فصل: باب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب فَضْلِ الْفَقْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب فضل الفقر‏)‏ قيل أشار بهذه الترجمة عقب التي قبلها إلى تحقيق محل الخلاف في تفضيل الفقر على الغنى أو عكسه، لأن المستفاد من قوله ‏"‏ الغنى غنى النفس ‏"‏ الحصر في ذلك، فيحمل كل ما ورد في فضل الغنى على ذلك، فمن لم يكن غني النفس لم يكن ممدوحا بل يكون مذموما فكيف يفضل، وكذا ما ورد من فضل الفقر لأن من لم يكن غني النفس فهو فقير النفس، وهو الذي تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه‏.‏

والفقر الذي وقع فيه النزاع عدم المال والتقلل منه، وأما الفقر في قوله تعالى ‏(‏يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد‏)‏ فالمراد به احتياج المخلوق إلى الخالق، فالفقر للمخلوقين أمر ذاتي لا ينفكون عنه، والله هو الغني ليس بمحتاج لأحد‏.‏

ويطلق الفقر أيضا على شيء اصطلح عليه الصوفية وتفاوتت فيه عباراتهم وحاصله كما قال أبو إسماعيل الأنصاري نفض اليد من الدنيا ضبطا وطلبا، مدحا وذما‏.‏

وقالوا‏:‏ إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه سواء حصل في يده أم لا، وهذا يرجع إلى ما تضمنه الحديث الماضي في الباب قبله أن الغنى غنى النفس على ما تقدم تحقيقه، والمراد بالفقر هنا الفقر من المال‏.‏

وقد تكلم ابن بطال هنا على مسألة التفضيل بين الغنى والفقر فقال‏:‏ طال نزاع الناس في ذلك، فمنهم من فضل الفقر واحتج بأحاديث الباب وغيرها من الصحيح والواهي، واحتج من فضل الغنى بما تقدم قبل هذا بباب في قوله ‏"‏ إن المكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا ‏"‏ وحديث سعد الماضي في الوصايا ‏"‏ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ‏"‏ وحديث كعب ابن مالك حيث استشار في الخروج من ماله كله فقال ‏"‏ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ‏"‏ وحديث ‏"‏ ذهب أهل الدثور بالأجور ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏ وحديث عمرو بن العاص ‏"‏ نعم المال الصالح للرجل الصالح ‏"‏ أخرجه مسلم وغير ذلك قال‏:‏ وأحسن ما رأيت في هذا قول أحمد بن نصر الداودي‏:‏ الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر كما قال تعالى ‏(‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا‏)‏ وقال تعالى ‏(‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏)‏ ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى ‏"‏ ثم ذكر كلاما طويلا حاصله أن الفقير والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم والفضل كله في الكفاف لقوله تعالى ‏(‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ‏"‏ وسيأتي قريبا، وعليه يحمل قوله ‏"‏ أسالك غناي وغنى هؤلاء‏"‏‏.‏

وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي ‏"‏ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ‏"‏ الحديث فهو ضعيف وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فقال‏:‏ جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث‏:‏ الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي مات عليها‏.‏

قال‏:‏ وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا؛ بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة انتهى‏.‏

ويؤيده ما تقدم من الترغيب في غنى النفس، وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس ‏"‏ وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ قد أفلح من هدى إلى الإسلام، ورزق الكفاف وقنع ‏"‏ وله شاهد عن فضالة بن عبيد نحوه عند الترمذي وابن حبان وصححاه قال النووي‏:‏ فيه فضيلة هذه الأوصاف، والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات، ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ‏"‏ أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا‏.‏

وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال، وقد قال ‏"‏ خير الأمور أوساطها ‏"‏ انتهى‏.‏

ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ لا أعدل بالسلامة شيئا ‏"‏ فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر، وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع - وهو ضعيف - عن أنس رفعه ‏"‏ ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا كله صحيح، لكن لا يدفع أصل السؤال عن أيهما أفضل‏:‏ الغنى أو الفقر‏؟‏ لأن النزاع إنما ورد في حق من اتصف بأحد الوصفين أيهما في حقه أفضل‏؟‏ ولهذا قال الداودي في آخر كلامه المذكور أولا‏:‏ إن السؤال أيهما أفضل لا يستقيم، لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل، وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، قال‏:‏ فعلم أيهما أفضل عند الله انتهى‏.‏

وكذا قال ابن تيمية، لكن قال‏:‏ إذا استويا في التقوى فهما في الفضل سواء‏.‏

وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أهل الدثور قبيل كتاب الجمعة، ومحصل كلامه أن الحديث يدل على تفضيل الغنى على الفقر لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية‏.‏

إلا إن فسر الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي حصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى انتهى‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص وغني ليس بممسك إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق أفضل من الفقير الحريص، قال‏:‏ وكل ما يراد لغيره ولا يراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فبه يظهر فضله‏.‏

فالمال ليس محذورا لعينه بل لكونه قد يعوق عن الله وكذا العكس، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وإن أخذت بالأكثر فالفقير عن الخطر أبعد لأن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر، ومن العصمة أن لا تجد، انتهى‏.‏

وصرح كثير من الشافعية بأن الغنى الشاكر أفضل، وأما قول أبي علي الدقاق شيخ أبي القاسم القشيري‏:‏ الغني أفضل من الفقير، لأن الغنى صفة الخالق والفقر صفة المخلوق وصفة الحق أفضل من صفة الخلق فقد استحسنه جماعة من الكبار، وفيه نظر لما قدمته أول الباب، ويظهر منه أن هذا لا يدخل في أصل النزاع إذ ليس هو في ذات الصفتين وإنما هو في عوارضهما‏.‏

وبين بعض من فضل الغني على الفقير كالطبري جهته بطريق أخرى فقال‏:‏ لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر غير أني أقول كما قال مطرف بن عبد الله‏:‏ لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلي فأصبر‏.‏

قلت‏:‏ وكأن السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدمي من قلة الصبر، ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة‏.‏

وقال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق‏:‏ كلام الناس في أصل المسألة مختلف، فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به‏؟‏ هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب، أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي‏؟‏ قال‏:‏ وإذا كان الأمر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها، ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شيء، أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي‏؟‏ قال‏:‏ وهو على القسمين الأولين‏.‏

قلت‏:‏ ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حال الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة‏.‏

ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة بالمشهور من أحوالهم، فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح، فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة مع الاتصاف بغنى النفس، ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك فكان لا يبقى شيئا مما فتح عليه به وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى، ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك، فأخبارهم في ذلك لا تحصى كثرة، وحديث خباب في الباب شاهد لذلك‏.‏

والأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة‏:‏ فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها، ومن الشق الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه ‏"‏ إن الله يحب الغني التقي الخفي ‏"‏ أخرجه مسلم، وهو دال لما قلته سواء حملنا الغني فيه على المال أو على غنى النفس، فإنه على الأول ظاهر وعلى الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب‏.‏

والمراد بالتقي وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهي عنه، والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم‏.‏

ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شيء له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة، فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك‏:‏ الزم السوق‏.‏

وقال لآخر‏:‏ استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم‏.‏

وقال‏:‏ ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب، ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا‏.‏

نقله عنه أبو بكر المروزي‏.‏

وقال‏:‏ أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس‏.‏

وقال أيضا‏:‏ من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس‏.‏

وأسند عن عمر ‏"‏ كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس ‏"‏ وأسند عن سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا ‏"‏ اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني ‏"‏ وعن سفيان الثوري وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه، بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين وأنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرا على ما يفتح عليه‏.‏

واحتج من فضل الغنى بآية الأمر في قوله تعال ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل‏)‏ الآية قال‏:‏ وذلك لا يتم إلا بالمال‏.‏

وأجاب من فضل الفقر بأنه لا مانع أن يكون الغنى في جانب أفضل من الفقر في حالة مخصوصة، ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقا وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس كما صرح به أبو نعيم، وأبو حازم هو سلمة بن دينار‏.‏

قوله ‏(‏مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده‏:‏ ما رأيك في هذا‏)‏ ‏؟‏ تقدم في ‏"‏ باب الأكفاء في الدين ‏"‏ من أوائل النكاح عن إبراهيم بن حمزة عن أبي حازم ‏"‏ فقال ما تقولون في هذا ‏"‏ وهو خطاب لجماعة‏.‏

ووقع في رواية جبير بن نفير عن أبي ذر عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان بلفظ ‏"‏ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك، قال فنظرت إلى رجل في حلة ‏"‏ الحديث، فعرف منه أن المسئول هو أبو ذر، ويجمع بينه وبين حديث سهل أن الخطاب وقع لجماعة منهم أبو ذر ووجه إليه فأجاب ولذلك نسبه لنفسه، وأما المار فلم أقف على اسمه، ووقع في رواية أخرى لابن حبان ‏"‏ سألني رسول صلى الله عليه وسلم عن رجل من قريش فقال‏:‏ هل تعرف فلانا‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ‏"‏ الحديث ووقع في المغازي لابن إسحاق ما قد يؤخذ منه أنه عيينة بن حصن الفزاري أو الأقرع بن حابس التميمي كما سأذكره‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏)‏ أي المسئول‏.‏

قوله ‏(‏رجل من أشراف الناس‏)‏ أي هذا رجل من أشراف الناس، ووقع كذلك عند ابن ماجه عن محمد ابن الصباح عن أبي حازم‏.‏

قوله ‏(‏هذا والله حري‏)‏ بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وتشديد آخره، أي جدير وحقيق وزنا ومعنى، ووقع في رواية إبراهيم بن حمزة ‏"‏ قالوا حرى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إن خطب أن ينكح‏)‏ بضم أوله وفتح ثالثه أي تجاب خطبته ‏(‏وإن شفع أن يشفع‏)‏ بتشديد الفاء أي تقبل شفاعته، وزاد إبراهيم بن حمزة في روايته ‏"‏ وإن قال أن يستمع ‏"‏ وفي رواية ابن حبان ‏"‏ إذا سأل أعطى وإذا حضر أدخل‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم مر رجل‏)‏ زاد إبراهيم ‏"‏ من فقراء المسلمين ‏"‏ وفي رواية ابن حبان ‏"‏ مسكين من أهل الصفة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏هذا خير من ملء‏)‏ بكسر الميم وسكون اللام مهموز‏.‏

قوله ‏(‏مثل‏)‏ بكسر اللام ويجوز فتحها، قال الطيبي‏:‏ وقع التفضيل بينهما باعتبار مميزه وهو قوله بعد هذا لأن البيان والمبين شيء واحد، زاد أحمد وابن حبان ‏"‏ عند الله يوم القيامة ‏"‏ وفي رواية ابن حبان الأخرى ‏"‏ خير من طلاع الأرض من الآخر ‏"‏ وطلاع بكسر المهملة وتخفيف اللام وآخره مهملة أي ما طلعت عليه الشمس من الأرض كذا قال عياض‏.‏

وقال غيره‏:‏ المراد ما فوق الأرض، وزاد في آخر هذه الرواية ‏"‏ فقلت يا رسول الله أفلا يعطي هذا كما يعطي الآخر‏؟‏ قال‏:‏ إذا أعطى خيرا فهو أهله وإذا صرف عنه فقد أعطى حسنة ‏"‏ وفي رواية أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر فيما أخرجه محمد بن هارون الروياني في مسنده وابن عبد الحكم في ‏"‏ فتوح مصر ‏"‏ ومحمد ابن الربيع الجيزي في ‏"‏ مسند الصحابة الذين نزلوا مصر ‏"‏ ما يؤخذ منه تسمية المار الثاني ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كيف ترى جعيلا‏؟‏ قلت‏:‏ مسكينا كشكله من الناس، قال‏:‏ فكيف ترى فلانا‏؟‏ قلت‏:‏ سيدا من السادات، قال‏:‏ فيجعل خير من ملء الأرض مثل هذا‏.‏

قال فقلت يا رسول الله ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع‏؟‏ قال‏:‏ إنه رأس قومه فأتألفهم‏"‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق في المغازي عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا أو معضلا قال ‏"‏ قيل يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيلا‏.‏

قال‏:‏ والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما وأكل جعيلا إلى إيمانه ‏"‏ ولجعيل المذكور ذكر في حديث أخيه عوف بن سراقة في غزوة بني قريظة وفي حديث العرباض بن سارية في غزوة تبوك، وقيل فيه جعال بكسر أوله وتخفيف ثانيه ولعله صغر وقيل بل هما أخوان‏.‏

وفي الحديث بيان فضل جعيل المذكور وأن السيادة بمجرد الدنيا لا أثر لها، وإنما الاعتبار في ذلك بالآخرة كما تقدم ‏"‏ أن العيش عيش الآخرة ‏"‏ وأن الذي يفوته الحظ من الدنيا يعاض عنه بحسنة الآخرة ففيه فضيلة للفقر كما ترجم به، لكن لا حجة فيه لتفضيل الفقير على الغني قال ابن بطال لأنه إن كان فضل عليه لفقره فكان ينبغي أن يقول‏:‏ خير من ملء الأرض مثله لا فقير فيهم، وإن كان لفضله فلا حجة فيه‏.‏

قلت يمكنهم أن يلتزموا الأول والحيثية مرعية، لكن تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى، وأيضا فما في الترجمة تصريح بتفضيل الفقر على الغنى، إذ لا يلزم من ثبوت فضيلة الفقر أفضليته، وكذلك لا يلزم من ثبوت أفضلية فقير على غني أفضلية كل فقير على كل غني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا

الشرح‏:‏

حديث خباب بن الأرت، وقد تقدم بعض شرحه في الجنائز فيما يتعلق بالكفر ونحو ذلك، وذكر في موضعين من الهجرة، وأحلت بشرحه على المغازي فلم يتفق ذلك ذهولا‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا الحميدي حدثنا سفيان‏)‏ هو ابن عيينة ‏(‏عن الأعمش‏)‏ وقع في أوائل الهجرة بهذا السند سواء ‏"‏ حدثنا الأعمش‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عدنا‏)‏ بضم المهملة من العيادة‏.‏

قوله ‏(‏هاجرنا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏)‏ أي بأمره وإذنه، أو المراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة إذ لم يكن معه حسا إلا الصديق وعامر بن فهيرة‏.‏

قوله ‏(‏نبتغي وجه الله‏)‏ أي جهة ما عنده من الثواب لا جهة الدنيا‏.‏

قوله ‏(‏فوقع‏)‏ في رواية الثوري كما مضى في الهجرة عن الأعمش ‏"‏ فوجب ‏"‏ وإطلاق الوجوب على الله بمعنى إيجابه على نفسه بوعده الصادق وإلا فلا يجب على الله شيء‏.‏

قوله ‏(‏أجرنا على الله‏)‏ أي إثابتنا وجزاؤنا‏.‏

قوله ‏(‏لم يأكل من أجره شيئا‏)‏ أي من عرض الدنيا، وهذا مشكل على ما تقدم من تفسير ابتغاء وجه الله، ويجمع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة؛ وذلك أن القصد الأول هو ما تقدم لكن منهم من مات قبل الفتوح كمصعب بن عمير ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج أولا فأولا بحيث بقي على تلك الحالة الأولى وهم قليل منهم أبو ذر، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسط في بعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري أو الخدم والملابس ونحو ذلك ولم يستكثر وهم كثير ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة وهم كثير أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار خباب، فالقسم الأول وما التحلق به توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ ما من غازية تغزو فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم ‏"‏ الحديث، ومن ثم آثر كثير من السلف قلة المال وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة وإما ليكون أقل لحسابهم عليه‏.‏

قوله ‏(‏منهم مصعب بن عمير‏)‏ بصيغة التصغير هو ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي‏.‏

يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وكان يكنى أبا عبد الله، من السابقين إلى الإسلام وإلى هجرة المدينة‏.‏

قال البراء‏:‏ أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان القرآن أخرجه المصنف في أوائل الهجرة، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله مع أهل العقبة الأولى يقرئهم ويعلمهم، وكان مصعب وهو بمكة في ثروة ونعمة فلما هاجر صار في قلة، فأخرج الترمذي من طريق محمد بن كعب حدثني من سمع عليا يقول ‏"‏ بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعم والذي هو فيه اليوم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قتل يوم أحد‏)‏ أي شهيدا، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت ذلك في مرسل عبيد بن عمير بسند صحيح عند ابن المبارك في كتاب الجهاد‏.‏

قوله ‏(‏وترك نمرة‏)‏ بفتح النون وكسر الميم ثم راء هي إزار من صوف مخطط أو بردة‏.‏

قوله ‏(‏أينعت‏)‏ بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون والمهملة أي انتهت واستحقت القطف، وفي بعض الروايات ينعت بغير ألف وهي لغة، قال القزاز وأينعت أكثر‏.‏

قوله ‏(‏فهو يهدبها‏)‏ بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر المهملة ويجوز ضمها بعدها موحدة أي يقطفها‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في الحديث ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم‏.‏

وفيه أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار‏.‏

وفيه أن الكفن يكون ساترا لجميع البدن وأن الميت يصير كله عورة، ويحتمل أن يكون ذلك بطريق الكمال، وقد تقدم سائر ما يتعلق بذلك في كتاب الجنائز‏.‏

ثم قال ابن بطال‏:‏ ليس في حديث خباب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يتعجلونها وإنما كانت لله خالصة ليثيبهم عليها في الآخرة فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سلم‏)‏ بفتح المهملة وسكون اللام ‏(‏ابن زرير‏)‏ بزاي ثم راء وزن عظيم، وأبو رجاء هو العطاردي، وقد تقدم بهذا السند والمتن في صفة الجنة من بدء الخلق، ويأتي شرحه في صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق هذا‏.‏

قوله ‏(‏تابعه أيوب وعوف‏.‏

وقال حماد بن نجيح وصخر عن أبي رجاء عن ابن عباس‏)‏ أما متابعة أيوب فوصلها النسائي وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النكاح‏.‏

وأما متابعة عوف فوصلها المؤلف في كتاب النكاح‏.‏

وأما متابعة حماد بن نجيح - وهو الإسكاف - البصري فوصلها النسائي من طريق عثمان بن عمر بن فارس عنه، وليس له في الكتابين سوى هذا الحديث الواحد، وقد وثقه وكيع وابن معين وغيرهما‏.‏

وأما متابعة صخر - وهو ابن جويرية - فوصلها النسائي أيضا من طريق المعافي بن عمران عنه وابن منده في كتاب التوحيد من طريق مسلم بن إبراهيم حدثنا صخر بن جويرية وحماد بن نجيح قالا حدثنا أبو رجاء، وقد وقعت لنا بعلو في ‏"‏ الجعديات ‏"‏ من رواية على بن الجعد عن صخر قال سمعت أبا رجاء حدثنا ابن عباس به، قال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق عوف‏:‏ وقال أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيه مقال، ويحتمل أن يكون عن أبي رجاء عند كل منهما‏.‏

وقال الخطيب في ‏"‏ المدرج ‏"‏‏:‏ روى هذا الحديث أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب وجرير بن حازم وسلم بن زرير وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن عمران وابن عباس به، ولا نعلم أحدا جمع بين‏:‏ هؤلاء فإن الجماعة رووه عن أبي رجاء عن ابن عباس، وسلم إنما رواه عن أبي رجاء عن عمران، ولعل جريرا كذلك، وقد جاءت الرواية عن أيوب عن أبي رجاء بالوجهين، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن فطر عن أبي رجاء عن عمران، فالحديث عن أبي رجاء عنهما والله أعلم‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ ليس قوله ‏"‏ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ‏"‏ يوجب فضل الفقير على الغني، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك كما تقول أكثر أهل الدنيا الفقراء إخبارا عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة وإنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، فإن الفقير إذ لم يكن صالحا لا يفضل‏.‏

قلت‏:‏ ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا كما أن فيه تحريض النساء على المحافظة على أمر الدين لئلا يدخلن النار كما تقدم تقرير ذلك في كتاب الإيمان في حديث ‏"‏ تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قيل‏:‏ بم‏؟‏ قال‏:‏ بكفرهن، قيل يكفرن بالله‏؟‏ قال‏:‏ يكفرون بالإحسان‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو معمر‏)‏ هو عبد الله بن محمد بن عمرو بن الحجاج‏.‏

قوله ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية همام عن قتادة ‏"‏ كنا نأتي أنس بن مالك ‏"‏ وسيأتي في الباب الذي بعده‏.‏

قوله ‏(‏على خوان‏)‏ بكسر المعجمة وتخفيف الواو وتقدم شرحه في كتاب الأطعمة‏.‏

قوله ‏(‏وما أكل خبزا مرققا حتى مات‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ تركه عليه الصلاة والسلام الأكل على الخوان وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة، والمال إنما يرغب فيه ليستعان به على الآخرة فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه‏.‏

وحاصله أن الخبر لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا، ويؤيده حديث ابن عمر ‏"‏ لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريما ‏"‏ أخرجه ابن أبي الدنيا قال المنذري وسنده جيد والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الله بن أبي شيبة‏)‏ هو أبو بكر وأبو شيبة جده لأبيه وهو ابن محمد بن أبي شيبة واسمه إبراهيم، أصله من واسط وسكن الكوفة وهو أحد الحفاظ الكبار، وقد أكبر عنه المصنف وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائما والبخاري يسميه وقل أن كناه‏.‏

قوله ‏(‏وما في بيتي شيء إلخ‏)‏ لا يخالف ما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث المصطلقي ‏"‏ ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا شيئا ‏"‏ لأن مراده بالشيء المنفى ما تخلف عنه مما كان يختص به، وأما الذي أشارت إليه عائشة فكان بقية نفقتها التي تختص بها فلم يتحد الموردان‏.‏

قوله ‏(‏يأكله ذو كبد‏)‏ شمل جميع الحيوان وانتفى جميع المأكولات‏.‏

قوله ‏(‏إلا شطر شعير‏)‏ المراد بالشطر هنا البعض، والشطر يطلق على النصف وعلى ما قاربه وعلى الجهة وليست مرادة هنا، ويقال أرادت نصف وسق‏.‏

قوله ‏(‏في رف لي‏)‏ قال الجوهري الرف شبه الطاق في الحائط‏.‏

وقال عياض‏:‏ الرف خشب يرتفع عن الأرض في البيت يوضع فيه ما يراد حفظه‏.‏

قلت‏:‏ والأول أقرب للمراد‏.‏

قوله ‏(‏فأكلت منه حتى طال علي، فكلته‏)‏ بكسر الكاف ‏(‏ففني‏)‏ أي فرغ‏.‏

قال ابن بطال حديث عائشة هذا في معنى حديث أنس في الأخذ من العيش بالاقتصاد وما يسد الجوعة‏.‏

قلت‏:‏ إنما يكون كذلك لو وقع بالقصد إليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه، وقد روى البيهقي من وجه أخر عن عائشة قالت ‏"‏ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه‏"‏، وأما قولها ‏"‏ فكلته ففني ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة لأنه غير معلوم مقداره‏.‏

قلت‏:‏ في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر الذي أذكره آخر الباب، ووقع مثل ذلك في مزود أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ من طريق أبي العالية عن أبي هريرة ‏"‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت‏:‏ ادع لي فيهن بالبركة، قال فقبض ثم دعا ثم قال‏:‏ خذهن فاجعلهن في مزود فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثر بهن نثرا، فحملت من ذلك كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارقه، فلما قتل عثمان انقطع ‏"‏ وأخرجه البيهقي أيضا من طريق سهل ابن زياد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة مطولا وفيه ‏"‏ فأدخل يدك فخذ ولا تكفئ فيكفأ عليك ‏"‏ ومن طريق يزيد بن أبي منصور عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، ونحوه ما وقع في عكة المرأة وهو ما أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ‏"‏ أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم فتعمد إلى العكة فتجد فيها سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لو تركتها ما زال قائما ‏"‏ وقد استشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام وترتيب البركة على ذلك كما تقدم في البيوع من حديث المقدام بن معد يكرب بلفظ ‏"‏ كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه‏"‏، وأجيب بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من أجل تعلق حق المتبايعين فلهذا القصد يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشح فلذلك كره، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ سبب رفع النماء من ذلك عند العصر والكيل - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته كثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة‏.‏

ويستفاد منه أن من رزق شيئا أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر ما فالمتعين عليه موالاة الشكر ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييرا والله أعلم‏.‏

*3*باب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏)‏ ‏؟‏ أي في حياته ‏(‏وتخليهم عن الدنيا‏)‏ أي عن ملاذها والتبسط فيها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث‏)‏ قال الكرماني‏:‏ يستلزم أن يكون الحديث بغير إسناد يعني غير موصول، لأن النصف المذكور مبهم لا يدري أهو الأول أو الثاني‏.‏

قلت‏:‏ يحتمل أيضا أن يكون قدر النصف الذي حدثه به أبو نعيم ملفقا من الحديث المذكور، والذي يتبادر من الإطلاق أنه النصف الأول، وقد جزم مغلطاي وبعض شيوخنا، أن القدر المسموع له منه هو الذي ذكره في ‏"‏ باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن ‏"‏ من كتاب الاستئذان حيث قال ‏"‏ حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن ذر ح، وأخبرنا محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله هو ابن المبارك أنبأنا عمر بن ذر أنبأنا مجاهد عن أبي هريرة قال‏:‏ دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال‏:‏ أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي‏.‏

قال فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا ‏"‏ قال مغلطاي‏:‏ فهذا هو القدر الذي سمعه البخاري من أبي نعيم، واعترضه الكرماني فقال ليس هذا ثلث الحديث ولا ربعه فضلا عن نصفه‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر من وجهين آخرين‏:‏ أحدهما احتمال أن يكون هذا السياق لابن المبارك فإنه لا يتعين كونه لفظ أبي نعيم، ثانيهما أنه منتزع من أثناء الحديث فإنه ليس فيه القصة الأولى المتعلقة بأبي هريرة ولا ما في آخره من حصول البركة في اللبن إلخ‏.‏

نعم، المحرر قول شيخنا في ‏"‏ النكت على ابن الصلاح ‏"‏ ما نصه‏:‏ القدر المذكور في الاستئذان بعض الحديث المذكور في الرقاق، قلت‏:‏ فهو مما حدثه به أبو نعيم سواء كان بلفظه أم بمعناه، وأما باقيه الذي لم يسمعه منه فقال الكرماني إنه يصير بغير إسناد فيعود المحذور، كذا قال‏.‏

وكأن مراده أنه لا يكون متصلا لعدم تصريحه بأن أبا نعيم حدثه به، لكن لا يلزم من ذلك محذور بل يحتمل كما قال شيخنا أن يكون البخاري حدث به عن أبي نعيم بطريق الوجادة أو الإجازة أو حمله عن شيخ آخر غير أبي نعيم، قلت‏:‏ أو سمع بقية الحديث من شيخ سمعه من أبي نعيم، ولهذين الاحتمالين الأخيرين أوردته في ‏"‏ تعليق التعليق ‏"‏ فأخرجته من طريق علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم تاما ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ وأخرجه النسائي في ‏"‏ السنن الكبرى ‏"‏ عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبي نعيم بتمامه، واجتمع لي ممن سمعه من عمر بن ذر شيخ أبي نعيم أيضا جماعة‏:‏ منهم روح بن عبادة أخرجه أحمد عنه وعلي بن مسهر ومن طريقه أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه ويونس بن بكير ومن طريقه أخرجه الترمذي والإسماعيلي والحاكم في المستدرك والبيهقي‏.‏

وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة‏.‏

ثم قال الكرماني مجيبا عن المحذور الذي ادعاه ما نصه‏:‏ اعتمد البخاري على ما ذكره في الأطعمة عن يوسف بن عيسى فإنه قريب من نصف هذا الحديث‏.‏

فلعله أراد بالنصف هنا ما لم يذكره ثمة فيصير الكل مسندا بعضه عن يوسف وبعضه عن أبي نعيم قلت‏:‏ سند طريق يوسف مغاير لطريق أبي نعيم إلى أبي هريرة فيعود المحذور بالنسبة إلى خصوص طريق أبي نعيم فإنه قال في أول كتاب الأطعمة ‏"‏ حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال أصابني جهد ‏"‏ فذكر سؤاله عمر عن الآية وذكر مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وفيه ‏"‏ فانطلق بي إلى رحله فأمر لي بعس من لبن فشربت منه ثم قال عد ‏"‏ فذكره ولم يذكر قصة أصحاب الصفة ولا ما يتعلق بالبركة التي وقعت في اللبن، وزاد في آخره ما دار بين أبي هريرة وعمر وندم عمر على كونه ما استتبعه، فظهر بذلك المغايرة بين الحديثين في السندين، وأما المتن ففي أحد الطريقين ما ليس في الآخر لكن ليس في طريق أبي حازم من الزيادة كبير أمر، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏عمر بن ذر‏)‏ بفتح المعجمة وتشديد الراء‏.‏

قوله ‏(‏أن أبا هريرة كان يقول‏)‏ في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما ‏"‏ حدثنا مجاهد عن أبي هريرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الله الذي لا إله إلا هو‏)‏ كذا للأكثر بحذف حرف الجر من القسم، وهو في روايتنا بالخفض، وحكى بعضهم جواز النصب‏.‏

وقال ابن التين رويناه بالنصب‏.‏

وقال ابن جني‏:‏ إذا حذف حرف القسم نصب الاسم بعده بتقدير الفعل، ومن العرب من يجر اسم الله وحده مع حذف حرف الجر فيقول‏:‏ الله لأقومن، وذلك لكثرة ما يستعملونه‏.‏

قلت‏:‏ وثبت في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما بالواو في أوله فتعين الجر فيه‏.‏

قوله ‏(‏إن كنت‏)‏ بسكون النون مخففة من الثقيلة، وقوله ‏"‏لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ‏"‏ أي ألصق بطني بالأرض، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شد الحجر على بطنه، أو هو كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشيا عليه كما وقع في رواية أبي حازم في أول الأطعمة ‏"‏ فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية ‏"‏ فذكره، قال ‏"‏ فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة الآتي في كتاب الاعتصام ‏"‏ لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع ‏"‏ وعند ابن سعد من طريق الوليد بن رباح عن أبي هريرة ‏"‏ كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى علي فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع ‏"‏ ومضى أيضا في مناقب جعفر من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني ‏"‏ وفيه ‏"‏ كنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني ‏"‏ وزاد فيه الترمذي ‏"‏ وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله ‏"‏ قوله ‏(‏وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع‏)‏ عند أحمد في طريق عبد الله بن شقيق ‏"‏ أقمت مع أبي هريرة سنة فقال‏:‏ لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه ‏"‏ قال العلماء فائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال والانتصاب، أو المنع من كثرة التحلل من الغذاء الذي في البطن لكون الحجر بقدر البطن فيكون الضعف أقل، أو لتقليل حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأن فيه الإشارة إلى كسر النفس‏.‏

وقال الخطابي أشكل الأمر في شد الحجر على البطن من الجوع على قوم فتوهموا أنه تصحيف، وزعموا أنه الحجز بضم أوله وفتح الجيم بعدها زاي جمع الحجزة التي يشد بها الوسط، قال‏:‏ ومن أقام بالحجاز وعرف عادتهم عرف أن الحجر واحد الحجارة‏.‏

وذلك أن المجاعة تعتريهم كثيرا فإذا خوى بطنه لم يمكن معه الانتصاب فيعمد حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف أو أكبر فيربطها على بطن وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، والاعتماد بالكبد على الأرض مما يقارب ذلك‏.‏

قلت‏:‏ سبقه إلى الإنكار المذكور أبو حاتم بن حبان في صحيحه، فلعله أشار إلى الرد عليه، وقد ذكرت كلامه وتعقبه في ‏"‏ باب التنكيل لمن أراد الوصال ‏"‏ من كتاب الصيام‏.‏

قوله ‏(‏ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه‏)‏ الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه ممن كان طريق منازلهم إلى المسجد متحدة‏.‏

قوله ‏(‏فمر أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني‏)‏ بالمعجمة والموحدة من الشبع، ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ ليستتبعني ‏"‏ بمهملة ومثناتين وموحدة أي يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، وثبت كذلك في رواية روح وأكثر الرواة‏.‏

قوله ‏(‏فمر ولم يفعل‏)‏ أي الإشباع أو الاستتباع‏.‏

قوله ‏(‏حتى مر بي عمر‏)‏ يشير إلى أنه استمر في مكانه بعد ذهاب أبي بكر إلى أن مر عمر، ووقع في قصة عمر من الاختلاف في قوله ‏"‏ ليشبعني ‏"‏ نظير ما وقع في التي قبلها، وزاد في رواية أبي حازم ‏"‏ فدخل داره وفتحها علي ‏"‏ أي قرأ الذي استفهمته عنه، ولعل العذر لكل من أبي بكر وعمر حمل سؤال أبي هريرة على ظاهره أو فهما ما أراده ولكن لم يكن عندهما إذ ذاك ما يطعمانه، لكن وقع في رواية أبي حازم من الزيادة أن عمر تأسف على عدم إدخاله أبا هريرة داره ولفظه ‏"‏ فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ولي الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر ‏"‏ وفيه ‏"‏ قال عمر والله لأن أكون أدخلتك أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم ‏"‏ فإن فيه إشعارا بأنه كان عنده ما يطعمه إذ ذلك فيرجح الاحتمال الأول، ولم يعرج على ما رمزه أبو هريرة من كنايته بذلك عن طلب ما يؤكل‏.‏

وقد استنكر بعض مشايخنا ثبوت هذا عن أبي هريرة لاستبعاد مواجهة أبي هريرة لعمر بذلك، وهو استبعاد مستبعد‏.‏

قوله ‏(‏ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي‏)‏ استدل أبو هريرة بتبسمه صلى الله عليه وسلم على أنه عرف ما به، لأن التبسم تارة يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن تلك الحال معجبة فقوى الحمل على الثاني‏.‏

قوله ‏(‏وما في وجهي‏)‏ كأنه عرف من حال وجهه ما في نفسه من احتياجه إلى ما يسد رمقه‏.‏

ووقع في رواية علي بن مسهر وروح ‏"‏ وعرف ما في وجهي أو نفسي ‏"‏ بالشك‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال لي يا أبا هريرة‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ فقال أبو هر ‏"‏ وفي رواية روح ‏"‏ فقال أبا هر ‏"‏ فأما النصب فواضح، وأما الرفع فهو على لغة من لا يعرف لفظ الكنية، أو هو للاستفهام أي أنت أبو هر‏؟‏ وأما قوله ‏"‏ هر ‏"‏ فهو بتشديد الراء وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثا وأبو هر مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقا فعلى هذا يسكن، ووقع في رواية يونس بن بكير ‏"‏ فقال أبو هريرة، أي أنت أبو هريرة، وقد ذكرت توجيهه قبل‏.‏

قوله ‏(‏قلت لبيك رسول الله‏)‏ كذا فيه بحذف حرف النداء، ووقع في رواية علي بن مسهر ‏"‏ فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الحق‏)‏ بهمزة وصل وفتح المهملة أي اتبع‏.‏

قوله ‏(‏ومضى فاتبعته‏)‏ زاد في رواية علي بن مسهر فلحقته‏.‏

قوله ‏(‏فدخل‏)‏ زاد علي بن مسهر إلى أهله‏.‏

قوله ‏(‏فأستأذن‏)‏ بهمزة بعد الفاء والنون مضمومة فعل متكلم وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق‏.‏

ووقع في رواية علي بن مسهر ويونس وغيرهما ‏"‏ فاستأذنت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأذن لي فدخل‏)‏ كذا فيه وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات، ووقع في رواية علي ابن مسهر ‏"‏ فدخلت ‏"‏ وهي واضحة‏.‏

قوله ‏(‏فوجد لبنا في قدح‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ فإذا هو بلبن في قدح ‏"‏ وفي رواية يونس ‏"‏ فوجد قدحا من اللبن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ من أين هذا اللبن‏؟‏‏)‏ زاد روح ‏"‏ لكم ‏"‏ وفي رواية ابن مسهر ‏"‏ فقال لأهله‏:‏ من أين لكم هذا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قالوا أهداه لك فلان أو فلانة‏)‏ كذا بالشك، ولم أقف على اسم من أهداه‏.‏

وفي رواية روح ‏"‏ أهداه لنا فلان أو آل فلان ‏"‏ وفي رواية يونس ‏"‏ أهداه لنا فلان‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الحق إلى أهل الصفة‏)‏ كذا عدى الحق بإلى وكأنه ضمنها معنى انطلق، ووقع في رواية روح بلفظ ‏"‏ انطلق‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال وأهل الصفة من أضياف الإسلام‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ قال ‏"‏ من رواية روح ولا بد منها فإنه كلام أبي هريرة قاله شارحا لحال أهل الصفة وللسبب في استدعائهم فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخصهم بما يأتيه من الصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية، وقد وقع في رواية يونس بن بكير هذا القدر في أول الحديث ولفظه عن أبي هريرة ‏"‏ قال كان أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال والله الذي لا إله إلا هو إلخ ‏"‏ وفيه إشعار بأن أبا هريرة كان منهم‏.‏

قوله ‏(‏لا يأوون على أهل ولا مال‏)‏ في رواية روح والأكثر ‏"‏ إلى ‏"‏ بدل على‏.‏

قوله ‏(‏ولا على أحد‏)‏ تعميم بعد تخصيص فشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم‏.‏

وقد وقع في حديث طلحة ابن عمرو عند أحمد وابن حبان والحاكم ‏"‏ كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة ‏"‏ وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد ‏"‏ كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره ‏"‏ وله من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة ‏"‏ كنت من أهل الصفة ‏"‏ وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال‏:‏ ناموا في المسجد‏"‏، وتقدم في ‏"‏ باب علامات النبوة ‏"‏ وغيره حديث عبد الرحمن بن أبي بكر ‏"‏ أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ‏"‏ الحديث، ولأبي نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من مرسل محمد بن سيرين ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناسا من أصحاب الصفة بين ناس من أصحابه فيذهب الرجل بالرجل والرجل بالرجلين حتى ذكر عشرة ‏"‏ الحديث، وله من حديث معاوية بن الحكم ‏"‏ بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار والرجلين والثلاثة حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم خامسنا فقال‏:‏ انطلقوا بنا، فقال‏:‏ يا عائشة عشينا ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا‏)‏ أي لنفسه‏.‏

وفي رواية روح ‏"‏ ولم يصب منها شيئا ‏"‏ وزاد ‏"‏ ولم يشركهم فيها ‏"‏ قوله ‏(‏وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ وشركهم ‏"‏ بالتشديد وقال ‏"‏ فيها أو منها ‏"‏ بالشك ووقع عند يونس ‏"‏ الصدقة والهدية ‏"‏ بالتعريف فيهما، وقد تقدم في الزكاة وغيرها بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وتقدم في الهبة من حديث أبي هريرة مختصرا من رواية محمد بن زياد عنه ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا، ولم يأكل‏.‏

وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم ‏"‏ ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه ‏"‏ إذا أتى بطعام من غير أهله ‏"‏ ويجمع بين هذا وبين ما وقع في حديث الباب بأن ذلك كان قبل أن تبنى الصفة، فكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل من الهدية مع من حضر من أصحابه، وقد أخرج أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من مرسل الحسن قال ‏"‏ بنيت صفة في المسجد لضعفاء المسلمين ‏"‏ ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف حالين‏:‏ فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أو يدعوهم إليه كما في قصة الباب، وإن حضره أحد يشركه في الهدية فإن كان هناك فضل أرسله إلى أهل الصفة أو دعاهم‏.‏

ووقع في حديث طلحة بن عمرو الذي ذكرته آنفا ‏"‏ وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا فكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين كل رجلين ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ فنزلت في الصفة مع رجل فكان بيني وبينه كل يوم مد من تمر ‏"‏ وهو محمول أيضا على اختلاف الأحوال‏:‏ فكان أولا يرسل إلى أهل الصفة بما حضره أو يدعوهم أو يفرقهم على من حضر إن لم يحضره ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكر‏؟‏ وقد اعتنى بجمع أسماء أهل الصفة أبو سعيد بن الأعرابي وتبعه أبو عبد الرحمن السلمي فزاد أسماء، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل ‏"‏ الحلية ‏"‏ فسرد جميع ذلك‏.‏

ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في علامات النبوة أنهم كانوا سبعين، وليس المراد حصرهم في هذا العدد وإنما هي عدة من كان موجودا حين القصة المذكورة، وإلا فمجموعهم أضعاف ذلك كما بينا من اختلاف أحوالهم‏.‏

قوله ‏(‏فساءني ذلك‏)‏ زاد في رواية علي بن مسهر ‏"‏ والله ‏"‏ والإشارة إلى ما تقدم من قوله ‏"‏ ادعهم لي ‏"‏ وقد بين ذلك ب قوله ‏(‏فقلت‏)‏ أي في نفسي ‏(‏وما هذا اللبن‏)‏ ‏؟‏ أي ما قدره ‏(‏في أهل الصفة‏)‏ ‏؟‏ والواو عاطفة على شيء محذوف، ووقع في رواية يونس بحذف الواو زاد في روايته ‏"‏ وأنا رسوله إليهم ‏"‏ وفي رواية علي بن مسهر، ‏"‏ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله ‏"‏‏؟‏ وهو بالجر عطفا على أهل الصفة ويجوز الرفع والتقدير وأنا ورسول الله معهم‏.‏

قوله ‏(‏وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها‏)‏ زاد في رواية روح يومي وليلتي‏.‏

قوله ‏(‏فإذا جاء‏)‏ كذا فيه بالإفراد أي من أمرني بطلبه، وللأكثر ‏"‏ فإذا جاءوا ‏"‏ بصيغة الجمع‏.‏

قوله ‏(‏أمرني‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏فكنت أنا أعطيهم‏)‏ وكأنه عرف بالعادة ذلك لأنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويخدمه، وقد تقدم في مناقب جعفر من حديث طلحة بن عبيد الله ‏"‏ كان أبو هريرة مسكينا لا أهل له ولا مال، وكان يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما دار ‏"‏ أخرجه البخاري في تاريخه، وتقدم في البيوع وغيره من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ كنت امرءا مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني ‏"‏ ووقع في رواية يونس بن بكير ‏"‏ فسيأمرني أن أديره عليهم فما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني ‏"‏ أي عن جوع ذلك اليوم‏.‏

قوله ‏(‏وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن‏)‏ أي يصل إلي بعد أن يكتفوا منه‏.‏

وقال الكرماني لفظ ‏"‏ عسى ‏"‏ زائد‏.‏

قوله ‏(‏ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد‏)‏ يشير إلى قوله تعالى ‏(‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏فأتيتهم فدعوتهم‏)‏ قال الكرماني‏:‏ ظاهره أن الإتيان والدعوة وقع بعد الإعطاء، وليس كذلك، ثم أجاب بأن معنى قوله ‏"‏ فكنت أنا أعطيهم ‏"‏ عطف على جواب ‏"‏ فإذا جاءوا ‏"‏ فهو بمعنى الاستقبال، قلت‏:‏ وهو ظاهر من السياق‏.‏

قوله ‏(‏فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت‏)‏ أي فقعد كل منهم في المجلس الذي يليق به، ولم أقف على عددهم إذ ذاك، وقد تقدم في أبواب المساجد في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة ‏"‏ رأيت سبعين من أصحاب الصفة ‏"‏ الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك، وذكرت هناك أن أبا عبد الرحمن السلمي وأبا سعيد بن الأعرابي والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ وعدتهم تقرب من المائة لكن الكثير من ذلك لا يثبت، وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم‏:‏ كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرقوا إما لغزو أو سفر أو استفتاء فقلوا‏.‏

ووقع في عوارف السهروردي أنهم كانوا أربعمائة‏.‏

قوله ‏(‏فقال يا أبا هر‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ فقال أبو هريرة ‏"‏ وقد تقدم توجيه ذلك‏.‏

قوله ‏(‏خذ فأعطهم‏)‏ أي القدح الذي فيه اللبن، وصرح به في رواية يونس‏.‏

قوله ‏(‏أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عل القدح فأعطيه الرجل‏)‏ أي الذي إلى جنبه‏.‏

قال الكرماني‏:‏ هذا فيه أن المعرفة إذا أعيدت معرفة لا تكون عين الأول، والتحقيق أن ذلك لا يطرد بل الأصل أن تكون عينه إلا أن تكون هناك قرينة تدل على أنه غيره مثل ما وقع هنا من قوله ‏"‏ حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فإنه يدل على أنه أعطاهم واحدا بعد واحد إلى أن كان آخرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ وقع في رواية يونس ‏"‏ ثم يرده فأناوله الآخر ‏"‏ وفي رواية علي بن مسهر ‏"‏ قال خذ فناولهم، قال فجعلت أناول الإناء رجلا رجلا فيشرب، فإذا روى أخذته فناولته الآخر، حتى روى القوم جميعا ‏"‏ وعلى هذا فاللفظ المذكور من تصرف الرواة، فلا حجة فيه لخرم القاعدة‏.‏

قوله ‏(‏حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلهم‏)‏ أي فأعطيته القدح‏.‏

قوله ‏(‏فأخذ القدح‏)‏ زاد روح ‏"‏ وقد بقيت فيه فضلة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ فرفع رأسه فتبسم ‏"‏ كأنه صلى الله عليه وسلم كان تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه أن لا يفضل له من اللبن شيء كما تقدم تقريره فلذلك تبسم إليه إشارة إلى أنه لم يفته شيء‏.‏

قوله ‏(‏فقال أبا هر‏)‏ كذا فيه بحذف حرف النداء‏.‏

وفي رواية علي بن مسهر ‏"‏ فقال أبو هريرة ‏"‏ وقد تقدم توجيهه‏.‏

قوله ‏(‏بقيت أنا وأنت‏)‏ كأن ذلك بالنسبة إلى من حضر من أهل الصفة، فأما من كان في البيت من أهل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتعرض لذكرهم‏.‏

ويحتمل أن البيت إذ ذاك ما كان فيه أحد منهم أو كانوا أخذوا كفايتهم وكان اللبن الذي في ذلك القدح نصيب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏اقعد فاشرب‏)‏ في رواية علي بن مسهر ‏"‏ قال خذ فاشرب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فما زال يقول اشرب‏)‏ في رواية روح ‏"‏ فما زال يقول لي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ما أجد له مسلكا‏)‏ في رواية روح ‏"‏ في مسلكا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأرني‏)‏ في رواية روح ‏"‏ فقال ناولني القدح‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فحمد الله وسمى‏)‏ أي حمد الله على ما من به من البركة التي وقعت في اللبن المذكور مع قلته حتى روى القوم كلهم وأفضلوا، وسمى في ابتداء الشرب‏.‏

قوله ‏(‏وشرب الفضلة‏)‏ أي البقية، وهي رواية علي بن مسهر وفي رواية روح ‏"‏ فشرب من الفضلة ‏"‏ وفيه إشعار بأنه بقي بعد شربه شيء، فإن كانت محفوظة فلعله أعدها لمن بقي في البيت إن كان‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم‏:‏ استحباب الشرب من قعود، وأن خادم القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناول الإناء من كل واحد فيدفعه هو إلى الذي يليه ولا يدع الرجل يناول رفيقه لما في ذلك من نوع امتهان الضيف‏.‏

وفيه معجزة عظيمة، وقد تقدم لها نظائر في علامات النبوة من تكثير الطعام والشراب ببركته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته أخذا من قول أبي هريرة ‏"‏ لا أجد له مسلكا ‏"‏ وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك خلافا لمن قال بتحريمه، وإذا كان ذلك في اللبن مع رقته ونفوذه فكيف بما فوقه من الأغذية الكثيفة، لكن يحتمل أن يكون ذلك خاصا بما وقع في تلك الحال فلا يقاس عليه‏.‏

وقد أورد الترمذي عقب حديث أبي هريرة هذا حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ أكثرهم في الدنيا شبعا أطولهم جوعا يوم القيامة ‏"‏ وقال‏:‏ حسن‏.‏

وفي الباب عن أبي جحيفة‏.‏

قلت‏:‏ وحديث أبي جحيفة أخرجه الحاكم وضعفه أحمد‏.‏

وفي الباب أيضا حديث المقدام بن معد يكرب رفعه ‏"‏ ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ‏"‏ الحديث أخرجه الترمذي أيضا وقال حسن صحيح ويمكن الجمع بأن يحمل الزجر على من يتخذ الشبع عادة لما يترتب على ذلك من الكسل عن العبادة وغيرها، ويحمل الجواز على من وقع له ذلك نادرا ولا سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب‏.‏

وفيه أن كتمان الحاجة والتلويح بها أولى من إظهارها والتصريح بها‏.‏

وفيه كرم النبي صلى الله عليه وسلم وإيثاره على نفسه وأهله وخادمه‏.‏

وفيه ما كان بعض الصحابة عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال، وفضل أبي هريرة وتعففه عن التصريح بالسؤال واكتفاؤه بالإشارة إلى ذلك، وتقديمه طاعة النبي صلى الله عليه وسلم على حظ نفسه مع شدة احتياجه، وفضل أهل الصفة‏.‏

وفيه أن المدعو إذا وصل إلى دار الداعي لا يدخل بغير استئذان، وقد تقدم البحث فيه في كتاب الاستئذان مع الكلام على حديث ‏"‏ رسول الرجل إذنه‏"‏‏.‏

وفيه جلوس كل أحد في المكان اللائق به‏.‏

وفيه إشعار بملازمة أبي بكر وعمر للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ودعاء الكبير خادمه بالكنية‏.‏

وفيه ترخيم الاسم على ما تقدم، والعمل بالفراسة، وجواب المنادى بلبيك، واستئذان الخادم على مخدومه إذا دخل منزله، وسؤال الرجل عما يجده في منزله مما لا عهد له به ليرتب على ذلك مقتضاه، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية وتناوله منها وإيثاره ببعضها الفقراء، وامتناعه من تناول الصدقة ووضعه لها فيمن يستحقها، وشرب الساقي آخرا وشرب صاحب المنزل بعده، والحمد على النعم، والتسمية عند الشرب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع لأبي هريرة قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة، فأخرج ابن حبان من طريق سليم ابن حبان عن أبيه عنه قال ‏"‏ أتت علي ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون‏:‏ جن أبو هريرة؛ حتى انتهيت إلى الصفة فوافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقصعة من ثريد فدعا عليها أهل الصفة هم يأكلون منها، فجعلت أتطاول كي يدعوني، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي‏:‏ كل باسم الله، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وسعد هو ابن أبي وقاص‏.‏

قوله ‏(‏إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله‏)‏ زاد الترمذي من طريق بيان عن قيس ‏"‏ سمعت سعدا يقول إني لأول رجل أهراق دما في سبيل الله ‏"‏ وفي رواية ابن سعد في الطبقات من وجه آخر عن سعد أن ذلك كان في السرية التي خرج فيها مع عبيدة بن الحارث في ستين راكبا، وهي أول السرايا بعد الهجرة‏.‏

قوله ‏(‏ورأيتنا‏)‏ بضم المثناة‏.‏

قوله ‏(‏ورق الحبلة‏)‏ بضم المهملة والموحدة وبسكون الموحدة أيضا، ووقع في مناقب سعد بالتردد بين الرفع والنصب‏.‏

قوله ‏(‏وهذا السمر‏)‏ بفتح المهملة وضم الميم، قال أبو عبيد وغيره‏:‏ هما نوعان من شجر البادية، وقيل الحبلة ثمر العضاه بكسر المهملة وتحفيف المعجمة شجر الشوك كالطلح والعوسج، قال النووي‏:‏ وهذا جيد على رواية البخاري لعطفه الورق على الحبلة‏.‏

قلت‏:‏ هي رواية أخرى عند البخاري بلفظ ‏"‏ إلا الحبلة وورق السمر ‏"‏ وكذا وقع عند أحمد وابن سعد وغيرهما‏.‏

وفي رواية بيان عند الترمذي ‏"‏ ولقد رأيتني أغزو في العصابة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نأكل إلا ورق الشجر والحبلة ‏"‏ وقال القرطبي وقع في رواية الأكثر عند مسلم ‏"‏ إلا ورق الحبلة هذا السمر ‏"‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الحبلة ثمر السمر يشبه اللوبية‏.‏

وفي رواية التيمي والطبري في مسلم ‏"‏ وهذا السمر ‏"‏ بزيادة واو، قال القرطبي‏:‏ ورواية البخاري أحسنها للتفرقة بين الورق والسمر، ووقع في حديث عتبة بن غزوان عند مسلم ‏"‏ لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ليضع‏)‏ بالضاد المعجمة كناية عن الذي يخرج منه في حال التغوط‏.‏

قوله ‏(‏كما تصع الشاة‏)‏ زاد بيان في روايته ‏"‏ والبعير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ماله خلط‏)‏ بكسر المعجمة وسكون اللام أي يصير بعرا لا يختلط من شدة اليبس الناشئ عن قشف العيش، وتقدم بيانه في شرح الحديث المذكور في مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه‏.‏

قوله ‏(‏ثم أصبحت بنو أسد‏)‏ أي ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبنو أسد هم إخوة كنانة بن خزيمة جد قريش، وبنو أسد كانوا فيمن ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي لما ادعى النبوة، ثم قاتلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر وكسرهم ورجع بقيتهم إلى الإسلام، وتاب طليحة وحسن إسلامه، وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك، ثم كانوا ممن شكا سعد بن أبي وقاص وهو أمير الكوفة إلى عمر حتى عزله‏.‏

وقالوا في جملة ما شكوه إنه لا يحسن الصلاة، وقد تقدم بيان ذلك واضحا في باب ‏"‏ وجوب القراءة على الإمام والمأموم ‏"‏ من أبواب صفة الصلاة، وبينت أسماء من كان منهم من بني أسد المذكورين‏.‏

وأغرب النووي فنقل عن بعض العلماء أن مراد سعد بقوله ‏"‏ فأصبحت بنو أسد ‏"‏ بنو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وفيه نظر، لأن القصة إن كانت هي التي وقعت في عهد عمر فلم يكن للزبير إذ ذاك بنون يصفهم سعد بذلك ولا يشكو منهم، فإن أباهم الزبير كان إذ ذاك موجودا وهو صديق سعد، وإن كانت بعد ذلك فيحتاج إلى بيان‏.‏

قوله ‏(‏تعزرني‏)‏ أي توقفني، والتعزيز التوقيف على الأحكام والفرائض قاله أبو عبيد الهروي‏.‏

وقال الطبري‏:‏ معناه تقومني وتعلمني، ومنه تعزير السلطان وهو التقويم بالتأديب، والمعنى أن سعدا أنكر أهلية بني أسد لتعليمه الأحكام مع سابقيته وقدم صحبته‏.‏

وقال الحربي‏:‏ معنى تعزرني تلومني وتعتبني، وقيل توبخني على التقصير‏.‏

وقال القرطبي بعد أن حكى ذلك‏:‏ في هذه الأقوال بعد عن معنى الحديث، قال‏:‏ والذي يظهر لي أن الأليق بمعناه أن المراد بالتعزير هنا الإعظام والتوقير كأنه وصف ما كانت عليه حالتهم في أول الأمر من شدة الحال وخشونة العيش والجهد، ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا بالفتوحات وولوا الولايات، فعظمهم الناس بشهرتهم وفضلهم، فكأنه كره تعظيم الناس له، وخص بني أسد بالذكر لأنهم أفرطوا في تعظيمه، قال‏:‏ ويؤيده أن في حديث عتبة ابن غزوان الذي بعده في مسلم نحو حديث سعد في الإشارة إلى ما كانوا فيه من ضيق العيش ثم قال في آخره‏:‏ فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك - أي ابن أبي وقاص - فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها‏.‏

فما أصبح منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار انتهى‏.‏

وكان عتبة يومئذ أمير البصرة وسعد أمير الكوفة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا كله مردود لما ذكرته من أن بني أسد شكوه وقالوا فيه ما قالوا، ولذلك خصهم بالذكر‏.‏

وقد وقع في رواية خالد بن عبد الله الطحان عن إسماعيل بن أبي خالد في آخر هذا الحديث في مناقب سعد بعد قوله‏:‏ وضل عملي ‏"‏ وكانوا وشوا به إلى عمر قالوا لا يحسن يصلي‏"‏، ووقع كذلك هنا في رواية معتمر بن سليمان عن إسماعيل عند الإسماعيلي، ووقع في بعض طرق هذا الحديث الذي فيه أنهم شكوه عند مسلم ‏"‏ فقال سعد‏:‏ أتعلمني الأعراب الصلاة ‏"‏ فهذا هو المعتمد، وتفسير التعزير على ما شرحه من تقدم مستقيم، وأما قصة عتبة بن غزوان فإنما قال في آخر حديثه ما قال لأنه خطب بذلك وهو يومئذ أمير، فأراد إعلام القوم بأول أمره وآخره إظهارا منه للتواضع والتحدث بنعمة الله والتحذير من الاغترار بالدنيا‏.‏

وأما سعد فقال ذلك بعد أن عزل وجاء إلى عمر فاعتذر، وأنكر على من سعى فيه بما سعى‏.‏

قوله ‏(‏على الإسلام‏)‏ في رواية بيان ‏"‏ على الدين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏خبت إذا وضل سعيي‏)‏ في رواية خالد ‏"‏ عملي كما ترى ‏"‏ وكذا هو في معظم الروايات؛ وفي رواية بيان ‏"‏ لقد خبت إذا وضل عملي‏"‏‏.‏

ووقع عند ابن سعد عن يعلى ومحمد ابني عبيد عن إسماعيل بسنده في آخره ‏"‏ وضل عمليه ‏"‏ بزيادة هاء في آخره وهي هاء السكت، قال ابن الجوزي‏:‏ إن قيل كيف ساغ لسعد أن يمدح نفسه ومن شأن المؤمن ترك ذلك لثبوت النهي عنه، فالجواب أن ذلك ساغ له لما عيره الجهال بأنه لا يحسن الصلاة، فاضطر إلى ذكر فضله، والمدحة إذا خلت عن البغي والاستطالة وكان مقصود قائلها إظهار الحق وشكر نعمة الله لم يكره، كما لو قال القائل‏:‏ إني لحافظ لكتاب الله عالم بتفسيره وبالفقه في الدين، قاصدا إظهار الشكر أو تعريف ما عنده ليستفاد ولو لم يقل ذلك لم يعلم حاله، ولهذا قال يوسف عليه السلام ‏(‏إني حفيظ عليم‏)‏ وقال علي‏:‏ سلوني عن كتاب الله‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لأتيته، وساق في ذلك أخبارا وآثارا عن الصحابة والتابعين تؤيد ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني عثمان‏)‏ هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد، وهؤلاء كلهم كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏ما شبع آل محمد‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏منذ قدم المدينة‏)‏ يخرج ما كانوا فيه قبل الهجرة ‏(‏من طعام بر‏)‏ يخرج ما عدا ذلك من أنواع المأكولات ‏(‏ثلاث ليال‏)‏ أي بأيامها ‏(‏تباعا‏)‏ يخرج التفاريق ‏(‏حتى قبض‏)‏ إشارة إلى استمراره على تلك الحال مدة إقامته بالمدينة وهي عشر سنين بما فيها من أيام أسفاره في الغزو والحج والعمرة، وزاد ابن سعد من وجه آخر عن إبراهيم ‏"‏ وما رفع عن مائدته كسرة خبز فضلا حتى قبض ‏"‏ ووقع في رواية الأعمش عن منصور فيه بلفظ ‏"‏ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي رواية عبد الرحمن بن عابس عن أبيه عن عائشة ‏"‏ ما شبع آل محمد من خبز بر مأدوم ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد عن الأسود عن عائشة ‏"‏ ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض ‏"‏ أخرجاه، وعند مسلم من رواية يزيد بن قسيط عن عروة عن عائشة ‏"‏ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز وزيت في يوم واحد مرتين ‏"‏ وله من طريق مسروق عنها ‏"‏ والله ما شبع من خبز ولحم في يوم مرتين ‏"‏ وعند ابن سعد أيضا من طريق الشعبي عن عائشة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز البر ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة نحو حديث الباب ذكره المصنف في الأطعمة من طريق سعد المقبري عنه ‏"‏ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا ‏"‏ وأخرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة ‏"‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير في اليوم الواحد غداء وعشاء‏"‏، وتقدم أيضا في حديث سهل بن سعد ‏"‏ ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعتين في يوم حتى فارق الدنيا ‏"‏ أخرجه ابن سعد والطبراني، وفي حديث عمران بن حصين ‏"‏ ما شبع من غداء أو عشاء حتى لقي الله ‏"‏ أخرجه الطبراني‏.‏

قال الطبري‏:‏ استشكل بعض الناس كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه قسم بين أربعة أنفس ألف بعير مما أفاء الله عليه، وأنه ساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابي بقطيع من الغنم وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهزهم عثمان بألف بعير إلى غير ذلك، والجواب أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة لا لعوز وضيق بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع ولكثرة الأكل انتهى‏.‏

وما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث آنفا، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة ‏"‏ من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك ‏"‏ وتقدم في غزوة خيبر من رواية عكرمة عن عائشة ‏"‏ لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر ‏"‏ وتقدم في كتاب الأطعمة حديث منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة ‏"‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبعنا من التمر‏)‏ وفي حديث ابن عمر ‏"‏ لما فتحت خيبر شبعنا من التمر ‏"‏ والحق أن الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكة، ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم كما تقدم ذلك واضحا في كتاب الهبة‏.‏

وقريب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أتت على ثلاثون من يوم وليلة مالي ولبلال طعام يأكله أحد إلا شيء يواريه إبط بلال ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه، وكذا أخرجه ابن حبان بمعناه‏.‏

نعم كان صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له، كما أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة ‏"‏ عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت‏:‏ لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك ‏"‏ وسأذكر حديث عائشة في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ الْأَزْرَقُ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن‏)‏ هو البغوي، وهلال المذكور في السند هو الوزان وهو ابن حميد‏.‏

قوله ‏(‏ما أكل آل محمد‏)‏ في رواية أحمد بن منيع عن إسحاق الأزرق بسنده المذكور هنا ‏"‏ ما شبع محمد ‏"‏ بحذف لفظ آل، وقد تقدم أن آل محمد قد يطلق ويراد به محمد نفسه‏.‏

قوله ‏(‏أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر‏)‏ فيه إشارة إلى أن التمر كان أيسر عندهم من غيره والسبب ما تقدم في الأحاديث التي قبله، وفيه إشارة إلى أنهم ربما لم يجدوا في اليوم إلا أكلة واحدة، فإن وجدوا أكلتين فإحداهما تمر، ووقع عند مسلم من طريق وكيع عن مسعر بلفظ ‏"‏ ما شبع آل محمد يومين من خبز البر إلا وأحدهما تمر ‏"‏ وقد أخرج ابن سعد من طريق عمران بن يزيد المدني ‏"‏ حدثني والدي قال دخلنا على عائشة فقالت‏:‏ خرج - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر ‏"‏ وليس في هذا ما يدل على ترك الجمع بين لونين، فقد ترجم المصنف في الأطعمة للجواز، وأورد حديث ‏"‏ كان يأكل القثاء بالرطب ‏"‏ وتقدم شرحه هناك وبيان ما يتعلق بذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏النضر‏)‏ هو ابن شميل بالمعجمة مصغر‏.‏

قوله ‏(‏كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم‏)‏ بفتح الهمزة والموحدة ‏(‏حشوه ليف‏)‏ في رواية ابن نمير عن هشام عند ابن ماجه بلفظ ‏"‏ كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدما حشوه ليف ‏"‏ والضجاع بكسر الضاد المعجمة بعدها جيم ما يرقد عليه، وتقدم في ‏"‏ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط ‏"‏ من كتاب اللباس حديث عمر الطويل في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ‏"‏ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثر في جنبه وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ من حديث أنس بنحوه وفيه ‏"‏ وسادة ‏"‏ بدل مرفقة، ومن طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة ‏"‏ دخلت على امرأة فرأت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فبعثت إلي بفراش حشوه صوف، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال‏:‏ رديه يا عائشة، والله لو شئت أجرى الله معي جبال الذهب والفضة ‏"‏ وعند أحمد وأبي داود الطيالسي من حديث ابن مسعود ‏"‏ اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فقيل له‏:‏ ألا نأتيك بشيء يقيك منه‏؟‏ فقال مالي وللدنيا، إنما أبا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ وَقَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ

الشرح‏:‏

حديث أنس، قوله ‏(‏وخبازه قائم‏)‏ لم أقف على اسمه، وقد تقدم شرحه مستوفي في ‏"‏ باب الخبز المرقق ‏"‏ من كتاب الأطعمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة ذكره من طريقين وقد سقطت الثانية للنسفي وأبي ذر وثبتت للباقين وهي عند الجميع في كتاب الهبة‏.‏

قوله في الطريق الأولى ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان، وهشام هو ابن عروة‏.‏

قوله ‏(‏كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتي باللحيم‏)‏ كذا فيه بالتصغير إشارة إلى قلته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ

الشرح‏:‏

وقوله في الطريق الثانية ‏"‏ ابن أبي حازم ‏"‏ هو عبد العزيز بن سلمة بن دينار، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق من أهل المدينة‏:‏ أبو حازم ويزيد وعروة‏.‏

قوله ‏(‏ابن أختي‏)‏ بحذف حرف النداء أي يا ابن أختي، لأن أمه أسماء بنت أبي بكر‏.‏

قوله ‏(‏إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين‏)‏ المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث، وهو يرى عند انقضاء الشهرين، وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث‏.‏

ووقع في رواية سعيد عن أبي هريرة عند ابن سعد ‏"‏ كان يمر برسول الله صلى الله عليه وسلم هلال ثم هلال ثم هلال لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ‏.‏

قوله ‏(‏فقلت ما كان يعيشكم‏)‏ ‏؟‏ بضم أوله، يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش‏.‏

وفي رواية أبي سلمة عن عائشة نحوه وفيه قلت فما كان طعامكم‏؟‏ قالت‏:‏ الأسودان التمر والماء وفي حديث أبي هريرة قالوا بأي شيء كانوا يعيشون نحوه‏.‏

وفي هذا إشارة إلى ثاني الحال بعد أن فتحت قريظة وغيرها، ومن هذا ما أخرجه الترمذي من حديث الزبير قال لما نزلت ‏(‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏)‏ قلت‏:‏ وأي نعيم نسأل عنه‏؟‏ وإنما هو الأسودان التمر والماء، قال‏:‏ إنه سيكون‏.‏

قال الصغاني‏:‏ الأسودان يطلق على التمر والماء، والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا، وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما‏.‏

وعن أبي زيد‏:‏ الماء يسمى الأسود واستشهد لذلك بشعر‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، وقد تقع الخفة أو الشرف موضع الشهرة كالعمرين لأبي بكر وعمر والقمرين للشمس والقمر‏.‏

قوله ‏(‏إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار‏)‏ زاد أبو هريرة في حديثه جزاهم الله خيرا‏.‏

قوله ‏(‏كان لهم منائح‏)‏ جمع منيحة بنون وحاء مهملة، وعند الترمذي وصححه من حديث ابن عباس ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوين لا يجدون عشاء‏"‏‏.‏

وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام سخن فأكل، فإما فرغ قال‏:‏ الحمد لله، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

ومن شواهد الحديث ما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح عن أنس ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مرارا‏:‏ والذي نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع حب ولا صاع تمر، وإن له يومئذ لتسع نسوة ‏"‏ وله شاهد عند ابن ماجه عن ابن مسعود‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو فضيل بن غزوان وعمارة هو ابن القعقاع، وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير‏.‏

قوله ‏(‏اللهم ارزق آل محمد قوتا‏)‏ هكذا وقع هنا‏.‏

وفي رواية الأعمش عن عمارة عند مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ‏"‏ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ‏"‏ وهو المعتمد، فإن اللفظ الأول صالح لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم وأن يكون طلب لهم القوت، بخلاف اللفظ الثاني فإنه يعين الاحتمال الثاني وهو الدال على الكفاف، وقد تقدم تقرير ذلك في الباب الذي قبله، وعلى ذلك شرحه ابن بطال فقال‏:‏ فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة وإيثارا لما يبقى على ما يفنى، فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا، والله أعلم‏.‏