فصل: باب قَوْلِهِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ

إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ الْعَوْنُ الْمُعِينُ رَفَدْتُهُ أَعَنْتُهُ تَرْكَنُوا تَمِيلُوا فَلَوْلَا كَانَ فَهَلَّا كَانَ أُتْرِفُوا أُهْلِكُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏زفير وشهيق إلخ‏)‏ تقدم في بدء الخلق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنبأنا بريد بن أبي بردة عن أبيه‏)‏ كذا وقع لأبي ذر ووقع لغيره ‏"‏ عن أبي بردة ‏"‏ بدل عن أبيه وهو أصوب لأن بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة فأبو بردة جده لا أبوه، لكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم‏)‏ أي بمهملة، ووقع في رواية الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية ‏"‏ إن الله يملي ‏"‏ وربما قال ‏"‏ يمهل ‏"‏ ورواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن يزيد قال ‏"‏ يملي ‏"‏ ولم يشك‏.‏

قلت‏:‏ قد رواه مسلم وابن ماجه والنسائي من طرق عن أبي معاوية ‏"‏ يملي ‏"‏ ولم يشك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏ بضم أوله من الرباعي أي لم يخلصه، أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به، وقيل معنى لم يفلته لم يؤخره، وفيه نظر لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى عزه، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، فالأولى حمله على ما قدمته‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَزُلَفًا سَاعَاتٍ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ الزُّلَفُ مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنْ الْقُرْبَى ازْدَلَفُوا اجْتَمَعُوا أَزْلَفْنَا جَمَعْنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وأكمل غيره الآية‏.‏

واختلف في المراد بطرفي النهار فقيل الصبح والمغرب، وقيل الصبح والعصر، وعن مالك وابن حبيب الصبح طرف والظهر والعصر طرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزلفا ساعات بعد ساعات، ومنه سميت المزدلفة، الزلف منزلة بعد منزلة وأما زلفى فمصدر من القربى، ازدلفوا اجتمعوا، أزلفنا جمعنا‏)‏ انتهى‏.‏

قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏زلقا من الليل‏)‏ ‏:‏ ساعات واحدتها زلفة أي ساعة ومنزلة وقربة، ومنها سميت المزدلفة، قال العجاج‏:‏ ناج طواه مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا وقال في قوله تعالى ‏(‏وأزلفت الجنة للمتقين‏)‏ أي قربت وأدنيت، وله عندي زلفى أي قربى‏.‏

وفي قوله ‏(‏وأزلفنا ثم الآخرين‏)‏ أي جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، واختلف في المراد بالزلف فعن مالك المغرب والعشاء، واستنبط منه بعض الحنفية وجوب الوتر لأن زلفا جمع أقلة ثلاثة فيضاف إلى المغرب والعشاء الوتر، ولا يخفى ما فيه‏.‏

وفي رواية معمر المقدم ذكرها قال قتادة‏:‏ طرفي النهار الصبح والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي‏)‏ كذا وقع فيه، وأخرجه الطبراني عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن سلام بن أبي مطيع عن سليمان التيمي، وكان لمسدد فيه شيخان قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي عثمان‏)‏ هو النهدي، في رواية للإسماعيلي وأبي نعيم ‏"‏ حدثنا أبو عثمان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له‏)‏ في رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عند مسلم والإسماعيلي فذكر أنه أصاب من امرأة قبلة أو مسا بيد أو شيئا، كأنه يسأل عن كفارة ذلك‏.‏

وعند عبد الرزاق عن معمر عن سليمان التيمي بإسناده ‏"‏ ضرب رجل على كفل امرأة ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي رواية مسلم وأصحاب السنن من طريق سماك بن حرب عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، فافعل بي ما شئت ‏"‏ الحديث‏.‏

وللطبري من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي قال ‏"‏ جاء فلان بن معتب الأنصاري فقال‏:‏ يا رسول الله دخلت على امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أجامعها ‏"‏ الحديث، وأخرجه ابن أبي خيثمة لكن قال ‏"‏ إن رجلا من الأنصار يقال له معتب ‏"‏ وقد جاء أن اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة الأنصاري أخرجه الترمذي والنسائي والبزار من طريق موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو أنه أتته امرأة وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقالت له‏:‏ يعني تمرا بدرهم، قال فقلت لها وأعجبتني إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فرغ، فخرج فلقي أبا بكر فأخبره، فقال تب ولا تعد‏.‏

ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفي روايته أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فنزلت‏.‏

وفي رواية ابن مردويه من طريق أبي بريدة عن أبيه ‏"‏ جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت حسناء جميلة فلما نظر إليها أعجبته ‏"‏ فذكر نحوه، ولم يسم الرجل ولا المرأة ولا زوجها، وذكر بعض الشراح في اسم هذا الرجل بيهان التمار، وقيل عمرو بن غزية وقيل أبو عمرو زيد بن عمرو بن غزية وقيل عامر بن قيس وقيل عباد‏.‏

قلت‏:‏ وقصة نبهان التمار ذكرها عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه الثعلبي وغيره من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ‏"‏ أن نبهانا التمار أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرا فضرب على عجيزتها ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إياك أن تكون امرأة غاز في سبيل الله، فذهب يبكي ويصوم ويقوم، فأنزل الله تعالى ‏(‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله‏)‏ الآية فأخبره، فحمد الله وقال‏:‏ يا رسول الله هذه توبتي قبلت، فكيف لي بأن يتقبل شكري‏؟‏ فنزلت ‏(‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏)‏ الآية‏"‏، قلت‏:‏ وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياقين من المغايرة‏.‏

وأما قصة ابن غزية فأخرجها ابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏)‏ قال‏:‏ نزلت في عمرو بن غزية وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته‏.‏

الحديث‏.‏

والكلبي ضعيف‏.‏

فإن ثبت حمل أيضا على التعدد‏.‏

وظن الزمخشري أن عمرو بن غزية اسم أبي اليسر فجزم به فوهم‏.‏

وأما ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وغيرهما من حديث أبي أمامة قال ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه ثلاثا فأقيمت الصلاة فدعا الرجل فقال‏:‏ أرأيت حين خرجت من بيتك ألست قد توضأت فأحسنت الوضوء‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ثم شهدت الصلاة معنا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإن الله قد غفر لك‏.‏

وتلا هذه الآية‏.‏

فهي قصة أخرى ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حد، فأطلق على ما فعل حدا، والله أعلم‏.‏

وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما قصة عامر بن قيس فذكرها مقاتل بن سليمان في تفسيره‏.‏

وأما قصة عباد فحكاها القرطبي ولم يعزها، وعباد اسم جد أبي اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء‏.‏

وأقوى الجميع أنه أبو اليسر والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية عبد الرزاق أنه أتى أبا بكر وعمر أيضا‏.‏

وقال فيها ‏"‏ فكل من سأله عن كفارة ذلك قال‏:‏ أمعزبة هي‏؟‏ قال نعم‏.‏

قال‏:‏ لا أدري‏.‏

حتى أنزل‏.‏

فذكر بقية الحديث‏.‏

وهذه الزيادة وقعت في حديث يوسف بن مهران عن ابن عباس عند أحمد بمعناه دون قوله لا أدري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الرجل ألي هذه‏)‏ ‏؟‏ أي الآية يعني خاصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي‏.‏

وظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك‏.‏

ولأحمد والطبراني من حديث ابن عباس ‏"‏ قال يا رسول الله ألي خاصة أم للناس عامة‏؟‏ فضرب عمر صدره وقال‏:‏ لا ولا نعمة عين، بل للناس عامة‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صدق عمر ‏"‏ وفي حديث أبي اليسر ‏"‏ فقال إنسان‏:‏ يا رسول الله له خاصة ‏"‏ وفي رواية إبراهيم النخعي عند مسلم ‏"‏ فقال معاذ يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة ‏"‏ وللدار قطني مثله من حديث معاذ نفسه، ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك‏.‏

وقوله ‏"‏ألي ‏"‏ بفتح الهمزة استفهاما، وقوله ‏"‏هذا ‏"‏ مبتدأ تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال لمن عمل بها من أمتي‏)‏ تقدم في الصلاة من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ قال لجميع أمتي كلهم ‏"‏ وتمسك بظاهر قوله تعالى ‏(‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏)‏ المرجئة وقالوا‏:‏ إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح ‏"‏ إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر ‏"‏ فقال طائفة‏:‏ إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا منها وتحط الصغائر‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أن الحسنات تكون سببا في ترك السيئات كقوله تعالى ‏(‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏)‏ لا أنها تكفر شيئا حقيقة، وهذا قول بعض المعتزلة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك‏.‏

قال‏:‏ ويرد الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى التوبة‏.‏

واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزيز عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما‏.‏

واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حد على من وجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد‏.‏

*3*سورة يُوسُفَ

وَقَالَ فُضَيْلٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتَّكَأً الْأُتْرُجُّ قَالَ فُضَيْلٌ الْأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ وَقَالَ قَتَادَةُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ صُوَاعَ الْمَلِكِ مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الْأَعَاجِمُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُونِ وَقَالَ غَيْرُهُ غَيَابَةٌ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ وَالْجُبُّ الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمُصَدِّقٍ أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ يُقَالُ بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهَا شَدٌّ وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الْأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأُتْرُجُّ فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةَ التَّاءِ وَإِنَّمَا الْمُتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكَاءُ وَابْنُ الْمَتْكَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أُتْرُجٌّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَإِ شَغَفَهَا يُقَالُ بَلَغَ شِغَافَهَا وَهُوَ غِلَافُ قَلْبِهَا وَأَمَّا شَعَفَهَا فَمِنْ الْمَشْعُوفِ أَصْبُ أَمِيلُ صَبَا مَالَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ وَالضِّغْثُ مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ وَمِنْهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا لَا مِنْ قَوْلِهِ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَاحِدُهَا ضِغْثٌ نَمِيرُ مِنْ الْمِيرَةِ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ أَوَى إِلَيْهِ ضَمَّ إِلَيْهِ السِّقَايَةُ مِكْيَالٌ تَفْتَأُ لَا تَزَالُ حَرَضًا مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ تَحَسَّسُوا تَخَبَّرُوا مُزْجَاةٍ قَلِيلَةٍ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ اسْتَيْأَسُوا يَئِسُوا لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ خَلَصُوا نَجِيًّا اعْتَزَلُوا نَجِيًّا وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الْوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة يوسف - بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ سقطت البسملة لغير أبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال فضيل عن حصين عن مجاهد متكأ الأترج بالحبشية متكا‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره‏:‏ متكا الأترج‏.‏

قال فضيل‏:‏ الأترج بالحبشية متكا‏.‏

وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن يمان عن فضيل بن عياض‏.‏

وأما روايته عن حصين فرويناه في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عنه عن فضيل عن حصين عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏وأعتدت لهن متكأ‏)‏ قال‏:‏ أترج‏.‏

ورويناه في تفسير ابن مردويه من هذا الوجه فزاد فيه عن مجاهد عن ابن عباس، ومن طريقه أخرجه الحافظ الضياء في المختارة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏وأعتدت لهن متكأ‏)‏ قال‏:‏ طعاما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عيينة‏:‏ عن رجل عن مجاهد متكا كل شيء قطع بالسكين‏)‏ هكذا رويناه في ‏"‏ تفسير ابن عيينة ‏"‏ رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه بهذا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد‏:‏ المتكأ بالتثقيل الطعام وبالتخفيف الأترج، والرواية الأولى عنه أعم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال بلغ أشده قبل أن يأخذ في النقصان‏.‏

ويقال بلغوا أشدهم‏.‏

وقال بعضهم واحدها شد‏.‏

والمتكا ما اتكأت عليه لشراب أو لحديث أو لطعام وأبطل الذي قال الأترج، وليس في كلام العرب الأترج، فلما احتج عليهم بأن المتكا من نمارق فروا إلى شر منه وقالوا إنما هو المتك ساكنة التاء، وإنما المتك طرف البظر ومن ذلك قيل لها متكاء وابن المتكاء، فإن كان ثم أترج فإنه بعد المتكأ‏)‏ قلت‏:‏ وقع هذا متراخيا عما قبله عند الأكثر، والصواب إيراده تلوه، فأما الكلام على الأشد فقال أبو عبيدة هو جمع لا واحد له من لفظه، وحكى الطبري أنه واحد لا نظير له في الآحاد‏.‏

وقال سيبويه واحده شدة، وكذا قال الكسائي لكن بلا هاء‏.‏

واختلف النقلة في قدر الأشد الذي بلغه يوسف فالأكثر أنه الحلم، وعن سعيد بن جبير ثمان عشرة وقيل سبع عشرة وقيل عشرون وقيل خمسة وعشرون وقيل ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين، وفي غيره قيل الأكثر أربعون وقيل ثلاثون وقيل ثلاثة وثلاثون وقيل خمسة وثلاثون وقيل ثمانية وأربعون وقيل ستون‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ الأظهر أنه أربعون لقوله تعالى ‏(‏فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما‏)‏ وكان النبي لا ينبأ حتى يبلغ أربعين، وتعقب بأن عيسى عليه السلام نبئ لدون أربعين ويحيى كذلك لقوله تعالى ‏(‏وآتيناه الحكم صبيا‏)‏ وسليمان لقوله تعالى ‏(‏ففهمناها سليمان‏)‏ إلى غير ذلك‏.‏

والحق أن المراد بالأشد بلوغ سن الحلم‏.‏

ففي حق يوسف عليه السلام ظاهر ولهذا جاء بعده ‏(‏وراودته التي هو في بيتها‏)‏ وفي حق موسى عليه السلام لعله بعد ذلك كبلوغ الأربعين ولهذا جاء بعده ‏(‏واستوى‏)‏ ووقع في قوله ‏(‏آتيناه حكما وعلما‏)‏ في الموضعين فدل على أن الأربعين ليست حدا لذلك‏.‏

وأما المتكأ فقال أبو عبيدة أعتدت أفعلت من العتاد ومعناه أعتدت لهن متكأ أي نمرقا يتكأ عليه، وزعم قوم أنه الترنج وهذا أبطل باطل في الأرض، ولكن عسى أن يكون مع المتكأ ترنج يأكلونه، ويقال ألقى له متكأ يجلس عليه انتهى‏.‏

وقوله ‏"‏ليس في كلام العرب الأترج ‏"‏ يريد أنه ليس في كلام العرب تفسير المتكأ بالأترج، قال صاحب ‏"‏ المطالع ‏"‏ وفي الأترج ثلاث لغات ثانيها بالنون وثالثها مثلها بحذف الهمزة وفي المفرد كذلك، وعند بعض المفسرين أعتدت لهن البطيخ والموز، وقيل كان مع الأترج عسل، وقيل كان للطعام المذكور بزماورد، لكن ما نفاه المؤلف رحمه الله تبعا لأبي عبيدة قد أثبته غيره‏.‏

قد روى عبد بن حميد من طريق عوف الأعرابي حديث ابن عباس أنه كان يقرأها متكا مخففة ويقال هو الأترج، وقد حكاها الفراء وتبعه الأخفش وأبو حنيفة الدينوري والقالي وابن فارس وغيرهم كصاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ و ‏"‏ الجامع ‏"‏ و ‏"‏ الصحاح‏"‏، وفي الجامع أيضا‏:‏ أهل عمان يسمون السوسن المتكأ، وقيل بضم أوله الأترج وبفتحه السوسن‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ المتكأ ما تبقيه الخاتنة بعد الختان من المرأة، والمتكاء التي لم تختن، وعن الأخفش المتكأ الأترج‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ متكا بضم أوله وسكون ثانيه وبالتنوين على المفعولية هو الذي فسره مجاهد وغيره بالأترج أو غيره وهي قراءة، وأما القراءة المشهورة فهو ما يتكأ عليه من وسادة وغيرها كما جرت به عادة الأكابر عند الضيافة‏.‏

وبهذا التقرير لا يكون بين النقلين تعارض‏.‏

وقد روى عبد بن حميد عن طريق منصور عن مجاهد قال‏:‏ من قرأها مثقلة قال الطعام، ومن قرأها مخففة قال الأترج، ثم لا مانع أن يكون المتكأ مشتركا بين الأترج وطرف البظر، والبظر بفتح الموحدة وسكون الظاء المشالة موضع الختان من المرأة، وقيل البظراء التي لا تحبس بولها‏.‏

قال الكرماني‏:‏ أراد البخاري أن المتكأ في قوله‏:‏ ‏(‏وأعتدت لهن متكأ‏)‏ اسم مفعول من الاتكاء، وليس هو متكأ بمعنى الأترج ولا بمعنى طرف البظر، فجاء فيها بعبارات معجرفة‏.‏

كذا قال فوقع في أشد مما أنكره فإنها إساءة على مثل هذا الإمام الذي لا يليق لمن يتصدى لشرح كلامه، وقد ذكر جماعة من أهل اللغة أن البظر في الأصل يطلق على ما له طرف من الجسد كالثدي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال قتادة ‏(‏لذو علم لما علمناه‏)‏ عامل بما علم‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عنه بهذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سعيد بن جبير ‏(‏صواع الملك‏)‏ مكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب الأعاجم به‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مثله، ورواه ابن منده في ‏"‏ غرائب شعبة ‏"‏ وابن مردويه من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏صواع الملك‏)‏ قال كان كهيئة المكوك من فضة يشربون فيه، وقد كان للعباس مثله في الجاهلية‏.‏

وكذا أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة وإسناده صحيح‏.‏

والمكوك بفتح الميم وكافين الأولى مضمومة ثقيلة بينهما واو ساكنة هو مكيال معروف لأهل العراق‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قراءة الجمهور ‏(‏صواع‏)‏ ، وعن أبي هريرة أنه قرأ ‏"‏ صاع الملك ‏"‏ عن أبي رجاء ‏"‏ وصوع الملك ‏"‏ بسكون الواو، وعن يحيى بن يعمر مثله لكن بغين معجمة حكاها الطبري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس ‏(‏تفندون‏)‏ تجهلون‏)‏ وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏لولا أن تفندون‏)‏ أي تسفهون، كذا قال أبو عبيدة وكذا أخرجه عبد الرزاق‏.‏

وأخرج أيضا عن معمر عن قتادة مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن أبي الهذيل أيضا أتم منه قال في قوله‏:‏ ‏(‏ولما فصلت العير‏)‏ قال لما خرجت العير هاجت ريح فأتت يعقوب بريح يوسف فقال ‏(‏إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون‏)‏ قال لولا أن تسفهون، قال فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام، وقوله ‏(‏تفندون‏)‏ مأخوذ من الفند محركا وهو الهرم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غيابة الجب كل شيء غيب عنك فهو غيابة، والجب الركية التي لم تطو‏)‏ كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه من كلام ابن عباس لعطفه عليه، وليس كذلك وإنما هو كلام أبي عبيدة كما هو سأذكره‏.‏

ووقع في رواية غير أبي ذر ‏"‏ وقال غيره غيابة إلخ ‏"‏ وهذا هو الصواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمؤمن لنا بمصدق‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏وما أنت بمؤمن لنا‏)‏ ‏:‏ أي بمصدق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شغفها حبا يقال بلغ شغفاها وهو غلاف قلبها، وأما شعفها يعني بالعين المهملة فمن الشعوف‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏قد شغفها حبا‏)‏ أي وصل الحب إلى شغاف قلبها وهو غلافه، قال ويقرأه قوم ‏"‏ شعفها ‏"‏ أي بالعين المهملة وهو من الشعوف انتهى‏.‏

والذي قرأها بالمهملة أبو رجاء والأعرج وعوف رواه الطبري، ورويت عن علي والجمهور بالمعجمة، يقال مشغوف بفلان إذا بلغ الحب أقصى المذاهب، وشعاف الجبال أعلاها، والشغاف بالمعجمة حبة القلب، وقيل علقة سوداء في صميمه‏.‏

وروى عبد بن حميد من طريق قرة عن الحسن قال‏:‏ الشغف - يعني بالمعجمة - أن يكون قذف في بطنها حبه، والشعف يعني بالمهملة أن يكون مشعوفا بها‏.‏

وحكى الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الشعف بالعين المهملة البغض وبالمعجمة الحب، وغلطه الطبري وقال‏:‏ إن الشعف بالعين المهملة بمعنى عموم الحب أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصب إليهن أميل إليهن حبا‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن‏)‏ أي أهواهن وأميل إليهن، قال الشاعر‏:‏ إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبى أي يمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أضغاث أحلام ما لا تأويل له، الضغث ملء اليد من حشيش وما أشبهه، ومنه ‏(‏وخذ بيدك ضغثا‏)‏ لا من قوله أضغاث أحلام واحدها ضغث‏)‏ كذا وقع لأبي ذر، وتوجيهه أنه أراد أن ضغثا في قوله تعالى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا‏)‏ بمعنى ملء الكف من الحشيش لا بمعنى ما لا تأويل له، ووقع عند أبي عبيدة في قوله تعالى ‏(‏قالوا أضغاث أحلام‏)‏ ‏:‏ واحدها ضغث بالكسر وهي ما لا تأويل له من الرؤيا، وأراه جماعات تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش فيقول ضغث أي ملء كف منه، وفي آية أخرى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به‏)‏ وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏أضغاث أحلام‏)‏ قال‏:‏ أخلاط أحلام، ولأبي يعلى من حديث ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏أضغاث أحلام‏)‏ قال‏:‏ هي الأحلام الكاذبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نمير من الميرة، ونزداد كيل بعير ما يحمل بعير‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏ونمير أهلنا‏)‏ ‏:‏ من مرت تمير ميرا وهي الميرة نأتيهم ونشتري لهم الطعام، و قوله‏:‏ ‏(‏كيل بعير‏)‏ أي حمل بعير يكال له ما حمل بعيره‏.‏

وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله‏:‏ ‏(‏كيل بعير‏)‏ أي كيل حمار‏.‏

وقال ابن خالويه في كتاب ‏"‏ ليس ‏"‏‏:‏ هذا حرف نادر، ذكر مقاتل عن الزبور البعير كل ما يحمل بالعبرانية، ويؤيد ذلك أن إخوة يوسف كانوا من أرض كنعان وليس بها إبل‏.‏

كذا قال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آوى إليه ضم‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏آوى إليه أخاه‏)‏ أي ضمه، آواه فهو يؤوى إليه إيواء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السقاية مكيال‏)‏ هي الإناء الذي كان يشرب به، قيل جعله يوسف عليه السلام مكيالا لئلا يكتالوا بغيره فيظلموا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏جعل السقاية‏)‏ قال إناء الملك الذي يشرب به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تفتأ لا تزال‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏تالله تفتأ تذكر يوسف‏)‏ أي لا تزال تذكره، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ‏(‏تفتأ‏)‏ أي لا تفتر عن حبه‏.‏

وقيل معنى ‏(‏تفتأ‏)‏ تزال فحذف حرف النفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحسسوا تخبروا‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه‏)‏ يقول تخيروا والتمسوا في المظان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مزجاة قليلة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏وجئنا ببضاعة مزجاة‏)‏ أي يسيرة قليلة، قيل فاسدة‏.‏

وروى عبد الرزاق عن قتادة ‏(‏مزجاة‏)‏ قال‏:‏ يسيرة، ولسعيد بن منصور عن عكرمة في قوله ‏(‏مزجاة‏)‏ قال‏:‏ قليلة‏.‏

واختلف في بضاعتهم فقيل‏:‏ كانت من صوف ونحوه، وقيل دراهم رديئة، وروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن ابن عباس وسئل عن قوله‏:‏ ‏(‏ببضاعة مزجاة‏)‏ قال‏:‏ رثة الحبل والغرارة والشن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غاشية من عذاب الله عامة مجللة‏)‏ بالجيم، وهو تأكيد لقوله عامة‏.‏

وقال أبو عبيدة ‏(‏غاشية من عذاب الله‏)‏ مجللة، وهي الجيم وتشديد اللام أي تعمهم، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله ‏(‏غاشية من عذاب الله‏)‏ أي وقيعة تغشاهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حرضا محرضا يذيبك الهم‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏حتى تكون حرضا‏)‏ ‏:‏ الحرض الذي أذابه الحزن أو الحب، وهو موضع محرض، قال الشاعر ‏"‏ إني امرؤ لج بي حزن فأحرضني ‏"‏ أي أذابني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استيأسوا يئسوا ‏(‏ولا تيأسوا من روح الله‏)‏ معناه الرجاء‏)‏ ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وسقط لغيرهما، وقد تقدم في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خلصوا نجيا أي اعتزلوا نجيا والجمع أنجية يتناجون الواحد نجي والاثنان والجمع نجي وأنجية‏)‏ ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، ووقع في رواية المستملي ‏"‏ اعترفوا ‏"‏ بدل اعتزلوا والصواب الأول، قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏خلصوا نجيا‏)‏ ‏:‏ أي اعتزلوا نجيا يتناجون، والنجي يقع لفظه على الواحد والجمع أيضا، وقد يجمع فيقال أنجية‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ

كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ

الشرح‏:‏

قوله باب قوله‏:‏ ‏(‏ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب‏)‏ الآية‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عمر ‏"‏ الكريم ابن الكريم ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج الحاكم مثله من حديث أبي هريرة، وهو دال على فضيلة خاصة وقعت ليوسف عليه السلام لم يشركه فيها أحد، ومعنى قوله أكرم الناس أي من جهة النسب، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل من غيره مطلقا‏.‏

وقوله في أول الإسناد ‏"‏ حدثنا عبد الله بن محمد ‏"‏ هو الجعفي شيخه المشهور، ووقع في ‏"‏ أطراف خلف ‏"‏ هنا‏:‏ وقال عبد الله بن محمد، والأول أولى

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ

الشرح‏:‏

قوله باب قوله‏:‏ ‏(‏ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب‏)‏ الآية‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عمر ‏"‏ الكريم ابن الكريم ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج الحاكم مثله من حديث أبي هريرة، وهو دال على فضيلة خاصة وقعت ليوسف عليه السلام لم يشركه فيها أحد، ومعنى قوله أكرم الناس أي من جهة النسب، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل من غيره مطلقا‏.‏

وقوله في أول الإسناد ‏"‏ حدثنا عبد الله بن محمد ‏"‏ هو الجعفي شيخه المشهور، ووقع في ‏"‏ أطراف خلف ‏"‏ هنا‏:‏ وقال عبد الله بن محمد، والأول أولى

*3*باب قَوْلِهِ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين‏)‏ ذكر ابن جرير وغيره أسماء إخوة يوسف وهم‏:‏ روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر ودان ونيال وجاد واشر وبنيامين، وأكبرهم أولهم‏.‏

ثم ذكر المصنف في حديث أبي هريرة ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ‏"‏ الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء‏.‏

ومحمد في أول الإسناد هو ابن سلام كما تقدم مصرحا به في أحاديث الأنبياء، وعبده هو ابن سليمان، وعبيد الله هو العمري‏.‏

وفي الجمع بين قول يعقوب ‏(‏وكذلك يجتبيك ربك‏)‏ وبين قوله‏:‏ ‏(‏وأخاف أن يأكله الذئب‏)‏ غموض، لأنه جزم بالاجتباء، وظاهره فيما يستقبل، فكيف يخاف عليه أن يهلك قبل ذلك‏؟‏ وأجيب بأجوبة‏:‏ لا يلزم من جواز أكل الذئب له أكل جميعه بحيث يموت‏.‏

ثانيها أراد بذلك دفع إخوته عن التوجه به فخاطبهم بما جرت عادتهم لا على ما هو في معتقده‏.‏

ثالثها أن قوله ‏(‏يجتبيك‏)‏ لفظه خبر ومعناه الدعاء كما يقال فلان يرحمه الله فلا ينافي وقوع هلاكه قبل ذلك‏.‏

رابعها أن الاجتباء الذي ذكر يعقوب أنه سيحصل له كان حصل قبل أن يسأل إخوته أباهم أن يوجهه معهم، بدليل قوله بعد أن ألقوه في الجب ‏(‏وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏)‏ ولا بعد في أن يؤتى النبوة في ذلك السن فقد قال في قصة يحيى ‏(‏وآتيناه الحكم صبيا‏)‏ ولا اختصاص لذلك بيحيى فقد قال عيسى وهو في المهد ‏(‏إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا‏)‏ وإذا حصل الاجتباء الموعود به لم يمتنع عليه الهلاك‏.‏

خامسها أن يعقوب أخبر بالاجتباء مستندا إلى ما أوحى إليه به، والخبر يجوز أن يدخله النسخ عند قوم فيكون هذا من أمثلته، وإنما قال ‏(‏وأخاف أن يأكله الذئب‏)‏ تجويزا لا وقوعا، وقريب منه أنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء من علامات الساعة كالدجال ونزول عيسى وطلوع الشمس من المغرب، ومع ذلك فإنه لما كسفت الشمس يجر رداءه فزعا يخشى أن تكون الساعة، وقوله ‏"‏تابعه أبو أسامة عن عبيد الله ‏"‏ وصله المؤلف في أحاديث الأنبياء

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين‏)‏ ذكر ابن جرير وغيره أسماء إخوة يوسف وهم‏:‏ روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر ودان ونيال وجاد واشر وبنيامين، وأكبرهم أولهم‏.‏

ثم ذكر المصنف في حديث أبي هريرة ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ‏"‏ الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء‏.‏

ومحمد في أول الإسناد هو ابن سلام كما تقدم مصرحا به في أحاديث الأنبياء، وعبده هو ابن سليمان، وعبيد الله هو العمري‏.‏

وفي الجمع بين قول يعقوب ‏(‏وكذلك يجتبيك ربك‏)‏ وبين قوله‏:‏ ‏(‏وأخاف أن يأكله الذئب‏)‏ غموض، لأنه جزم بالاجتباء، وظاهره فيما يستقبل، فكيف يخاف عليه أن يهلك قبل ذلك‏؟‏ وأجيب بأجوبة‏:‏ لا يلزم من جواز أكل الذئب له أكل جميعه بحيث يموت‏.‏

ثانيها أراد بذلك دفع إخوته عن التوجه به فخاطبهم بما جرت عادتهم لا على ما هو في معتقده‏.‏

ثالثها أن قوله ‏(‏يجتبيك‏)‏ لفظه خبر ومعناه الدعاء كما يقال فلان يرحمه الله فلا ينافي وقوع هلاكه قبل ذلك‏.‏

رابعها أن الاجتباء الذي ذكر يعقوب أنه سيحصل له كان حصل قبل أن يسأل إخوته أباهم أن يوجهه معهم، بدليل قوله بعد أن ألقوه في الجب ‏(‏وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏)‏ ولا بعد في أن يؤتى النبوة في ذلك السن فقد قال في قصة يحيى ‏(‏وآتيناه الحكم صبيا‏)‏ ولا اختصاص لذلك بيحيى فقد قال عيسى وهو في المهد ‏(‏إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا‏)‏ وإذا حصل الاجتباء الموعود به لم يمتنع عليه الهلاك‏.‏

خامسها أن يعقوب أخبر بالاجتباء مستندا إلى ما أوحى إليه به، والخبر يجوز أن يدخله النسخ عند قوم فيكون هذا من أمثلته، وإنما قال ‏(‏وأخاف أن يأكله الذئب‏)‏ تجويزا لا وقوعا، وقريب منه أنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء من علامات الساعة كالدجال ونزول عيسى وطلوع الشمس من المغرب، ومع ذلك فإنه لما كسفت الشمس يجر رداءه فزعا يخشى أن تكون الساعة، وقوله ‏"‏تابعه أبو أسامة عن عبيد الله ‏"‏ وصله المؤلف في أحاديث الأنبياء

*3*باب قَوْلِهِ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ سَوَّلَتْ زَيَّنَتْ

الشرح‏:‏

قوله باب قوله‏:‏ ‏(‏قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل‏)‏ سولت زينت‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله ‏(‏بل سولت لكم أنفسكم‏)‏ ‏:‏ أي زينت وحسنت‏.‏

ثم ذكر المصنف طرفا من حديث الإفك، وسيأتي شرحه بتمامه في تفسير سورة النور‏.‏

وذكر أيضا من طريق مسروق حدثتني أم رومان ‏"‏ وهي أم عائشة فذكر أيضا من حديث الإفك طرفا، وقد تقدم بأتم سياقا من هذا في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء، وتقدم شرح ما قيل في الإسناد المذكور من الانقطاع والجواب عنه مستوفى، ويأتي التنبيه على ما فيه من فائدة في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ

وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ بِالْحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَعَالَهْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏)‏ اسم هذه المرأة في المشهور زليخا، وقيل راعيل، واسم سيدها العزيز قطفير بكسر أوله، وقيل بهمزة بدل القاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وغلقت الأبواب وقالت هيت لك‏.‏

وقال عكرمة ‏"‏ هيت ‏"‏ بالحورانية هلم‏.‏

وقال ابن جبير‏:‏ تعاله‏)‏ أما قول عكرمة فوصله عبد بن حميد من طريقه‏.‏

وأخرج من وجه آخر عن عكرمة قال ‏"‏ هيئت لك ‏"‏ يعني بضم الهاء وتشديد التحتانية بعدها أخرى مهموزة‏.‏

وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عبد الله قال ‏"‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت لك يعني هلم لك ‏"‏ وعند عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة قال‏:‏ معناها تهيأت لك‏.‏

وعن قتادة قال‏:‏ يقول بعضهم هلم لك‏.‏

وأما قول سعيد بن جبير فوصله الطبري وأبو الشيخ من طريقه‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏وقالت هيت لك‏)‏ أي هلم، وأنشدني أبو عمرو بن العلاء‏:‏ إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا قال ولفظ ‏"‏ هيت ‏"‏ للواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء، إلا أن العدد فيما بعد، تقول هيت لك وهيت لكما‏.‏

قال وشهدت أبا عمرو بن العلاء وسأله رجل عمن قرأ هئت لك أي بكسر الهاء وضم المثناة مهموزا‏.‏

فقال‏:‏ باطل، لا يعرف هذا أحد من العرب، انتهى‏.‏

وقد أثبت ذلك الفراء، وساقه من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وسيأتي تحرير النقل عن ابن مسعود في ذلك قريبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَيْتَ لَكَ قَالَ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا مَثْوَاهُ مُقَامُهُ وَأَلْفَيَا وَجَدَا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ أَلْفَيْنَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سليمان‏)‏ هو الأعمش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن مسعود ‏(‏قالت هيت لك‏)‏ وقال إنما نقرؤها كما علمناها‏)‏ هكذا أورده مختصرا، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش بلفظ‏:‏ إني سمعت الفراء فسمعهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول الرجل‏:‏ هلم وتعال، ثم قرأ ‏(‏وقالت هيت لك‏)‏ فقلت‏:‏ إن ناسا يقرءونها ‏(‏هيت لك‏)‏ قال‏:‏ لا، لأن أقرأها كما علمت أحب إلى وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق شيبان وزائدة عن الأعمش نحوه، ومن طريق طلحة بن مصرف عن أبي وائل أن ابن مسعود قرأها ‏(‏هيت لك بالفتح، ومن طريق سليمان التيمي عن الأعمش‏.‏

بإسناده لكن قال بالضم، وروى عبد بن حميد من طريق أبي وائل قال‏:‏ قرأها عبد الله بالفتح، قلت له إن الناس يقرءونها بالضم فذكره‏.‏

وهذا أقوى‏.‏

قلت‏:‏ وقراءة ابن مسعود بكسر الهاء وبالضم وبالفتح بغير همز، وروى عبد بن حميد عن أبي وائل أنه كان يقرؤها كذلك، لكن بالهمز، وقد تقدم إنكار أبي عمرو ذلك، لكن ثبت ما أنكره في قراءة هشام في السبعة، وجاء عنه الضم والفتح أيضا، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وبالضم، وقرأ نافع وابن ذكوان بكسر أوله وفتح آخره، وقرأ الجمهور بفتحهما، وقرأ ابن محصين بفتح أوله وكسر آخره وهي عن ابن عباس أيضا والحسن، وقرأ ابن أبي إسحاق أحد مشايخ النحو بالبصرة بكسر أوله وضم آخره، وحكى النحاس أنه قرأ بكسرهما‏.‏

وأما ما نقل عن عكرمة أنها بالحورانية فقد وافقه عليه الكسائي والفراء وغيرهما كما تقدم، وعن السدي أنها لغة قبطية معناها هلم لك، وعن الحسن أنها بالسريانية كذلك‏.‏

وقال أبو زيد الأنصاري هي بالعبرانية وأصلها هيت لج أي تعاله فعربت‏.‏

وقال الجمهور هي عربية معناها الحث على الإقبال، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثواه مقامه‏)‏ ثبت هذا لأبي ذر وحده وكذا الذي بعده، قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏أكرمي مثواه‏)‏ أي مقامه الذي ثواه، ويقال لمن نزل عليه الشخص ضيفا‏:‏ أبو مثواه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وألفيا وجدا ألفوا آباءهم وألفى‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏وألفيا سيدها لدى الباب‏)‏ أي وجداه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏إنهم ألفوا آباءهم‏)‏ أي وجدوا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏ألفى‏)‏ أي وجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن ابن مسعود بل عجبت ويسخرون‏)‏ هكذا وقع في هذا الموضع معطوفا على الإسناد الذي قبله وصله الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من طريق جرير عن الأعمش بهذا، وقد أشكلت مناسبة إيراد هذه الآية في هذا الموضع فإنها من سورة والصافات، وليس في هذه السورة من معناها شيء‏.‏

لكن أورد البخاري في الباب حديث عبد الله وهو ابن مسعود ‏"‏ أن قريشا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم أكفنيهم بسبع كسبع يوسف ‏"‏ الحديث ولا تظهر مناسبته أيضا للترجمة المذكورة وهي قوله ‏"‏ باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ‏"‏ وقد تكلف لها أبو الإصبع عيسى بن سهل في شرحه فيما نقلته من رحلة أبي عبد الله بن رشيد عنه ما ملخصه‏:‏ ترجم البخاري ‏"‏ باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ‏"‏ وأدخل حديث ابن مسعود ‏"‏ أن قريشا لما أبطئوا ‏"‏ الحديث وأورد قبل ذلك في الترجمة عن ابن مسعود ‏(‏بل عجبت ويسخرون‏)‏ قال فانتهى إلى موضع الفائدة ولم يذكرها وهو قوله‏:‏ ‏(‏وإذا ذكروا لا يذكرون، وإذا رأوا آية يستسخرون‏)‏ قال‏:‏ ويؤخذ من ذلك مناسبة التبويب المذكورة، ووجهه أنه شبه ما عرض ليوسف عليه السلام مع إخوته ومع امرأة العزيز بما عرض لمحمد صلى الله عليه وسلم مع قومه حين أخرجوه من وطنه كما أخرج يوسف إخوته وباعوه لمن استعبده فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم قومه لما فتح مكة كما لم يعنف يوسف إخوته حين قالوا له ‏(‏تالله لقد آثرك الله علينا‏)‏ ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر لما سأله أبو سفيان أن يستسقى لهم كما دعا يوسف لإخوته لما جاءوه نادمين فقال ‏(‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏)‏ قال‏:‏ فمعنى الآية بل عجبت من حلمي عنهم مع سخريتهم بك وتماديهم على غيهم، وعلى قراءة ابن مسعود بالضم بل عجبت من حلمك عن قومك إذ أتوك متوسلين بك فدعوت فكشف عنهم، وذلك كحلم يوسف عن إخوته إذ أتوه محتاجين، وكحلمه عن امرأة العزيز حيث أغرت به سيدها وكذبت عليه ثم سجنته ثم عفا عنها بعد ذلك ولم يؤاخذها‏.‏

قال‏:‏ فظهر تناسب هاتين الآيتين في المعنى مع بعد الظاهر بينهما‏.‏

قال‏:‏ ومثل هذا كثير في كتابه - مما عابه به من لم يفتح الله عليه - والله المستعان‏.‏

ومن تمام ذلك أن يقال‏:‏ تظهر المناسبة أيضا بين القصتين من قوله في الصافات‏:‏ وإذا رأوا آية يستسخرون، فإن فيها إشارة إلى تماديهم على كفرهم وغيهم، ومن قوله في قصة يوسف ‏(‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين‏)‏ ‏.‏

وقول البخاري ‏"‏ وعن ابن مسعود ‏"‏ هو موصول بالإسناد الذي قبله، وقد روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن شريح أنه أنكر قراءة ‏(‏عجبت‏)‏ بالضم ويقول إن الله لا يعجب وإنما يعجب من لا يعلم، قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال‏:‏ إن شريحا كان معجبا برأيه، وإن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم وهو أعلم منه‏.‏

قال الكرماني‏:‏ أورد البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الصافات هنا إشارة إلى أن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم كما يقرأ هيت بالضم انتهى‏.‏

وهي مناسبة لا بأس بها إلا أن الذي تقدم عن ابن سهل أدق والله أعلم‏.‏

وقرأ بالضم أيضا سعيد بن جبير وحمزة والكسائي، والباقون بالفتح، وهو ظاهر وهو ضمير الرسول، وبه صرح قتادة‏.‏

ويحتمل أن يراد به كل من يصح منه، وأما الضم فحكاية شريح تدل على أنه حمله على الله، وليس لإنكاره معنى لأنه إذا ثبت حمل على ما يليق به سبحانه وتعالى‏.‏

ويحتمل أن يكون مصروفا للسامع أي قل بل عجبت ويسخرون، والأول هو المعتمد، وقد أقره إبراهيم النخعي وجزم بذلك سعيد بن جبير فيما رواه ابن أبي حاتم قال في قوله‏:‏ ‏(‏بل عجبت‏)‏ الله عجب، ومن طريق أخرى عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ ‏(‏بل عجبت‏)‏ بالرفع ويقول نظيرها ‏(‏وإن تعجب فعجب قولهم‏)‏ ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال سبحان الله عجب‏.‏

ونقل ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ عن محمد بن عبد الرحمن المقري ولقبه مت قال وكان يفضل على الكسائي في القراءة أنه قال‏:‏ يعجبني أن أقرأ ‏(‏بل عجبت‏)‏ بالضم خلافا للجهمية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ قَالَ اللَّهُ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم‏)‏ وهو ابن صبيح بالتصغير وهو أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، ووقع في ‏"‏ مسند الحميدي ‏"‏ عن سفيان ‏"‏ أخبرني الأعمش - أو أخبرت عنه - عن مسلم ‏"‏ كذا عنده بالشك، وكذا أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال ‏"‏ سمعت من الأعمش أو أخبرته عنه عن مسلم بن صبيح ‏"‏ وهذا الشك لا يقدح في صحة الحديث فإنه قد تقدم في الاستسقاء من طريق أخرى عن الأعمش من غير رواية ابن عيينة، فتكون هذه معدودة في المتابعات، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَى لِلَّهِ وَحَاشَ وَحَاشَى تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ حَصْحَصَ وَضَحَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك - إلى قوله - قلن حاش لله‏)‏ كذا لأبي ذر، وكأن الترجمة انقضت عند قوله ربك، ثم فسر قوله حاش لله‏.‏

وساق غيره من أول الآية إلى قوله عن نفسه قلن حاش لله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حاش وحاشا تنزيه واستثناء‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏حاش لله‏)‏ الشين مفتوحة بغير ياء، وبعضهم يدخلها في آخره كقول الشاعر ‏"‏ حاشى أبي ثوبان إن به ‏"‏ ومعناه التنزيه والاستثناء عن الشر، تقول حاشيته أي استثنيته، وقد قرأ الجمهور بحذف الألف بعد الشين وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وفي حذف الألف بعد الحاء لغة وقرأ بها الأعمش، واختلف في أنها حرف أو اسم أو فعل وشرح ذلك يطول، والذي يظهر أن من حذفها رجح فعليتها بخلاف من نفاها، ويؤيد فعليتها قول النابغة ‏"‏ ولا أحاشي من الأقوام من أحد ‏"‏ فإن تصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل دليل فعليتها، واقتضى كلامه أن إثبات الألف وحذفها سواء لغة، وقيل إن حذف الألف الأخيرة لغة أهل الحجاز دون غيرهم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ تنزيه ‏"‏ في رواية الأكثر بفتح أوله وسكون النون بعدها زاي مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم هاء وفي رواية حكاها عياض موحدة ساكنة بعد أوله وكسر الراء بعدها تحتانية مفتوحة مهموزة ثم تاء تأنيث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حصحص وضح‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏الآن حصحص الحق‏)‏ أي الساعة وضح الحق وتبين‏.‏

وقال الخليل‏:‏ معناه تبين وظهر بعد خفاء، ثم قيل هو مأخوذ من الحصة أي ظهرت حصة الحق من حصة الباطل، وقيل من حصة إذا قطعه، ومنه أحص الشعر وحص وحصحص مثل كف وكفكف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعيد بن تليد‏)‏ بفتح المثناة وكسر اللام بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة هو سعيد بن عيسى بن تليد، مصري يكنى أبا عثمان، تقدم ذكره في بدء الخلق، نسبه البخاري إلى جده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرحمن بن القاسم‏)‏ هو العتقي بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف المصري الفقيه المشهور صاحب مالك وراوي المدونة من علم مالك، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع‏.‏

والإسناد مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد والباقون مدنيون، وفيه رواية الأقران لأن عمرو بن الحارث المصري الفقيه المشهور من أقران يونس بن يزيد، وقد تقدم شرح حديث الباب في ترجمتي إبراهيم ولوط من أحاديث الأنبياء

*3*باب قَوْلِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله حتى إذا استيأس الرسل‏)‏ استيأس استفعل من اليأس ضد الرجاء، قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فلما استيأسوا منه‏)‏ استفعلوا من يئست، ومثله في هذه الآية، وليس مراده باستفعل إلا الوزن خاصة وإلا فالسين والتاء زائدتان، واستيأس بمعنى يئس كاستعجب وعجب وفرق بينهما الزمخشري بأن الزيادة تقع في مثل هذا للتنبيه على المبالغة في ذلك الفعل، واختلف فيما تعلقت به الغاية من قوله‏:‏ ‏(‏حتى‏)‏ فاتفقوا على أنه محذوف، فقيل التقدير ‏(‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم‏)‏ فتراخى النصر عنهم ‏(‏حتى إذا‏)‏ وقيل التقدير فلم تعاقب أممهم حتى إذا، وقيل فدعوا قومهم فكذبوهم فطال ذلك حتى إذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ نَحْوَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن صالح‏)‏ هو ابن كيسان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل‏)‏ في رواية عقيل عن ابن شهاب في أحاديث الأنبياء ‏"‏ أخبرني عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى ‏"‏ فذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت كذبوا أم كذبوا‏)‏ أي مثقلة أو مخففة‏؟‏ ووقع ذلك صريحا في رواية الإسماعيلي من طريق صالح ابن كيسان هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت عائشة كذبوا‏)‏ أي بالتثقيل في رواية الإسماعيلي مثقلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما هو بالظن‏؟‏ قالت أجل‏)‏ زاد الإسماعيلي ‏"‏ قلت فهي مخففة، قالت معاذ الله ‏"‏ وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف بناء على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها‏.‏

ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك‏.‏

وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس‏.‏

كذا قال، وهو خلاف الظاهر، وظاهر السياق أن عروة كان يوافق ابن عباس في ذلك قبل أن يسأل عائشة، ثم لا يدري رجع إليها أم لا‏.‏

روى ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال‏:‏ جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال له إن محمد بن كعب القرظي يقرأ ‏(‏كذبوا‏)‏ بالتخفيف فقال‏:‏ أخبره عني أني سمعت عائشة تقول ‏(‏كذبوا‏)‏ مثقلة أي كذبتهم أتباعهم‏.‏

وقد تقدم في تفسير البقرة من طريق ابن أبي مليكة قال ‏"‏ قال ابن عباس ‏(‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‏)‏ خفيفة قال ذهب بها هنالك ‏"‏ وفي رواية الأصيلي ‏"‏ بما هنالك ‏"‏ بميم بدل الهاء وهو تصحيف‏.‏

وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ ذهب هاهنا - وأشار إلى السماء - وتلا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ‏"‏ وزاد الإسماعيلي في روايته ‏"‏ ثم قال ابن عباس كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا ‏"‏ وهذا ظاهره أن ابن عباس كان يذهب إلى أن قوله متى نصر الله مقول الرسول، وإليه ذهب طائفة‏.‏

ثم اختلفوا فقيل الجميع مقول الجميع، وقيل الجملة الأولى مقول الجميع والأخيرة من كلام الله‏.‏

وقال آخرون الجملة الأولى وهي ‏(‏متى نصر الله‏)‏ مقول الذين آمنوا معه‏.‏

والجملة الأخيرة وهي ‏(‏ألا إن نصر الله قريب‏)‏ مقول الرسول، وقدم الرسول في الذكر لشرفه وهذا أولى، وعلى الأول فليس قول الرسول ‏(‏متى نصر الله‏)‏ شكا بل استبطاء للنصر وطلبا له، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ‏"‏ اللهم أنجز لي ما وعدتني ‏"‏ قال الخطابي‏:‏ لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا يشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهما لطول البلاء عليهم وإبطاء النصر وشدة استنجاز من وعدوه به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب الغلط لا حقيقة الكذب كما يقول القائل كذبتك نفسك‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده قراءة مجاهد ‏(‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏)‏ بفتح أوله مع التخفيف أي غلطوا، ويكون فاعل ‏(‏وظنوا‏)‏ الرسل، ويحتمل أن يكون أتباعهم‏.‏

ويؤيده ما رواه الطبري بأسانيد متنوعة من طريق عمران بن الحارث وسعيد بن جبير وأبي الضحى وعلي بن أبي طلحة والعوفي كلهم عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ أيس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل كذبوا‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في النفس من الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن وهو ترجيح أحد الطرفين فلا يظن بالمسلم فضلا عن الرسول‏.‏

وقال أبو نصر القشيري ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى قربوا من الظن كما يقال بلغت المنزل إذا قربت منه‏.‏

وقال الترمذي الحكيم‏:‏ وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتد البلاء عليهم دخلهم الظن من هذه الجهة‏.‏

قلت‏:‏ ولا يظن بابن عباس أنه يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله ‏"‏ كانوا بشرا ‏"‏ إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه ‏"‏ ذهب بها هناك ‏"‏ أي إلى السماء معناه أن أتباع الرسل ظنوا أن ما وعدهم به الرسل على لسان الملك تخلف، ولا مانع أن يقع ذلك في خواطر بعض الأتباع‏.‏

وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح‏.‏

ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، لكن لم يأت عنه التصريح بأن الرسل هم الذين ظنوا ذلك، ولا يلزم ذلك من قراءة التخفيف، بل الضمير في ‏"‏ وظنوا ‏"‏ عائد على المرسل إليهم، وفي ‏"‏ وكذبوا ‏"‏ عائد على الرسل أي وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا، أو الضمائر للرسل والمعنى يئس الرسل من النصر وتوهموا أن أنفسهم كذبتهم حين حدثتهم بقرب النصر، أو كذبهم رجاؤهم‏.‏

أو الضمائر كلها للمرسل إليهم أي يئس الرسل من إيمان من أرسلوا إليه، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم في جميع ما ادعوه من النبوة والوعد بالنصر لمن أطاعهم والوعيد بالعذاب لمن لم يجبهم، وإذا كان ذلك محتملا وجب تنزيه ابن عباس عن تجويزه ذلك على الرسل، ويحمل إنكار عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه‏.‏

وقد روى الطبري أن سعيد ابن جبير سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ يئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا‏.‏

فقال الضحاك بن مزاحم لما سمعه‏:‏ لو رحلت إلى اليمن في هذه الكلمة لكان قليلا‏.‏

فهذا سعيد بن جبير وهو من أكابر أصحاب ابن عباس العارفين بكلامه حمل الآية على الاحتمال الأخير الذي ذكرته‏.‏

وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير فقال له‏:‏ آية بلغت مني كل مبلغ، فقرأ هذه الآية بالتخفيف، قال في هذا ألوت أن تظن الرسل ذلك، فأجابه بنحو ذلك، فقال‏:‏ فرجت عني فرج الله عنك، وقام إليه فاعتنقه‏.‏

وجاء ذلك من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس نفسه، فعند النسائي من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏قد كذبوا‏)‏ قال‏:‏ استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم‏.‏

وإسناده حسن‏.‏

فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهو أعلم بمراد نفسه من غيره‏.‏

ولا يرد على ذلك ما روى الطبري من طريق ابن جريج في قوله‏:‏ ‏(‏قد كذبوا‏)‏ خفيفة أي أخلفوا، ألا إنا إذا قررنا أن الضمير للمرسل إليهم لم يضر تفسير كذبوا بأخلفوا، أي ظن المرسل إليهم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به، والله أعلم‏.‏

وروى الطبري من طريق تميم بن حذلم‏.‏

سمعت ابن مسعود يقول في هذه الآية‏:‏ استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أن الرسل كذبوهم‏.‏

ومن طريق عبد الله بن الحارث‏:‏ استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن القوم أنهم قد كذبوا فيما جاءوهم به‏.‏

وقد جاء عن ابن مسعود شيء موهم كما جاء عن ابن عباس، فروى الطبري من طريق صحيح عن مسروق عن ابن مسعود أنه قرأ ‏(‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‏)‏ مخففة قال أبو عبد الله‏:‏ هو الذي يكره‏.‏

وليس في هذا أيضا ما يقطع به على أن ابن مسعود أراد أن الضمير للرسل، بل يحتمل أن يكون الضمير عنده لمن أمن من أتباع الرسل، فإن صدور ذلك ممن أمن مما يكره سماعه، فلم يتعين أنه أراد الرسل‏.‏

قال الطبري‏:‏ لو جاز أن يرتاب الرسل بوعد الله ويشكوا في حقيقة خبره لكان المرسل إليهم أولى بجواز ذلك عليهم‏.‏

وقد اختار الطبري قراءة التخفيف ووجهها بما تقدم ثم قال‏:‏ وإنما اخترت هذا لأن الآية وقعت عقب قوله‏:‏ ‏(‏فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏)‏ فكان في ذلك إشارة إلى أن يأس الرسل كان من إيمان قومهم الذين كذبوهم فهلكوا، أو أن المضمر في قوله‏:‏ ‏(‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏)‏ إنما هو للذين من قبلهم من الأمم الهالكة‏.‏

ويزيد ذلك وضوحا أن في بقية الآية الخبر عن الرسل ومن آمن بهم بقوله تعالى ‏(‏فننجي من نشاء‏)‏ أي الذين هلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبوا فكذبوهم، والرسل ومن اتبعهم هم الذين نجوا، انتهى كلامه، ولا يخلو من نظر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت أجل‏)‏ أي نعم‏.‏

ووقع في رواية عقيل في أحاديث الأنبياء في هذا الموضع ‏"‏ فقالت يا عرية ‏"‏ وهو بالتصغير وأصله عريوة فاجتمع حرفا علة فأبدلت الواو ياء ثم أدغمت في الأخرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لعمري لقد استيقنوا بذلك‏)‏ فيه إشعار بحمل عروة الظن على حقيقته وهو رجحان أحد الطرفين، ووافقته عائشة‏.‏

لكن روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة أن المراد بالظن هنا اليقين‏.‏

ونقله نفطويه هنا عن أكثر أهل اللغة وقال‏:‏ هو كقوله في آية أخرى ‏(‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏)‏ وأنكر ذلك الطبري وقال‏:‏ إن الظن لا تستعمله العرب في موضع العلم إلا فيما كان طريقه غير المعاينة، فأما ما كان طريقه المشاهدة فلا، فإنها لا تقول أظنني إنسانا ولا أظنني حيا بمعنى إنسانا أو حيا‏.‏

قوله في الطريق الثانية عن الزهري ‏(‏أخبرني عروة فقلت لعلها كذبوا مخففة قالت معاذ الله‏.‏

نحوه‏)‏ هكذا أورده مختصرا، وقد ساقه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ بتمامه ولفظه عن عروة أنه سأل عائشة فذكر نحو حديث صالح بن كيسان‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ قوله تعالى في بقية الآية ‏(‏فننجي من نشاء‏)‏ قرأ الجمهور بنونين الثانية ساكنة والجيم خفيفة وسكون آخره مضارع أنجي، وقرأ عاصم وابن عامر بنون واحدة وجيم مشددة وفتح آخره على أنه فعل ماض مبني للمفعول ومن قائمة مقام الفاعل، وفيها قراءات أخرى‏.‏

قال الطبري كل من قرأ بذلك فهو منفرد بقراءته والحجة في قراءة غيره، والله أعلم‏.‏

*3*سورة الرَّعْدِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلَا يَقْدِرُ وَقَالَ غَيْرُهُ سَخَّرَ ذَلَّلَ مُتَجَاوِرَاتٌ مُتَدَانِيَاتٌ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمَثُلَاتُ وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ الْأَشْبَاهُ وَالْأَمْثَالُ وَقَالَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا بِمِقْدَارٍ بِقَدَرٍ يُقَالُ مُعَقِّبَاتٌ مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الْأُولَى مِنْهَا الْأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ أَيْ عَقَّبْتُ فِي إِثْرِهِ الْمِحَالِ الْعُقُوبَةُ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ رَابِيًا مِنْ رَبَا يَرْبُو أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ الْمَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ جُفَاءً يُقَالُ أَجْفَأَتْ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ فَعَلَاهَا الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلَا مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمِهَادُ الْفِرَاشُ يَدْرَءُونَ يَدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَإِلَيْهِ مَتَابِ تَوْبَتِي أَفَلَمْ يَيْئَسْ أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ قَارِعَةٌ دَاهِيَةٌ فَأَمْلَيْتُ أَطَلْتُ مِنْ الْمَلِيِّ وَالْمِلَاوَةِ وَمِنْهُ مَلِيًّا وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنْ الْأَرْضِ مَلًى مِنْ الْأَرْضِ أَشَقُّ أَشَدُّ مِنْ الْمَشَقَّةِ مُعَقِّبَ مُغَيِّرٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُتَجَاوِرَاتٌ طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ صِنْوَانٌ النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ وَحْدَهَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ السَّحَابُ الثِّقَالُ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا تَمْلَأُ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ زَبَدًا رَابِيًا الزَّبَدُ زَبَدُ السَّيْلِ زَبَدٌ مِثْلُهُ خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة الرعد - بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ ثبت البسملة لأبي ذر وحده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس ‏(‏كباسط كفيه‏)‏ مثل المشرك الذي عبد مع الله إلها آخر غيره كمثل العطشان الذي ينظر إلى ظل خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يناوله ولا يقدر‏)‏ وصله ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه‏)‏ الآية، فذكر مثله وقال في آخره‏:‏ ولا يقدر عليه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية الأكثر ‏"‏ فلا يقدر ‏"‏ بالراء وهو الصواب، وحكى عياض أن في رواية غير القابسي ‏"‏ يقدم ‏"‏ بالميم وهو تصحيف وإن كان له وجه من جهة المعنى‏.‏

وروى الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال ‏"‏ مثل الأوثان التي تعبد من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله لا يستجيب له الأوثان ولا تنفعه حتى تبلغ كفا هذا فاء وما هما ببالغتين فاه أبدا‏.‏

ومن طريق أبي أيوب عن علي قال‏:‏ كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو بمرتفع‏.‏

ومن طريق سعيد عن قتادة‏:‏ الذي يدعو من دون الله إلها لا يستجيب له بشيء أبدا من نفع أو ضر حتى يأتيه الموت، مثله كمثل الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يصل ذلك إليه فيموت عطشا‏.‏

ومن طريق معمر عن قتادة نحوه ولكن قال‏:‏ وليس الماء ببالغ فاه ما دام باسطا كفيه لا يقبضهما، وسيأتي قول مجاهد في ذلك فيما بعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره‏:‏ متجاورات متداينات‏.‏

وقال غيره‏:‏ المثلات واحدها مثلة وهي الأمثال والأشباه‏.‏

وقال‏:‏ إلا مثل أيام الذين خلوا‏)‏ هكذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره‏:‏ وقال غيره سخر ذلل، متجاورات متدانيات، المثلات واحدها مثلة إلى آخره، فجعل الكل لقاتل واحد‏.‏

وقوله ‏"‏وسخر ‏"‏ هو بفتح المهملة وتشديد الخاء المعجمة‏.‏

وذلل بالذال المعجمة وتشديد اللام تفسير سخر، وكل هذا كلام أبي عبيدة قال في قوله ‏(‏وسخر الشمس والقمر‏)‏ أي ذللهما فانطاعا، قال‏:‏ والتنوين في كل بدل من الضمير للشمس والقمر، وهو مرفوع على الاستئناف فلم يعمل فيه وسخر‏.‏

وقال في قوله‏:‏ ‏(‏وفي الأرض قطع متجاورات‏)‏ أي متدانيات متقاربات‏.‏

وقال في قوله‏:‏ ‏(‏وقد خلت من قبلهم المثلات‏)‏ قال‏:‏ الأمثال والأشباه والنظير‏.‏

وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏المثلات‏)‏ قال‏:‏ الأمثال‏.‏

ومن طريق معمر عن قتادة قال‏:‏ المثلات العقوبات‏.‏

ومن طريق زيد بن أسلم‏:‏ المثلات ما مثل الله به من الأمم من العذاب، وهو جمع مثلة كقطع الأذن والأنف‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ المثلات والمثلة كلاهما بفتح الميم وضم المثلثة مثل سمرة وسمرات، وسكن يحيى بن وثاب المثلثة في قراءته وضم الميم، وكذا طلحة بن مصرف لكن فتح أوله، وقرأ الأعمش بفتحهما‏.‏

وفي رواية أبي بكر بن عياش بضمهما، وبهما قرأ عيسى بن عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمقدار بقدر‏)‏ هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد‏:‏ مفعال من القدر، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة‏:‏ أي جعل لهم أجلا معلوما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منها الأخرى ومنه قيل العقيب أي عقبت في أثره‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ يقال ‏"‏ من رواية غير أبي ذر وهو أولى فإنه كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله تعالى ‏(‏له معقبات من بين يديه‏)‏ أي ملائكة تعقب بعد ملائكة، حفظة بالليل تعقب بعد حفظة النهار وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل، ومنه قولهم فلان عقبني وقولهم عقبت في أثره‏.‏

وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه‏)‏ قال‏:‏ ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه‏.‏

ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏من أمر الله‏)‏ يقول بإذن الله، فالمعقبات هن من أمر الله وهي الملائكة‏.‏

ومن طريق سعيد بن جبير قال‏:‏ حفظهم إياه بأمر الله‏.‏

ومن طريق إبراهيم النخعي قال‏:‏ يحفظونه من الجن‏.‏

ومن طريق كعب الأحبار قال‏:‏ لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم‏.‏

وأخرج الطبري من طريق كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال‏:‏ لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وآخر عن شماله واثنان من بين يديه ومن خلفه واثنان على جنبيه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه يعني إذا نام‏.‏

وجاء في تأويل قول آخر رجحه ابن جرير فأخرج بإسناد صحيح عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏له معقبات‏)‏ قال‏:‏ ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس ومن دونه حرس‏.‏

ومن طريق عكرمة في قوله‏:‏ ‏(‏معقبات‏)‏ قال‏:‏ المراكب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ عقبت يجوز فيه تخفيف القاف وتشديدها، وحكى ابن التين عن رواية بعضهم كسر القاف مع التخفيف فيكشف عن ذلك لاحتمال أن يكون لغة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المحال العقوبة‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏شديد المحال‏)‏ قال شديد القوة، ومثله عن قتادة ونحوه عن السدي‏.‏

وفي رواية عن مجاهد‏:‏ شديد الانتقام، وأصل المحال بكسر الميم القوة، وقيل أصله المحل وهو المكر، وقيل الحيلة والميم مزيدة وغلطوا قائله، ويؤيد التأويل الأول قوله في الآية ‏(‏ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏)‏ ، وروى النسائي في سبب نزولها من طريق علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس قال ‏"‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من فراعنة العرب يدعوه - الحديث وفيه - فأرسل الله صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله هذه الآية ‏"‏ وأخرجه البزار من طريق أخرى عن ثابت والطبراني من حديث ابن عباس مطولا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كباسط كفيه إلى الماء‏:‏ ليقبض على الماء‏)‏ هو كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله‏:‏ ‏(‏إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه‏)‏ أي أن الذي يبسط كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فمه لا يتم له ذلك ولا تجمعه أنامله، قال صابئ بن الحارث‏:‏ وإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله تسقه بكسر المهملة وسكون القاف أي لم تجمعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رابيا من ربا يربو‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فاحتمل السيل زبدا رابيا‏)‏ من ربا يربو أي ينتفخ، وسيأتي تفسير قتادة قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو متاع زبد مثله، المتاع ما تمتعت به‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي تفسير مجاهد لذلك قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جفاه يقال أجفأت القدر إذا غلت فعلاها الزبد ثم تسكن فيذهب الزبد بلا منفعة فكذلك يميز الحق من الباطل‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فأما الزبد فيذهب جفاء‏)‏ ‏.‏

قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ يقال أجفأت القدر وذلك إذا غلت وانتصب زبدها، فإذا سكنت لم يبق منه شيء‏.‏

ونقل الطبري عن بعض أهل اللغة من البصريين أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏فيذهب جفاء‏)‏ تنشفه الأرض، يقال جفا الوادي وأجفى في معنى نشف، وقرأ رؤبة بن العجاج ‏"‏ فيذهب جفالا ‏"‏ باللام بدل الهمزة وهي من أجفلت الريح الغيم إذا قطعته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المهاد الفراش‏)‏ ثبت هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدرءون يدفعون درأته عني دفعته‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأغلال واحدها غل، ولا تكون إلا في الأعناق‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سلام عليكم أي يقولون سلام عليكم‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام‏)‏ قال‏:‏ مجازه مجاز المختصر الذي فيه ضمير، تقديره يقولون سلام عليكم‏.‏

وقال الطبري‏:‏ حذفت يقولون لدلالة الكلام، كما حذفت في قوله‏:‏ ‏(‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم، ربنا أبصرنا وسمعنا‏)‏ والأولى أن المحذوف حال من فاعل يدخلون، أي يدخلون قائلين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بما صبرتم‏)‏ يتعلق بما يتعلق به عليكم، وما مصدرية أي بسبب صبركم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمتاب إليه توبتي‏)‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المتاب مصدر تبت إليه وتوبتي، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح في قوله‏:‏ ‏(‏وإليه متاب‏)‏ قال‏:‏ توبتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفلم ييأس أفلم يتبين‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏أفلم ييأس الذين أمنوا‏)‏ أي أفلم يعلم ويتبين قال سحيم اليربوعي‏:‏ ‏"‏ ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ‏"‏ أي لم تبينوا‏.‏

وقال آخر‏:‏ ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا ونقل الطبري عن القاسم بن معن أنه كان يقول‏:‏ إنها لغة هوازن تقول‏:‏ يئست كذا أي علمته، قال‏:‏ وأنكره بعض الكوفيين - يعني الفراء - لكنه سلم أنه هنا بمعنى علمت وإن لم يكن مسموعا، ورد عليه بأن من حفظ حجه على من لم يحفظ، ووجهوه بأن اليأس إنما استعمل بمعنى العلم، لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون‏.‏

وروى الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة وغيرهما ‏(‏أفلم ييأس‏)‏ أي أفلم يعلم، وروى الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرؤها ‏"‏ أفلم يتبين ‏"‏ ويقول‏:‏ كتبها الكاتب وهو ناعس ومن طريق ابن جريج قال‏:‏ زعم ابن كثير وغيره أنها القراءة الأولى، وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عباس وعكرمة وابن مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد في آخر من قرءوا كلهم ‏"‏ أفلم يتبين ‏"‏ وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته إلى أن قال‏:‏ وهي والله فرية ما فيها مرية‏.‏

وتبعه جماعة بعده، والله المستعان‏.‏

وقد جاء عن ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى ‏(‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏)‏ قال ‏"‏ ووصى ‏"‏ التزقت الواو في الصاد، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه‏.‏

وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قارعة داهية‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏تصيبهم بما صنعوا قارعة‏)‏ أي داهية مهلكة‏.‏

تقول قرعت عظمة أي صدعته، وفسره غيره بأخص من ذلك‏:‏ فأخرج الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏)‏ قال سرية أو تحل قريبا من دارهم قال أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله فتح مكة، ومن طريق مجاهد وغيره نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمليت أطلت، من الملي والملاوة‏.‏

ومنه مليا، ويقال للواسع الطويل من الأرض ملي‏)‏ كذا فيه، والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏فأمليت للذين كفروا‏)‏ أي أطلت لهم، ومنه الملي والملاوة من الدهر، ويقال لليل والنهار الملوان لطولهما، ويقال للخرق الواسع من الأرض ملي، قال الشاعر ‏"‏ ملي لا تخطاه العيون رغيب ‏"‏ انتهى‏.‏

والملي بفتح ثم كسر تم تشديد بغير همزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشق أشد من المشقة‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا، ومراده أنه أفعل تفضيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معقب مغير‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏لا معقب لحكمه‏)‏ أي لا راد لحكمه ولا مغير له عن الحق، وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏(‏لا معقب لحكمه‏)‏ أي لا يتعقب أحد حكمه فيرده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد متجاورات طيبها وخبيثها السباخ‏)‏ كذا للجميع، وسقط خبر طيبها وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وفي الأرض قطع متجاورات‏)‏ قال‏:‏ طيها عذبها، وخبيثها السباخ‏.‏

وعند الطبري من وجه آخر عن مجاهد‏:‏ القطع المتجاورات العذبة والسبخة والمالح والطيب ومن طريق أبي سنان عن ابن عباس مثله، ومن وجه آخر منقطع عن ابن عباس مثله وزاد‏:‏ تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت‏.‏

ومن طريق أخرى متصلة عن ابن عباس قال‏:‏ تكون هذه حلوة وهذه حامضة وتسقى بماء واحد وهن متجاورات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صنوان النخلتان أو أكثر في أصل واحد، وغير صنوان وحدها تسقى بماء واحد كصالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد‏)‏ وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله، لكن قال‏:‏ تسقى بماء واحد قال بماء السماء والباقي سواء‏.‏

وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏(‏صنوان وغير صنوان‏)‏ مجتمع وغير مجتمع‏.‏

وعن سعيد بن منصور عن البراء بن عازب قال‏:‏ الصنوان أن يكون أصلها واحدا ورءوسها متفرقة، وغير الصنوان أن تكون النخلة منفردة ليس عندها شيء انتهى‏.‏

وأصل الصنو المثل، والمراد به هنا فرع يجمعه وفرعا آخر أو أكثر أصل واحد، ومنه عم الرجل صنوا أبيه لأنهما يجمعهما أصل واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السحاب الثقال الذي فيه الماء‏)‏ وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كباسط كفيه إلى الماء، يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا‏)‏ وصله الفريابي والطبري من طرق عن مجاهد أيضا، وقد تقدم قول غيره في أول السورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسالت أودية بقدرها، تملأ بطن كل واد زيدا رابيا‏.‏

الزبد السيل، زبد مثله خبث الحديد والحلية‏)‏ وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏زبدا رابيا‏)‏ قال الزبد السيل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏زبد مثله‏)‏ قال خبث الحلية والحديد وأخرجه الطبري من وجهين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏فسالت أودية بقدرها‏)‏ قال‏:‏ بملئها ‏(‏فاحتمل السيل زبدا رابيا‏)‏ قال‏:‏ الزبد السيل ‏(‏ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله‏)‏ قال‏:‏ خبث الحديث والحلية ‏(‏فأما الزبد فيذهب جفاء‏)‏ قال جمودا في الأرض ‏(‏وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض‏)‏ قال الماء، وهما مثلان للحق والباطل‏.‏

وأخرجه من طريقين عن ابن عباس نحوه، ووجه المماثلة في قوله‏:‏ ‏(‏زبد مثله‏)‏ أن كلا من الزبدين ناشئ عن الأكدار‏.‏

ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏بقدرها‏)‏ قال‏:‏ الصغير بصغره والكبير بكبره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏رابيا‏)‏ أي عاليا‏.‏

وفي قوله ‏(‏ابتغاء حلية‏)‏ الذهب والفضة‏.‏

وفي قوله‏:‏ أو متاع الحديد والصفر الذي ينتفع به‏.‏

والجفاء ما يتعلق بالشجر، وهي ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد يقول‏:‏ كما اضمحل هذا الزبد فصار لا ينتفع به كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت وأخرجت نباتها كذلك يبقى الحق لأهله‏.‏

ونظيره بقاء خالص الذهب والفضة إذا دخل النار وذهب خبثه وبقي صفوه، كذلك يبقى الحق لأهله ويذهب الباطل‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع للأكثر ‏"‏ يملأ بطن واد ‏"‏ وفي رواية الأصيلي ‏"‏ يملأ كل واحد ‏"‏ وهو أشبه، ويروي ماء بطن واد