فصل: باب فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أَيْ هَلَكَةً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏)‏ كأن يضربن ضمن معني يلقين فلذلك عدي بعلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقاله أحمد بن شيب‏)‏ بمعجمة وموحدتين وزن عظيم، وهو من شيوخ البخاري إلا أنه أورد هذا عنه بهذه الصيغة، وقد وصله ابن المنذر عن محمد بن إسماعيل الصائغ عن أحمد بن شبيب، وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق موسى بن سعيد الدنداني عن أحمد بن شبيب بن سعيد، وهكذا أخرجه أبو داود والطبراني من طريق قرة بن عبد الرحمن عن الزهري مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرحم الله نساء المهاجرات‏)‏ أي النساء المهاجرات فهو كقولهم شجر الأراك، ولأبي داود من وجه آخر عن الزهري يرحم الله النساء المهاجرات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى أي السابقات من المهاجرات، وهذا يقتضي أن الذي صنع ذلك نساء المهاجرات، لكن في رواية صفية بنت شيبة عن عائشة أن ذلك في نساء الأنصار كما سأنبه عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مروطهن‏)‏ جمع مرط وهو الإزار، وفي الرواية الثانية ‏"‏ أزرهن ‏"‏ وزاد ‏"‏ شققنها من قبل الحواشي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاختمرن‏)‏ أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع، قال الفراء‏:‏ كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا

الشرح‏:‏

قوله في الرواية الثانية‏:‏ ‏(‏عن الحسن‏)‏ هو ابن مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما نزلت هذه الآية ‏(‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏)‏ أخذن أزرهن‏)‏ هكذا وقع عند البخاري الفاعل ضميرا، وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع بلفظ ‏"‏ أخذ النساء ‏"‏ وأخرجه الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن إبراهيم بن نافع بلفظ ‏"‏ أخذ نساء الأنصار ‏"‏ ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه ‏"‏ ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت‏:‏ إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور ‏(‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏)‏ فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ‏"‏ ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك‏.‏

*3*سورة الْفُرْقَانِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَبَاءً مَنْثُورًا مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ مَدَّ الظِّلَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ سَاكِنًا دَائِمًا عَلَيْهِ دَلِيلًا طُلُوعُ الشَّمْسِ خِلْفَةً مَنْ فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَقَالَ الْحَسَنُ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُبُورًا وَيْلًا وَقَالَ غَيْرُهُ السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ وَالتَّسَعُّرُ وَالْاضْطِرَامُ التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ تُمْلَى عَلَيْهِ تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ الرَّسُّ الْمَعْدِنُ جَمْعُهُ رِسَاسٌ مَا يَعْبَأُ يُقَالُ مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ غَرَامًا هَلَاكًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَتَوْا طَغَوْا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَاتِيَةٍ عَتَتْ عَنْ الْخَزَّانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة الفرقان - بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ هباء منثورا ما تسفي به الريح‏)‏ وصله ابن جرير من طريق، ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد في آخره ‏"‏ ويبثه ‏"‏ ولابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏هباء منثورا‏)‏ ‏:‏ هو الذي يدخل البيت من الكوة، يدخل مثل الغبار مع الشمس، وليس له مس ولا يرى في الظل‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق الحسن البصري نحوه وزاد ‏"‏ لو ذهب أحدكم يقبض عليه لم يستطع ‏"‏ ومن طريق الحارث عن علي في قوله‏:‏ ‏(‏هباء منثورا‏)‏ قال‏:‏ ما ينثر من الكوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دعاؤكم إيمانكم‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل كتاب الإيمان، وثبت هذا هنا للنسفي وحده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وعند عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة مثله‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ تظاهرت أقوال المفسرين بهذا، وفيه نظر لأنه لا خصوصية لهذا الوقت بذلك، بل من بعد غروب الشمس مدة يسيرة يبقى فيها ظل ممدود مع أنه في نهار، وأما سائر النهار ففيه ظلال متقطعة‏.‏

ثم أشار إلى اعتراض آخر وهو أن الظل إنما يقال لما يقع بالنهار، قال‏:‏ والظل الموجود في هذين الوقتين من بقايا الليل انتهى‏.‏

والجواب عن الأول أنه ذكر تفسير الخصوص من سياق الآية، فإن في بقيتها ‏(‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلا‏)‏ والشمس تعقب الذي يوجد قبل طلوعها فيزيله فلهذا جعلت عليه دليلا، فظهر اختصاص الوقت الذي قبل الطلوع بتفسير الآية دون الذي بعد الغروب‏.‏

وأما الاعتراض الثاني فساقط لأن الذي نقل أنه يطلق على ذلك ظل ثقة مثبت فهو مقدم على الباقي، حتى ولو كان قول النافي محققا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ساكنا دائما‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من الوجه المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عليه دليلا‏:‏ طلوع الشمس‏)‏ وصله ابن أبي حاتم كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خلفة‏:‏ من فاته من الليل عمل أدركه بالنهار أو فاته بالنهار أدركه بالليل‏)‏ وصله ابن أبي حاتم أيضا كذلك، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الحسن‏)‏ هو البصري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين‏:‏ في طاعة الله‏)‏ وصله سعيد بن منصور ‏"‏ حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن وسأله رجل عن قوله‏:‏ ‏(‏هب لنا من أزواجنا‏)‏ ‏:‏ ما القرة، أفي الدنيا أم في الآخرة‏؟‏ قال‏:‏ بل في الدنيا، هي والله أن يرى العبد من ولده طاعة الله إلخ ‏"‏ وأخرجه عبد الله بن المبارك في ‏"‏ كتاب البر والصلة ‏"‏ عن حزم القطعي عن الحسن، وسمي الرجل السائل كثير بن زياد‏.‏

قوله‏.‏

‏(‏وما شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى حبيبه في طاعة الله‏)‏ في رواية سعيد بن منصور ‏"‏ أن يرى حميمه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس ثبورا ويلا‏)‏ وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وثبت هذا لأبي ذر والنسفي فقط‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏دعوا هنالك ثبورا‏)‏ أي هلكة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏عتوا‏)‏ طغوا، وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وعنوا عتوا كبيرا‏)‏ قال‏:‏ طغوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره‏:‏ السعير مذكر‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا - ثم قال بعده - إذا رأتهم‏)‏ والسعير مذكر وهو ما يسعر به النار، ثم أعاد الضمير للنار، والعرب تفعل ذلك تظهر مذكرا من سبب مؤنث ثم يؤنثون ما بعد المذكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والتسعير والاضطرام التوقد الشديد‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أساطير‏)‏ تقدم في تفسير سورة الأنعام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تملي عليه‏:‏ تقرأ عليه من أمليت وأمللت‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فهي تملي عليه‏)‏ ‏:‏ أي تقرأ عليه، وهو من أمليت عليه، وهي في موضع آخر أمللت عليه، يشير إلى قوله تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏(‏وليملل الذي عليه الحق‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرس المعدن جمعه رساس‏)‏ قال أبو عبيده في قوله‏:‏ ‏(‏وأصحاب الرس‏)‏ أي المعدن‏.‏

وقال الخليل‏:‏ الرس كل بئر تكون غير مطوية، ووراء ذلك أقوال‏.‏

أحدها أورده ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ الرس البئر، ومن طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال‏:‏ أصحاب الرس رسوا نبيهم في بئر، ومن طريق سعيد عن قتادة قال‏:‏ حدثنا أن أصحاب الرس كانوا باليمامة‏.‏

ومن طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏وأصحاب الرس‏)‏ قال‏:‏ بئر بأذربيجان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما يعبأ يقال ما عبأت به شيئا لا يعتد به‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏قل ما يعبأ بكم ربي‏)‏ هو من قولهم ما عبأت بك شيئا أي ما عددتك شيئا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في بعض الروايات تقديم وتأخير لهذه التفاسير، والخطب فيها سهل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غراما هلاكا‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏إن عذابها كان غراما‏)‏ أي‏:‏ هلاكا وإلزاما لهم، ومنه رجل مغرم بالحب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عيينة‏:‏ عاتية عتت على الخزان‏)‏ كذا في تفسيره وهذا في سورة الحاقة؛ وإنما ذكره هنا استطرادا لما ذكر قوله‏:‏ ‏(‏عتوا‏)‏ ، وقد تقدم ذكر هذا في قصة هود من أحاديث الأنبياء‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله‏:‏ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله‏:‏ ‏(‏وأضل سبيلا‏)‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا قال‏:‏ يا نبي الله يحشر الكافر‏)‏ لم أقف على اسم السائل؛ وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحشر الكافر‏)‏ في رواية الحاكم من وجه آخر عن أنس ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر أهل النار على وجوههم ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة عند البزار ‏"‏ يحشر الناس على ثلاثة أصناف‏:‏ صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم‏.‏

فقيل‏:‏ فكيف يمشون على وجوههم ‏"‏ الحديث‏.‏

ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يحشرون ركبانا، ومن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار يحشرون على وجوههم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال قتادة‏:‏ بلى وعزة ربنا‏)‏ هذه الزيادة موصولة بالإسناد المذكور، قالها قتادة تصديقا لقوله‏:‏ ‏"‏ أليس‏"‏‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الْعُقُوبَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله‏:‏ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله‏:‏ ‏(‏أثاما‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يلق أثاما‏:‏ العقوبة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏)‏ أي عقوبة وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ ‏(‏يلق أثاما‏)‏ قال‏:‏ نكالا‏.‏

قال‏:‏ ويقال إنه واد في النار‏.‏

وهذا الأخير أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو وعكرمة وغيرها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ح قَالَ وَحَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني منصور‏)‏ هو ابن المعتمر ‏(‏وسليمان‏)‏ هو الأعمش ‏(‏عن أبي وائل عن أبي ميسرة‏)‏ بفتح الميم وسكون التحتانية بعدها مهملة اسمه عمرو بن شرحبيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ وحدثني واصل‏)‏ هو ابن حبان الأسدي الكوفي، ثقة من طبقة الأعمش، والقائل هو سفيان الثوري‏.‏

وحاصله أن الحديث عنده عن ثلاثة أنفس‏:‏ أما اثنان منهما فأدخلا فيه بين أبي وائل وابن مسعود أبا ميسرة، وأما الثالث وهو واصل فأسقطه‏.‏

وقد رواه عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الثلاثة عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن ابن مسعود فعدوهما، والصواب إسقاط أبي ميسرة من رواية واصل كما فصله يحيى بن سعيد‏.‏

وقد أخرجه ابن مردويه من طريق مالك بن مغول عن واصل بإسقاط أبي ميسرة أيضا‏.‏

وكذلك رواه شعبة ومهدي بن ميمون عن واصل‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ رواه أبو معاوية وأبو شهاب وشيبان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بإسقاط أبي ميسرة، والصواب إثباته في رواية الأعمش، وذكر رواية ابن مهدي وأن محمد بن كثير وافقه عليها‏.‏

قال‏:‏ ويشبه أن يكون الثوري لما حدث به ابن مهدي فجمع بين الثلاثة حمل رواية واصل على رواية الأعمش ومنصور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن مسروق عن ابن مسعود ‏"‏ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نشز من الأرض وقعدت أسفل منه، فاغتنمت خلوته فقلت‏:‏ بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أي الذنوب أكبر ‏"‏‏؟‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي الذنب عند الله أكبر‏)‏ ‏؟‏ في رواية مسلم أعظم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ ثم أي‏)‏ تقدم الكلام في ضبطها في الكلام على حديث ابن مسعود أيضا في سؤاله عن أفضل الأعمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ندا‏)‏ بكسر النون أي نظيرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك‏)‏ أي من جهة إيثار نفسه عليه عند عدم ما يكفي، أو من جهة البخل مع الوجدان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تزاني بحليلة‏)‏ بالمهملة بوزن عظيمة والمراد الزوجة، وهي مأخوذة من الحل لأنها تحل له فهي فعيلة بمعني فاعلة، وقيل‏:‏ من الحلول لأنها تحل معه ويحل معها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى - ولا يزنون‏)‏ هكذا قال ابن مسعود‏.‏

والقتل والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيدان‏:‏ أما القتل فبالولد خشية الأكل معه، وأما الزنا فبزوجة الجار‏.‏

والاستدلال لذلك بالآية سائغ لأنها وإن وردت في مطلق الزنا والقتل لكن قتل هذا والزنا بهذه أكبر وأفحش‏.‏

وقد روى أحمد من حديث المقداد بن الأسود قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تقولون في الزنا‏؟‏ قالوا‏:‏ حرام‏.‏

قال‏:‏ لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَقَالَ سَعِيدٌ قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ فَقَالَ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏اخبرني القاسم بن أبي بزة‏)‏ بفتح الموحدة وتشديد الزاي واسم أبي بزة نافع بن يسار، ويقال‏:‏ أبو بزة جد القاسم لا أبوه، مكي تابعي صغير ثقة عندهم، وهو والد جد البزي المقرئ، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم، وليس للقاسم في البخاري إلا هذا الحديث الواحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة‏)‏ في رواية منصور عن سعيد بن جبير في آخر الباب ‏"‏ قال‏:‏ لا توبة له‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سعيد‏)‏ أي ابن جبير‏:‏ ‏(‏قرأتها على ابن عباس‏)‏ في الرواية التي بعدها من طريق المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير‏:‏ اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدخلت فيه إلى ابن عباس‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فرحلت ‏"‏ براء وحاء مهملتين وهي أوجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذه مكية‏)‏ يعني نسختها آية مدنية كذا في هذه الرواية، وروى ابن مردويه من طريق خارجه بن زيد بن ثابت عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَرَحَلْتُ فِيهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ

الشرح‏:‏

قوله في رواية غندر عن شعبة ‏(‏اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن‏)‏ كذا وقع مختصرا، وأخصر منه رواية آدم في تفسير النساء، وقد أخرجه مسلم وغيره من طرق عن شعبة منه عن غندر بلفظ‏:‏ اختلف أهل الكوفة في هذه الآية ‏(‏ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء‏)‏ كذا في هذه الرواية، ولا يظهر من سياقها تعيين الآية المذكورة، وقد بينها في رواية منصور في الباب عن سعيد بن جبير ‏"‏ سألت ابن عباس عن

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ قَالَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَالَ كَانَتْ هَذِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجزاؤه جهنم‏)‏ فقال‏:‏ لا توبة له ‏"‏ وعن قوله‏:‏ ‏(‏لا يدعون مع الله إلها آخر‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏ كانت هذه في الجاهلية ‏"‏ ويأتي في الباب الذي يلي الذي يليه أوضح من ذلك‏.‏

*3*باب يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا‏)‏ قرأ الجمهور بالجزم في ‏(‏يضاعف ويخلد‏)‏ بدلا من الجزاء في قوله‏:‏ ‏(‏يلق أثاما‏)‏ بدل اشتمال‏.‏

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالرفع على الاستئناف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ أَبْزَى سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَقَوْلِهِ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ حَتَّى بَلَغَ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ وَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَى قَوْلِهِ غَفُورًا رَحِيمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعد بن حفص‏)‏ هو الطلحي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، ومنصور هو ابن المعتمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد من جبير قال‏:‏ قال ابن أبزى‏)‏ بموحدة وزاي مقصورة واسمه عبد الرحمن، وهو صحابي صغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل ابن عباس‏)‏ كذا في رواية أبي ذر بصيغة الفعل الماضي، وهذه للنسفي، وهو يقتضي أنه من رواية سعيد بن جبير عن ابن أبزى عن ابن عباس‏.‏

وفي رواية الأصيلي ‏"‏ سل ‏"‏ بصيغة الأمر وهو المعتمد، ويدل عليه قوله بعد سياق الآيتين ‏"‏ فسألته ‏"‏ فإنه واضح في جواب قوله‏:‏ ‏"‏ سل ‏"‏ وإن كان اللفظ الآخر يمكن توجيهه بتقدير سئل ابن عباس عن كذا فأجاب فسألته عن شيء آخر مثلا، ولا يخفى تكلفه‏.‏

ويؤيد الأول رواية شعبة في الباب الذي يليه عن منصور عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏"‏ أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس فسألته ‏"‏ وكذا أخرجه إسحاق بن إبراهيم في تفسيره عن جرير عن منصور، وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن جرير بلفظ ‏"‏ قال‏:‏ أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس ‏"‏ فذكره، وذكر عياض ومن تبعه أنه وقع في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام في هذا الحديث من طريق صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن جبير ‏"‏ أمرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس ‏"‏ فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، ولغيره ‏"‏ أمرني ابن عبد الرحمن ‏"‏ قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ لعله سقط ‏"‏ ابن ‏"‏ قبل عبد الرحمن وتصحف من ‏"‏ أمرني ‏"‏ ويكون الأصل ‏"‏ أمر ابن عبد الرحمن ‏"‏ ثم لا ينكر سؤال عبد الرحمن واستفادته من ابن عباس فقد سأله من كان أقدم منه وأفقه‏.‏

قلت‏:‏ الثابت في الصحيحين وغيرهما من المستخرجات عن سعيد بن جبير ‏"‏ أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس ‏"‏ فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، والذي زاد فيه سعيد بن عبد الرحمن أو ابن عبد الرحمن‏.‏

*3*بَاب إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا

فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَعَنْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَالَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هاتين الآيتين ‏(‏ومن يقتل مؤمنا متعمدا‏)‏ فسألته فقال‏:‏ لم ينسخها شيء، وعن ‏(‏والذين يدعون من الله إلها آخر‏)‏ قال‏:‏ نزلت في أهل الشرك‏)‏ هكذا أورده مختصرا، وسياق مسلم من هذا الوجه أتم، وأتم منهما ما تقدم في المبعث من رواية جرير بلفظ ‏"‏ هاتين الآيتين ما أمرهما‏؟‏ التي في سورة الفرقان ‏(‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏)‏ والتي في سورة النساء ‏(‏ومن يقتل مؤمنا متعمدا‏)‏ قال‏:‏ سألت ابن عباس فقال‏:‏ لما أنزلت التي في سورة الفرقان قال مشركو مكة‏:‏ قد قتلنا النفس ودعونا مع الله إلها آخر وأتينا الفواحش، قال‏:‏ فنزلت ‏(‏إلا من تاب‏)‏ الآية، قال‏:‏ فهذه لأولئك، قال‏:‏ وأما التي في سورة النساء فهو الذي قد عرف الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم لا توبة له، قال‏.‏

فذكرت ذلك لمجاهد فقال‏:‏ إلا من ندم ‏"‏ وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفا‏.‏

ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمدا، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه‏.‏

وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا توبة له مشهور عنه، وقد جاء عنه في ذلك ما هو أصرح مما تقدم‏:‏ فروى أحمد والطبري من طريق يحيى الجابر والنسائي وابن ماجه من طريق عمار الذهبي كلاهما عن سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ ‏"‏ كنت عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فقال‏:‏ ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا‏؟‏ قال‏:‏ جزاؤه جهنم خالدا فيها، وساق الآية إلى ‏(‏عظيما‏)‏ قال‏:‏ لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى‏؟‏ قال‏:‏ وأني له التوبة والهدى ‏"‏ لفظ يحيى الجابر، والآخر نحوه‏.‏

وجاء على وفق ما ذهب إليه ابن عباس في ذلك أحاديث كثيرة‏:‏ منها ما أخرجه أحمد والنسائي من طريق أبي إدريس الخولاني عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ كل ذنب عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يموت كافرا، والرجل يقتل مؤمنا متعمدا ‏"‏ وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره‏.‏

وقالوا‏:‏ معني قوله‏:‏ ‏(‏فجزاؤه جهنم‏)‏ أي إن شاء الله أن يجازيه تمسكا بقوله تعالى في سورة النساء أيضا‏:‏ ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أتى تمام المائة فقال له‏:‏ لا توبة، فقتله فأكمل به مائة‏.‏

ثم جاء آخر فقال‏:‏ ‏"‏ ومن يحول بينك وبين التوبة ‏"‏ الحديث، وهو مشهور، وسيأتي في الرقاق واضحا‏.‏

وإذا ثبت ذلك لمن قبل من غير هذه الأمة فمثله لهم أولى لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم‏.‏

*3*باب فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أَيْ هَلَكَةً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ باب قوله‏:‏ ‏(‏فسوف يكون لزاما‏)‏ هلكة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فسوف يكون لزاما‏)‏ ‏:‏ أي جزاء يلزم كل عامل بما عمل، وله معنى آخر يكون هلاكا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مسلم‏)‏ هو أبو الضحى الكوفي‏.‏

*3*سورة الشُّعَرَاءِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَعْبَثُونَ تَبْنُونَ هَضِيمٌ يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ مُسَحَّرِينَ الْمَسْحُورِينَ لَيْكَةُ وَالْأَيْكَةُ جَمْعُ أَيْكَةٍ وَهِيَ جَمْعُ شَجَرٍ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِظْلَالُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ كَالطَّوْدِ كَالْجَبَلِ وَقَالَ غَيْرُهُ لَشِرْذِمَةٌ الشِّرْذِمَةُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي السَّاجِدِينَ الْمُصَلِّينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ كَأَنَّكُمْ الرِّيعُ الْأَيْفَاعُ مِنْ الْأَرْضِ وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وَأَرْيَاعٌ وَاحِدُهُ رِيعَةٌ مَصَانِعَ كُلُّ بِنَاءٍ فَهُوَ مَصْنَعَةٌ فَرِهِينَ مَرِحِينَ فَارِهِينَ بِمَعْنَاهُ وَيُقَالُ فَارِهِينَ حَاذِقِينَ تَعْثَوْا هُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا الْجِبِلَّةَ الْخَلْقُ جُبِلَ خُلِقَ وَمِنْهُ جُبُلًا وَجِبِلًا وَجُبْلًا يَعْنِي الْخَلْقَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ

الشرح‏:‏

‏(‏سورة الشعراء - بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ ثبتت البسملة لأبي ذر مؤخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد تعبثون‏:‏ تبنون‏)‏ وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه في قوله‏:‏ ‏(‏أتبنون بكل ريع‏)‏ قال بكل فج‏.‏

‏(‏آية تعبثون‏)‏ بنيانا، وقيل‏:‏ كانوا يهتدون في الأسفار بالنجوم، ثم اتخذوا أعلاما في أماكن مرتفعة ليهتدوا بها، وكانوا في غنية عنها بالنجوم، فاتخذوا البنيان عبثا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هضيم‏:‏ يتفتت إذا مس‏)‏ وصله الفريابي بلفظ ‏"‏ يتهشم هشيما ‏"‏ وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد ‏"‏ الطلعة إذا مسستها تناثرت ‏"‏ ومن طريق عكرمة قال‏:‏ ‏"‏ الهضيم الرطب اللين وقيل المذنب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسحرين‏:‏ مسحورين‏)‏ وصله الفريابي في قوله‏:‏ ‏(‏إنما أنت من المسحرين‏)‏ أي من المسحورين وقال أبو عبيدة‏:‏ كل من أكل فهو مسحر، وذلك أن له سحرا يفري ما أكل فيه انتهى‏.‏

والسحر بمهملتين بفتح ثم سكون‏:‏ الرئة‏.‏

وقال الفراء‏:‏ المعنى أنك تأكل الطعام والشراب وتسحر به فأنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في الساجدين المصلين‏)‏ وصله الفريابي كذلك، والمراد أنه كان يرى من خلفه في الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الليكة والأيكة جمع أيكة وهي جمع الشجر‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره‏:‏ جمع شجر، وللبعض‏:‏ جماعة الشجر‏.‏

وقد تقدم في قصة شعيب من أحاديث الأنبياء اللفظ الأول مع شرحه، والكلام الأول من قول مجاهد، ومن قوله‏:‏ جمع أيكة إلخ هو من كلام أبي عبيدة، ووقع فيه سهو فإن الليكة والأيكة بمعنى واحد عند الأكثر والمسهل الهمزة فقط، وقيل‏:‏ ليكة اسم القرية والأيكة الغيضة وهي الشجر الملتف، وأما قوله‏:‏ جمع شجر يقال‏:‏ جمعها ليك وهو الشجر الملتف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوم الظلة إظلال العذاب إياهم‏)‏ وصله الفريابي، وقد تقدم أيضا في أحاديث الأنبياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏موزون معلوم‏)‏ كذا لهم‏.‏

ووقع في رواية أبي ذر ‏"‏ قال ابن عباس‏:‏ لعلكم تخلدون كأنكم‏.‏

ليكة الأيكة وهي الغيضة‏.‏

موزون معلوم ‏"‏ فأما قوله‏:‏ ‏"‏ لعلكم‏.‏

فوصله ابن أبي طلحة عنه به، وحكى البغوي في تفسيره عن الواحدي قال‏:‏ ‏"‏ كل ما في القرآن لعل فهو للتعليل، إلا هذا الحرف فإنه للتشبيه ‏"‏ كذا قال‏:‏ وفي الحصر نظر لأنه قد قيل مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏(‏لعلك باخع نفسك‏)‏ وقد قرأ أبي بن كعب ‏"‏ كأنكم تخلدون‏.‏

وقرأ ابن مسعود ‏"‏ كي تخلدوا ‏"‏ وكأن المراد أن ذلك بزعمهم لأنهم كانوا يستوثقون من البناء ظنا منهم أنها تحصنهم من أمر الله، فكأنهم صنعوا الحجر صنيع من يعتقد أنه يخلد، وأما قوله‏:‏ ‏"‏ ليكة ‏"‏ فتقدم بيانه في أحاديث الأنبياء، ووصله ابن أبي حاتم بهذا اللفظ أيضا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏ موزون ‏"‏ فمحله في سورة الحجر، ووقع ذكره هنا غلطا، وكأنه انتقل من بعض من نسخ الكتاب من محله، وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا كذلك، ووصله الفريابي بالإسناد المذكور عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وأنبتنا فيها من كل شيء موزون‏)‏ قال‏:‏ بقدر مقدور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كالطود كالجبل‏)‏ وقع هذا لأبي ذر منسوبا إلى ابن عباس، ولغيره منسوبا إلى مجاهد، والأول أظهر‏.‏

ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وزاد ‏"‏ على نشز من الأرض ‏"‏ ووصله الفريابي من طريق مجاهد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره لشرذمة‏:‏ الشرذمة طائفة قليلة‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ذكر ذلك فيما نسب إلى مجاهد والأول أولى، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن هؤلاء لشرذمة قليلون‏)‏ أي طائفة قليلة، وذهب إلى القوم فقال‏:‏ قليلون، والذي أورده الفريابي وغيره عن مجاهد في هذا أنه قال في قوله‏:‏ ‏(‏إن هؤلاء لشرذمة قليلون‏)‏ قال‏:‏ هم يومئذ ستمائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن بني إسرائيل الذين قطع بهم موسى البحر كانوا ستمائة ألف مقاتل بني عشرين سنة فصاعدا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال‏:‏ كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا‏.‏

ومن طريق ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الريع الأيفاع من الأرض وجمعه ريعة وأرياع، واحده ريعة‏)‏ كذا فيه، وريعة الأول بفتح التحتانية والثاني بسكونها، وعند جماعة من المفسرين ريع واحد جمعه أرياع، وريعة بالتحريك وريع أيضا واحده ريعة بالسكون كعهن وعهنة‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏أتبنون بكل ريع‏)‏ الريع الارتفاع من الأرض والجمع أرياع وريعة، والريعة واحده أرياع‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏بكل ريع‏)‏ أي بكل طريق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مصانع كل بناء فهو مصنعة‏)‏ هو قول أبي عبيدة وزاد‏:‏ بفتح النون وبضمها‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ المصانع القصور والحصون‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية‏.‏

وقال سفيان‏:‏ ما يتخذ فيه الماء‏.‏

ولابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ المصانع القصور المشيدة‏.‏

ومن وجه آخر قال‏:‏ المصانع بروج الحمام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرهين مرحين‏)‏ كذا لهم، ولأبي ذر ‏"‏ فرحين ‏"‏ بحاء مهملة، والأول أصح وصوبه بعضهم لقرب مخرج الحاء من الهاء، وليس بشيء‏.‏

قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏بيوتا فرهين‏)‏ أي مرحين‏.‏

وله تفسير آخر في الذي بعده، وسيأتي تفسير الفرحين بالمرحين في سورة القصص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فارهين بمعناه، ويقال‏:‏ فارهين حاذقين‏)‏ هو كلام أبي عبيدة أيضا وأنشد على المعنى الأول‏:‏ لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ولن تراني بخير فاره الليث والليث بكسر اللام بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة‏:‏ العنق‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والكلبي في قوله‏:‏ ‏(‏فرهين‏)‏ قال‏:‏ معجبين بصنيعكم‏.‏

ولابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال‏:‏ آمنين‏.‏

ومن طريق مجاهد قال‏:‏ شرهين‏.‏

ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن عبد الله بن شداد قال أحدهما‏:‏ حاذقين‏.‏

وقال الآخر‏:‏ جبارين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تعثوا هو أشد الفساد، وعاث يعيث عيثا‏)‏ مراده أن اللفظين بمعنى واحد، ولم يرد أن تعثوا مشتق من العيث، وقد قال أبو عبيده في قوله‏:‏ ‏(‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏)‏ هو من عثيت تعثي، وهو أشد مبالغة من عثت تعيث‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة ‏(‏ولا تعثوا‏)‏ أي لا تسيروا ‏(‏في الأرض مفسدين‏)‏ قوله‏:‏ ‏(‏الجبلة الخلق، جبل خلق ومنه جبلا وجبلا وجبلا يعني الخلق قاله ابن عباس‏)‏ كذا لأبي ذر وليس عند غيره ‏"‏ قال ابن عباس ‏"‏ وهو أولى فإن هذا كله كلام أبي عبيدة، قال في قوله‏:‏ ‏(‏والجبلة الأولين‏)‏ أي الخلق، هو من جبل على كذا أي تخلق‏.‏

وفي القرآن ‏(‏ولقد أضل منكم جبلا‏)‏ مثقل وغير مثقل ومعناه الخلق انتهى‏.‏

وقوله مثقل وغير مثقل لم يبين كيفيتهما، وفيهما قراءات‏:‏ ففي المشهور بكسرتين وتشديد اللام لنافع وعاصم، وبضمة ثم سكون لأبي عمرو وابن عامر، وبكسرتين واللام خفيفة للأعمش، وبضمتين واللام خفيفة للباقين، وفي الشواذ بضمتين ثم تشديد، وبكسرة ثم سكون، وبكسرة ثم فتحة مخففة، وفيها قراءات أخرى‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله‏:‏ ‏(‏والجبلة الأولين‏)‏ قال‏:‏ خلق الأولين ومن طريق مجاهد قال‏:‏ ‏(‏الجبلة‏)‏ الخلق، ولابن أبي حاتم من طريق ابن أبي عمر عن سفيان مثل قول ابن عباس، ثم قرأ ‏(‏ولقد أضل منكم جبلا كثيرا‏)‏ ‏.‏

*3*باب وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ الْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ولا تحزني يوم يبعثون‏)‏ سقط ‏"‏ باب ‏"‏ لغير أبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم بن طهمان إلخ‏)‏ وصله النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان وساق الحديث بتمامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد المقبري عن أبي هريرة‏)‏ كذا قال ابن أبي أويس، وأورد البخاري هذه الطريق معتمدا عليها وأشار إلى الطريق الأخرى التي زيد فيها بين سعيد وأبي هريرة رجل فذكرها معلقة، وسعيد قد سمع من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، فلعل هذا مما سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة، أو سمعه من أبي هريرة مختصرا ومن أبيه عنه تاما، أو سمعه من أبي هريرة ثم ثبته فيه أبوه، وكل ذلك لا يقدح في صحة الحديث، وقد وجد للحديث أصل عن أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وشاهده عندهما أيضا من حديث أبي سعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة وعليه الغيرة والقترة‏.‏

والغيرة هي القترة‏)‏ كذا أورده مختصرا، ولفظ النسائي ‏"‏ وعليه الغيرة والقترة، فقال له‏:‏ قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال‏:‏ لكن لا أعصيك اليوم ‏"‏ الحديث، فعرف من هذا أن قوله‏:‏ والغيرة هي القترة من كلام المصنف، وأخذه من كلام أبي عبيدة‏.‏

وأنه قال في تفسير سورة يونس‏:‏ ‏(‏ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة‏)‏ القتر الغبار، وأنشد لذلك شاهدين‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وعلى هذا فقوله في سورة عبس‏:‏ ‏(‏غيرة ترهقها قترة‏)‏ تأكيد لفظي، كأنه قال‏:‏ غيرة فوقها غبرة‏.‏

وقال غير هؤلاء‏:‏ القترة ما يغشى الوجه من الكرب، والغيرة ما يعلوه من الغبار، وأحدهما حسي والآخر معنوي‏.‏

وقيل‏:‏ القترة شدة الغيرة بحيث يسود الوجه‏.‏

وقيل‏:‏ القترة سواد الدخان فاستعير هنا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد‏.‏

قوله في الطريق الموصولة ‏(‏يلقى إبراهيم أباه فيقول‏:‏ يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏)‏ هكذا أورده هنا مختصرا، وساقه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء تاما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يلقى إبراهيم أباه آزر‏)‏ هذا موافق لظاهر القرآن في تسمية والد إبراهيم، وقد سبقت نسبته في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء‏.‏

وحكى الطبري من طريق ضعيفة عن مجاهد أن آزر اسم الصنم وهو شاذ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعلى وجه آزر قترة وغبرة‏)‏ هذا موافق لظاهر القرآن ‏(‏وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة‏)‏ أي يغشاها قترة، فالذي يظهر أن الغبرة الغبار من التراب، والقترة السواد الكائن عن الكآبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تعصني‏؟‏ فيقول أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك‏)‏ في رواية إبراهيم بن طهمان ‏"‏ فقال له قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال‏:‏ لكني لا أعصيك واحدة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد‏)‏ وصف نفسه بالأبعد على طريق الفرض إذا لم تقبل شفاعته في أبيه، وقيل‏:‏ الأبعد صفة أبيه أي أنه شديد البعد من رحمة الله لأن الفاسق بعيد منها فالكافر أبعد، وقيل‏:‏ الأبعد بمعنى البعيد والمراد الهالك، ويؤيد الأول أن في رواية إبراهيم بن طهمان ‏"‏ وإن أخزيت أبي فقد أخزيت الأبعد ‏"‏ وفي رواية أيوب ‏"‏ يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول له‏:‏ أي ابن كنت لك‏؟‏ فيقول‏:‏ خير ابن، فيقول‏:‏ هل أنت مطيعي اليوم‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏

فيقول خذ بارزتي‏.‏

فيأخذ بارزته‏.‏

ثم ينطلق حتى يأتي ربه وهو يعرض الخلق، فيقول الله‏:‏ يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول‏:‏ أي رب أبي معي، فإنك وعدتني أن لا تخزني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول الله‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏)‏ في حديث أبي سعيد ‏"‏ فينادى‏:‏ إن الجنة لا يدخلها مشرك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك‏؟‏ انظر، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار‏)‏ في رواية إبراهيم بن طهمان ‏"‏ فيؤخذ منه فيقول‏:‏ يا إبراهيم أين أبوك‏؟‏ قال‏:‏ أنت أخذته مني، قال‏:‏ انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه‏"‏‏.‏

وفي رواية أيوب ‏"‏ فيمسخ الله أباه ضبعا ‏"‏ فيأخذ بأنفه فيقول‏:‏ يا عبدي أبوك هو، فيقول‏:‏ لا وعزتك ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان ‏"‏ زاد ابن المنذر من هذا الوجه ‏"‏ فإذا رآه كذا تبرأ منه قال‏:‏ لست أبي ‏"‏ والذيخ بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة ذكر الصباع، وقيل لا يقال له ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر‏.‏

والضبعان لغة في الضبع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ متلطخ ‏"‏ قال بعض الشراح‏:‏ أي في رجيع أو دم أو طين‏.‏

وقد عينت الرواية الأخرى المراد وأنه الاحتمال الأول حيث قال‏:‏ فيتمرغ في نتنه‏.‏

قيل‏:‏ الحكمة وفي مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون فيه غضاضة على إبراهيم‏.‏

وقيل‏:‏ الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر، لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات أصر على الكفر حتى مات‏.‏

واقتصر في مسخه على هذا الحيوان لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى ما دونه كالكلب والخنزير وإلى ما فوقه كالأسد مثلا، ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له وخفض الجناح فأبى واستكبر وأصر على الكفر فعومل بصفة الذل يوم القيامة، ولأن للضبع عوجا فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن بل استمر على عوجه في الدين‏.‏

وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحته فقال بعد أن أخرجه‏:‏ هذا خبر في صحته نظر من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد؛ فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك‏؟‏ وقال غيره‏:‏ هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏)‏ انتهى‏.‏

والجواب عن ذلك أن أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه، فقيل‏:‏ كان ذلك في الحياة الدنيا لما مات آزر مشركا، وهذا أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده صحيح‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏"‏ فلما مات لم يستغفر له ‏"‏ ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه قال‏:‏ ‏"‏ استغفر له ما كان حيا فلما مات أمسك ‏"‏ وأورده أيضا من طريق مجاهد وقتادة وعمرو بن دينار نحو ذلك، وقيل إنما تبرأ منه يوم القيامة لما يئس منه حين مسخ على ما صرح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها، وهذا الذي أخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان سمعت سعيد بن جبير يقول‏:‏ إن إبراهيم يقول يوم القيامة‏:‏ رب والدي، رب والدي‏.‏

فإذا كان الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه‏.‏

ومن طريق عبيد بن عمير قال‏:‏ يقول إبراهيم لأبيه‏:‏ إني كنت آمرك في الدنيا وتعصيني، ولست تاركك اليوم فخذ بحقوي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعا، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرأ منه‏.‏

ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرءا أبديا وقيل‏:‏ إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر بجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك، وتكون تبرئته منه حينئذ بعد الحال التي وقعت في هذا الحديث‏.‏

قال الكرماني‏:‏ فإن قلت‏:‏ إذا أدخل الله أباه النار فقد أخزاه لقوله‏:‏ ‏(‏إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏)‏ وخزي الوالد خزي الولد فيلزم الخلف في الوعد وهو محال، ولو أنه يدخل النار لزم الخلف في الوعيد وهو المراد بقوله‏:‏ ‏(‏إن الله حرم الجنة على الكافرين‏)‏ والجواب أنه إذا مسخ في صورة ضبع وألقي في النار لم تبق الصورة التي هي سبب الخزي، فهو عمل بالوعد والوعيد‏.‏

وجواب آخر‏:‏ وهو أن الوعد كان مشروطا بالإيمان، وإنما استغفر له وفاء بما وعده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏.‏

قلت‏:‏ وما قدمته يؤدي المعنى المراد مع السلامة مما في اللفظ من الشناعة، والله أعلم‏.‏

*3*باب وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ أَلِنْ جَانِبَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك‏:‏ ألن جانبك‏)‏ هو قول أبي عبيدة وزاد‏:‏ ‏"‏ وكلامك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين‏)‏ هذا من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيلي لأن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، وابن عباس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلا‏.‏

ويؤيد الثاني نداء فاطمة فإنه يشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تخاطب بالأحكام، وقد قدمت في ‏"‏ باب من انتسب إلى آبائه ‏"‏ في أوائل السيرة النبوية احتمال أن تكون هذه القصة وقعت مرتين، لكن الأصل عدم تكرار النزول، وقد صرح في هذه الرواية بأن ذلك وقع حين نزلت‏.‏

نعم وقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلت ‏(‏وأنذر عشيرتك‏)‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم ونساءه وأهله فقال‏:‏ يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاك رقابكم يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة ‏"‏ فذكر حديثا طويلا، فهذا إن ثبت دل على تعدد القصة، لأن القصة الأولى وقعت بمكة لتصريحه في حديث الباب أنه صعد الصفا، ولم تكن عائشة وحفصة وأم سلمة عنده ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكون متأخرة عن الأولى فيمكن أن يحضرها أبو هريرة وابن عباس أيضا، ويحمل قوله‏:‏ ‏"‏ لما نزلت‏.‏

جمع ‏"‏ أي بعد ذلك، لا أن الجمع وقع على الفور، ولعله كان نزل أولا ‏(‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏)‏ فجمع قريشا فعم ثم خص كما سيأتي، ثم نزل ثانيا‏:‏ ‏"‏ ورهطك منهم المخلصين ‏"‏ فخص بذلك بني هاشم ونساءه والله أعلم‏.‏

وفي هذه الزيادة تعقب على النووي حيث قال في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ إن البخاري لم يخرجها أعني‏.‏

‏"‏ ورهطك منهم المخلصين ‏"‏ اعتمادا على ما في هذه السورة، وأغفل كونها موجودة عند البخاري في سورة تبت‏.‏

فوله‏:‏ ‏(‏لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين‏)‏ زاد في تفسير تبت من رواية أبي أسامة عن الأعمش بهذا السند ‏"‏ ورهطك منهم المخلصين ‏"‏ وهذه الزيادة وصلها الطبري من وجه آخر عن عمرو بن مرة أنه كان يقرأها كذلك، قال القرطبي لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها‏.‏

ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن، والجواب عن ذلك أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، ف قوله‏:‏ ‏(‏وأنذر عشيرتك‏)‏ عام فيمن آمن منهم ومن لم يؤمن؛ ثم عطف عليه الرهط المخلصين تنويها بهم وتأكيدا، واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث ‏"‏ يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ‏"‏ أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع‏.‏

وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته، حتى يدخل قوما الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله‏:‏ ‏"‏ لا أغني شيئا ‏"‏ إضمار إلا إن أذن الله لي بالشفاعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل ينادي‏:‏ يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش‏)‏ في حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ يا معشر قريش، أو كلمة نحوها ‏"‏ ووقع عند البلاذري من وجه آخر عن ابن عباس أبين من هذا ولفظه ‏"‏ فقال‏:‏ يا بني فهر، فاجتمعوا‏.‏

ثم قال‏:‏ يا بني غالب، فرجع بنو محارب والحارث ابنا فهر‏.‏

فقال‏:‏ يا بني لؤي، فرجع بنو الأدرم بن غالب‏.‏

فقال‏:‏ يا آل كعب، فرجع بنو عدي وسهم وجمح فقال‏:‏ يا آل كلاب، فرجع بنو مخزوم وتيم‏.‏

فقال‏:‏ يا آل قصي، فرجع بنو زهرة‏.‏

فقال‏:‏ يا آل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار وعبد العزى‏.‏

فقال له أبو لهب‏:‏ هؤلاء بنو عبد مناف عندك ‏"‏ وعند الواقدي أنه قصر الدعوة على بني هاشم والمطلب، وهم يومئذ خمسة وأربعون رجلا‏.‏

وفي حديث علي عند ابن إسحاق والطبري والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ أنهم كانوا حينئذ أربعون يزيدون رجلا أو ينقصون وفيه عمومته أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب‏.‏

ولابن أبي حاتم من وجه آخر عنه أنهم يومئذ أربعون غير رجل أو أربعون ورجل‏.‏

وفي حديث علي من الزيادة أنه صنع لهم شاة على ثريد وقعب لبن، وأن الجميع أكلوا من ذلك وشربوا وفضلت فضلة، وقد كان الواحد منهم يأتي على جميع ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم إلخ‏)‏ أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب‏.‏

ووقع في حديث علي ‏"‏ ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنتم مصدقي‏)‏ بتشديد التحتانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ فإني نذير لكم‏)‏ أي منذر‏.‏

ووقع في حديث قبيصة بن محارب وزهير بن عمرو عند مسلم وأحمد ‏"‏ فجعل ينادي‏:‏ إنما أنا نذير، وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فجعل يهتف‏:‏ يا صباحاه ‏"‏ يعني ينذر قومه‏.‏

وفي رواية موسى بن وردان عن أبي هريرة عند أحمد قال‏:‏ ‏"‏ أنا النذير، والساعة الموعد ‏"‏ وعند الطبري من مرسل قسامة بن زهير قال‏:‏ ‏"‏ بلغني أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه ورفع صوته وقال‏:‏ يا صباحاه ‏"‏ ووصله مرة أخرى عن قسامة عن أبي موسى الأشعري، وأخرجه الترمذي موصولا أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب‏)‏ في رواية أبي أسامة ‏"‏ تبت يدا أبي لهب وقد تب ‏"‏ وزاد ‏"‏ هكذا قرأها الأعمش يومئذ ‏"‏ انتهى‏.‏

وليست هذه القراءة فيما نقل الفراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا لا قارئا، ويؤيده قوله في هذا السياق‏:‏ ‏"‏ يومئذ ‏"‏ فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ

الشرح‏:‏

قوله في حديث أبي هريرة ‏(‏اشتروا أنفسكم من الله‏)‏ أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال‏:‏ أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏)‏ فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ووفى ما عليه من الثمن، وبالله التوفيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا عباس إلخ‏)‏ في رواية موسى بن طلحة عن أبي هريرة عند مسلم وأحمد ‏"‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا فعم وخص فقال‏:‏ يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏

يا معشر بني كعب، يا معشر بني هاشم كذلك، يا معشر بني عبد المطلب كذلك ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ بنصب عمة، ويجوز في صفية الرفع والنصب وكذا القول في قوله يا فاطمة بنت محمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه أصبغ عن ابن وهب إلخ‏)‏ سبق التنبيه عليه في الوصايا، وفي الحديث أن الأقرب للرجل من كان يجمعه هو وجد أعلى، وكل من اجتمع معه في جد دون ذلك كان أقرب إليه، وقد تقدم البحث في المراد بالأقربين والأقارب في الوصايا، والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم‏.‏

وفيه جواز تكنية الكافر، وفيه خلاف بين العلماء، كذا قيل‏.‏

وفي إطلاقه نظر، لأن الذي منع من ذلك إنما منع منه حيث يكون السياق يشعر بتعظيمه، بخلاف ما إذا كان ذلك لشهرته بها دون غيرها كما في هذا أو للإشارة إلى ما يؤول أمره إليه من لهب جهنم‏.‏

ويحتمل أن يكون ترك ذكره باسمه لقبح اسمه لأن اسمه كان عبد العزى، ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم‏.‏