلثة بدل الفاء وقد استغربها ابن التين فقال‏:‏ لا أعرف معناها‏.‏

قلت‏:‏ وكأنها أبدلت من الفاء فإنها تبدل منها كثيرا‏.‏

وفي رواية الكشميهني بدلها ‏"‏ ونهكت ‏"‏ أي هزلت وضعفت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صوم ثلاثة أيام‏)‏ أي من كل شهر ‏(‏صوم الدهر كله‏)‏ أي بالتضعيف كما تقدم صريحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ سَبْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تِسْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام شَطْرَ الدَّهَرِ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أخبرني أبو المليح‏)‏ هو عامر وقيل زيد وقيل زياد بن أسامة بن عمير الهذلي، لأبيه صحبة، وليس لأبي المليح في البخاري سوى هذا الحديث، وأعاده في الاستئذان، وآخر تقدم في المواقيت في موضعين من روايته عن بريدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخلت مع أبيك‏)‏ وقع في الاستئذان ‏"‏ مع أبيك زيد ‏"‏ وهو والد أبي قلابة عبد الله بن زيد ابن عمرو - وقيل عامر - الجرمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإما أرسل إلي وإما لقيته‏)‏ شك من بعض رواته، وغلط من قال إنه شك من عبد الله بن عمرو، لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم قصده إلى بيته فدل على أن لقاءه إياه كان عن قصد منه إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه‏)‏ فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وترك الاستئثار على جليسه، وفي كون الوسادة من أدم حشوها ليف بيان ما كان عليه الصحابة في غالب أحوالهم في عهده صلى الله عليه وسلم من الضيق، إذ لو كان عنده أشرف منها لأكرم بها نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خمسا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ خمسة ‏"‏ وكذا في البواقي، فمن قال خمسة أراد الأيام ومن قال خمسا أراد الليالي وفيه تجوز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال إحدى عشرة‏)‏ زاد في رواية عمرو بن عون ‏"‏ قلت يا رسول الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شطر الدهر‏)‏ بالرفع على القطع، ويجوز النصب على إضمار فعل، والجر على البدل من صوم داود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صم يوما وأفطر يوما‏)‏ في رواية عمرو بن عون ‏"‏ صيام يوم وإفطار يوم ‏"‏ ويجوز فيه الحركات أيضا، وفي قصة عبد الله بن عمرو هذه من الفوائد غير ما تقدم هنا وفي أبواب التهجد بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمق في العبادة لما يخشى من إفضائه إلى الملل المفضي إلى الترك أو ترك البعض، وقد ذم الله تعالى قوما لازموا العبادة ثم فرطوا فيها‏.‏

وفيه الندب إلى الدوام على ما وظفه الإنسان على نفسه من العبادة‏.‏

وفيه جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الرياء‏.‏

وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة باليمين على النشاط لها، وأن ذلك لا يخل بصحة النية والإخلاص فيها، وأن اليمين على ذلك لا يلحقها بالنذر الذي يجب الوفاء به، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وأن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال‏.‏

وفيه جواز التفدية بالأب والأم، وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أنواع العبادات، وفيه أن طاعة الوالد لا تجب في ترك العبادة ولهذا احتاج عمرو إلى شكوى ولده عبد الله، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ترك طاعته لأبيه‏.‏

وفيه زيارة الفاضل للمفضول في بيته، وإكرام الضيف بإلقاء الفرش ونحوها تحته، وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأن لا حرج عليه في ذلك إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور‏.‏

*3*باب صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة‏)‏ كذا للأكثر وللكشميهني ‏"‏ صيام أيام البيض ثلاث عشرة الخ ‏"‏ قيل المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، حتى قال الجواليقي‏:‏ من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ، وفيه نظر لأن الصوم الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول ‏"‏ الأيام البيض ‏"‏ على الوصف‏.‏

وحكى ابن بزيزة في تسميتها بيضا أقوالا أخر مستندة إلى أقوال واهية، قال الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما‏:‏ ليس في الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب ما يطابق الترجمة، لأن الحديث مطلق في ثلاثة أيام من كل شهر والبيض مقيدة بما ذكر، وأجيب بأن البخاري جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال ‏"‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها، فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي، فقال‏:‏ ما منعك أن تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال‏:‏ إن كنت صائما فصم الغر، أي البيض ‏"‏ وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا بينه الدار قطني، وفي بعض طرقه عند النسائي ‏"‏ إن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ‏"‏ وجاء تقييدها أيضا في حديث قتادة بن ملحان - ويقال ابن منهال - عند أصحاب السنن بلفظ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال‏:‏ هي كهيئة الدهر ‏"‏ وللنسائي من حديث جرير مرفوعا ‏"‏ صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر‏:‏ أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة ‏"‏ الحديث وإسناده صحيح، وكأن البخاري أشار بالترجمة إلى أن وصية أبي هريرة بذلك لا تختص به، وأما ما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر ‏"‏ وما روى أبو داود والنسائي من حديث حفصة ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى ‏"‏ فقد جمع بينهما وما قبلهما البيهقي بما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي الشهر صام ‏"‏ قال فكل من رآه فعل نوعا ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت‏.‏

والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل، وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتأتى له استدراك صيامها، ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل إلا إن صادف الكسوف من أول النهار، ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يصوم من أول كل عشرة أيام يوما، وله وجه في النظر، ونقل ذلك عن أبي الدرداء، وهو يوافق ما تقدم في رواية النسائي في حديث عبد الله بن عمرو ‏"‏ صم من كل عشرة أيام يوما ‏"‏ وروى الترمذي من طريق خيثمة عن عائشة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس ‏"‏ وروي موقوفا وهو أشبه، وكأن الغرض به أن يستوعب غالب أيام الأسبوع بالصيام، واختار إبراهيم النخعي أن يصومها آخر الشهر ليكون كفارة لما مضى، وسيأتي ما يؤيده في الكلام على حديث عمران بن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر‏.‏

وقال الروياني صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب‏.‏

وفي كلام غير واحد من العلماء أيضا أن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو معمر‏)‏ هو عبد الله بن عمرو، والإسناد كله بصريون وأبو عثمان هو النهدي، وقد روى عن أبي هريرة جماعة كل منهم أبو عثمان، لكن لم يقع في البخاري حديث موصول من رواية أبي عثمان عن أبي هريرة إلا من رواية النهدي، وليس له عند البخاري سوى هذا وآخر في الأطعمة، ووقع عند مسلم عن شيبان عن عبد الوارث بهذا الإسناد فقال فيه ‏"‏ حدثني أبو عثمان النهدي ‏"‏ وتقدم هذا الحديث في أبواب التطوع من طريق أخرى عن أبي عثمان النهدي، وقد تقدم الكلام هناك على بقية فوائده، ومما لم يتقدم منها ما نبه عليه أبو محمد بن أبي جمرة في قول أبي هريرة ‏"‏ أوصاني خليلي ‏"‏ قال في أفراده ‏"‏ بهذه الوصية ‏"‏ إشارة إلى أن القدر الموصى به هو اللائق بحاله‏.‏

وفي قوله ‏"‏ خليلي ‏"‏ إشارة إلى موافقته له في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدنيا لأن أبا هريرة صبر على الجوع في ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في أوائل البيوع من حديثه حيث قال ‏"‏ أما إخواني فكان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فشابه حال النبي صلى الله عليه وسلم في إيثاره الفقر على الغنى والعبودية على الملك، قال‏:‏ ويؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التحدث بالنعمة والشكر لله، لا على وجه المباهاة والله أعلم‏.‏

وقال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوال‏:‏ أحدها لا تتعين بل يكره تعيينها وهذا عن مالك‏.‏

الثاني أول ثلاثة من الشهر قاله الحسن البصري، الثالث أولها الثاني عشر‏.‏

الرابع أولها الثالث عشر‏.‏

الخامس أولها أول سبت من أول الشهر ثم من أول الثلاثاء من الشهر الذي يليه وهكذا وهو عن عائشة‏.‏

السادس أول خميس ثم اثنين ثم خميس‏.‏

السابع أول اثنين ثم خميس ثم اثنين‏.‏

الثامن أول يوم والعاشر والعشرون عن أبي الدرداء‏.‏

التاسع أول كل عشر عن ابن شعبان المالكي‏.‏

قلت‏:‏ بقي قول آخر وهو آخر ثلاثة من الشهر عن النخعي فتمت عشرة‏.‏

*3*باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من زار قوما فلم يفطر عندهم‏)‏ أي في التطوع، هذه الترجمة تقابل الترجمة الماضية وهي من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، وموقعها أن لا يظن أن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك إلى من علم من حاله من كل منهما أنه يشق عليه الصيام، فمتى عرف أن ذلك لا يشق عليه كان الأولى أن يستمر على صومه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ قَالَ أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً قَالَ مَا هِيَ قَالَتْ خَادِمُكَ أَنَسٌ فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني خالد هو ابن الحارث‏)‏ كذا في الأصل، وبيان اسم أبيه من المصنف، كأن شيخه قال حدثنا خالد فقط فأراد بالبيان رفع الإبهام لاشتراك من يسمى خالدا في الرواية عن حميد ممن يمكن محمد بن المثنى أن يروى عنه، ولم يطرد للمصنف هذا فإنه كثيرا ما يقع له ولمشايخه مثل هذا الإبهام ولا يعتني ببيانه‏.‏

ورجال إسناد هذا الحديث كلهم بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم‏)‏ هي والدة أنس المذكور، ووقع لأحمد من طريق حماد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام ‏"‏ وهي خالة أنس، لكن في بقية الحديث ما يدل على أنهما معا كانتا مجتمعتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتته بتمر وسمن‏)‏ أي على سبيل الضيافة‏.‏

وفي قوله ‏"‏ أعيدوا سمنكم في سقائه ‏"‏ ما يشعر بأنه كان ذائبا، وليس بلازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة‏)‏ في رواية أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد ‏"‏ فصلى ركعتين وصلينا معه ‏"‏ وكأن هذه القصة غير القصة الماضية في أبواب الصلاة التي صلى فيها على الحصير وأقام أنسا خلفه وأم سليم من ورائه، لكن وقع عند أحمد في رواية ثابت المذكورة - وهو لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت - نحوه، ثم صلى ركعتين تطوعا فأقام أم حرام وأم سليم خلفنا وأقامني عن يمينه ‏"‏ ويحتمل التعدد لأن القصة الماضية لا ذكر فيها لأم حرام، ويدل على التعدد أيضا أنه هنا لم يأكل وهناك أكل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن لي خويصة‏)‏ بتشديد الصاد وبتخفيفها تصغير خاصة، وهو مما اغتفر فيه التقاء الساكنين‏.‏

وقوله ‏"‏خادمك أنس ‏"‏ هو عطف بيان أو بدل والخبر محذوف تقديره أطلب منك الدعاء له‏.‏

ووقع في رواية ثابت المذكورة عند أحمد ‏"‏ إن لي خويصة خويدمك أنس ادع الله له‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خير آخرة‏)‏ أي خيرا من خيرات الآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا دعا لي به‏:‏ اللهم ارزقه مالا‏)‏ كذا في الأصل، وعند أحمد من رواية عبيدة بن حميد عن حميد ‏"‏ إلا دعا لي به، وكان من قوله‏:‏ اللهم ‏"‏ الخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبارك له‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وبارك له فيه ‏"‏ وقوله ‏"‏ فيه ‏"‏ بالإفراد نظرا إلى اللفظ، ولأحمد ‏"‏ فيهم ‏"‏ نظرا إلى المعنى، ويأتي في الدعوات من طريق قتادة عن أنس ‏"‏ وبارك له فيما أعطيته ‏"‏ وفي رواية ثابت عند مسلم ‏"‏ فدعا لي بكل خير، وكان آخر ما دعا لي أن قال‏:‏ اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه ‏"‏ ولم يقع في هذه الرواية التصريح بما دعا له من خير الآخرة لأن المال والولد من خير الدنيا، وكأن بعض الرواة اختصره‏.‏

ووقع لمسلم في رواية الجعد عن أنس ‏"‏ فدعا لي بثلاث دعوات قد رأيت منها اثنتين في الدنيا وأنا أرجو الثالثة في الآخرة ‏"‏ ولم يبينها، وهي المغفرة كما بينها سنان بن ربيعة بزيادة، وذلك فيما رواه ابن سعد بإسناد صحيح عنه عن أنس قال ‏"‏ اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإني لمن أكثر الأنصار مالا‏)‏ زاد أحمد في رواية ابن أبي عدي ‏"‏ وذكر أنه لا يملك ذهبا ولا فضة غير خاتمه ‏"‏ يعني أن ماله كان من النقدين‏.‏

وفي رواية ثابت عند أحمد ‏"‏ قال أنس‏:‏ وما أصبح رجل من الأنصار أكثر مني مالا، قال‏:‏ يا ثابت وما أملك صفراء ولا بيضاء إلا خاتمي ‏"‏ وللترمذي من طريق أبي خلدة ‏"‏ قال أبو العالية‏:‏ كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك ‏"‏ ولأبي نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس قال ‏"‏ وإن أرضى لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثتني ابنتي أمينة‏)‏ بالنون تصغير آمنة ‏(‏أنه دفن لصلبي‏)‏ أي من ولده دون أسباطه وأحفاده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مقدم الحجاج البصرة‏)‏ بالنصب على نزع الخافض أي من أول ما مات لي من الأولاد إلى أن قدمها الحجاج‏.‏

ووقع ذلك صريحا في رواية ابن أبي عدي المذكورة ولفظه ‏"‏ وذكر أن ابنته الكبرى أمينة أخبرته أنه دفن لصلبه إلى مقدم الحجاج، وكان قدوم الحجاج البصرة سنة خمس وسبعين وعمر أنس حينئذ نيف وثمانون سنة، وقد عاش أنس بعد ذلك إلى سنة ثلاث ويقال اثنتين ويقال إحدى وتسعين وقد قارب المائة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بضع وعشرون ومائة‏)‏ في رواية ابن أبي عدي ‏"‏ نيف على عشرين ومائة ‏"‏ وفي رواية الأنصاري عن حميد عند البيهقي في الدلائل ‏"‏ تسع وعشرون ومائة ‏"‏ وهو عند الخطيب في رواية الآباء عن الأبناء من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ ثلاث وعشرون ومائة ‏"‏ وفي رواية حفصة بنت سيرين ‏"‏ ولقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة ‏"‏ وفي ‏"‏ الحلية ‏"‏ أيضا من طريق عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال ‏"‏ دفنت مائة لا سقطا ولا ولد ولد ‏"‏ ولعل هذا الاختلاف سبب العدول إلى البضع والنيف، وفي ذكر هذا دلالة على كثرة ما جاءه من الولد فإن هذا القدر هو الذي مات منهم، وأما الذين بقوا ففي رواية إسحاق ابن أبي طلحة عن أنس عند مسلم ‏"‏ وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز التصغير على معنى التلطف لا التحقير، وتحفة الزائر بما حضر بغير تكلف، وجواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي، وأن أخذ من رد عليه ذلك له ليس من العود في الهبة‏.‏

وفيه حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له، ومشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة، والدعاء بخير الدنيا والآخرة، والدعاء بكثرة المال والولد وأن ذلك لا ينافي الخير الأخروي، وإن فضل التقلل من الدنيا يختلف باختلاف الأشخاص‏.‏

وفيه زيارة الإمام بعض رعيته، ودخول بيت الرجل في غيبته لأنه لم يقل في طرق هذه القصة إن أبا طلحة كان حاضرا‏.‏

وفيه إيثار الولد على النفس، وحسن التلطف في السؤال، وأن كثرة الموت في الأولاد لا ينافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم ولا طلب البركة فيهم لما يحصل من المصيبة بموتهم والصبر على ذلك من الثواب‏.‏

وفيه التحدث بنعم الله تعالى، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد، وكون بستان المدعو له صار يثمر مرتين في السنة دون غيره‏.‏

وفيه التأريخ بالأمر الشهير، ولا يتوقف ذلك على صلاح المؤرخ به، وفيه جواز ذكر البضع فيما زاد على عقد العشر خلافا لمن قصره على ما قبل العشرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن أبي مريم‏)‏ هو سعيد، وفائدة ذكر هذه الطريق بيان سماع حميد لهذا الحديث من أنس لما اشتهر من أن حميدا كان ربما دلس عن أنس، ووقع في رواية كريمة والأصيلي في هذا الموضع ‏"‏ حدثنا ابن أبي مريم ‏"‏ فيكون موصولا‏.‏

*3*باب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصوم من آخر الشهر‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ أطلق الشهر، وإن كان الذي يتحرر من الحديث أن المراد به شهر مقيد وهو شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختص بشعبان، بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه ‏"‏ إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلَانَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ فَقَالَ يَا أَبَا فُلَانٍ أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ يَعْنِي رَمَضَانَ قَالَ الرَّجُلُ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَقُلْ الصَّلْتُ أَظُنُّهُ يَعْنِي رَمَضَانَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الصلت بن محمد‏)‏ فتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها مثناة، بصري مشهور، وأضاف إليه رواية أبي النعمان وهو عارم لما وقع فيها من تصريح مهدي بالتحديث من غيلان، والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مطرف‏)‏ هو ابن عبد الله بن الشخير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه سأله أو سأل رجلا وعمران يسمع‏)‏ هذا شك من مطرف فإن ثابتا رواه عنه بنحوه على الشك أيضا أخرجه مسلم، وأخرجه من وجهين آخرين عن مطرف بدون شك على الإبهام ‏"‏ أنه قال لرجل ‏"‏ زاد أبو عوانة في مستخرجه ‏"‏ من أصحابه ‏"‏ ورواه أحمد من طريق سليمان التيمي به ‏"‏ قال لعمران ‏"‏ بغير شك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا فلان‏)‏ كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذر ‏"‏ يا أبا فلان ‏"‏ بأداة الكنية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما صمت سرر هذا الشهر‏)‏ في رواية مسلم عن شيبان عن مهدي ‏"‏ سره ‏"‏ بضم المهملة وتشديد الراء بعدها هاء، قال النووي تبعا لابن قرقول‏:‏ كذا هو في جميع النسخ‏.‏

انتهى‏.‏

والذي رأيته في رواية أبي بكر بن ياسر الجياني ومن خطه نقلت ‏"‏ سرر هذا الشهر ‏"‏ كباقي الروايات‏.‏

وفي رواية ثابت المذكورة ‏"‏ أصمت من سرر شعبان شيئا‏؟‏ قال لا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أظنه قال يعني رمضان‏)‏ هذا الظن من أبي النعمان، لتصريح البخاري في آخره بأن ذلك لم يقع في رواية أبي الصلت، وكأن ذلك وقع من أبي النعمان لما حدث به البخاري، وإلا فقد رواه الجوزقي من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن أبي النعمان بدون ذلك وهو الصواب، ونقل الحميدي عن البخاري أنه قال‏:‏ إن شعبان أصح، وقيل إن ذلك ثابت في بعض الروايات في الصحيح‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ ذكر رمضان هنا وهم لأن رمضان يتعين صوم جميعه وكذا قال الداودي وابن الجوزي، ورواه مسلم أيضا من طريق ابن أخي مطرف عن مطرف بلفظ ‏"‏ هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ‏"‏ يعني شعبان، ولم يقع ذلك في رواية هدبة ولا عبد الله بن محمد بن أسماء ولا قطر بن حماد ولا عفان ولا عبد الصمد ولا غيرهم عند أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم ولا في باقي الروايات عند مسلم، ويحتمل أن يكون قوله رمضان في قوله ‏"‏ يعني رمضان ‏"‏ ظرفا للقول الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا لصيام المخاطب بذلك، فيوافق رواية الجريري عن مطرف فإن فيها عند مسلم ‏"‏ فقال له فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ثابت الخ‏)‏ وصله أحمد ومسلم من طريق حماد بن سلمة عنه كذلك، ووقع في نسخة الصغاني من الزيادة هنا ‏"‏ قال أبو عبد الله‏:‏ وشعبان أصح‏"‏‏.‏

والسرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها جمع سرة ويقال أيضا سرار بفتح أوله وكسره، ورجح الفراء الفتح، وهو من الاستسرار، قال أبو عبيد والجمهور‏:‏ المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين‏.‏

ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور، وقيل السرر وسط الشهر حكاه أبو داود أيضا ورجحه بعضهم، ووجهه بأن السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض وهي وسط الشهر وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان، ورجحه النووي بأن مسلما أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر كما تقدم، لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره وهو ‏"‏ سرة ‏"‏ بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ ‏"‏ سرار ‏"‏ وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها سرر وفي بعضها سرار، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، قال الخطابي قال بعض أهل العلم‏:‏ سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين، وتعقب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك، وأجاب الخطابي باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء وأن يقضي ذلك في شوال‏.‏

انتهى‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ قوله سؤال إنكار فيه تكلف، ويدفع في صدره قول المسئول ‏"‏ لا يا رسول الله ‏"‏ فلو كان سؤال إنكار لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام والفرض، أن الرجل لم يصم فكيف ينكر عليه فعل ما لم يفعله‏؟‏ ويحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك فأمره بقضائها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه كما تقدم‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون هذا كلاما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لكلام لم ينقل إلينا ا هـ‏.‏

ولا يخفى ضعف هذا المأخذ‏.‏

وقال آخرون‏:‏ فيه دليل على أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إنما هو لمن يقصد به التحري لأجل رمضان وأما من لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي ولو لم يكن اعتاده، وهو خلاف ظاهر حديث النهي لأنه لم يستثن منه إلا من كانت له عادة، وأشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وقال‏:‏ الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع، قال‏:‏ وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره أخذا من قوله في الحديث ‏"‏ فصم يومين مكانه ‏"‏ يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يتم إلا إن كانت عادة المخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يوما واحدا، وإلا فقوله ‏"‏ هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ‏"‏ أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه أو أكثر، نعم وقع في سنن أبي مسلم الكجي ‏"‏ فصم مكان ذلك اليوم يومين ‏"‏ وفي الحديث مشروعية قضاء التطوع، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى خلافا لمن منع ذلك‏.‏

*3*باب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ يَعْنِي إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صوم يوم الجمعة، إذا أصبح صائما يوم الجمعة فعليه أن يفطر‏)‏ كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية أبي ذر وأبي الوقت زيادة هنا وهي ‏"‏ يعني إذا لم يصم قبله ولا يريد أن يصوم بعده ‏"‏ وهذه الزيادة تشبه أن تكون من الفربري أو من دونه فإنها لم تقع في رواية النسفي عن البخاري، ويبعد أن يعبر البخاري عما يقوله بلفظ ‏"‏ يعني‏"‏، ولو كان ذلك من كلامه لقال‏:‏ أعني، بل كان يستغني عنها أصلا ورأسا، وهذا التفسير لا بد من حمل إطلاق الترجمة عليه لأنه مستفاد من حديث جويرية آخر أحاديث الباب، إذ في الباب ثلاثة أحاديث‏:‏ أولها حديث جابر وهو مطلق والتقييد فيه تفسير من أحد رواته كما سنبينه، وثانيها حديث أبي هريرة وهو ظاهر في التقييد، وثالثها حديث جويرية وهو أظهرها في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ نَعَمْ زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة‏)‏ أي ابن عثمان بن أبي طلحة الحجبي، في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني عبد الحميد ‏"‏ أخرجه أحمد عنه ومسلم من طريقه، وكذا أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن جريج، والنسائي من طريق حجاج بن محمد عنه، وكان ابن جريج ربما رواه عن محمد بن عباد نفسه ولم يذكر عبد الحميد، كذلك رواه يحيى بن سعيد القطان وحفص بن غياث أخرجه النسائي من طريقهما وكذا الإسماعيلي وزاد فضيل بن سليمان، وأخرجه النسائي أيضا من طريق النضر بن شميل كلهم عن ابن جريج وأومأ الإسماعيلي إلى أن في رواية البخاري عن أبي عاصم نظرا فإنه قال‏:‏ رواه البخاري عن أبي عاصم ‏"‏ فذكر إسناده قال‏:‏ وقد رويناه من طريق أبي عاصم كما قال يحيى، ثم ساقه كذلك‏.‏

قال‏:‏ وقد رواه أبو سعد الصغاني عن ابن جريج كم ساقه البخاري عن أبي عاصم وأبو سعد ليس كهؤلاء يعني القطان ومن تابعه‏.‏

قلت‏:‏ ولم يصب الإسماعيلي في ذلك فإن رواية البخاري مستقيمة، وقد وافقه على الزيادة الدارمي في مسنده وأبو مسلم الكجي في سننه فأخرجاه عن أبي عاصم كما قال البخاري، وكذلك رواه أبو موسى كما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له عنه عن أبي عاصم، وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق محمد بن عقيل بن خويلد عن أبي عاصم كذلك، وابن جريج كان ربما دلس ولهذا قال البيهقي‏:‏ إن يحيى بن سعيد قصر في إسناده، لكن وقع عند النسائي من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني محمد بن عباد ‏"‏ فيحمل على أنه سمعه من عبد الحميد عن محمد ثم لقي محمدا فسمعه منه، أو سمع من محمد واستثبت فيه من عبد الحميد فكان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، ولعل السر في ذلك أنه كان عند أحدهما في المتن ما ليس عند الآخر كما سنوضحه إن شاء الله تعالى، ولم ينفرد أبو سعد بمتابعة أبي عاصم على ذكر عبد الحميد كما يوهمه كلام الإسماعيلي بل تابعهما عبد الرزاق وأبو قرة وحجاج بن محمد كما قدمت ذكره، وعبد الحميد أكثر عددا ممن رواه عنه بإسقاطه، وعبد الحميد المذكور تابعي صغير روى عن عمته صفية بنت شيبة وهي من صغار الصحابة ووثقه ابن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى ثلاثة أحاديث هذا وآخر في بدء الخلق وآخر في الأدب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن عباد‏)‏ في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الحميد أن محمد بن عباد أخبره، ورجال هذا الإسناد مكيون إلا شيخ البخاري فهو بصري والصحابي فهو مدني وقد أقاما بمكة زمانا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت جابرا‏)‏ في رواية عبد الرزاق المذكورة وكذا في رواية ابن عيينة عن عبد الحميد عند مسلم وأحمد وغيرهما ‏"‏ سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت ‏"‏ وزادوا أيضا في آخره قال ‏"‏ نعم ورب هذا البيت ‏"‏ وفي رواية النسائي ‏"‏ ورب الكعبة ‏"‏ وعزاها صاحب ‏"‏ العمدة ‏"‏ لمسلم فوهم‏.‏

وفيه جواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الأمر، وإضافة الربوبية إلى المخلوقات المعظمة تنويها بتعظيمها، وفيه الاكتفاء في الجواب بنعم من غير ذكر الأمر المفسر بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه‏)‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ أن ينفرد بصوم ‏"‏ والغير المشار إليه جزم البيهقي بأنه يحيى بن سعيد القطان، وهو كما قال لكن لم يتعين، فقد أخرجه النسائي بالزيادة من طريقه ومن طريق النضر بن شميل وحفص بن غياث‏.‏

ولفظ يحيى ‏"‏ أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينفرد يوم الجمعة بصوم‏؟‏ قال‏:‏ أي ورب الكعبة ‏"‏ ولفظ حفص ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة مفردا ‏"‏ ولفظ النضر ‏"‏ أن جابرا سئل عن صوم يوم الجمعة فقال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏لا يصوم أحدكم‏)‏ كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ لا يصومن ‏"‏ بلفظ النهي المؤكد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا يوما قبله أو بعده‏)‏ تقديره إلا أن يصوم يوما قبله لأن يوما لا يصح استثناؤه من يوم الجمعة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض تقديره إلا بيوم قبله وتكون الباء للمصاحبة‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن أشكاب عن عمر بن حفص شيخ البخاري فيه ‏"‏ إلا أن تصوموا قبله أو بعده ‏"‏ ولمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش ‏"‏ لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يصوم بعده ‏"‏ وللنسائي من هذا الوجه ‏"‏ إلا أن يصوم قبله يوما أو يصوم بعده يوما ‏"‏ ولمسلم من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ‏"‏ ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم‏"‏، وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثي ‏"‏ أن رجلا قال لأبي هريرة‏:‏ أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة‏؟‏ قال ها ورب الكعبة ثلاثا، لقد سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في أيام معه ‏"‏ وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها ‏"‏ وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ لَا قَالَ تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ لَا قَالَ فَأَفْطِرِي وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثني محمد حدثنا غندر‏)‏ لم ينسب محمد المذكور في شيء من الطرق، والذي يظهر أنه بندار محمد بن بشار وبذلك جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ بعد أن أخرجه من طريقه ومن طريق محمد بن المثنى جميعا عن غندر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي أيوب‏)‏ في رواية يوسف القاضي في الصيام له من طريق خالد بن الحارث عن شعبة عن قتادة ‏"‏ سمعت أبا أيوب ‏"‏ ووافقه همام عن قتادة أخرجه أبو داود وقال في روايته ‏"‏ عن أبي أيوب العتكي ‏"‏ وهو بفتح المهملة والمثناة نسبة إلى بطن من الأزد، ويقال له أيضا المراغي بفتح الميم والراء ثم بالغين المعجمة، ورواه الطحاوي من طريق شعبة وهمام وحماد بن سلمة جميعا عن قتادة، وليس لجويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري من روايتها سوى هذا الحديث، وله شاهد من حديث جنادة بن أبي أمية عند النسائي بإسناد صحيح بمعنى حديث جويرية، واتفق شعبة وهمام عن قتادة على هذا الإسناد، وخالفهما سعيد بن أبي عروبة فقال عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية ‏"‏ فذكره أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، والراجح طريق شعبة لمتابعة همام وحماد ابن سلمة له وكذا حماد بن الجعد كما سيأتي، ويحتمل أن تكون طريق سعيد محفوظة أيضا فإن معمرا رواه عن قتادة عن سعيد بن المسيب أيضا لكن أرسله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفطري‏)‏ زاد أبو نعيم في روايته ‏"‏ إذا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد بن الجعد الخ‏)‏ وصله أبو القاسم البغوي في ‏"‏ جمع حديث هدبة بن خالد ‏"‏ قال ‏"‏ حدثنا هدبة حدثنا حماد بن الجعد سئل قتادة عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم فقال حدثني أبو أيوب ‏"‏ فذكره وقال في آخره ‏"‏ فأمرها فأفطرت ‏"‏ وحماد بن الجعد فيه لين، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع‏.‏

واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، وكأنه أخذه من قول ابن المنذر‏:‏ ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى بتحريمه‏.‏

وقال أبو جعفر الطبري‏:‏ يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده‏.‏

ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر، قال ابن حزم‏:‏ لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة‏.‏

وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره، قال مالك‏:‏ لم أسمع أحدا ممن يقتدي به ينهى عنه، قال الداودي‏:‏ لعل النهي ما بلغ مالكا‏.‏

وزعم عياض أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة فيكون له في المسألة روايتان‏.‏

وعاب ابن العربي قول عبد الوهاب منهم‏:‏ يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، لكونه قياسا مع وجود النص‏.‏

واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة ‏"‏ حسنه الترمذي، وليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الحديثين، ومنهم من عده من الخصائص، وليس بجيد لأنها لا تثبت بالاحتمال‏.‏

والمشهور عند الشافعية وجهان‏:‏ أحدهما ونقله المزني عن الشافعي أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر، والثاني وهو الذي صححه المتأخرون كقول الجمهور واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال‏:‏ أحدها لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره‏.‏

وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم‏.‏

ثانيها لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي، وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه، وأجاب أنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير، وفيه نظر فإن الجيران لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك‏.‏

وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق القوة، ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه‏.‏

ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهما لا يصومونه‏.‏

وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم‏"‏‏.‏

رابعها خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس، وسيأتي ذكر ما ورد فيهما في الباب الذي يليه‏.‏

خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، قال المهلب‏:‏ وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب، لكن المهلب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه‏.‏

سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القمولي وهو ضعيف‏.‏

وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحا حديثان‏:‏ أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده‏"‏‏.‏

والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال ‏"‏ من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر‏"‏‏.‏

*3*باب هَلْ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل يخص‏)‏ بفتح أوله أي المكلف ‏(‏شيئا من الأيام‏)‏ وفي رواية النسفي ‏"‏ يخص شيء ‏"‏ بضم أول يخص على البناء للمجهول‏:‏ شيء من الأيام، قال الزين بن المنير وغيره لم يجزم بالحكم لأن ظاهر الحديث إدامته صلى الله عليه وسلم العبادة ومواظبته على وظائفها، ويعارضه ما صح عن عائشة نفسها مما يقتضي نفي المداومة، وهو ما أخرجه مسلم من طريق أبي سلمة ومن طريق عبد الله بن شقيق جميعا عن عائشة أنها ‏"‏ سئلت عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ كان يصوم حتى نقول قد صام ويفطر حتى نقول قد أفطر ‏"‏ وتقدم نحوه قريبا في البخاري من حديث ابن عباس وغيره، فأبقى الترجمة على الاستفهام ليترجح أحد الخبرين أو يتبين الجمع بينهما، ويمكن الجمع بينهما بأن قولها ‏"‏ كان عمله ديمة ‏"‏ معناه أن اختلاف حاله في الإكثار من الصوم ثم من الفطر كان مستداما مستمرا، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يوظف على نفسه العبادة فربما شغله عن بعضها شاغل فيقضيها على التوالي فيشتبه الحال على من يرى ذلك، فقول عائشة ‏"‏ كان عمله ديمة ‏"‏ منزل على التوظيف، وقولها ‏"‏ كان لا تشاء أن تراه صائما إلا رأيته ‏"‏ منزل على الحال الثاني، وقد تقدم نحو هذا في ‏"‏ باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وقيل معناه أنه كان لا يقصد نفلا ابتداء في يوم بعينه فيصومه، بل إذا صام يوما بعينه كالخميس مثلا داوم على صومه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو القطان وسفيان هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعلقمة خاله‏.‏

وهذا الإسناد مما يعد من أصح الأسانيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل كان يختص من الأيام شيئا‏:‏ قالت لا‏)‏ قال ابن التين‏:‏ استدل به بعضهم على كراهة تحري صيام يوم من الأسبوع، وأجاب الزين بن المنير بأن السائل في حديث عائشة إنما سأل عن تخصيص يوم من الأيام من حيث كونها أياما، وأما ما ورد تخصيصه من الأيام بالصيام فإنما خصص لأمر لا يشاركه فيه بقية الأيام كيوم عرفة ويوم عاشوراء وأيام البيض وجميع ما عين لمعنى خاص‏.‏

وإنما سأل عن تخصيص يوم لكونه مثلا يوم السبت، ويشكل على هذا الجواب صوم الاثنين والخميس فقد وردت فيهما أحاديث وكأنها لم تصح على شرط البخاري فلهذا أبقى الترجمة على الاستفهام، فإن ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصهما استثنى من عموم قول عائشة لا‏.‏

قلت‏:‏ ورد في صيام يوم الاثنين والخميس عدة أحاديث صحيحة، منها حديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان من طريق ربيعة الجرشي عنها ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس ‏"‏ وحديث أسامة ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته فقال‏:‏ إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ‏"‏ أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة، فعلى هذا فالجواب عن الإشكال أن يقال‏:‏ لعل المراد بالأيام المسئول عنها الأيام الثلاثة من كل شهر، فكأن السائل لما سمع أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يصوم ثلاثة أيام ‏"‏ ورغب في أنها تكون أيام البيض سأل عائشة‏:‏ هل كان يخصها بالبيض‏؟‏ فقالت ‏"‏ لا، كان عمله ديمة ‏"‏ تعني لو جعلها البيض لتعينت وداوم عليها، لأنه كان يحب أن يكون عمله دائما، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها فكان لا يبالي من أي الشهر صامها كما تقدمت الإشارة إليه في ‏"‏ باب صيام البيض ‏"‏ وأن مسلما روى من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أي الشهر صام ‏"‏ وقد أورد ابن حبان حديث الباب وحديث عائشة في صيام الاثنين والخميس وحديثها ‏"‏ كان يصوم حتى نقول لا يفطر ‏"‏ وأشار إلى أن بينهما تعارضا ولم يفصح عن كيفية الجمع بينهما، وقد فتح الله بذلك بفضله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يختص‏)‏ في رواية جرير عن منصور في الرقاق ‏"‏ يخص ‏"‏ بغير مثناة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ديمة‏)‏ بكسر أوله وسكون التحتانية أي دائمة، قال أهل اللغة‏:‏ الديمة مطر يدوم أياما، ثم أطلقت على كل شيء يستمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأيكم يطيق‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ يستطيع ‏"‏ في الموضعين والمعني متقارب‏.‏