فصل: باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلَّا مِنْ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرجل يوضئ صاحبه‏)‏ أي ما حكمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي فَقَالَ الْمُصَلَّى أَمَامَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن سلام‏)‏ هو محمد كما في رواية كريمة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري‏.‏

وفي هذا الإسناد رواية الأقران لأن يحيى وموسى بن عقبة تابعيان صغيران من أهل المدينة، وكريب مولى ابن عباس من أواسط التابعين ففيه ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من مباحث هذا الحديث في ‏"‏ باب إسباغ الوضوء ‏"‏ ويأتي باقيها في كتاب الحج‏.‏

ووقع في تراجم البخاري لابن المنير في هذا الموضع وهم، فإنه قال فيه ابن عباس عن أسامة، وليس هو من رواية ابن عباس وإنما هو من رواية كريب مولى ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصب‏)‏ بتشديد الموحدة ومفعوله محذوف أي الماء‏.‏

وقوله ‏"‏ويتوضأ ‏"‏ أي وهو يتوضأ‏.‏

واستدل به المصنف على الاستعانة في الوضوء، لكن من يدعي أن الكراهية مختصة بغير المشقة أو الاحتياج في الجملة لا يستدل عليه بحديث أسامة لأنه كان في السفر‏.‏

وكذا حديث المغيرة المذكور، قال ابن المنير قاس البخاري توضئة الرجل غيره على صبه عليه لاجتماعهما في معنى الإعانة‏.‏

قلت‏:‏ والفرق بينهما ظاهر، ولم يفصح البخاري في المسألة بجواز ولا غيره، وهذه عادته في الأمور المحتملة‏.‏

قال النووي‏:‏ الاستعانة ثلاثة أقسام‏:‏ إحضار الماء، ولا كراهة فيه أصلا‏.‏

قلت‏:‏ لكن الأفضل خلافه‏.‏

قال‏:‏ الثاني مباشرة الأجنبي الغسل، وهذا مكروه إلا لحاجة‏.‏

الثالث‏:‏ الصب وفيه وجهان‏.‏

أحدهما يكره، والثاني خلاف الأولى‏.‏

وتعقب بأنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لا يكون خلاف الأولى‏.‏

وأجيب بأنه قد يفعله لبيان الجواز في يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته‏؟‏ وأجيب بأن كل مكروه فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الآخر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو بن علي‏)‏ هو الفلاس أحد الحفاظ البصريين، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وسعد بن إبراهيم أي ابن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وفي الإسناد رواية الأقران في موضعين، لأن يحيى وسعدا تابعيان صغيران، ونافع بن جبير وعروة بن المغيرة تابعيان وسطان، ففيه أربعة من التابعين في نسق وهو من النوادر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه كان‏)‏ أدى عروة معنى كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلا فكان السياق يقتضي أن يقول‏:‏ قال إني كنت، وكذا قوله ‏"‏ وأن المغيرة جعل ‏"‏ ويحتمل أن يقال هو التفات على رأي فيكون عروة أدى لفظ أبيه، والضمير في قوله ‏"‏ وأنه ذهب ‏"‏ وفي قوله ‏"‏ له ‏"‏ للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومباحث هذا الحديث تأتي في المسح على الخفين إن شاء الله تعالى‏.‏

والمراد منه هنا الاستدلال على الاستعانة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ هذا من القربات التي يجوز للرجل أن يعملها عن غيره بخلاف الصلاة، قال‏:‏ واستدل البخاري من صب الماء عليه عند الوضوء أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره، لأنه لما لزم المتوضئ الاغتراف من الماء لأعضائه وجاز له أن يكفيه ذلك غيره بالصب - والاغتراف بعض عمل الوضوء - كذلك يجوز في بقية أعماله‏.‏

وتعقبه ابن المنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد، لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملا مستقلا لكان قد قدم النية عليه وذلك لا يجوز‏.‏

وحاصله التفرقة بين الإعانة بالصب وبين الإعانة بمباشرة الغير لغسل الأعضاء، وهذا هو الفرق الذي أشرنا إليه قبل‏.‏

والحديثان دالان على عدم كراهة الاستعانة بالصب، وكذا إحضار الماء من باب الأولى‏.‏

وأما المباشرة فلا دلالة فيهما عليها، نعم يستحب أن لا يستعين أصلا‏.‏

وأما ما رواه أبو جعفر الطبري عن ابن عمر أنه كان يقول‏:‏ ما أبالي من أعانني على طهوري أو على ركوعي وسجودي، فمحمول على الإعانة بالمباشرة للصب، بدليل ما رواه الطبري أيضا وغيره عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر وهو يغسل رجليه‏.‏

وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فقال‏:‏ اسكبي، فسكبت عليه‏.‏

وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، لكنه ليس على شرط المصنف‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ وَإِلَّا فَلَا تُسَلِّمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قراءة القرآن بعد الحدث‏)‏ أي الأصغر ‏(‏وغيره‏)‏ أي من مظان الحدث‏.‏

وقال الكرماني الضمير يعود على القرآن، والتقدير باب قراءة القرآن وغيره أي الذكر والسلام ونحوهما بعد الحدث، ويلزم منه الفصل بين المتعاطفين، ولأنه إن جازت القراءة بعد الحدث فجواز غيرها من الأذكار بطريق الأولى، فهو مستغنى عن ذكره بخلاف غير الحدث من نواقض الوضوء، وقد تقدم بيان المراد بالحدث وهو يؤيد ما قررته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال منصور‏)‏ أي ابن المعتمر ‏(‏عن إبراهيم‏)‏ أي النخعي، وأثره هذا وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن منصور مثله، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور قال‏:‏ سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال‏:‏ لم يبن للقراءة فيه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يخالف رواية أبي عوانة، فإنها تتعلق بمطلق الجواز وقد روى سعيد بن منصور أيضا عن محمد بن أبان عن حماد بن أبي سليمان قال‏:‏ سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال يكره ذلك، انتهى‏.‏

والإسناد الأول أصح‏.‏

وروى ابن المنذر عن علي قال‏:‏ بئس البيت الحمام ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله‏.‏

وهذا لا يدل على كراهة القراءة، وإنما هو إخبار بما هو الواقع بأن شأن من يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة‏.‏

وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن ومالك فقالا لا تكره، لأنه ليس فيه دليل خاص، وبه صرح صاحبا العدة والبيان من الشافعية‏.‏

وقال النووي في التبيان عن الأصحاب‏:‏ لا تكره، فأطلق‏.‏

لكن في شرح الكفاية للصيمري‏:‏ لا ينبغي أن يقرأ‏.‏

وسوى الحليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة‏.‏

ورجح السبكي الكبير عدم الكراهة واحتج بأن القراءة مطلوبة والاستكثار منها مطلوب والحدث يكثر، فلو كرهت لفات خير كثير‏.‏

ثم قال‏:‏ حكم القراءة في الحمام إن كان القارئ في مكان نظيف وليس فيه كشف عورة لم يكره، وإلا كره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويكتب الرسالة‏)‏ كذا في رواية الأكثر بلفظ مضارع كتب‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ بكتب ‏"‏ بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة عطفا على قوله بالقراءة‏.‏

وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضا عن منصور قال‏:‏ سألت إبراهيم‏:‏ أأكتب الرسالة على غير وضوء‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وتبين بهذا أن قوله على غير وضوء يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمام‏.‏

ولما كان من شأن الرسائل أن تصدر بالبسملة توهم السائل أن ذلك يكره لمن كان على غير وضوء، لكن يمكن أن يقال إن كاتب الرسالة لا يقصد القراءة فلا يستوي مع القراءة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد‏)‏ هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة ‏(‏عن إبراهيم‏)‏ أي النخعي ‏(‏إن كان عليهم‏)‏ أي على من في الحمام ‏(‏إزار‏)‏ المراد به الجنس أي على كل منهم إزار‏.‏

وأثره هذا وصله الثوري في جامعه عنه، والنهي عن السلام عليهم إما إهانة لهم لكونهم على بدعة، وإما لكونه يستدعي منهم الرد، والتلفظ بالسلام فيه ذكر الله لأن السلام من أسمائه، وأن لفظ سلام عليكم من القرآن، والمتعري عن الإزار مشابه لمن هو في الخلاء‏.‏

وبهذا التقرير يتوجه ذكر هذا الأثر في هذه الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مخرمة‏)‏ بفتح الميم وإسكان المعجمة، والإسناد كله مدنيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاضطجعت‏)‏ قائل ذلك هو ابن عباس، وفيه التفات لأن أسلوب الكلام كان يقتضي أن يقول فاضطجع لأنه قال قبل ذلك إنه بات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في عرض‏)‏ بفتح أوله على المشهور، وبالضم أيضا، وأنكره الباجي من جهة النقل ومن جهة المعنى قال‏:‏ لأن العرض بالضم هو الجانب وهو لفظ مشترك‏.‏

قلت‏:‏ لكن لما قال ‏"‏ في طولها ‏"‏ تعين المراد، وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يمسح النوم‏)‏ أي يمسح بيده عينيه، من باب إطلاق اسم الحال على المحل، أو أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبب‏.‏

قوله ‏(‏ثم قرأ العشر الآيات أولها‏)‏ ‏(‏إن في خلق السماوات والأرض‏)‏ إلى آخر السورة‏.‏

قال ابن بطال ومن تبعه‏:‏ فيه دليل على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ‏.‏

وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال ‏"‏ تنام عيناي ولا ينام قلبي ‏"‏ وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ‏.‏

قلت‏:‏ وهو تعقيب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال‏:‏ بعد قيامه من النوم، لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره‏.‏

وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه‏.‏

وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير، والأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة‏.‏

ويمكن أن يؤخذ ذلك من قول ابن عباس ‏"‏ فصنعت مثل ما صنع ‏"‏ ولم يرد المصنف أن مجرد نومه صلى الله عليه وسلم ينقض لأن في آخر هذا الحديث عنده في باب التخفيف في الوضوء ‏"‏ ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم صلى‏"‏‏.‏

ثم رأيت في الحلبيات للسبكي الكبير بعد أن ذكر اعتراض الإسماعيلي‏:‏ لعل البخاري احتج بفعل ابن عباس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتبر اضطجاع النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله واللمس ينقض الوضوء‏.‏

قلت‏:‏ ويؤخذ من هذا الحديث توجيه ما قيدت الحديث به في ترجمة الباب، وأن المراد به الأصغر، إذ لو كان الأكبر لما اقتصر على الوضوء ثم صلى بل كان يغتسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى شن معلقة‏)‏ قال الخطابي‏:‏ الشن القربة التي تبدت للبلاء، ولذلك قال في هذه الرواية ‏"‏ معلقة ‏"‏ فأنث لإرادة القربة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقمت فصنعت مثل ما صنع‏)‏ تقدمت الإشارة في باب تخفيف الوضوء إلى هذا الموضع فليراجع من ثم، وستأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ روى مسلم من حديث ابن عمر كراهة ذكر الله بعد الحديث، لكنه على غير شرط المصنف‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلَّا مِنْ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يتوضأ‏)‏ أي من الغشي ‏(‏إلا من الغشي المثقل‏)‏ فالاستثناء مفرغ‏.‏

والمثقل بضم الميم وإسكان المثلثة وكسر القاف ويجوز فتحها، وأشار المصنف بذلك إلى الرد على من أوجب الوضوء من الغشي مطلقا، والتقدير‏:‏ باب من لم يتوضأ من الغشي إلا إذا كان مثقلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا فَيُقَالُ لَهُ نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ و ابن أبي أويس أيضا، والإسناد كله مدنيون أيضا، وفيه رواية الأقران هشام وامرأته فاطمة بنت عمه المنذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأشارت أن نعم‏)‏ كذا لأكثرهم بالنون، ولكريمة ‏"‏ أي نعم ‏"‏ وهي رواية وهيب المتقدمة في العلم، وبين فيها أن هذه الإشارة كانت برأسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تجلاني‏)‏ أي غطاني، قال ابن بطال‏:‏ الغشي مرض يعرض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء إلا أنه دونه‏.‏

وإنما صبت أسماء الماء على رأسها مدافعة له، ولو كان شديدا لكان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء بالإجماع، انتهى‏.‏

وكونها كانت تتولى صب الماء عليها يدل على أن حواسها كانت مدركة، وذلك لا ينقض الوضوء‏.‏

ومحل الاستدلال بفعلها من جهة أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرى الذي خلفه وهو في الصلاة - ولم ينقل أنه أنكر عليها‏.‏

وقد تقدم شيء من مباحث هذا الحديث في كتاب العلم، وتأتي بقية مباحثه في كتاب صلاة الكسوف إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا وَسُئِلَ مَالِكٌ أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب مسح الرأس كله‏)‏ كذا لأكثرهم وسقط لفظ ‏"‏ كله ‏"‏ للمستملي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن المسيب‏)‏ أي سعيد، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بلفظ ‏"‏ الرجل والمرأة في المسح سواء ‏"‏ ونقل عن أحمد أنه قال‏:‏ يكفي المرأة مسح مقدم رأسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسئل مالك‏)‏ السائل له عن ذلك هو إسحاق بن عيسى بن الطباع، بينه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه‏:‏ سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عبد الله بن زيد فقال ‏"‏ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله‏"‏‏.‏

وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المصنف قبل، وموضع الدلالة من الحديث والآية أن لفظ الآية مجمل، لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته، فإن ذلك دل على أن التعميم ليس بفرض، فعلى هذا فالإجمال في المسند إليه لا في الأصل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ أي أبي عثمان يحيى بن عمارة أي ابن أبي حسن واسمه تميم بن عبد عمرو، ولجده أبي حسن صحبة، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ فيه نظر‏.‏

والإسناد كله مدنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ هو عمرو بن أبي حسن كما سماه المصنف في الحديث الذي بعد هذا مـن طريق وهيب عن عمرو بن يحيى، وعلى هذا فقوله هنا ‏"‏ وهو جد عمرو بن يحيى ‏"‏ فيه تجوز، لأنه عم أبيه، وسماه جدا لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله ‏"‏ وهو ‏"‏ عبد الله بن زيد، لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا‏.‏

وأما قول صاحب الكمال ومن تبعه في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد فغلط توهمه من هذه الرواية، وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير‏.‏

وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حية فالله أعلم‏.‏

وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه، قال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن أبيه يحيى‏:‏ إنه سمع أبا حسن - وهو جد عمرو بن يحيى - قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة‏.‏

فذكر الحديث‏.‏

وقال محمد بن الحسن الشيباني عن مالك‏:‏ حدثنا عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد‏.‏

وكذا ساقه سحنون في المدونة‏.‏

وقال الشافعي في الأم‏:‏ عن مالك عن عمرو عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد‏.‏

ومثله رواية الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي عن مالك عن عمرو عن أبيه قال‏:‏ قلت‏.‏

‏.‏

والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال‏:‏ اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن، فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة‏.‏

ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور قال‏:‏ حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال‏:‏ كان عمي يعني عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد أخبرني‏.‏

‏.‏

فذكره‏.‏

وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضرا‏.‏

وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال‏.‏

ووقع في رواية مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال ‏"‏ قيل له توضأ لنا ‏"‏ فذكره مبهما‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد المذكور بلفظ ‏"‏ قلنا له‏"‏، وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله، لكن متولي السؤال منهم عمرو بن أبي حسن‏.‏

ويزيد ذلك وضوحا رواية الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن‏.‏

قال ‏"‏كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

أخرجه أبو نعيم في المستخرج، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتستطيع‏)‏ فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدعا بماء‏)‏ وفي رواية وهب في الباب الذي بعده ‏"‏ فدعا بتور من ماء‏"‏‏.‏

والتور بمثناة مفتوحة قال الداودي‏:‏ قدح‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ إناء يشرب منه‏.‏

وقيل هو الطست، وقيـل يشبه الطست، وقيل هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة‏.‏

وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عند المصنف في باب الغسل في المخضب في أول هذا الحديث ‏"‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر ‏"‏ والصفر بضم المهملة وإسكان الفاء وقد تكسر صنف من حديد النحاس، قيل إنه سمي بذلك لكونه يشبه الذهب، ويسمى أيضا الشبه بفتح المعجمة والموحدة‏.‏

والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأفرغ‏)‏ وفي رواية موسى عن وهيب ‏"‏ فأكفأ ‏"‏ بهمزتين‏.‏

وفي رواية سليمان بن حرب في باب مسح الرأس مرة عن وهيب ‏"‏ فكفأ ‏"‏ بفتح الكاف، وهما لغتان بمعنى يقال كفأ الإناء وأكفأ إذا أماله‏.‏

وقال الكسائي كفأت الإناء كببته وأكفأته أملته‏.‏

والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرح به في رواية مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فغسل يده مرتين‏)‏ كذا في رواية مالك بإفراد يده‏.‏

وفي رواية وهيب وسليمان بن بلال عند المصنف وكذا للدراوردي عند أبي نعيم ‏"‏ فغسل يديه ‏"‏ بالتثنية، فيحمل الإفراد في رواية مالك على الجنس، وعند مالك ‏"‏ مرتين‏"‏، وعند هؤلاء ‏"‏ ثلاثا‏"‏، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم، وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم من طريق بهز عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء، فتأكد ترجيح روايته، ولا يقال يحمل على واقعتين لأنا نقول‏:‏ المخرج متحد والأصل عدم التعدد‏.‏

وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان من غير نوم كما تقدم مثله في حديث عثمان، والمراد باليدين هنا الكفان لا غير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم تمضمض واستنثر‏)‏ ، وللكشميهني ‏"‏ مضمض واستنشق ‏"‏ والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وهيب الثلاثة وزاد بعد قوله ثلاثا ‏"‏ بثلاث غرفات‏"‏؛ واستدل به على استحباب الجمـع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة‏.‏

وفي رواية خالد بن عبد الله الآتية بعد قليل ‏"‏ مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا ‏"‏ وهو صريح في الجمع كل مرة، بخلاف رواية وهيب فإنه تطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية كما نبه عليه ابن دقيق العيد‏.‏

ووقع في رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور ‏"‏ فمضمض واستنثر ثلات مرات من غرفة واحدة ‏"‏ واستدل بها على الجمـع بغرفة واحدة، وفيه نظر لما أشرنا إليه من اتحاد المخرج فتقدم الزيادة، ولمسلم من رواية خالد المذكورة ‏"‏ ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض‏"‏‏.‏

فاستدل بها على تقـديم المضمضة على الاستنشاق لكونه عطف بالفاء التعقيبية وفيه بحث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل وجهه ثلاثا‏)‏ لم تختلف الروايات في ذلك، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بقوله ‏"‏ ثم ‏"‏ في الجميع، لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل يديه مرتين مرتين‏)‏ كذا بتكرار مرتين، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين، لكن في رواية مسلم من طريق حبان بن واسـع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وفيه ‏"‏ ويده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا ‏"‏ فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى المرفقين‏)‏ كذا للأكثر وللمستملي والحموي إلى المرفقين بالإفراد على إرادة الجنس، وقد اختلف العلماء‏:‏ هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا‏؟‏ فقال المعظم‏:‏ نعم، وخالف زفر‏.‏

وحكاه بعضهم عن مالك، واحتج بعضهم للجمهور بأن إلى في الآية بمعنى مع كقوله تعالى ‏(‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏)‏ ، وتعقب بأنه خلاف الظاهر، وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد ‏"‏ إلى ‏"‏ من جنس ما قبلها‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار ‏"‏ أنه تيمم إلى الإبط ‏"‏ وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى ‏(‏إلى المرافق‏)‏ بقي المرفق مغسولا مع الذراعين بحق الاسم، انتهى‏.‏

فعلى هذا فإلى هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول، وفي كون ذلك ظاهرا من السياق نظر، والله أعلم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى ‏(‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏)‏ دليل عدم الدخول النهي عن الوصال، وقول القائل حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى ‏(‏إلى المرافق‏)‏ لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال‏:‏ فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقن، انتهى‏.‏

ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء ‏"‏ فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين ‏"‏ وفيه عن جابر قال ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ‏"‏ لكن إسناده ضعيف، وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء ‏"‏ وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق ‏"‏ وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا ‏"‏ ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه ‏"‏ فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا‏.‏

قال إسحاق بن راهويه‏:‏ ‏"‏ إلى ‏"‏ في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع، انتهى‏.‏

وقد قال الشافعي في الأم‏:‏ لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء هو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم مسح رأسه‏)‏ زاد ابن الطباع ‏"‏ كله ‏"‏ كما تقدم عن رواية ابن خزيمة‏.‏

وفي رواية خالد ابن عبد الله برأسه بزيادة الباء‏.‏

قال القرطبي‏:‏ الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه‏.‏

وقيل دخلت الباء لتفيد معنى آخر وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال وامسحوا برءوسكم الماء فهو على القلب، والتقدير امسحوا رءوسكم بالماء‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ احتمل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وامسحوا برءوسكم‏)‏ جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ‏.‏

والفرق بينه وبين قوله تعالى ‏(‏فامسحوا بوجوهكم‏)‏ في التيمم أن المسح فيه بدل عن الغسل ومسح الرأس أصل فافترقا، ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع‏.‏

فإن قيل فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر - لأنه كان في سفر وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة - قلنا‏:‏ قد روى عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة ولا تعرض لسفر، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس‏.‏

وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند، وظهر بهذا جواب من أورد أن الحجة حينئذ بالمسند فيقع المرسل لغوا، وقد قررت جواب ذلك فيما كتبته على علوم الحديث لابن الصلاح‏.‏

وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال ‏"‏ ومسح مقدم رأسه ‏"‏ أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه‏.‏

وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم‏.‏

وهذا كله مما يقوي به المرسل المتقدم ذكره والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بدأ بمقدمة رأسه‏)‏ الظاهر أنه من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك، ففيه حجة على من قال‏:‏ السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله ‏"‏ أقبل وأدبر‏"‏‏.‏

ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وسيأتي عند المصنف قريبا من رواية سليمان بن بلال ‏"‏ فأدبر بيديه وأقبل ‏"‏ فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد‏.‏

وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم فيحمل قوله ‏"‏ أقبل ‏"‏ على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ بقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك‏.‏

والحكمة في هذا الإقبال والإدبار استيعاب جهتي الرأس بالمسح، فعلى هذا يختص ذلك بمن له شعر، والمشهور عمن أوجب التعميم الأولى واجبة والثانية سنة، ومن هنا يتبين ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التعميم، والله أعلم قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل رجليه‏)‏ زاد في رواية وهيب الآتية ‏"‏ إلى الكعبين ‏"‏ والبحث فيه كالبحث في قوله إلى المرفقين، والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وحكى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك، وروى عن ابن القاسم عن مالك مثله، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة، وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة ‏"‏ فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ‏"‏ وقيل إن محمدا إنما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد الإفراغ على اليدين معا في ابتداء الوضوء، وأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث، وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيته وابتداؤهم إياه بما يظنون أن له به حاجة، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، والتعليم بالفعل، وأن الاغتراف من الماء القليل للتطهر لا يصير الماء مستعملا لقوله في رواية وهيب وغيره ‏"‏ ثم أدخل يده فغسل وجهه‏.‏

الخ‏"‏، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها، واستدل به أبو عوانة في صحيحه على جواز التطهر بالماء المستعمل، وتوجيهه أن النية لم تذكر فيه، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه وهو وقت غسلها‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا لأن الاستعمال إنما يقع من المغترف منه، وبهذا قطع البغوي‏.‏

واستدل به المصنف على استيعاب مسح الرأس، وقد قدمنا أنه يدل لذلك ندبا لا فرضا، وعلى أنه لا يندب تكريره كما سيأتي في باب مفرد، وعلى الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة كما سيأتي أيضا، وعلى جواز التطهر من آنية النحاس وغيره‏.‏

*3*باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غسل الرجلين إلى الكعبين‏)‏ تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنْ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

الشرح‏:‏

عمرو المذكور هو ابن يحيى بن عمارة شيخ مالك المتقدم، وعمرو بن أبي حسن عم أبيه كما قدمناه، وسماه هناك جده مجازا، وأغرب الكرماني - تبعا لصاحب الكمال - فقال‏:‏ عمرو بن أبي حسن جد عمرو بن يحيى من قبل أمه، وقد قدمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتا لعمرو بن أبي حسن فلم يستقم ما قاله بالاحتمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتوضأ لهم‏)‏ أي لأجلهم ‏(‏وضوء النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي مثل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه وضوءه مبالغة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أدخل يده فغسل وجهه‏)‏ بين في هذه الرواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الروايات، وفي مسلم وغيره‏.‏

لكن وقع في رواية ابن عساكر وأبى الوقت من طريق سليمان بن بلال الآتية ‏"‏ ثم أدخل يديه ‏"‏ بالتثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذر ولا الأصيلي ولا في شيء من الروايات خارج الصحيح قاله النووي، وأظن أن الإناء كان صغيرا فاغترف بإحدى يديه ثم أضافها إلى الأخرى كما تقدم نظيره في حديث ابن عباس، وإلا فالاغتراف باليدين جميعا أسهل وأقـرب تناولا كما قال الشافعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غسل يديه مرتين‏)‏ المراد غسل كل يد مرتين كما تقدم في طريق مالك ‏"‏ ثم غسل يديه مرتين مرتين ‏"‏ وليس المراد توزيع المرتين على اليدين فكأن يكون لكل يد مرة واحدة‏.‏

*3*باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ

وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استعمال فضل وضوء الناس‏)‏ أي في التطهر، والمراد بالفضل الماء الذي يبقى في الظرف بعد الفـراغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر جرير بن عبد الله‏)‏ هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه، وفي بعض طرقه ‏"‏ كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء ثم يقول لأهله‏:‏ توضئوا بفضله، لا يرى به بأسا ‏"‏ وهذه الرواية مبنية للمراد، وظن ابن التين وغيره أن المراد بفضل سواكه الماء الذي ينتقع فيه العود من الأراك وغيره ليلين فقالوا‏:‏ يحمل على أنه لم يغير الماء، وإنما أراد البخاري أن صنيعه ذلك لا يغير الماء، وكذا مجرد الاستعمال لا يغير الماء فلا يمتنع التطهر به‏.‏

وقد صححه الدارقطني بلفظ ‏"‏ كأن يقول لأهله‏:‏ توضئوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي ‏"‏ وقد روى مرفوعا، أخرجه الدارقطني من حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بفضل سواكه ‏"‏ وسنده ضعيف، وذكر أبو طالب في مسائله عن أحمد أنه سأله عن معنى هذا الحديث فقال‏:‏ كان يدخل السواك في الإناء ويستاك، فإذا فرغ توضأ من ذلك الماء‏.‏

وقد استشكل إيراد البخاري له في هذا الباب المعقود لطهارة الماء المستعمل، وأجيب بأنه ثبت أن السواك مطهر للفم، فإذا خالط الماء ثم حصل الوضوء بذلك الماء كان فيه استعمال للمستعمل في الطهـارة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ وَقَالَ أَبُو مُوسَى دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الحكم‏)‏ هو ابن عتيبة تصغير عتبة بالمثناة ثم الموحدة، كان من الفقهاء الكوفيين، وهو تابعي صغير‏.‏

وحديث أبي جحيفة المذكور ستأتي مباحثه في باب السترة في الصلاة‏.‏

وقوله ‏"‏يأخذون من فضل وضوئه ‏"‏ كأنهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه، ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقول أبو موسى‏)‏ هو الأشعري، وهذا الحديث طرف من حديث مطول أخرجه المؤلف في المغازي وأوله عن أبي موسى قال ‏"‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وعرف منه تفسير المبهمين في قوله ‏"‏ اشربا ‏"‏ وهما أبو موسى وبلال‏.‏

وقد ذكر المؤلف طرفا منه أيضا بإسناده في باب الغسل والوضوء في المخضب كما سيأتي بعد قليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومج فيه‏)‏ أي صب ما تناوله من الماء في الإناء، والغرض بذلك إيجاد البركة بريقه المبارك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا علي بن عبد الله‏)‏ هو ابن المديني، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم الكلام على حديث محمود بن الربيع هذا في باب متى يصح سماع الصغير من كتاب العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عروة‏)‏ هو ابن الزبير ‏(‏عن المسور‏)‏ هو ابن مخرمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وغيره‏)‏ هو مروان بن الحكم كما سيأتي موصولا مطولا في كتاب الشروط‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ هذه الرواية وإن كانت عن مجهول لكنها متابعة، ويغتفر فيها ما لا يغتفر في الأصول‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح إلا أنه لا يعتذر به هنا لأن المبهم معروف، وإنما لم يسمه اختصارا كما اختصر السند فعلقه، وزعم الكرماني أن قوله ‏"‏ وقال عروة ‏"‏ معطوف على قوله في السند الذي قبله ‏"‏ أخبرني محمود ‏"‏ فيكون صالح بن كيسان روى عن الزهري حديث محمود وعطف عليه حديث عروة، فعلى هذا لا يكون حديث عروة معلقا بل يكون موصولا بالسند الذي قبله، وصنيع أئمة النقل يخالف ما زعمه، واستمر الكرماني على هذا التجويز حتى زعم أن الضمير في قوله ‏"‏ يصدق كل واحد منهما صاحبه ‏"‏ للمسور ومحمود، وليس كما زعم بل هو للمسور ومروان، وهو تجويز منه بمجرد العقل، والرجوع إلى النقل في باب النقل أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كانوا يقتتلون‏)‏ كذا لأبي ذر وللباقين ‏"‏ كادوا ‏"‏ بالدال وهو الصواب لأنه لم يقـع بينهم قتال، وإنما حكى ذلك عروة بن مسعود الثقفي لما رجـع إلى قريش ليعلمهم شدة تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ويمكن أن يكون أطلق القتال مبالغة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ كذا للمستملي كأنه كالفصل من الباب الذي قبله، وجعله الباقون منه بلا فصل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرحمن بن يونس‏)‏ هو أبو مسلم المستملي أحد الحفاظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الجعد‏)‏ كذا هنا، وللأكثر ‏"‏ الجعيد ‏"‏ بالتصغير وهو المشهور، والسائب بن يزيد من صغار الصحابة، وسيأتي حديثه هذا مبينا في كتاب علامات النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقع‏)‏ بكسر القاف والتنوين، وللكشميهني وقع بلفظ الماضي‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ وجع ‏"‏ بالجيم والتنوين، والوقع وجع في القدمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زر الحجلة‏)‏ بكسر الزاي وتشديد الراء، والحجلة بفتح المهملة والجيم واحدة الحجال، وهي بيوت تزين بالثياب والأسرة والستور لها عرى وأزرار، وقيل المراد بالحجلة الطير وهو اليعقوب يقال للأنثى منه حجلة، وعلى هذا فالمراد بزرها بيضتها، ويؤيده أن في حديث آخر ‏"‏ مثل بيضة الحمامة ‏"‏ وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى‏.‏

وأراد البخاري الاستدلال بهذه الأحاديث على رد قول من قال بنجاسة الماء المستعمل، وهو قول أبي يوسف، وحكى الشافعي في الأم عن محمد بن الحسن أن أبا يوسف رجـع عنه ثم رجـع إليه بعد شهرين، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات‏:‏ الأولى طاهر لا طهور وهي رواية محمد بن الحسن عنه وهو قوله وقول الشافعي في الجديد وهو المفتى به عند الحنفية، الثانية نجس نجاسة خفيفة وهي رواية أبي يوسف عنه، الثالثة نجس نجاسة غليظة وهي رواية الحسن اللؤلؤي عنه‏.‏

وهذه الأحاديث ترد عليه لأن النجس لا يتبرك به، وحديث المجة وإن لم يكن فيه تصريح بالوضوء لكن توجيهه أن القائل بنجاسة الماء المستعمل إذا علله بأنه ماء مضاف قيل له هو مضاف إلى طاهر لم يتغير به، وكذلك الماء الذي خالطه الريق طاهر لحديث المجة، وأما مـن علله منهم بأنه ماء الذنوب فيجب إبعاده محتجا بالأحاديث الواردة في ذلك عند مسلم وغيره، فأحاديث الباب أيضا ترد عليه، لأن ما يجب إبعاده لا يتبرك به ولا يشرب، قال ابن المنذر‏:‏ وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ وما قطر منه على ثيابه طاهر دليل قوي على طهارة الماء المستعمل، وأما كونه غير طهور فسيأتي الكلام عليه في كتاب الغسل إن شاء الله تعالى، والله أعلم‏.‏