فصل: باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الِاسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ

ذَكَرَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الاستنثار‏)‏ هو استفعال من النثر بالنون والمثلثة وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ - أي يجذبه بريح أنفه - لتنظيف ما في داخله فيخرج بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا‏.‏

وحكى عن مالك كراهية فعله بغير اليد لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة‏.‏

وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون اليسرى، بوب عليه النسائي وأخرجه مقيدا بها من حديث علي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكره‏)‏ أي روى الاستنثار ‏(‏عثمان‏)‏ وقد تقدم حديثه، ‏(‏وعبد الله بن زيد‏)‏ وسيأتي حديثه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وابن عباس‏)‏ تقدم حديثه في صفة الوضوء في باب غسل الوجه من غرفة وليس فيه ذكر الاستنثار، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه مرفوعا ‏"‏ استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا‏"‏، ولأبي داود الطيالسي ‏"‏ إذا توضأ أحدكم واستنثر فليفعل ذلك مرتين أو ثلاثا ‏"‏ وإسناده حسن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبو إدريس‏)‏ هو الخولاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه سمع أبا هريرة‏)‏ زاد مسلم من طريق ابن المبارك وغيره عن يونس أبا سعيد مع أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليستنثر‏)‏ ظاهر الأمر أنه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب المغني يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار، وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار، وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه‏.‏

واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حسنه الترمذي وصححه الحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ‏"‏ توضأ كما أمرك الله ‏"‏ فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق‏.‏

وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله أمره، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بها أيضا في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر، ولم يذكر في هذه الرواية عددا‏.‏

وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزناد ولفظه ‏"‏ وإذا استنثر فليستنثر وترا ‏"‏ أخرجه الحميدي في مسنده عنه، وأصله لمسلم‏.‏

وفي رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عند المصنف في بدء الخلق ‏"‏ إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه‏"‏، وعلى هذا فالمراد بالاستنثار في الوضوء التنظيف لما فيه من المعونة على القراءة، لأن بتنقية مجرى النفس تصح مخارج الحروف، ويزاد للمستيقظ بأن ذلك لطرد الشيطان‏.‏

وسنذكر باقي مباحثه في مكانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن استجمر‏)‏ أي استعمل الجمار - وهي الحجارة الصغار - في الاستنجاء‏.‏

وحمله بعضهم على استعمال البخور فإنه يقال فيه تجمر واستجمر، حكاه ابن حبيب عن ابن عمر ولا يصح عنه، وابن عبد البر عن مالك، وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه خلافه‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر أيضا بموافقة الجمهور، وقد تقدم القول على معنى قوله ‏"‏ فليوتر ‏"‏ في الكلام على حديث ابن مسعود‏.‏

واستدل بعض من نفى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث للإتيان فيه بحرف الشرط، ولا دلالة فيه، وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، والله أعلم‏.‏

*3*باب الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الاستجمار وترا‏)‏ استشكل إدخال هذه الترجمة في أثناء أبواب الوضوء، والجواب أنه لا اختصاص لها بالاستشكال، فإن أبواب الاستطابة لم تتميز في هذا الكتاب عن أبواب صفة الوضوء لتلازمهما ويحتمل أن يكون ذلك ممن دون المصنف على ما أشرنا إليه في المقدمة والله أعلم‏.‏

وقد ذكرت توجيه ذلك في أول كتاب الوضوء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا توضأ‏)‏ أي إذا شرع في الوضوء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليجعل في أنفه ماء‏)‏ كذا لأبي ذر، وسقط قوله ‏"‏ ماء ‏"‏ لغيره‏.‏

وكذا اختلف رواة الموطأ في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم لينتثر‏)‏ كذا لأبي ذر والأصيلي بوزن ليفتعل، ولغيرهما ثم لينثر بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا، قال الفراء‏:‏ يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة‏.‏

قوله ‏(‏وإذا استيقظ‏)‏ هكذا عطفه المصنف، واقتضى سياقه أنه حديث واحد، وليس هو كذلك في الموطأ‏.‏

وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من موطأ يحيى رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا، وكذا هو في موطأ يحيى بن بكير وغيره، وكذا فرقه الإسماعيلي من حديث مالك، وكذا أخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد‏.‏

وعلى هذا فكأن البخاري كان يرى جواز جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من نومه‏)‏ أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث ‏"‏ باتت يده ‏"‏ لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل‏.‏

وفي رواية لأبي داود ساق مسلم إسنادها ‏"‏ إذا قام أحدكم من الليل ‏"‏ وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، ولأبي عوانة في رواية ساق مسلم إسنادها أيضا ‏"‏ إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح ‏"‏ لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة‏.‏

قال الرافعي في شرح المسند‏:‏ يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا، لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة‏.‏

ثم الأمر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار، واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء‏.‏

وقال إسحاق وداود والطبري ينجس، واستدل لهم بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي، والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوبا في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة‏.‏

واستدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشن المعلق بعد قيامه من النوم كما سيأتي في حديث ابن عباس، وتعقب بأن قوله ‏"‏ أحدكم ‏"‏ يقتضي اختصاصه بغيره صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز‏.‏

وأيضا فقد قال في هذا الحديث في روايات لمسلم وأبي داود وغيرهما ‏"‏ فليغسلهما ثلاثا ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ ثلاث مرات‏"‏، والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على الندبية، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ‏"‏ فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها ‏"‏ والنهي فيه للتنزيه كما ذكرنا أن فعل استحب وإن ترك كره ولا تزول الكراهة بدون الثلاث نص عليه الشافعي، والمراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليها اتفاقا، وهذا كله في حق من قام من النوم لما دل عليه مفهوم الشرط وهو حجة عند الأكثر، أما المستيقظ فيستحب له الفعل لحديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يكره الترك لعدم ورود النهي فيه، وقد روى سعيد بن منصور بسند صحيح عن أبي هريرة أنه كان يفعله ولا يرى بتركه بأسا، وسيأتي عن ابن عمر والبراء نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل أن يدخلها‏)‏ ، ولمسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق ‏"‏ فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ‏"‏ وهي أبين في المراد من رواية الإدخال، لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في وضوئه‏)‏ بفتح الواو أي الإناء الذي أعد للوضوء‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ في الإناء ‏"‏ وهي رواية مسلم من طرق أخرى، ولابن خزيمة ‏"‏ في إنائه أو وضوئه ‏"‏ على الشك، والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسا، لكن في الاستحباب من غير كراهة لعدم ورود النهي فيها عن ذلك والله أعلم‏.‏

وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أحدكم‏)‏ قال البيضاوي‏:‏ فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات فإنه يبعث ملبيا بعد نهيهم عن تطييبه، فنبه على علة النهي وهي كونه محرما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يدري‏)‏ فيه أن علة النهي احتمال هل لاقت يده ما يؤثر في الماء أو لا، ومقتضاه إلحاق من شك في ذلك ولو كان مستيقظا، ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لف عليها خرقة مثلا فاستيقظ وهي على حالها أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبا على المختار كما في المستيقظ، ومن قال بأن الأمر في ذلك للتعبد - كمالك - لا يفرق بين شاك ومتيقن‏.‏

واستدل بهذا الحديث على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء، وهو ظاهر‏.‏

وعلى أن النجاسة تؤثر في الماء، وهو صحيح، لكن كونها تؤثر التنجيس وإن لم يتغير فيه نظر، لأن مطلق التأثير لا يدل على خصوص التأثير بالتنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقن أشد من الكراهة بالمظنون قاله ابن دقيق العيد، ومراده أنه ليست فيه دلالة قطعية على من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أين باتت يده‏)‏ أي من جسده، قال الشافعي رحمه الله‏:‏ كانوا يستجمرون وبلادهم حارة فربما عرق أحدهم إذا نام فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو على بثرة أو دم حيوان أو قذر غير ذلك‏.‏

وتعقبه أبو الوليد الباجي بأن ذلك يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه، وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، أو أن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر بغسله، بخلاف اليد فإنه محتاج إلى غمسها، وهذا أقوى الجوابين‏.‏

والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمد بن الوليد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن خالد الحذاء عن عبد الله ابن شقيق عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره ‏"‏ أين باتت يده منه ‏"‏ وأصله في مسلم دون قوله ‏"‏ منه ‏"‏ قال الدارقطني‏:‏ تفرد بها شعبة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ تفرد بها محمد بن الوليد‏.‏

قلت‏:‏ إن أراد عن محمد بن جعفر فمسلم، وإن أراد مطلقا فلا، فقد قال الدارقطني‏:‏ تابعه عبد الصمد عن شعبة، وأخرجه ابن مندة من طريقه‏.‏

وفي الحديث الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عما يستحيا منه إذا حصل الإفهام بها، واستحباب غسل النجاسة ثلاثا لأنه أمرنا بالتثليث عند توهمها فعند تيقنها أولى‏.‏

واستنبط منه قوم فوائد أخرى فيها بعد، منها أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه قاله الخطابي، ومنها إيجاب الوضوء من النوم، قاله ابن عبد البر، ومنها تقوية من يقول بالوضوء من مس الذكر حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة، ومنها أن القليل من الماء لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء، قاله الخطابي صاحب الخصال من الشافعية‏.‏

*3*باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غسل الرجلين‏)‏ كذا للأكثر، وزاد أبو ذر ‏"‏ ولا يمسح على القدمين‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني موسى‏)‏ ابن إسماعيل هو التبوذكي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عنا في سفرة‏)‏ زاد في رواية كريمة ‏"‏ سافرناها ‏"‏ وظاهره أن عبد الله بن عمر كان في تلك السفرة ووقع في رواية لمسلم أنها كانت من مكة إلى المدينة، ولم يقع ذلك لعبد الله محققا إلا في حجة الوداع، أما غزوة الفتح فقد كان فيها لكن ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى المدينة من مكة بل من الجعرانة، ويحتمل أن تكون عمرة القضية فإن هجرة عبد الله بن عمر كانت في ذلك الوقت أو قريبا منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرهقنا‏)‏ بفتح الهاء والقاف و ‏"‏ العصر ‏"‏ مرفوع بالفاعلية كذا لأبي ذر‏.‏

وفي رواية كريمة بإسكان القاف والعصر منصوب بالمفعولية، ويقوى الأول رواية الأصيلي ‏"‏ أرهقتنا ‏"‏ بفتح القاف بعدها مثناة ساكنة، ومعنى الإرهاق الإدراك والغشيان، قال ابن بطال‏:‏ كأن الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعا أن يلحقهم النبي صلى الله عليه وسلم فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء ولعجلتهم لم يسبغوه، فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره من تأخيرهم قاله احتمالا، ويحتمل أيضا أن يكونوا أخروا لكونهم على طهر أو لرجاء الوصول إلى الماء، ويدل عليه رواية مسلم ‏"‏ حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر ‏"‏ أي قرب دخول وقتها فتوضؤوا وهم عجال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونمسح على أرجلنا‏)‏ انتزع منه البخاري أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل، فلهذا قال في الترجمة ولا يمسح على القدمين، وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها، وفي إفراد مسلم ‏"‏ فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء ‏"‏ فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح، وبحمل الإنكار على ترك التعميم، لكن الرواية المتفق عليها أرجح فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل، فيحتمل أن يكون معنى قوله ‏"‏ لم يمسها الماء ‏"‏ أي ماء الغسل جمعا بين الروايتين‏.‏

وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ذلك‏:‏ وأيضا فمن قال بالمسح لم يوجب مسح العقب، والحديث حجة عليه‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ لما أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا يبقى منهما لمعة دل على أن فرضها الغسل‏.‏

وتعقبه ابن المنير بأن التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرجلنا‏)‏ قابل الجمع بالجمع فالأرجل موزعة على الرجال فلا يلزم أن يكون لكل رجل أرجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويل‏)‏ جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء واختلف في معناه على أقوال‏:‏ أظهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ ويل واد في جهنم ‏"‏ قال ابن خزيمة‏:‏ لو كان الماسح مؤديا للفرض لما توعد بالنار، وأشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة أن الواجب المسح أخذا بظاهر قراءة ‏(‏وأرجلكم‏)‏ بالخفض، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء ‏"‏ ثم يغسل قدميه كما أمره الله ‏"‏ ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور‏.‏

وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏للإعقاب‏)‏ أي المرئية إذ ذاك فاللام للعهد ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك؛ والعقب مؤخر القدم‏.‏

قال البغوي‏:‏ معناه ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها‏.‏

وقيل أراد أن العقب مختص بالعقاب إذا قصر في غسله‏.‏

وفي الحديث تعليم الجاهل ورفع الصوت بالإنكار وتكرار المسألة لتفهم كما تقدم في كتاب العلم

*3*باب الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ

قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المضمضة في الوضوء‏)‏ أصل المضمضة في اللغة التحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحركتا بالنعاس، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعي فأكمله أن يضع الماء في الفم ثم يديره ثم يمجه، والمشهور عن الشافعية أنه لا يشترط تحريكه ولا مجه وهو عجيب، ولعل المراد أنه لا يتعين المج بل لو ابتلعه أو تركه حتى يسيل أجزأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قاله ابن عباس‏)‏ قد تقدم حديثه في أوائل الطهارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعبد الله بن زيد‏)‏ سيأتي حديثه قريبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل كل رجل‏)‏ كذا للأصيلي والكشميهني، ولابن عساكر كلتا رجليه وهي التي اعتمدها صاحب العمدة، وللمستملي والحموي كل رجله وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل، وفي نسخة رجليه بالتثنية وهي بمعنى الأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحدث‏)‏ تقدمت مباحثه قريبا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بذلك الإخلاص، أو ترك العجب بأن لا يرى لنفسه مزية خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غفر الله له‏)‏ كذا للمستملي، ولغيره ‏"‏ غفر له ‏"‏ على البناء للمفعول، وقد تقدمت مباحثه، إلا أن في هذا السياق من الزيادة رفع صفة الوضوء إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم في رواية ليونس ‏"‏ قال الزهري‏:‏ كان علماؤنا يقولون هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة‏"‏، وقد تمسك بهذا من لا يرى تثليث مسح الرأس كما سيأتي في باب مسح الرأس مرة إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب غَسْلِ الْأَعْقَابِ

وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غسل الأعقاب‏.‏

وكان ابن سيرين‏)‏ هذا التعليق وصله المصنف في التاريخ عن موسى ابن إسماعيل عن مهدي بن ميمون عنه، وروى ابن أبي شيبة عن هشيم عن خالد عنه أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه، والإسنادان صحيحان، فيحمل على أنه كان واسعا بحيث يصل الماء إلى ما تحته بالتحريك، وفي ابن ماجه عن أبي رافع مرفوعا نحوه بإسناد ضعيف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْمِطْهَرَةِ قَالَ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏محمد بن زياد‏)‏ هو الجمحي المدني لا الإلهاني الحمصي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان‏)‏ الواو حالية من مفعول سمعت، والناس يتوضؤون حال من فاعل يمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المطهرة‏)‏ بكسر الميم هي الإناء المعد للتطهر منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أسبغوا‏)‏ فتح الهمزة أي أكملوا، وكأنه رأى منهم تقصيرا وخشي عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أبا القاسم‏)‏ فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته وهو حسن، وذكره بوصف الرسالة أحسن، وفيه أن العالم يستدل على ما يفتى به ليكون أوقع في نفس سامعه، وقد تقدم شرح الأعقاب، وإنما خصت بالذكر لصورة السبب كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها‏.‏

وفي الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث ‏"‏ ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ‏"‏ ولهذا ذكر في الترجمة أثر ابن سيرين في غسله موضع الخاتم لأنه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقا‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غسل الرجلين في النعلين‏)‏ ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك وإنما هو مأخوذ من قوله‏:‏ ‏"‏ يتوضأ فيها ‏"‏ لأن الأصل في الوضوء هو الغسل، ولأن قوله ‏"‏ فيها ‏"‏ يدل على الغسل، ولو أريد المسح لقال عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يمسح على النعلين‏)‏ أي لا يكتفى بالمسح عليهما كما في الخفين، وأشار بذلك إلى ما روى عن علي وغيره من الصحابة أنهما مسحوا على نعالهم في الوضوء ثم صلوا، وروي في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود وغيره من حديث المغيرة بن شعبة لكن ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره من الأئمة، واستدل الطحاوي على عدم الإجزاء بالإجماع على أن الخفين إذا تخرقا حتى تبدو القدمان أن المسح لا يجزئ عليهما، قال‏:‏ فكذلك النعلان لأنهما لا يفيدان القدمين‏.‏

انتهى‏.‏

وهو استدلال صحيح، لكنه منازع في نقل الإجماع المذكور، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، ولكن نشير إلى ملخص منها‏:‏ فقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى ‏(‏وأرجلكم‏)‏ عطفا على ‏(‏وامسحوا برءوسكم‏)‏ فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، فحكى عن ابن عباس في رواية ضعيفة والثابت عنه خلافه، وعن عكرمة والشعبي وقتادة، وهو قول الشيعة‏.‏

وعن الحسن البصري الواجب الغسل أو المسح، وعن بعض أهل الظاهر يجب الجمع بينهما، وحجة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة منها أنه قرئ ‏(‏وأرجلكم‏)‏ بالنصب عطفا على ‏(‏أيديكم‏)‏ ، وقيل معطوف على محل برءوسكم كقوله‏:‏ ‏(‏يا جبال أوبي معه والطير‏)‏ بالنصب‏.‏

وقيل المسح في الآية محمول لمشروعية المسح على الخفين فحملوا قراءة الجر على مسح الخفين وقراءة النصب على غسل الرجلين، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي تقريرا حسنا فقال ما ملخصه‏:‏ بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب، وإلا عمل بالقدر الممكن، ولا يتأتى الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة لأنه يؤدي إلى تكرار المسح لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار فبقي أن يعمل بهما في حالين توفيقا بين القراءتين وعملا بالقدر الممكن‏.‏

وقيل إنما عطفت على الرءوس الممسوحة لأنها مظنة لكثرة صب الماء عليها فلمنع الإسراف عطفت، وليس المراد أنها تمسح حقيقة‏.‏

ويدل على هذا المراد قوله‏:‏ ‏(‏إلى الكعبين‏)‏ لأن المسح رخصة فلا يقيد بالغاية، ولأن المسح يطلق على الغسل الخفيف، يقال مسح أطرافه لمن توضأ، ذكره أبو زيد اللغوي وابن قتيبة وغيرهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبيد بن جريج‏)‏ هو مدني مولى بني تميم، وليس بينه وبين ابن جريج الفقيه المكي مولى بني أمية نسب، وقد تقدم في المقدمة أن الفقيه هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج فقد يظن أن هذا عمه وليس كذلك، وهذا الإسناد كله مدنيون، وفيه رواية الأقران لأن عبيدا وسعيدا تابعيان من طبقة واحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أربعا‏)‏ أي أربع خصال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم أر أحدا من أصحابك‏)‏ أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بعضهم، والظاهر من السياق انفراد ابن عمر بما ذكر دون غيره ممن رآهم عبيد‏.‏

وقال المازري‏:‏ يحتمل أن يكون مراده لا يصنعهن غيرك مجتمعة وإن كان يصنع بعضها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأركان‏)‏ أي أركان الكعبة الأربعة، وظاهره أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها، وقد صح ذلك عن معاوية وابن الزبير، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السبتية‏)‏ بكسر المهملة هي التي لا شعر فيها، مشتقة من السبت وهو الحلق قاله في التهذيب، وقيل السبت جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وقيل بالسبت بضم أوله وهو نبت يدبغ به قاله صاحب المنتهى‏.‏

وقال الهروي قيل لها سبتية لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت به، يقال رطبة منسبتة أي لينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تصبغ‏)‏ بضم الموحدة وحكى فتحها وكسرها، وهل المراد صبغ الثوب أو الشعر‏؟‏ يأتي الكلام على ذلك حيث ذكره المصنف في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أهل الناس‏)‏ أي رفعوا أصواتهم بالتلبية من أول ذي الحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم تهل أنت حتى كان‏)‏ ولمسلم حتى يكون ‏(‏يوم التروية‏)‏ أي الثامن من ذي الحجة، ومراده فتهل أنت حينئذ‏.‏

وتبين من جواب ابن عمر أنه كان لا يهل حتى يركب قاصدا إلى منى، وسيأتي الكلام على هذه المسألة أيضا في الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الله‏)‏ أي ابن عمر مجيبا لعبيد‏.‏

وللمصنف في اللباس ‏"‏ فقال له عبد الله بن عمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اليمانيين‏)‏ تثنية يمان والمراد بهما الركن الأسود والذي يسامته من مقابلة الصفا، وقيل للأسود يمان تغليبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأني أحب أن أصبغ‏)‏ وللكشميهني والباقين ‏"‏ فأنا أحب ‏"‏ كالتي قبلها، وسيأتي باقي الكلام على هذا الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏