فصل: باب لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا أَدْرَكَتْ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ

الشرح‏:‏

قول ‏(‏باب إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعها عند البائع أو مات قبل أن يقبض‏)‏ أورد فيه حديث عائشة في قصة الهجرة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر عن الناقة ‏"‏ أخذتها بالثمن ‏"‏ قال المهلب‏:‏ وجه الاستدلال به أن قوله ‏"‏ أخذتها ‏"‏ لم يكن أخذا باليد ولا بحيازة شخصها وإنما كان التزاما منه لابتياعها بالثمن وإخراجها عن ملك أبي بكر ا هـ‏.‏

وليس ما قاله بواضح لأن القصة ما سيقت لبيان ذلك، فلذلك اختصر فيها قدر الثمن وصفة العقد، فيحمل كل ذلك على أن الراوي اختصره لأنه ليس من غرضه في سياقه، وكذلك اختصر صفة القبض فلا يكون فيه حجة في عدم اشتراط القبض‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏قد أخذتها بالثمن ‏"‏ وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبى بكر، ومن المعلوم أنه ما كان ليبقيها في ضمان أبي بكر لما يقتضيه مكارم أخلاقه حتى يكون الملك له والضمان على أبي بكر من غير قبض ثمن، ولا سيما وفي القصة ما يدل على إيثاره لمنفعة أبي بكر حيث أبى أن يأخذها إلا بالثمن‏.‏

قلت‏:‏ ولقد تعسف في هذا كما تعسف من قبله، وليس في الترجمة ما يلجئ إلى ذلك، فإن دلالة الحديث على قوله ‏"‏ فوضعه عند البائع ‏"‏ ظاهرة جدا وقد قدمت أنه لا يستلزم صحة المبيع بغير قبض، وأما دلالته على قوله ‏"‏ أو مات قبل أن يقبض ‏"‏ فهو وارد على سبيل الاستفهام، ولم يجزم بالحكم في ذلك بل هو على الاحتمال فلا حاجة لتحميله ما لم يتحمل، نعم ذكره لأثر ابن عمر في صدر الترجمة مشعر باختيار ما دل عليه فلذلك احتيج إلى إبداء المناسبة، والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عمر ما أدركت الصفقة‏)‏ أي العقد ‏(‏حيا‏)‏ أي بمهملة وتحتانية مثقلة ‏(‏مجموعا‏)‏ أي لم يتغير عن حالته ‏(‏فهو من المبتاع‏)‏ أي من المشتري، وهذا التعليق وصله الطحاوي والدار قطني من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه وقال في روايته ‏"‏ فهو من مال المبتاع ‏"‏ ورواه الطحاوي أيضا من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مثله لكن ليس فيه ‏"‏ مجموعا ‏"‏ وإسناد الإدراك إلى العقد مجاز، أي ما كان عند العقد موجودا وغير منفصل، قال الطحاوي‏:‏ ذهب ابن عمر إلى أن الصفقة إذا أدركت شيئا حيا فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري، فدل على أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة بالأبدان ا هـ‏.‏

وما قاله ليس بلازم، وكيف يحتج بأمر محتمل في معارضة أمر مصرح به، فابن عمر قد تقدم عنه التصريح بأنه كان يرى الفرقة بالأبدان، والمنقول عنه هنا يحتمل أن يكون قبل التفرق بالأبدان، ويحتمل أن يكون بعده فحمله على ما بعده أولى جمعا بين حديثيه‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ اختلف العلماء فيمن باع عبدا واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن، فقال سعيد بن المسيب وربيعة‏:‏ هو على البائع‏.‏

وقال سليمان بن يسار هو على المشتري، ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول، وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور‏.‏

وقال بالأول الحنفية والشافعية، والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع، فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري والله أعلم، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس في ذلك تفصيلا قال‏:‏ إن قال البائع لا أعطيكه حتى تنقدني الثمن فهلك فهو من ضمان البائع، وإلا فهو من ضمان المشتري‏.‏

وقد فسر بعض الشراح المبتاع في أثر ابن عمر بالعين المبيعة وهو جيد، وقد سئل الإمام أحمد عمن اشترى طعاما فطلب من يحمله فرجع فوجده قد احترق، فقال‏:‏ هو من ضمان المشتري، وأورد أثر ابن عمر المذكور بلفظ ‏"‏ فهو من مال المشتري ‏"‏ وفرع بعضهم على ذلك أن المبيع إذا كان معينا دخل في ضمان المشتري بمجرد العقد ولو لم يقبض، بخلاف ما يكون في الذمة فإنه لا يكون من ضمان المشتري إلا بعد القبض كما لو اشترى قفيزا من صبرة والله أعلم‏.‏

وسيأتي الكلام على حديث عائشة في أول الهجرة إن شاء الله تعالى، فقد أورده هناك من وجه آخر عن عروة أتم من السياق الذي هنا، وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، حتى يأذن له أو يترك‏)‏ أورد فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة في ذلك، وأشار بالتقييد إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو ما أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث بلفظ ‏"‏ لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له ‏"‏ وقوله ‏"‏ إلا أن يأذن له ‏"‏ يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشافعي، ويحتمل أن يختص بالأخير، ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ ‏"‏ نهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب ‏"‏ ومن ثم نشأ خلاف للشافعية‏:‏ هل يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك‏؟‏ والصحيح عدم الفرق‏.‏

وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ ‏"‏ لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر ‏"‏ وترجم البخاري أيضا بالسوم ولم يقع له ذكر في حديثي الباب، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا، وهو ما أخرجه في الشروط من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ وأن يستام الرجل على سوم وأخيه ‏"‏ وأخرجه مسلم في حديث نافع عن ابن عمر أيضا‏.‏

وذكر ‏"‏ المسلم ‏"‏ لكونه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذكره إيذان بأنه لا يليق به أن يستأثر على مسلم مثله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يبيع‏)‏ كذا للأكثر بإثبات الياء في ‏"‏ يبيع ‏"‏ على أن ‏"‏ لا ‏"‏ نافية، ويحتمل أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة كقراءة من قرأ ‏(‏إنه من يتقى ويصبر‏)‏ ، ويؤيده رواية الكشميهني بلفظ ‏"‏ لا يبع ‏"‏ بصيغة النهي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعضكم على بيع أخيه‏)‏ كذا أخرجه عن إسماعيل عن مالك، وسيأتي في ‏"‏ باب النهي عن تلقي الركبان ‏"‏ عن عبد الله بن يوسف عن مالك بلفظ ‏"‏ على بيع بعض ‏"‏ وظاهر التقييد بأخيه أن يختص ذلك بالمسلم وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد بن حربوية من الشافعية، وأصرح من ذلك رواية مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يسوم المسلم على سوم المسلم ‏"‏ وقال الجمهور‏:‏ لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي‏:‏ وذكر الأخ خرج للغالب فلا مفهوم له‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا الخ‏)‏ عطف صيغة النهي على معناها، فتقدير قوله ‏"‏ نهي أن يبيع حاضر لباد ‏"‏ أي قال لا يبيع حاضر لباد فعطف عليه ‏"‏ ولا تناجشوا ‏"‏ وسيأتي الكلام على بيع الحاضر للبادي بعد في باب مفرد، وكذا على النجش في الباب الذي يليه‏.‏

وقوله هنا ‏"‏ ولا تناجشوا ‏"‏ ذكره بصيغة التفاعل لأن التاجر إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يفعل له مثله، ويأتي الكلام على الخطبة في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

قال العلماء‏:‏ البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار‏:‏ افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لاشترى منك بأزيد، وهو مجمع عليه‏.‏

وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له رده لأبيعك خيرا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، فإن كان ذلك صريحا فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرا ففيه وجهان للشافعية، ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك وقال‏:‏ إن لفظ الحديث لا يدل عليه، وتعقب بأنه لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم، لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقا كما نقله ابن عبد البر‏.‏

فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك، وقد استثنى بعض الشافعية من تحريم البيع والسوم على الآخر ما إذا لم يكن المشتري مغبونا غبنا فاحشا، وبه قال ابن حزم واحتج بحديث ‏"‏ الدين النصيحة‏"‏، لكن لم تنحصر النصيحة في البيع والسوم فله أن يعرفه أن قيمتها كذا وأنك إن بعتها بكذا مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين‏.‏

وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر، والله أعلم‏.‏

*3*باب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ

وَقَالَ عَطَاءٌ أَدْرَكْتُ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بيع المزايدة‏)‏ لما أن تقدم في الباب قبله النهي عن السوم أراد أن يبين موضع التحريم منه وقد أوضحته في الباب الذي قبله، وورد في البيع فيمن يزيد حديث أنس ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا وقال‏:‏ من يشتري هذا الحلس والقدح‏؟‏ فقال رجل‏:‏ أخذتها بدرهم، فقال‏:‏ من يزيد على درهم‏؟‏ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه ‏"‏ أخرجه أحمد وأصحاب السنن مطولا ومختصرا واللفظ للترمذي وقال حسن، وكأن المصنف أشار بالترجمة إلى تضعيف ما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع المزايدة ‏"‏ فإن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عطاء أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم فيمن يزيد‏)‏ وصله ابن أبي شيبة؛ ونحوه عن عطاء ومجاهد، وروى هو وسعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس‏.‏

وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور‏:‏ والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث، قال ابن العربي‏:‏ لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك ا هـ‏.‏

وكأن الترمذي يقيد بما ورد في حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن خزيمة وابن الجارود والدار قطني من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر، إلا الغنائم والمواريث ‏"‏ ا هـ‏.‏

وكأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه البيع مزايدة وهي الغنائم والمواريث، ويلتحق بهما غيرهما للاشتراك في الحكم‏.‏

وقد أخذ بظاهره الأوزاعي وإسحاق فخصا الجواز ببيع المغانم والمواريث‏.‏

وعن إبراهيم النخعي أنه كره بيع من يزيد‏.‏

ثم أورد المصنف حديث جابر في بيع المدبر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من يشتريه مني‏؟‏ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه ‏"‏ وسيأتي شرحه مستوفي في ‏"‏ باب بيع المدبر ‏"‏ في أواخر البيوع‏.‏

وقوله ‏"‏بكذا وكذا ‏"‏ يأتي أنه ثمانمائة درهم، ويأتي أيضا تسمية الرجل المذكور إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد اعترضه الإسماعيلي فقال‏:‏ ليس في قصة المدبر بيع المزايدة فإن بيع المزايدة أن يعطى به واحد ثمنا ثم يعطى به غيره زيادة عليها ا هـ‏.‏

وأجاب ابن بطال بأن شاهد الترجمة منه قوله في الحديث ‏"‏ من يشتريه مني ‏"‏ قال فعرضه للزيادة ليستقضي فيه للمفلس الذي باعه عليه، وسيأتي بيان كونه كان مفلسا في أواخر كتاب الاستقراض‏.‏

*3*باب النَّجْشِ وَمَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ

وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النجش‏)‏ بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة، وهو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال نجشت الصيد أنجشه بالضم نجشا‏.‏

وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمى بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك كما سيأتي من كلام الصحابي في هذا الباب‏.‏

وقال ابن قتيبة النجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يختل الصيد ويحتال له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن قال لا يجوز ذلك البيع‏)‏ كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز ‏"‏ أن عاملا له باع سبيا فقال له‏:‏ لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسدا، فقال له عمر‏:‏ هذا نجش لا يحل، فبعث مناديا ينادي‏:‏ إن البيع مردود وأن البيع لا يحل، قال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسا على المصراة، والأصح عندهم صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية‏.‏

وقال الرافعي‏:‏ أطلق الشافعي في ‏"‏ المختصر ‏"‏ تعصية الناجش، وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالما بالنهي‏.‏

وأجاب الشارحون بأن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد وإن لم يعلم هذا الحديث بخصوصه، بخلاف البيع على بيع أخيه فقد لا يشترك فيه كل أحد‏.‏

واستشكل الرافعي الفرق بأن البيع على بيع أخيه إضرار والإضرار يشترك في علم تحريمه كل أحد، قال‏:‏ فالوجه تخصيص المعصية في الموضعين بمن علم التحريم ا هـ‏.‏

وقد حكى البيهقي في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ و ‏"‏ السنن ‏"‏ عن الشافعي تخصيص التعصية في النجش أيضا بمن علم النهي فظهر أن ما قاله الرافعي بحثا منصوص، ولفظ الشافعي‏:‏ النجش أن يحضر الرجل السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدى به السوام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش إن كان عالما بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن أبي أوفى‏:‏ الناجش آكل ربا خائن‏)‏ هذا طرف من حديث أورده المصنف في الشهادات في ‏"‏ باب قول الله تعالى ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏)‏‏"‏‏.‏

ثم ساق فيه من طريق السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال ‏"‏ أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لم يعط فنزلت‏.‏

قال ابن أبي أوفى‏:‏ الناجش أكل ربا خائن ‏"‏ أورده من طريق يزيد بن هارون عن السكسكي، وقد أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن يزيد مقتصرين على الموقوف، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعا لكن قال ‏"‏ ملعون ‏"‏ بدل خائن ا هـ‏.‏

وأطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير فاشتركا في الحكم لذلك وكونه آكل ربا بهذا التفسير، وكذلك يصح على التفسير الأول إن واطأه البائع على ذلك وجعل له عليه جعلا فيشتركان جميعا في الخيانة، وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقيد ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قال ابن العربي‏:‏ فلو أن رجلا رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا بل يؤجر على ذلك بنيته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وفيه نظر إذ لم تتعين النصيحة في أن يوهم أنه يريد الشراء وليس من غرضه بل غرضه أن يزيد على من يريد الشراء أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع بأن قيمة سلعتك أكثر من ذلك ثم هو باختياره بعد ذلك، ويحتمل أن لا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله للحديث الآتي ‏"‏ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه ‏"‏ والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو خداع باطل لا يحل‏)‏ هو من تفقه المصنف، وليس من تتمة كلام ابن أبي أوفى، وقد ذكرنا توجيه ما قاله المصنف قبل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال النبي صلى الله عليه وسلم الخديعة في النار، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ أما الحديث الثاني فسيأتي موصولا من حديث عائشة في كتاب الصلح، وأما حديث ‏"‏ الخديعة في النار ‏"‏ فرويناه في ‏"‏ الكامل لابن عدي ‏"‏ من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال‏:‏ لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ المكر والخديعة في النار ‏"‏ لكنت من أمكر الناس، وإسناده لا بأس به‏.‏

وأخرجه الطبراني في ‏"‏ الصغير ‏"‏ من حديث ابن مسعود والحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من حديث أنس وإسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناد كل منهما مقال، لكن مجموعهما يدل على أن للمتن أصلا، وقد رواه ابن المبارك في ‏"‏ البر والصلة ‏"‏ عن عوف عن الحسن قال ‏"‏ بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ فذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن النجش‏)‏ تقدم أن المشهور أنه بفتح الجيم وحكى المطرزي فيه السكون‏.‏

*3*باب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بيع الغرر‏)‏ بفتح المعجمة وبراءين ‏(‏و‏)‏ بيع ‏(‏حبل الحبلة‏)‏ بفتح المهلة والموحدة وقيل في الأول بسكون الموحدة وغلطه عياض، وهو مصدر حبلت تحبل حبلا والحبلة جمع حابل مثل ظلمة وظالم وكتبة وكاتب والهاء فيه للمبالغة وقيل للإشعار بالأنوثة وقد ندر فيه امرأة حابلة فالهاء فيه للتأنيث، وقيل حبلة مصدر يسمى به المحبول، قال أبو عبيد‏:‏ لا يقال لشيء من الحيوان حبلت إلا الآدميات إلا ما ورد في هذا الحديث‏.‏

وأثبته صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ قولا، فقال‏:‏ اختلف أهي للإناث عامة أم للآدميات خاصة، وأنشد في التعميم قول الشاعر أو ذيخة حبلى مجح مقرب وفي ذلك تعقب على نقل النووي اتفاق أهل اللغة على التخصيص‏.‏

ثم إن عطف بيع حبل الحبلة على بيع الغرر من عطف الخاص على العام، ولم يذكر في الباب بيع الغرر صريحا وكأنه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني نافع وابن حبان من طريق سليمان التيمي عن نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ‏"‏ وقد أخرج مسلم النهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة وابن ماجة من حديث ابن عباس والطبراني من حديث سهل ابن سعد، ولأحمد من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ‏"‏ وشراء السمك في الماء نوع من أنواع الغرر، ويلتحق به الطير في الهواء والمعدوم والمجهول والآبق ونحو ذلك‏.‏

قال النووي‏:‏ النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا فلو أفرد لم يصح بيعه، والثاني ما يتسامح بمثله إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه وتعيينه، فمن الأول بيع أساس الدار والدابة التي في ضرعها اللبن والحامل، ومن الثاني الجبة المحشوة والشرب من السقاء، قال وما اختلف العلماء فيه مبنى على اختلافهم في كونه حقيرا أو يشق تمييزه أو تعيينه فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس‏.‏

وقال ومن بيوع الغرر ما اعتاده الناس من الاستجرار من الأسواق بالأوراق مثلا فإنه لا يصح لأن الثمن ليس حاضرا فيكون من المعاطاة ولم توجد صيغة يصح بها العقد، وروى الطبري عن ابن سيرين بإسناد صحيح قال‏:‏ لا اعلم ببيع الغرر بأسا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ لعله لم يبلغه النهي وإلا فكل ما يمكن أن يوجد وإن لا يوجد لم يصح، وكذلك إذا كان لا يصح غالبا، فإن كان يصح غالبا كالثمرة في أول بدو صلاحها أو كان مستمرا تبعا كالحمل مع الحامل جاز لقلة الغرر، ولعل هذا هو الذي أراده ابن سيرين، لكن منع من ذلك ما رواه ابن المنذر عنه أنه قال‏:‏ لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا‏.‏

فهذا يدل على أنه يرى بيع الغرر إن سلم في المال والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان‏)‏ أي بيع حبل الحبلة ‏(‏بيعا يتبايعه أهل الجاهلية الخ‏)‏ كذا وقع هذا التفسير في الموطأ متصلا بالحديث، قال الإسماعيلي وهو مدرج يعني أن التفسير من كلام نافع، وكذا ذكر الخطيب في المدرج وسيأتي في آخر السلم عن موسى بن إسماعيل التبوذكي عن جويرية التصريح بأن نافعا هو الذي فسره، لكن لا يلزم من كون نافع فسره لجويرية أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله عن مولاه ابن عمر، فسيأتي في أيام الجاهلية من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع ابن عمر قال ‏"‏ كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ‏"‏ فظاهر هذا السياق أن هذا التفسير من كلام ابن عمر ولهذا جزم ابن عبد البر بأنه من تفسير ابن عمر، وقد أخرجه مسلم من رواية الليث والترمذي والنسائي من رواية أيوب كلاهما عن نافع بدون التفسير، وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر بدون التفسير أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الجزور‏)‏ بفتح الجيم وضم الزاي هو البعير ذكرا كان أو أنثى، إلا أن لفظه مؤنث تقول هذه الجزور وإن أردت ذكرا، فيحتمل أن يكون ذكره في الحديث قيدا فيما كان أهل الجاهلية يفعلونه فلا يتبايعون هذا البيع إلا في الجزور أو لحم الجزور، ويحتمل أن يكون ذكر على سبيل المثال، وأما في الحكم فلا فرق بين الجزور وغيرها في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى أن تنتج‏)‏ بضم أوله وفتح ثالثه أي تلد ولدا، والناقة فاعل، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول وهو حرف نادر، وقوله ‏"‏ثم تنتج التي في بطنها ‏"‏ أي ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد، وهذا القدر زائد على رواية عبيد الله بن عمر فإنه اقتصر على قوله ‏"‏ ثم تحمل التي في بطنها ‏"‏ ورواية جويرية أخصر منهما ولفظه ‏"‏ أن تنتج الناقة ما في بطنها ‏"‏ وبظاهر هذه الرواية قال سعيد ابن المسيب فيما رواه عنه مالك‏.‏

وقال به مالك والشافعي وجماعة، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يلد ولد الناقة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أن يبيع بثمن إلى أن تحمل الدابة وتلد ويحمل ولدها، وبه جزم أبو إسحاق في ‏"‏ التنبيه ‏"‏ فلم يشترط وضع حمل الولد كرواية مالك، ولم أر من صرح بما اقتضته رواية جويرية وهو الوضع فقط، وهو في الحكم مثل الذي قبله، والمنع في الصور الثلاث للجهالة في الأجل ومن حقه على هذا التفسير أن يذكر في السلم‏.‏

وقال أبو عبيدة وأبو عبيد وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي وأكثر أهل اللغة وبه جزم الترمذي‏:‏ هو بيع ولد نتاج الدابة، والمنع في هذا من جهة أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر، ولذلك صدر البخاري بذكر الغرر في الترجمة لكنه أشار إلى التفسير الأول بإيراد الحديث في كتاب السلم أيضا، ورجح الأول لكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل اللغة موافقا للثاني، لكن قد روى الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر ما يوافق الثاني ولفظه ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر قال‏:‏ إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة فنهوا عن ذلك ‏"‏ وقال ابن التين‏:‏ محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين‏؟‏ وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها‏؟‏ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين‏؟‏ فصارت أربعة أقوال انتهى‏.‏

وحكى صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ قولا آخر أنه بيع ما في بطون الأنعام، وهو أيضا من بيوع الغرر، لكن هذا إنما فسر به سعيد بن المسيب - كما رواه مالك في الموطأ - بيع المضامين، وفسر به غيره بيع الملاقيح، واتفقت هذه الأقوال - على اختلافها - على أن المراد بالحبلة جمع حابل أو حابلة من الحيوان، إلا ما حكاه صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ وغيره عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة الكرمة، وأن النهي عن بيع حبلها أي حملها قبل أن تبلغ كما نهى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تزهى، وعلى هذا فالحبلة بإسكان الموحدة وهو خلاف ما ثبتت به الروايات، لكن حكى في الكرمة فتح الباء، وادعى السهيلي تفرد ابن كيسان به، وليس كذلك فقد حكاه ابن السكيت في ‏"‏ كتاب الألفاظ ‏"‏ ونقله القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ عن أبي العباس المبرد، والهاء على هذا للمبالغة وجها واحدا‏.‏

*3*باب بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بيع الملامسة قال أنس‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه‏)‏ ثم قال ‏"‏ باب بيع المنابذة ‏"‏ وعلق عن أنس مثله، وأورد في البابين حديث أبي سعيد من وجهين وحديث أبي هريرة من وجهين‏.‏

فأما حديث أنس فسيأتي موصولا بعد ثلاثين بابا في ‏"‏ باب بيع المخاضرة‏"‏‏.‏

قوله في حديث أبي سعيد ‏"‏ نهى عن المنابذة ‏"‏ وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه، وسيأتي في اللباس من طريق يونس عن الزهري بلفظ ‏"‏ والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك‏"‏‏.‏

والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون بيعهما عن غير نظر ولا تراض‏.‏

ولأبي عوانة من طريق أخرى عن يونس ‏"‏ وذلك أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها أو يتنابذ القوم السلع كذلك ‏"‏ فهذا من أبواب القمار‏.‏

وفي رواية ابن ماجة من طريق سفيان عن الزهري ‏"‏ والمنابذة أن يقول ألق إلى ما معك وألقى إليك ما معي‏"‏‏.‏

وللنسائي حديث أبي هريرة ‏"‏ الملامسة أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا، والمنابذة أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك، يشتري كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر ونحو ذلك، ولم يذكر التفسير في طريق أبي سعيد الثانية هنا ولا في طريق أبي هريرة، وقد وقع التفسير أيضا عند أحمد من طريق معمر هذه أخرجه عن عبد الرزاق عنه وفي آخره ‏"‏ والمنابذة أن يقول‏:‏ إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع‏.‏

والملامسة أن يلمس بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع ‏"‏ ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة ‏"‏ أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه ‏"‏ وقد تقدم في الصيام من هذا الوجه وليس فيه التفسير، وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة لأنها مفاعلة فتستدعى وجود الفعل من الجانبين‏.‏

واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور وهي أوجه للشافعية‏:‏ أصحها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول له صاحب الثوب بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته، وهذا هو موافق للتفسيرين اللذين في الحديث الثاني، أن يجعلا نفس اللمس بيعا بغير صيغة زائدة‏.‏

الثالث أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس وغيره‏.‏

والبيع على التأويلات كلها باطل، ومأخذ الأول عدم شرط رؤية المبيع واشتراط نفي الخيار، ومأخذ الثاني اشتراط نفي الصيغة في عقد البيع فيؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقا، لكن من أجاز المعاطاة قيدها بالمحقرات أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة، وأما الملامسة والمنابذة عند من يستعملهما فلا يخصهما بذلك، فعلى هذا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة في بعض صور المعاطاة، فلمن يجيز بيع المعاطاة أن يخص النهي في بعض صور الملامسة والمنابذة عما جرت العادة فيه بالمعاطاة، وعلى هذا يحمل قول الرافعي‏:‏ إن الأئمة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف الذي في المعاطاة والله أعلم‏.‏

ومأخذ الثالث شرط نفي خيار المجلس، وهذه الأقوال هي التي اقتصر عليها الفقهاء، ونخرج مما ذكرناه من طرق الحديث زيادة على ذلك‏.‏

وأما المنابذة فاختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال وهي أوجه للشافعية أصحها‏:‏ أن يجعلا نفس النبذ بيعا كما تقدم في الملامسة وهو الموافق، للتفسير في الحديث المذكور، والثاني أن يجعلا النبذ بيعا بغير صيغة، والثالث أن يجعلا النبذ قاطعا للخيار‏.‏

واختلفوا في تفسير النبذ فقيل‏:‏ هو طرح الثوب كما وقع تفسيره في الحديث المذكور، وقيل هو نبذ الحصاة، والصحيح أنه غيره‏.‏

وقد روى مسلم النهي عن بيع الحصاة من حديث أبي هريرة‏.‏

واختلف في تفسير بيع الحصاة فقيل هو أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي حصاة، أو من هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي، وقيل هو أن يشترط الخيار إلى أن يرمي الحصاة، والثالث‏:‏ أن يجعلا نفس الرمي بيعا‏.‏

وقوله في الحديث ‏"‏ لمس الثوب لا ينظر إليه ‏"‏ استدل به على بطلان بيع الغائب وهو قول الشافعي في الجديد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا ويثبت الخيار إذا رآه وحكى عن مالك والشافعي أيضا، وعن مالك يصح إن وصفه وإلا فلا، وهو قول الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأهل الظاهر، واختاره البغوي والروياني من الشافعية وإن اختلفوا في تفاصيله، ويؤيده قوله في رواية أبى عوانة التي قدمتها ‏"‏ لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها ‏"‏ وفي الاستدلال لذلك وفاقا وخلافا طول، واستدل به على بطلان بيع الأعمى مطلقا وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخيار، وقيل يصح إذا وصفه له غيره وبه قال مالك وأحمد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا على تفاصيل عندهم أيضا‏.‏

‏(‏تنبيهات‏)‏ ‏:‏ الأول وقع عند ابن ماجة أن التفسير من قول سفيان بن عيينة، وهو خطأ من قائله بل الظاهر أنه قول الصحابي كما سأبينه بعد‏.‏

الحديث الثاني حديث أبي سعيد اختلف فيه على الزهري‏:‏ فرواه معمر وسفيان وابن أبي حفصة وعبد الله بن بديل وغيرهم عنه عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد، ورواه عقيل ويونس وصالح بن كيسان وابن جريح عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبي سعيد، وروى ابن جريج بعضه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد، وهو محمول عند البخاري على أنها كلها عند الزهري، واقتصر مسلم على طريق عامر بن سعد وحده وأعرض عما سواها؛ وقد خالفهم كلهم الزبيدي فرواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وخالفهم أيضا جعفر بن برقان فرواه عن الزهري عن سالم عن أبيه وزاد في آخره ‏"‏ وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية ‏"‏ أخرجهما النسائي وخطأ رواية جعفر‏.‏

الثالث حديث أبي هريرة أخرجه البخاري عنه من طرق ثالثها طريق حفص بن عاصم عنه وهو في مواقيت الصلاة ولم يذكر في شيء من طرقه عنه تفسير المنابذة والملاسة، وقد وقع تفسيرهما في رواية مسلم والنسائي كما تقدم، وظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النسائي ما يشعر بأنه من كلام من دون النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه ‏"‏ وزعم أن الملامسة أن يقول الخ ‏"‏ فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي لبعد أن يعبر الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ زعم، ولوقوع التفسير في حديث أبي سعيد الخدري من قوله أيضا كما تقدم‏.‏

الرابع وقع في حديث أبي هريرة في الطريق الأولى هنا نهى عن لبستين، واقتصر على لبسة واحدة ولم يذكره في موضع آخر، وقد وقع بيان الثانية عند أحمد من طريق هشام عن محمد بن سيرين ولفظه ‏"‏ أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء، وأن يرتدي في ثوب يرفع طرفيه على عاتقيه‏"‏‏.‏

*3*بَاب بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ

الشرح‏:‏

‏(‏لا يوجد شرح لهذا الحديث‏)‏‏.‏

*3*باب النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ

وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم‏)‏ كذا في معظم الروايات‏.‏

و ‏"‏ لا ‏"‏ زائدة وقد ذكره أبو نعيم بدون ‏"‏ لا ‏"‏ ويحتمل أن تكون ‏"‏ أن ‏"‏ مفسرة و ‏"‏ لا يحفل ‏"‏ بيان للنهي‏.‏

وفي رواية النسفي ‏"‏ نهى البائع أن يحفل الإبل والغنم ‏"‏ وقيد النهي بالبائع إشارة إلى أن المالك لو حفل فجمع اللبن للولد أو لعياله أو لضيفه لم يحرم وهذا هو الراجح كما سيأتي، وذكر البقر في الترجمة وإن لم يذكر في الحديث إشارة إلى أنها في معنى الإبل والغنم في الحكم خلافا لداود، وإنما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم، والتحفيل بالمهملة والفاء التجميع، قال أبو عبيد‏:‏ سميت بذلك لأن اللبن يكثر في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفلته تقول‏:‏ ضرع حافل أي عظيم واحتفل القوم إذا كثر جمعهم ومنه سمى المحفل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكل محفلة‏)‏ بالنصب عطفا على المفعول وهو من عطف العام على الخاص إشارة إلى أن إلحاق غير النعم من مأكول اللحم بالنعم للجامع بينهما وهو تغرير المشتري‏.‏

وقال الحنابلة وبعض الشافعية‏:‏ يختص ذلك بالنعم، واختلفوا في غير المأكول كالأتان والجارية فالأصح لا يرد للبن عوضا، وبه قال الحنابلة في الأتان دون الجارية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمصراة‏)‏ بفتح المهملة وتشديد الراء ‏(‏التي صرى لبنها وحقن فيه‏)‏ أي في الثدي ‏(‏وجمع فلم يحلب‏)‏ وعطف الحقن على التصرية عطف تفسيري لأنه بمعناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأصل التصرية حبس الماء يقال‏:‏ منه صريت الماء إذا حبسته‏)‏ وهذا التفسير قول أبي عبيد وأكثر أهل اللغة‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعَ تَمْرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تصروا‏)‏ بضم أوله وفتح ثانيه بوزن تزكوا يقال صرى يصري تصرية كزكى يزكي تزكية‏.‏

والإبل بالنصب على المفعولية، وقيده بعضهم بفتح أوله وضم ثانيه، والأول أصح لأنه من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته وليس من صررت الشيء إذا ربطته، إذ لو كان منه لقيل مصرورة أو مصررة ولم يقل مصراة، على أنه قد سمع الأمران في كلام العرب‏.‏

قال الأغلب‏:‏ رأت غلاما قد صرى في فقرته ماء الشباب عنفوان سيرته وقال مالك بن نويرة‏:‏ فقلت لقومي هذه صدقاتكم مصررة أخلافها لم تحرر وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه لكن بغير واو على البناء للمجهول والمشهور الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الإبل والغنم‏)‏ لم يذكر البقر، وقد تقدم بيانه في الترجمة، وظاهر النهي تحريم التصرية سواء قصد التدليس أم لا وسيأتي في الشروط من طريق أبي حازم عن أبي هريرة ‏"‏ نهى عن التصرية ‏"‏ وبهذا جزم بعض الشافعية وعلله بما فيه من إيذاء الحيوان لكن أخرج النسائي حديث الباب من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج بلفظ ‏"‏ لا تصروا الإبل والغنم للبيع ‏"‏ وله من طريق أبي كثير السحيمي عن أبي هريرة ‏"‏ إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة فلا يحفلها ‏"‏ وهذا هو الراجح وعليه يدل تعليل الأكثر بالتدليس، ويجاب عن التعليل بالإيذاء بأنه ضرر يسير لا يستمر فيغتفر لتحصيل المنفعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن ابتاعها بعد‏)‏ أي من اشتراها بعد التحفيل، زاد عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد ‏"‏ فهو بالخيار ثلاثة أيام ‏"‏ أخرجه الطحاوي وسيأتي ذكر من وافقه على ذلك، وابتداء هذه المدة من وقت بيان التصرية وهو قول الحنابلة، وعند الشافعية أنها من حين العقد وقيل من التفرق، ويلزم عليه أن يكون الغرر أوسع من الثلاث في بعض الصور وهو ما إذا تأخر ظهور التصرية إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أيضا أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ وذلك يفوت مقصود التوسع بالمدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بخير النظرين‏)‏ أي الرأيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يحتلبها‏)‏ كذا في الأصل وهو بكسر أن على أنها شرطية وجزم يحتلبها، ولابن خزيمة والإسماعيلي من طريق أسيد بن موسى عن الليث ‏"‏ بعد أن يحتلبها ‏"‏ بفتح أن ونصب يحتلبها، وظاهر الحديث أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار ولو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب ذكر قيدا في ثبوت الخيار، فلو ظهرت التصرية بغير الحلب فالخيار ثابت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن شاء أمسك‏)‏ في رواية مالك عن أبي الزناد في آخر الباب ‏"‏ إن رضيها أمسكها ‏"‏ أي أبقاها على ملكه وهو يقتضي صحة بيع المصراة وإثبات الخيار للمشتري، فلو اطلع على عيب بعد الرضا بالتصرية فردها هل يلزم الصاع‏؟‏ فيه خلاف، والأصح عند الشافعية وجوب الرد، ونقلوا نص الشافعي على أنه لا يرد، وعند المالكية قولان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن شاء ردها‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ وإن سخطها ردها ‏"‏ وظاهره اشتراط الفور وقياسا على سائر العيوب، لكن الرواية التي فيها أن له الخيار ثلاثة أيام مقدمة على هذا الإطلاق، ونقل أبو حامد والروياني فيه نص الشافعي وهو قول الأكثر، وأجاب من صحح الأول بأن هذه الرواية محمولة على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثلاث لكون الغالب أنها لا تعلم فيما دون ذلك، قال ابن دقيق العيد‏:‏ والثاني أرجح لأن حكم التصرية قد خالف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده أن في بعض روايات أحمد والطحاوي من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ فهو بأحد النظرين‏:‏ بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وسيأتي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصاع تمر‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ وصاعا من تمر ‏"‏ والواو عاطفة للصاع على الضمير في ردها، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ويستفاد منه فورية الصاع مع الرد، ويجوز أن يكون مفعولا معه، ويعكر عليه قول جمهور النحاة إن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا، فإن قيل التعبير بالرد في المصراة واضح فما معنى التعبير بالرد في الصاع‏؟‏ فالجواب أنه مثل قول الشاعر علفتها تبنا وماء باردا أي علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، ويجعل علفتها مجازا عن فعل شامل للأمرين أي ناولتها، فيحمل الرد في الحديث على نحو هذا التأويل، واستدل به على وجوب رد الصاع مع الشاة إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقيا ولم يتغير فأراد رده هل يلزم البائع قبوله‏؟‏ فيه وجهان أصحهما لا، لذهاب طراوته ولاختلاطه بما تجدد عند المبتاع، والتنصيص على التمر يقتضى تعيينه كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن أبي صالح ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار الخ‏)‏ يعني أن أبا صالح ومن بعده وقع في رواياتهم تعيين التمر، فأما رواية أبي صالح فوصلها أحمد ومسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ ‏"‏ من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام فإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر ‏"‏ وأما رواية مجاهد فوصلها البزار، قال مغلطاي لم أرها إلا عنده‏.‏

قلت‏:‏ قد وصلها أيضا الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن ابن أبي نجيح، والدار قطني من طريق ليث ابن أبي سليم كلاهما عن مجاهد، وأول رواية ليث ‏"‏ لا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم ‏"‏ الحديث، وليث ضعيف وفي محمد بن مسلم أيضا لين وأما رواية الوليد بن رباح وهو بفتح الراء وبالموحدة فوصلها أحمد ابن منيع في مسنده بلفظ ‏"‏ من اشترى مصراة فليرد معها صاعا من تمر ‏"‏ وأما رواية موسى بن يسار - وهو بالتحتانية والمهملة - فوصلها مسلم بلفظ ‏"‏ من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها فإن رضى بها أمسكها وإلا ردها ومعها صاع من تمر ‏"‏ وسياقه يقتضى الفورية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال بعضهم عن ابن سيرين ‏"‏ صاعا من طعام وهو بالخيار ثلاثا‏)‏ وقال بعضهم عن ابن سيرين ‏"‏ صاعا من تمر ‏"‏ ولم يذكر ثلاثا‏)‏ أما رواية من رواه بلفظ الطعام والثلاث فوصلها مسلم والترمذي من طريق قرة بن خالد عنه بلفظ ‏"‏ من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء ‏"‏ وأخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن هشام وحبيب وأيوب عن ابن سيرين نحوه، وأما رواية من رواه بلفظ التمر دون ذكر الثلاث فوصلها أحمد من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ من اشترى شاة مصراة فإنه يحلبها فإن رضيها أخذها وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر ‏"‏ وقد رواه سفيان عن أيوب فذكر الثلاث أخرجه مسلم من طريقه بلفظ ‏"‏ من اشترى شاة مصراة فهو يخير النظرين ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء ‏"‏ ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطعام ولم يقل ثلاثا أخرجه أحمد والطحاوي من طريق عون عن ابن سيرين وخلاس بن عمرو كلاهما عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من اشترى لقحة مصراة أو شاة مصراة فحلبها فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وإناء من طعام ‏"‏ فحصلنا عن ابن سيرين على أربع روايات‏:‏ ذكر التمر والثلاث، وذكر التمر بدون الثلاث، والطعام بدل التمر كذلك‏.‏

والذي يظهر في الجمع بينها أن من زاد الثلاث معه زيادة علم وهو حافظ، ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنه لم يحفظها أو اختصرها وتحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر، وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين ‏"‏ لا سمراء ‏"‏ يعني الحنطة‏.‏

وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول ‏"‏ لا سمراء، تمر ليس ببر ‏"‏ فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر، ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله ‏"‏ لا سمراء‏"‏‏.‏

لكن يعكر على هذا الجمع ما رواه البزار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ إن ردها ردها ومعها صاع من بر، لا سمراء ‏"‏ وهذا يقتضى أن المنفي في قوله لا سمراء حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشامية فيكون المثبت لقوله ‏"‏ من طعام ‏"‏ أي من قمح، ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنه مساويا، وذلك أن المتبادر من الطعام البر فظن الراوي أنه البر فعبر به، وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر لأنه كان غالب قوت أهل المدينة، فهذا طريق الجمع بين مختلف الروايات عن ابن سيرين في ذلك، لكن يعكر على هذا ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث الباب وفيه ‏"‏ فإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر ‏"‏ فإن ظاهره يقتضي التخيير بين التمر والطعام وأن الطعام غير التمر ويحتمل أن تكون ‏"‏ أو ‏"‏ شكا من الراوي لا تخييرا، وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم يصح الاستدلال بشيء منها فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها وهي التمر فهي الراجحة كما أشار إليه البخاري، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ ‏"‏ إن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحا ‏"‏ ففي إسناده ضعف، وقد قال ابن قدامة إنه متروك الظاهر بالاتفاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والتمر أكثر‏)‏ أي أن الروايات الناصة على التمر أكثر عددا من الروايات التي لم تنص عليه أو أبدلته بذكر الطعام‏.‏

فقد رواه بذكر التمر - غير من تقدم ذكره - ثابت بن عياض كما يأتي في الباب الذي يليه وهمام بن منبه عند مسلم وعكرمة وأبو إسحاق عند الطحاوي ومحمد بن زياد عند الترمذي والشعبي عند أحمد وابن خزيمة كلهم عن أبي هريرة، وأما رواية من رواه بذكر الإناء فيفسرها رواية من رواه بذكر الصاع وقد تقدم ضبطه في الزكاة، وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهم من الصحابة‏.‏

وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا، وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون، أما الحنفية فقالوا لا يرد بعيب التصرية ولا يجب رد صاع من التمر، وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور إلا أنه قال يتخير بين صاع تمر أو نصف صار بر، وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أنهما قالا لا يتعين صاع التمر بل قيمته‏.‏

وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك لكن قالوا يتعين قوت البلد قياسا على زكاة الفطر، وحكى البغوي أن لا خلاف في المذهب أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفي، وأثبت ابن كج الخلاف في ذلك، وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر هل تلزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه‏؟‏ وبالثاني قال الحنابلة، واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى‏:‏ فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يأخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس أتجلى لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك، وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك‏.‏

وقال ابن السمعاني في ‏"‏ الاصطلام ‏"‏‏:‏ التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له - يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع أيضا - وفيه قوله ‏"‏ إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا ‏"‏ الحديث‏.‏

ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوف المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها، ومنهم من قال هو حديث مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة وبالإناء أخرى‏.‏

والجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها كما تقدم، والضعيف لا يعل به الصحيح‏.‏

ومنهم من قال هو معارض لعموم القرآن كقوله تعالى ‏(‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏)‏ وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل وبغير المثل‏.‏

ومنهم من قال هو منسوخ، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه لأنهم اختلفوا في الناسخ فقيل‏:‏ حديث النهي عن بيع الدين بالدين، وهو حديث أخرجه ابن ماجة وغيره من حديث ابن عمر، ووجه الدلالة منه أن لبن المصراة يصير دينا في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر نسيئة صار دينا بدين، وهذا جواب الطحاوي، وتعقب بأن الحديث ضعيف، باتفاق المحدثين، وعلى التنزل فالتمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء كان اللبن موجودا أو غير موجود فلم يتعين في كونه من الدين بالدين، وقيل ناسخه حديث ‏"‏ الخراج بالضمان ‏"‏ وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن عائشة، ووجه الدلالة منه أن اللبن فضلة من فضلات الشاة ولو هلكت لكان من ضمان المشتري فكذلك فضلاتها تكون له فكيف يغرم بدلها للبائع‏؟‏ حكاه الطحاوي أيضا، وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق فكيف يقدم المرجوح على الراجح‏؟‏ ودعوى كونه بعده لا دليل عليها، وعلى التنزال فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين على هذا تعارض‏.‏

وقيل ناسخه الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعة قبل ذلك كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده في مانع الزكاة ‏"‏ فإنا آخذوها وشطر ماله ‏"‏ وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في الذي يسرق من الجرين يغرم مثليه وكلاهما في السنن، وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصراة من هذا القبيل وهي كلها منسوخة، وتعقبه الطحاوي بأن التصرية إنما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم، والفرض أن حديث المصراة يقتضي تغريم المشتري فافترقا‏.‏

ومنهم من قال ناسخه حديث ‏"‏ والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا ‏"‏ وهذا جواب محمد بن شجاع، ووجه الدلالة منه أن الفرقة تقطع الخيار فثبت أن لا خيار بعدها إلا لمن استثناه الشارع بقوله ‏"‏ إلا بيع الخيار ‏"‏ وتعقبه الطحاوي بأن الخيار الذي في المصراة من خيار الرد بالعيب، وخيار الرد بالعيب لا تقطعه الفرقة، ومن الغريب أنهم لا يقولون بخيار المجلس ثم يحتجون به فيما لم يرد فيه‏.‏

ومنهم من قال هو خبر واحد لا يفيد إلا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به فلا يلزم العمل به، وتعقب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخير إنما خالف قياس الأصول بدليل أن الأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما، فالسنة أصل والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع‏؟‏ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال إن الأصل يخالف نفسه‏؟‏ وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهذا أقوى متمسك به في الرد على هذا المقام‏.‏

وقال ابن السمعاني‏:‏ متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود باتفاق فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف، إلى أن قال‏:‏ والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة لكنها ليست لازمة لأن السنة الثابتة مقدمة عليها والله تعالى أعلم‏.‏

وعلى تقدير التنزل فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول لأن الذي ادعوه عليه من المخالفة بينوها بأوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة، وهاهنا إن كان اللبن مثليا فليضمن باللبن وإن كان متقوما فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونا بالتمر فخالف الأصل‏.‏

والجواب منع الحصر، فإن الحر يضمن في ديته بالإبل وليست مثلا ولا قيمة‏.‏

وأيضا فضمان المثل بالمثل ليس مطردا فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة كمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر لتعذر المماثلة‏.‏

ثانيها‏:‏ أن القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف، وقد قدر هنا بمقدار واحد وهو الصاع فخرج عن القياس‏.‏

والجواب منع التعميم في المضمونات كالموضحة فأرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك أن كل ما يقع فيه التنازع فليقدر بشيء معين لقطع التشاجر، وتقدم هذه المصلحة على تلك القاعدة فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النزاع والخصام، فقطع الشارع النزاع والخصام وقدره بحد لا يتعديانه فصلا للخصومة‏.‏

وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه كان قوتهم إذ ذاك كاللبن وهو مكيل كاللبن ومقتات فاشتركا في كون كل واحد منهما مطعوما مقتاتا مكيلا، واشتركا أيضا في أن كلا منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج‏.‏

ثالثها‏:‏ أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه، وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد وما كان حادثا لم يجب ضمانه، والجواب أن يقال إنما يمتنع الرد بالنقص إذا لم يكن لاستعلام العيب وإلا فلا يمتنع وهنا كذلك‏.‏

رابعها‏:‏ أنه خالف الأصول في جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث وكذا خيار المجلس عند من يقول به وخيار الرؤية عند من يثبته، والجواب بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة فلا يستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره، والحكمة فيه أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة من اللبن المجتمع بالتدليس غالبا فشرعت لاستعلام العيب، بخلاف خيار الرؤية والعيب فلا يتوقف على مدة، وأما خيار المجلس فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخيار في المصراة وغيرها‏.‏

خامسها‏:‏ أنه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض فيما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه من الصاع الذي هو مقدار ثمنها‏.‏

والجواب أن التمر عوض عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم ما ذكروه‏.‏

سادسها‏:‏ أنه مخالف لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع، والجواب أن الربا إنما يعتبر في العقود لا الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يحز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض‏.‏

سابعها‏:‏ أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا، والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب‏.‏

والجواب أن اللبن وإن كان موجودا لكنه تعذر رده، لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وتعذر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد‏.‏

ثامنها‏:‏ أنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، أما الشرط فلم يوجد وأما العيب فنقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية، والجواب أن الخيار يثبت بالتدليس كمن باع رحى دائرة بما جمعه لها بغير علم المشتري فإذا اطلع عليه المشتري كان له الرد، وأيضا فالمشتري لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها فكأن البائع شرط له ذلك فتبين الأمر بخلافه فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر المشتري على صفة فبان الأمر بخلافها كان قد دلس عليه فشرع له الخيار وهذا هو محض القياس ومقتضى العدل، فإن المشتري إنما بذل ماله بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر وليس هناك عيب ولا خلف في شرط‏.‏

ولكن لما فيه من الغش والتدليس‏.‏

ومنهم من قال الحديث صحيح لا اضطراب فيه ولا علة ولا نسخ وإنما هو محمول على صورة مخصوصة وهو ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب مثلا خمسة أرطال وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل العقد ووجب رد الصاع من التمر لأنه كان قيمة اللبن يومئذ، وتعقب بأن الحديث ظاهر في تعليق الحكم التصرية، وما ذكره هذا القائل يقتضى تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت التصرية أم لا فهو تأويل متعسف، وأيضا فلفظ الحديث لفظ عموم، وما ادعوه على تقدير تسليمه فرد من أفراد ذلك العموم فيحتاج من ادعى قصر العموم عليه الدليل على ذلك ولا وجود له، قال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل في ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب، وأصل في أنه لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها، وقد روى أحمد وابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا ‏"‏ بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم ‏"‏ وفي إسناده ضعف قد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق موقوفا بإسناد صحيح، وروى ابن أبي شيبة من طريق قيس بن أبي حازم قال كان يقال‏:‏ التصرية خلابة، وإسناده صحيح، واختلف القائلون به في أشياء منها لو كان عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار‏؟‏ فيه وجه للشافعية، ويرجح أنه لا يثبت رواية عكرمة عن أبي هريرة في هذا الحديث عند الطحاوي فإن لفظه ‏"‏ من اشترى مصراة ولم يعلم أنها مصراة ‏"‏ الحديث‏.‏

ولو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد‏؟‏ فيه وجه لهم أيضا خلافا للحنابلة في المسألتين‏.‏

ومنها لو تحفلت بنفسها أو صرها المالك لنفسه ثم بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم‏؟‏ فيه خلاف‏:‏ فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس للبائع، ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما تناولها فقط‏.‏

ومنها لو كان الضرع مملوءا لحما وظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل يثبت له الخيار‏؟‏ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية‏.‏

ومنها لو اشترى غير المصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها، فقد نص الشافعي على جواز الرد مجانا لأنه قليل غير معتنى بجمعه، وقيل يرد بدل اللبن كالمصراة‏.‏

وقال البغوي يرد صاعا من تمر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مسدد حدثنا معتمر‏)‏ سيأتي في ‏"‏ باب النهي عن تلقي الركبان ‏"‏ بعد سبعة أبواب عن مسدد عن يزيد بن زريع، وكأن الحديث عند مسدد عن شيخين فذكره المصنف عنه في موضعين، وسياقه عن معتمر أتم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت أبي‏)‏ هو سليمان التيمي، وأبو عثمان هو النهدي، ورجال الإسناد بصريون سوى الصحابي قوله‏:‏ ‏(‏قال من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا من تمر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تلقى البيوع‏)‏ هكذا رواه الأكثر عن معتمر بن سليمان موقوفا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد الله ابن معاذ عن معتمر مرفوعا وذكر أن رفعه غلط، ورواه أكثر أصحاب سليمان عنه كما هنا‏:‏ حديث المحفلة موقوف من كلام ابن مسعود، وحديث النهي عن التلقي مرفوع‏.‏

وخالفهم أبو خالد الأحمر عن سليمان التيمي فرواه بهذا الإسناد مرفوعا أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى وهمه أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فردها‏)‏ أي أراد ردها، بقرينة قوله ‏"‏ فليرد معها ‏"‏ عملا بحقيقة المعية، أو تحمل المعية على البعدية فلا يحتاج الرد إلى تأويل‏.‏

وقد وردت مع بمعنى البعدية كقوله تعالى ‏(‏وأسلمت مع سليمان‏)‏ الآية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ

الشرح‏:‏

قوله في رواية مالك ‏(‏لا تلقوا الركبان‏)‏ يأتي الكلام عليه بعد أبواب وعلى بيع الحاضر للبادي قريبا، ومضى الكلام على البيع وعلى النجش، ومضى الكلام على التصرية بما يغني عن إعادته‏.‏

*3*باب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إن شاء رد المصرأة وفي حلبتها‏)‏ بسكون اللام على أنه اسم الفعل ويجوز الفتح على إرادة المحلوب، وظاهره أن التمر مقابل للحلبة، وزعم ابن حزم أن التمر في مقابلة الحلب لا في مقابلة اللبن لأن الحلبة حقيقة في الحلب مجاز في اللبن والحمل على الحقيقة أولى فلذلك قال يجب رد التمر واللبن معا وشذ بذلك عن الجمهور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن عمرو‏)‏ كذا للأكثر غير منسوب، ووقع في رواية عبد الرحمن الهمداني عن المستملي ‏"‏ محمد بن عمرو بن جبلة ‏"‏ وكذا قال أبو أحمد الجرجاني في روايته عن الفربري‏.‏

وفي رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري ‏"‏ حدثنا محمد بن عمرو يعني ابن جبلة ‏"‏ وأهمله الباقون، وجزم الدار قطني بأنه محمد بن عمرو أبو غسان الرازي المعروف بزنيج، وجزم الحاكم والكلاباذي بأنه محمد بن عمرو السواق البلخي، والأول أولى، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا المكي‏)‏ هو ابن إبراهيم، وهو من مشايخ البخاري وستأتي روايته عنه بلا واسطة في ‏"‏ باب لا يشتري حاضر لباد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني زياد‏)‏ هو ابن سعد الخراساني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن ثابتا‏)‏ هو ابن عياض، وعبد الرحمن بن زيد مولاه من فوق أي ابن الخطاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من اشترى غنما مصراة فاحتلبها‏)‏ ظاهره أن صاع التمر متوقف على الحلب كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففي حلبتها صاع من تمر‏)‏ ظاهره أن صاع التمر في مقابل المصراة سواء كانت واحدة أو أكثر لقوله ‏"‏ من اشترى غنما ‏"‏ ثم قال ‏"‏ ففي حلبتها صاع من تمر ‏"‏ ونقله ابن عبد البر عمن استعمل الحديث، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قدامة عن الشافعية والحنابلة، وعن أكثر المالكية يرد عن كل واحدة صاعا حتى قال المازري‏:‏ من المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاة كما يغرم متلف لبن شاة واحدة، وأجيب بأن ذلك مغتفر بالنسبة إلى ما تقدم من أن الحكمة في اعتبار الصاع قطع النزاع فجعل حدا يرجع إليه عند التخاصم فاستوى القليل والكثير، ومن المعلوم أن لبن الشاة الواحدة أو الناقة الواحدة يختلف اختلافا متباينا، ومع ذلك فالمعتبر الصاع سواء قل اللبن أم كثر، فكذلك هو معتبر سواء قلت المصراة أو كثرت‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏