فصل: باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج‏)‏ ‏؟‏ يعني أم لا‏؟‏ ولا منافاة بين هذه الترجمة والتي قبلها، لأن التي قبلها آذنت بأن الإعسار بالكفارة لا يسقطها عن الذمة لقوله فيها ‏"‏ إذا جامع ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر ‏"‏ والثانية ترددت هل المأذون له بالتصرف فيه نفس الكفارة أم لا‏؟‏ وعلى هذا يتنزل لفظ الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً قَالَ لَا قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا قَالَ أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن منصور‏)‏ هو ابن المعتمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الزهري عن حميد‏)‏ كذا للأكثر من أصحاب منصور عنه، وكذا رواه مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن منصور، وخالفه مهران بن أبي عمر فرواه عن الثوري بهذا الإسناد فقال ‏"‏ عن سعيد ابن المسيب ‏"‏ بدل حميد بن عبد الرحمن أخرجه ابن خزيمة، وهو قول شاذ والمحفوظ الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الأخر‏)‏ بهمزة غير ممدودة بعدها خاء معجمة مكسورة، تقدم في أوائل الباب الذي قبله، وحكى ابن القوطية فيه مد الهمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتجد ما تحرر رقبة‏)‏ ‏؟‏ بالنصب على البدل من لفظ ‏"‏ ما ‏"‏ وهي مفعول بتجد، ومثله قوله ‏"‏ أفتجد ما تطعم ستين مسكينا ‏"‏ وقد تقدم باقي الكلام عليه مستوفى في الذي قبله، وقد اعتنى به بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصله إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة عليه، فلله الحمد على ما أنعم‏.‏

*3*باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ

وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَا تَنْهَى وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ قِيلَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحجامة والقيء للصائم‏)‏ أي هل يفسدان هما أو أحدهما الصوم أو لا‏؟‏ قال الزين بن المنير‏:‏ جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما، وعادته تفريق التراجم إذا نظمها خبر واحد فضلا عن خبرين، وإنما صنع ذلك لاتحاد مأخذهما لأنهما إخراج والإخراج لا يقتضي الإفطار، وقد أومأ ابن عباس إلى ذلك كما سيأتي البحث فيه، ولم يذكر المصنف حكم ذلك، ولكن إيراده للآثار المذكورة يشعر بأنه يرى عدم الإفطار بهما، ولذلك عقب حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ بحديث ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ‏"‏ وقد اختلف السلف في المسألتين‏:‏ أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود لا يفطر مطلقا وهي إحدى الروايتين عن مالك، واستدل الأبهري بإسقاط القضاء عمن تقيأ عمدا بأنه لا كفارة عليه على الأصح عندهم قال فلو وجب القضاء لوجبت الكفارة، وعكس بعضهم فقال هذا يدل على اختصاص الكفارة بالجماع دون غيره من المفطرات، وارتكب عطاء والأوزاعي وأبو ثور فقالوا يقضي ويكفر، ونقل ابن المنذر أيضا الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن‏.‏

وأما الحجامة فالجمهور أيضا على عدم الفطر بها مطلقا، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء‏.‏

وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا‏.‏

وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان‏.‏

ونقل الترمذي عن الزعفران أن الشافعي علق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية، وحجة الفريقين قد ذكرها المصنف في هذا الباب، وسنذكر البحث في ذلك في آخر الباب إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال لي يحيى بن صالح‏)‏ هكذا وقع في جميع النسخ من الصحيح، وعادة البخاري الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات إذا أسندها‏.‏

وقوله في الإسناد ‏"‏ حدثنا يحيى ‏"‏ هو ابن أبي كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا قاء فلا يفطر، إنما يخرج ولا يولج‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ أنه يخرج ولا يولج ‏"‏ قال ابن المنير في الحاشية يؤخذ من هذا الحديث أن الصحابة كانوا يؤولون الظاهر بالأقيسة من حيث الجملة، ونقض غيره هذا الحضر بالمني فإنه إنما يخرج، وهو موجب للقضاء والكفارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر، والأول أصح‏)‏ كأنه يشير بذلك إلى ما رواه هو في ‏"‏ التاريخ الكبير ‏"‏ قال‏:‏ قال لي مسدد عن عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه قال ‏"‏ من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه القضاء، وإن استقاء فليقض ‏"‏ قال البخاري‏:‏ لم يصح، وإنما يروى عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعبد الله ضعيف جدا‏.‏

ورواه الدارمي من طريق عيسى بن يونس، ونفل عن عيسى أنه قال‏:‏ زعم أهل البصرة أن هشاما وهم فيه‏.‏

وقال أبو داود سمعت أحمد يقول‏:‏ ليس من ذا شيء‏.‏

ورواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم من طريق عيسى بن يونس به وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من رواية عيسى بن يونس عن هشام‏.‏

وسألت محمدا عنه فقال‏:‏ لا أراه محفوظا‏.‏

انتهى‏.‏

وقد أخرجه ابن ماجة والحاكم من طريق حفص بن غياث أيضا عن هشام قال‏:‏ وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا يصح إسناده ولكن العمل عليه عند أهل العلم‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة ‏"‏ إذا قاء لا يفطر ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ إنه يفطر ‏"‏ مما فصل في حديثه هذا المرفوع، فيحتمل قوله قاء أنه تعمد القيء واستدعى به، وبهذا أيضا يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أي استقاء عمدا، وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم، حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ ليس في الحديث أن القيء فطره، وإنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك‏.‏

وتعقبه ابن المنير بأن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل، وليس مما خرج‏)‏ أما قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال‏:‏ الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل، وروى من طريق إبراهيم النخعي أنه سئل عن ذلك فقال ‏"‏ قال عبد الله يعني ابن مسعود فذكر مثله ‏"‏ وإبراهيم لم يلق ابن مسعود وإنما أخذ عن كبار أصحابه، وأما قول عكرمة فوصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن حصين عن عكرمة مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل‏)‏ وصله مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أنه احتجم وهو صائم، ثم ترك ذلك، وكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري ‏"‏ كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف ‏"‏ هكذا وجدته منقطعا، ووصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وكان ابن عمر كثير الاحتياط، فكأنه ترك الحجامة نهارا لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واحتجم أبو موسى ليلا‏)‏ وصله ابن أبي شيبة من طريق حميد الطويل ‏"‏ عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي العالية قال‏:‏ ‏"‏ دخلت على أبي موسى وهو أمير البصرة ممسيا فوجدته يأكل تمرا وكامخا وقد احتجم، فقلت له ألا تحتجم نهارا‏؟‏ قال‏:‏ أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم ‏"‏‏؟‏ ورواه النسائي والحاكم من طريق مطر الوراق ‏"‏ عن بكر أن أبا رافع قال‏:‏ دخلت على أبي موسى وهو يحتجم ليلا فقلت‏:‏ ألا كان هذا نهارا‏؟‏ فقال‏:‏ أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ قال الحاكم سمعت أبا على النيسابوري يقول‏:‏ قلت لعبدان الأهوازي يصح في ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ شيء‏؟‏ قال سمعت عباسا العنبري يقول سمعت علي بن المديني يقول‏:‏ قد صح حديث أبي رافع عن أبي موسى‏.‏

قلت‏:‏ إلا أن مطرا خولف في رفعه فالله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما‏)‏ هكذا أخرجه بصيغة التمريض، والسبب في ذلك يظهر بالتخريج، فأما أثر سعد وهو ابن أبي وقاص فوصله مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن ابن شهاب ‏"‏ أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان ‏"‏ وهذا منقطع عن سعد، لكن ذكره ابن عبد البر من وجه آخر عن عامر بن سعد عن أبيه، وأما أثر زيد بن أرقم فوصله عبد الرزاق ‏"‏ عن الثوري عن يونس بن عبد الله الجرمي عن دينار قال‏:‏ حجمت زيد بن أرقم وهو صائم ‏"‏ ودينار هو الحجام مولى جرم بفتح الجيم لا يعرف إلا في هذا الأثر‏.‏

وقال أبو الفتح الأزدي لا يصح حديثه‏.‏

وأما أثر أم سلمة فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري أيضا ‏"‏ عن فرات عن مولى أم سلمة أنه رأى أم سلمة تحتجم وهي صائمة ‏"‏ وفرات هو ابن عبد الرحمن ثقة لكن مولى أم سلمة مجهول الحال‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وممن رخص في الحجامة للصائم أنس وأبو سعيد والحسين بن علي وغيرهم من الصحابة والتابعين، ثم ساق ذلك بأسانيده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال بكير عن أم علقمة‏:‏ كنا نحتجم عند عائشة فلا ننهى‏)‏ أما بكير فهو ابن عبد الله ابن الأشج، وأما أم علقمة فاسمها مرجانة‏.‏

وقد وصله البخاري في تاريخه من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أم علقمة قالت ‏"‏ كنا نحتجم عند عائشة ونحن صيام وبنو أخي عائشة فلا تنهاهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويروى عن الحسن عن غير واحد مرفوعا‏:‏ أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ وصله النسائي من طرق عن أبي حرة عن الحسن به‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ روى يونس عن الحسن حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ عن أبي هريرة، ورواه قتادة عن الحسن عن ثوبان، ورواه عطاء بن السائب عن الحسن عن معقل بن يسار، ورواه مطر عن الحسن عن علي، ورواه أشعث عن الحسن عن أسامة، زاد الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ أنه اختلف على عطاء بن السائب في الصحابي فقيل‏:‏ معقل بن يسار المزني، وقبل معقل ابن سنان الأشجعي، وروي عن عاصم عن الحسن عن معقل بن يسار أيضا، وقيل عن مطر عن الحسن عن معاذ‏.‏

واختلف على قتادة عن الحسن في الصحابي فقيل أيضا على، وقيل أبو هريرة‏.‏

قلت‏:‏ واختلف على يونس أيضا كما سأذكره‏.‏

قال‏:‏ وقال أبو حرة ‏"‏ عن الحسن عن غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال فإن كان حفظه صحت الأقوال كلها‏.‏

قلت‏:‏ لم ينفرد به أبو حرة كما سأبينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال لي عياش‏)‏ بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يونس‏)‏ هو ابن عبيد ‏(‏عن الحسن‏)‏ مثله أي ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل له‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال نعم‏.‏

ثم قال‏:‏ الله أعلم‏)‏ وهذا متابع لأبي حرة عن الحسن، وقد أخرجه البخاري في تاريخه والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثني عياش فذكره، رواه عن ابن المديني في ‏"‏ العلل ‏"‏ والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثنا المعتمر هو ابن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن عن غير واحد به، ورواية يونس عن الحسن عن أبي هريرة عند النسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن يونس، وأخرجه من طريق بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قوله، وذكره الدار قطني من طريق عبيد الله بن تمام عن يونس عن الحسن عن أسامة، والاختلاف على الحسن في هذا الحديث واضح لكن نقل الترمذي في ‏"‏ العلل الكبير ‏"‏ عن البخاري أنه قال‏:‏ يحتمل أن يكون سمعه عن غير واحد، وكذا قال الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ إن كان قول الحسن عن غير واحد من الصحابة محفوظا صحت الأقوال كلها‏.‏

قلت‏:‏ يريد بذلك انتفاء الاضطراب، وإلا فالحسن لم يسمع من أكثر للمذكورين‏.‏

ثم الظاهر من السياق أن الحسن كان يشك في رفعه وكأنه حصل له بعد الجزم تردد، وحمل الكرماني جزمه على وثوقه بخبر من أخبره به، وتردده لكونه خبر واحد فلا يفيد اليقين، وهو حمل في غاية البعد‏.‏

ونقل الترمذي أيضا عن البخاري يعني عن أبي قلابة، قال‏:‏ كلاهما عندي صحيح لأن يحيى بن أبي كثير روي عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد روى الحديثين جميعا، يعني فانتفى الاضطراب وتعين الجمع بذلك‏.‏

وكذا قال عثمان الدارمي‏:‏ صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد قال‏:‏ وسمعت أحمد يذكر ذلك‏.‏

وقال المروزي‏:‏ قلت لأحمد إن يحيى بن معين قال ليس فيه شيء يثبت، فقال‏:‏ هذا مجازفة‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ صح الحديثان جميعا، وكذا قال ابن حبان والحاكم، وأطنب النسائي في تخريج طرق هذا المتن وبيان الاختلاف فيه فأجاد وأفاد‏.‏

وقال أحمد‏:‏ أصح بشيء في باب ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ حديث رافع بن خديج‏.‏

قلت‏:‏ يريد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب ابن يزيد عن رافع، لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا فقال‏:‏ حديث رافع أضعفها‏.‏

وقال البخاري‏:‏ هو غير محفوظ‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه‏:‏ هو عندي باطل‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ سألت إسحاق بن منصور عنه فأبي أن يحدثني به عن عبد الرزاق وقال‏:‏ هو غلط، قلت ما علته‏؟‏ قال‏:‏ روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد حديث ‏"‏ مهر البغي خبيث ‏"‏ وروى عن يحيى عن أبي قلابة أن أبا أسماء حدثه أن ثوبان أخبره به، فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي في ‏"‏ اختلاف الحديث ‏"‏ بعد أن أخرج حديث شداد ولفظه ‏"‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال وهو آخذ بيدي‏:‏ أفطر الحاجم والمحجوم، ثم ساق حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم قال‏:‏ وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلى احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة‏.‏

قلت‏:‏ وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث ابن عباس عقب حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ وحكى الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول بأن الحجامة تفطر على صحة الحديث، قال الترمذي‏:‏ كان الشافعي يقول ذلك ببغداد وأما بمصر فمال إلى الرخصة والله أعلم‏.‏

وأول بعضهم حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ أن المراد به أنهما سيفطران كقوله تعالى ‏(‏إني أراني أعصر خمرا‏)‏ أي ما يؤول إليه، ولا يخفى تكلف هذا التأويل، ويقربه ما قال البغوي في ‏"‏ شرح السنة ‏"‏ معنى قوله ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏‏:‏ أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول أمره إلى أن يفطر، وقيل معنى أفطرا فعلا مكروها وهو الحجامة فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة، وسأذكر بقية كلامهم في الحديث الذي يليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم‏)‏ هكذا أخرجه من طريق وهيب عن عكرمة عن ابن عباس، وتابعه عبد الوارث عن أيوب موصولا كما سيأتي في الطب، ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلا واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله، وقد بين ذلك النسائي‏.‏

وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس فيه ‏"‏ صائم ‏"‏ إنما هو ‏"‏ وهو محرم‏"‏، ثم ساقه من طرق عن ابن عباس لكن ليس فيها طريق أيوب هذه، والحديث صحيح لا مرية فيه‏.‏

قال ابن عبد البر وغيره‏:‏ فيه دليل على أن حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ منسوخ لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع، وسبق إلى ذلك الشافعي، واعترض ابن خزيمة بأن في هذا الحديث أنه كان صائما محرما، قال ولم يكن قط محرما مقيما ببلده إنما كان محرما وهو مسافر، والمسافر إن كان ناويا للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر، قال‏:‏ فليس في خبر ابن عباس ما يدل على إفطار المحجوم فضلا عن الحاجم ا ه‏.‏

وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا إلا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت منه الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر‏.‏

وقال ابن خزيمة أيضا‏:‏ جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل له فالغيبة تفطر الصائم‏؟‏ قال لا، قال فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث بلا شبهة‏.‏

انتهى‏.‏

وقد أخرج الحديث المشار إليه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله، ويزيد بن ربيعة متروك وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ صح حديث ‏"‏ أفطر الحاجم والمحجوم ‏"‏ بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد ‏"‏ أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم ‏"‏ وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما‏.‏

انتهى‏.‏

والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدار قطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدار قطني ولفظه ‏"‏ أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أفطر هذان‏.‏

ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم‏.‏

وكان أنس يحتجم وهو صائم ‏"‏ ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك‏.‏

ومن أحسن ما ورد في ذل‏:‏ ما رواه عبد الرزاق وأبو داود من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ نهى النبي عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه ‏"‏ إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله ‏"‏إبقاء على أصحابه ‏"‏ يتعلق بقوله نهى، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه ‏"‏ عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف ‏"‏ أي لئلا يضعف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت ثابتا البناني قال‏:‏ سئل أنس بن مالك‏)‏ كذا في أكثر أصول البخاري ‏"‏ سئل ‏"‏ بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية أبي الوقت ‏"‏ سأل أنسا ‏"‏ وهذا غلط فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس، وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت فرواه الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبد الوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال ‏"‏ عن شعبة عن حميد قال سمعت ثابتا وهو يسأل أنس بن مالك ‏"‏ فذكر الحديث، وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد، قال الإسماعيلي‏:‏ وكذلك رواه على بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد شبابة حدثنا‏:‏ شعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا يشعر بأن رواية شبابة موافقة لرواية آدم في الإسناد والمتن إلا أن شبابة زاد فيه ما يؤكد رفعه‏.‏

وقد أخرج ابن منده في ‏"‏ غرائب شعبة ‏"‏ طريق شبابة فقال ‏"‏ حدثنا محمد بن أحمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن روح حدثنا شبابة حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد ‏"‏ وبه ‏"‏ عن شبابة عن شعبة عن حميد عن أنس ‏"‏ نحوه وهذا يؤكد صحة ما اعترض به الإسماعيلي ومن تبعه ويشعر بأن الخلل فيه من غير البخاري، إذ لو كان إسناد شبابة عنده مخالفا لإسناد آدم لبينه وهو واضح لا خفاء به، والله أعلم بالصواب

*3*باب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصوم في السفر والإفطار‏)‏ أي إباحة ذلك وتخيير المكلف فيه سواء كان رمضان أو غيره، وسأذكر بيان الاختلاف في ذلك بعد باب، وذكر المؤلف في الباب حديث عبد الله بن أبي أوفى وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب وموضـع الدلالة منه ما يشعر به سياقه من مراجعة الرجل له بكون الشمس لم تغرب في جواب طلبه لما يشير به، فهو ظاهر في أنه كان صلى الله عليه وسلم صائما، وقد كره في ‏"‏ باب متى يحل فطر الصائم ‏"‏ وفي غيره بلفظ صريح في ذلك حيث قال ‏"‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الشمس يا رسول الله‏)‏ بالرفع، ويجوز النصب وتوجيههما ظاهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه جرير وأبو بكر بن عياش عن الشيباني‏)‏ يعني تابعا سفيان وهو ابن عيينة، والشيباني هو أبو إسحاق شيخهم فيه، ومتابعة جرير وصلها المؤلف في الطلاق، ومتابعة أبي بكر ستأتي موصولة بعد قليل في ‏"‏ باب تعجيل الإفطار ‏"‏ وتابعهم غير من ذكر كما سيأتي ولفظهم متقارب، والمراد المتابعة في أصل الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو القطان، وهشام هو ابن عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن حمزة بن عمرو الأسلمي‏)‏ هكذا رواه الحفاظ عن هشام‏.‏

وقال عبد الرحيم بن سليمان عند النسائي والدراوردي عند الطبراني ويحيى بن عبد الله بن سالم عند الدار قطني ثلاثتهم عن هشام عن أبيه عن عائشة عن حمزة بن عمرو جعلوه من مسند حمزة والمحفوظ أنه من مسند عائشة، ويحتمل أن يكون هؤلاء لم يقصدوا بقولهم ‏"‏ عن حمزة ‏"‏ الرواية عنه وإنما أرادوا الإخبار عن حكايته فالتقدير عن عائشة عن قصة حمزة أنه سأل، لكن قد صح مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم من طريق أبي الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة، وكذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة لكنه أسقط أبا مراوح والصواب إثباته، وهو محمول على أن لعروة فيه طريقين‏:‏ سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مراوح عن حمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أسرد الصوم‏)‏ أي أتابعه، واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر، ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أأصوم في السفر الخ‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر‏.‏

قلت‏:‏ وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مراوح التي ذكرتها عند مسلم أنه قال ‏"‏ يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هي رخصة من الله، فن أخذ بها حسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ‏"‏ وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام، الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب‏.‏

وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال ‏"‏ يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة، وأجدني أن أصوم أهون علي من أن أوخره فيكون دينا علي، فقال‏:‏ أي ذلك شئت يا حمزة‏"‏‏.‏

*3*باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر‏)‏ أي هل يباح له الفطر أو لا، وكأنه أشار إلى تضعيف ما روي عن علي، وإلى رد ما روي عن غيره في ذلك، قال ابن المنذر‏:‏ روي عن علي بإسناد ضعيف‏.‏

وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما ونقله النووي عن أبي مجلز وحده، ووقع في بعض الشروح أبو عبيدة وهو وهم، قالوا‏:‏ إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏)‏ قال‏:‏ وقال اكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال‏:‏ قوله تعالى ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏)‏ نسخها قوله تعالى ‏(‏ومن كان مريضا أو على سفر‏)‏ الآية‏.‏

ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس المذكور في هذا الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرج إلى مكة‏)‏ كان ذلك في غزوة الفتح كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما بلغ الكديد‏)‏ بفتح الكاف وكسر الدال المهملة مكان معروف وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عسفان وقديد، يعني بضم القاف على التصغير‏.‏

ووقع في رواية المستملي وحده نسبة هذا التفسير للبخاري، لكن سيأتي في المغازي موصولا من وجه آخر في نفس الحديث، وسيأتي قريبا عن ابن عباس من وجه آخر ‏"‏ حتى بلغ عسفان ‏"‏ بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان، قال البكري‏:‏ هو بين أمج - بفتحتين وجيم - وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير‏.‏

ووقع عند مسلم في حديث جابر ‏"‏ فلما بلغ كراع الغميم ‏"‏ هو بضم الكاف والغميم بفتح المعجمة وهو اسم واد أمام عسفان، قال عياض‏:‏ اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكل في قصة واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل عسفان ا ه، وسيأتي في المغازي من طريق معمر عن الزهري سياق هذا الحديث أوضح من رواية مالك، ولفظ رواية معمر ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا، قال الزهري‏:‏ وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم من طريق الليث عن الزهري ولفظه ‏"‏ حتى بلغ الكديد أفطر، قال وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ‏"‏ وأخرجه من طريق سفيان عن الزهري قال مثله، قال سفيان‏:‏ لا أدري من قول من هو، ثم أخرجه من طريق معمر ومن طريق يونس كلاهما عن الزهري، وبينا أنه من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري في الجهاد، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك كما سيأتي قريبا‏.‏

وأخرج البخاري في المغازي أيضا من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس ‏"‏ زاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس ‏"‏ ثم دعا بماء فشرب نهارا ليراه الناس ‏"‏ وأخرجه الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه ‏"‏ فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب ‏"‏ ولمسلم من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر في هذا الحديث ‏"‏ فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر ‏"‏ وله من وجه آخر عن جعفر ‏"‏ ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال‏:‏ أولئك العصاة ‏"‏ واستدل بهذا الحديث على تحتم الفطر في السفر، ولا دلالة فيه كما سيأتي‏.‏

واستدل به على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه‏.‏

ووقع في رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري في حديث الباب أنه خرج لعشر مضين من رمضان، ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف من الرواة في ضبط ذلك، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه، واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار‏؟‏ منعه الجمهور‏.‏

وقال أحمد وإسحاق بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، فقيل له قال كذلك، ظنا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، وليس كذلك فإن بين المدينة والكديد عدة أيام‏.‏

وقد وقع في البويطي مثل ما وقع عند المزني فسلم المزني، وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يركب‏.‏

ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكل مفطر، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره فمنعه في الجماع، قال فلو جامع فعليه الكفارة إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع، واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال‏:‏ ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليله اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما ثم أفطر‏.‏

وقد روى ابن خزيمة وغيره من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فأتى بطعام فقال لأبي بكر وعمر‏:‏ ادنوا فكلا، فقالا إنا صائمان، فقال اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا ‏"‏ قال ابن خزيمة‏:‏ فيه دليل على أن للصائم السفر الفطر بعد مضي بعض النهار‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال القابسي‏:‏ هذا الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من غيره من الصحابة‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ كذا للأكثر بغير ترجمة، وسقط من رواية النسفي، وعلى الحالين لا بد أن يكون لحديث أبي الدرداء المذكور فيه تعلق بالترجمة، ووجهه ما وقع من إفطار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر بمحضر منه، ولم ينكر عليهم فدل على الجواز، وعلى رد قول من قال‏:‏ من سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أم الدرداء‏)‏ في رواية أبي داود من طريق سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر الدمشقي ‏"‏ حدثتني أم الدرداء ‏"‏ والإسناد كله شاميون سوى شيخ البخاري وقد دخل الشام، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره‏)‏ في رواية مسلم من طريق سعيد بن عبد العزيز أيضا ‏"‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ‏"‏ الحديث، وبهذه الزيادة يتم المراد من الاستدلال، ويتوجه الرد بها على أبي محمد بن حزم في زعمه أن حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعا، وقد كنت ظننت أن هذه السفرة غزوة الفتح لما رأيت في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة قال ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج في الحر وهو يصب على رأسه الماء - وهو صائم - من العطش ومن الحر، فلما بلغ الكديد أفطر ‏"‏ فإنه يدل على أن غزاة الفتح كانت في أيام شدة الحر، وقد اتفقت الروايتان على أن كلا من السفرتين كان في رمضان، لكنني رجعت عن ذلك وعرفت أنه ليس بصواب لأن عبد الله بن رواحة استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف وإن كانتا جميعا في سنة واحدة، وقد استثناه أبو الدرداء في هذه السفرة النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنها كانت سفرة أخرى‏.‏

وأيضا فإن في سياق أحاديث غزوة الفتح أن الذين استمروا من الصحابة صياما كانوا جماعة، وفي هذا أنه عبد الله بن رواحة وحده‏.‏

وأخرج الترمذي من حديث عمر ‏"‏ غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يوم بدر ويوم الفتح ‏"‏ الحديث، ولا يصح حمله أيضا على بدر لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلم، وفي الحديث دليل على أن لا كراهية في الصوم في السفر لمن قوى عليه ولم يصبه منه مشقة شديدة‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر‏:‏ ليس من البر الصيام في السفر‏)‏ أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس من البر الصيام في السفر ‏"‏ ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوى عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر‏.‏

وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة‏:‏ لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس من البر الصيام في السفر ‏"‏ ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏)‏ قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة، ومقابل هذا القول قول من قال إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقة الشديدة حكاه الطبري عن قوم، وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوى عليه ولم يشق عليه‏.‏

وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال آخرون هو مخير مطلقا‏.‏

وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى ‏(‏يريد الله بكم اليسر‏)‏ فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر، والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما تقدم نظيره في المسح على الخفين، وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار، وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال‏:‏ قال رجل لابن عمر‏:‏ إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر‏:‏ من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من رغب عن سنتي فليس مني ‏"‏ وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد قال‏:‏ إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك‏:‏ اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك‏.‏

وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك‏.‏

ومن طريق مجاهد أيضا عن جنادة بن أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وسيأتي في الجهاد من طريق مؤرق عن أنس نحو هذا مرفوعا حيث قال صلى الله عليه وسلم للمفطرين حيث خدموا الصيام ‏"‏ ذهب المفطرون اليوم بالأجر ‏"‏ واحتج من منع الصوم أيضا بما وقع في الحديث الماضي أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله، وزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ، وتعقب أولا بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه ‏"‏ سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة فأفطرنا‏.‏

ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر ‏"‏ وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوى به على لقاء العدو، وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر فقال‏:‏ لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له فأين هذه الآية ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ فقال‏:‏ إنها نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعا وننزل على شبع، فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم‏.‏

وأما الحديث المشهور ‏"‏ الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ‏"‏ فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعا من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وأخرجه الطبري من طريق أبي سلمة عن عائشة مرفوعا أيضا وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم والله أعلم‏.‏

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس من البر الصيام في السفر ‏"‏ فسلك المجيزون فيه طرقا‏:‏ فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، ولذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه ‏"‏ سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لصاحبكم، أي وجع به‏؟‏ فقالوا ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ‏"‏ فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله ‏"‏ ليس من البر الصوم في السفر ‏"‏ على مثل هذه الحالة‏.‏

قال‏:‏ والمانعون في السفر يقولون إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال‏:‏ وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا، ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم؛ وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم‏.‏

وحمل الشافعي نفى البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال‏:‏ معنى قوله ‏"‏ ليس من البر ‏"‏ أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح، قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برأ لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلا، قال‏:‏ وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس المسكين بالطواف ‏"‏ الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غني يغنيه ويستحيي أن يسأل ولا يفطن له‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري‏)‏ عند مسلم من طريق غندر عن شعبة عن محمد ابن عبد الرحمن يعني ابن سعد، ولأبي داود عن أبي الوليد عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن يعني بن سعد ابن زرارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت محمد بن عمرو الخ‏)‏ أدخل محمد بن عبد الرحمن بن سعد بينه وبين جابر محمد بن عمرو ابن الحسن في رواية شعبة عنه، واختلف في حديثه على يحيى بن أبي كثير فأخرجه النسائي من طريق شعيب ابن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني جابر بن عبد الله فذكره، قال النسائي‏:‏ هذا خطأ، ثم ساقه من طريق الفريابي عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني من سمع جابرا، ومن طريق علي بن المبارك عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن رجل عن جابر ثم قال‏:‏ ذكر تسمية هذا الرجل المبهم، فساق طريق شعبة ثم قال هذا هو الصحيح، يعني إدخال رجل بين محمد بن عبد الرحمن وجابر، وتعقبه المزي فقال ظن النسائي أن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة في هذا الحديث هو محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى بن أبي كثير فيه، وليس كذلك لأن شيخ يحيى هو محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان وشيخ شعبة هو ابن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ا ه‏.‏

والذي يترجح في نظري أن الصواب مع النسائي، لأن مسلما لما روى الحديث من طريق أبي داود عن شعبة قال في آخره‏:‏ قال شعبة كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث ‏"‏ عليكم برخصة الله التي رخص لكم ‏"‏ فلما سألته لم يحفظه ا هـ‏.‏

والضمير في سألت يرجع إلى محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى لأن شعبة لم يلق يحيى فدل على أن شعبة أخبر أنه كان يبلغه عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن محمد بن عمرو عن جابر في هذا الحديث زيادة، ولأنه لما لقي محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى سأله عنها فلم يحفظها‏.‏

وأما ما وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى أنه نسب محمد بن عبد الرحمن فقال فيه ابن ثوبان فهو الذي اعتمده المزي، لكن جزم أبو حاتم كما نقله عنه ابنه في ‏"‏ العلل ‏"‏ بأن من قال فيه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان فقد وهم، وإنما هو ابن عبد الرحمن بن سعد ا ه‏.‏

وقد اختلف فيه مع ذلك على الأوزاعي، وجل الرواة عن يحيى ابن أبي كثير لم يزيدوا على محمد بن عبد الرحمن، لا يذكرون جده ولا جد جده والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر‏)‏ تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أنها غزوة الفتح، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ‏"‏ فذكر نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورجلا قد ظلل عليه‏)‏ في رواية حماد المذكورة ‏"‏ فشق على رجل الصوم فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمره أن يفطر ‏"‏ الحديث ولم أقف على اسم هذا الرجل، ولولا ما قدمته من أن عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائما غيره، وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك لمبهمات الخطيب، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصة وإنما أورد حديث مالك عن حميد بن قيس وغيره ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقالوا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ‏"‏ الحديث، ثم قال‏:‏ هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشي العامري، ثم ساق بإسناده إلى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبو إسرائيل فقالوا‏:‏ نذر أن يصوم ويقوم في الشمس ‏"‏ الحديث فلم يزد الخطيب على هذا، وبين القصتين مغايرات ظاهرة أظهرها أنه كان في الحضر في المسجد وصاحب القصة في حديث جابر كان في السفر تحت ظلال الشجر والله أعلم‏.‏

وفي الحديث استحباب التمسك بالرخصة عند الحاجة إليها، وكراهة تركها على وجه التشديد والتنطيع‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أوهم كلام صاحب ‏"‏ العمدة ‏"‏ أن قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏عليكم برخصة الله التي رخص لكم ‏"‏ مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك وإنما هي بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدم بيانه، نعم وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصيم الأشعري كما تقدم‏.‏

*3*باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار‏)‏ أي في الأسفار، وأشار بهذا إلى تأكيد ما اعتمده من تأويل الحديث الذي قبله، وأنه محمول على من بلغ حالة يجهد بها، وأن من لم يبلغ ذلك لا يعاب عليه الصيام ولا الفطر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية أبي خالد عند مسلم عن حميد التصريح بالإخبار بين حميد وأنس، ولفظه عن حميد ‏"‏ خرجت فصمت فقالوا لي أعد، فقلت إن أنسا أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، قال حميد فلقيت ابن أبي مليكة فأخبرني عن عائشة مثله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في حديث أبي سعيد عند مسلم ‏"‏ كنا نغزو مع رسول الله فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفا فأفطر أن ذلك حسن، وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو نص رافع للنزاع كما تقدم والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ نقل ابن عبد البر عن محمد بن وضاح أن مالكا تفرد بسياق هذا الحديث على هذا اللفظ، وتعقبه بأن أبا إسحاق الفزاري وأبا ضمرة وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم رووه عن حميد مثل مالك‏.‏

*3*باب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أفطر في السفر ليراه الناس‏)‏ أي إذا كان ممن يقتدي به، وأشار بذلك إلى أن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء أو ظن به الرغبة عن الرخصة، بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل لفضيلة البيان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس‏)‏ كذا عنده من طريق أبي عوانة عن منصور عن مجاهد، وكذا أخرجه من طريق جرير عن منصور في المغازي، وأخرجه النسائي من طريق شعبة عن منصور فلم يذكر طاوسا في الإسناد، وكذا أخرجه من طريق الحكم عن مجاهد عن ابن عباس، فيحتمل أن يكون مجاهد أخذه عن طاوس عن ابن عباس ثم لقي ابن عباس فحمله عنه، أو سمعه من ابن عباس وثبته فيه طاوس، وقد تقدم نظير ذلك في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين على القبرين في الطهارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرفعه إلى يده‏)‏ كذا في الأصول التي وقفت عليها من البخاري، وهو مشكل لأن الرفع إنما يكون باليد، وأجاب الكرماني بأن المعنى يجتمل أن يكون رفعه إلى أقصى طول يده، أي انتهى الرفع إلى أقصى غايتها‏.‏

قلت‏.‏

‏:‏ وقد وقع عند أبي داود عن مسدد عن أبي عوانة بالإسناد المذكور في البخاري ‏"‏ فرفعه إلى فيه ‏"‏ وهذا أوضح، ولعل الكلمة تصحفت، وقد تقدم ما يؤيد ذلك سياق ألفاظ الرواة لهذا الحديث عن ابن عباس وغيره مع بقية مباحث المتن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليراه الناس‏)‏ كذا للأكثر، والناس بالرفع على الفاعلية‏.‏

وفي رواية المستملي ‏"‏ ليريه ‏"‏ بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية والناس بالنصب على المفعولية، ويحتمل أن يكون الناسخ كتب ‏"‏ ليراه الناس ‏"‏ بالياء فلا يكون بين الروايتين اختلاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكان ابن عباس يقول الخ‏)‏ فهم ابن عباس من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أنه لبيان الجواز لا للأولوية، وقد تقدم في حديث أبي سعيد جابر عند مسلم ما يوضح المراد‏.‏

والله أعلم‏.‏