فصل: باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التيمن‏)‏ أي الابتداء باليمين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن علية، وخالد هو الحذاء‏.‏

والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في غسل‏)‏ أي في صفة غسل ابنته زينب عليها السلام كما سيأتي تحقيقه في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ

الشرح‏:‏

أورد المصنف من الحديث طرفا ليبين به المراد بقول عائشة ‏"‏ يعجبه التيمن ‏"‏ إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت أبي‏)‏ هو سليم بن أسود المحاربي الكوفي أبو الشعثاء مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وهو من كبار التابعين كشيخه مسروق فهما قرينان كما أن أشعث وشعبة قرينان وهما من كبار أتباع التابعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يعجبه التيمن‏)‏ قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة‏.‏

وزاد المصنف في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة ‏"‏ ما استطاع ‏"‏ فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في تنعله‏)‏ أي لبس نعله ‏(‏وترجله‏)‏ أي ترجيل شعره وهو تسريحه ودهنه، قال في المشارق‏:‏ رجل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة وسواكه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في شأنه كله‏)‏ كذا للأكثر من الرواة بغير واو‏.‏

وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو وهي التي اعتمدها صاحب العمدة، قال الشيخ تقي الدين‏:‏ هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار، انتهى‏.‏

وتأكيد ‏"‏ الشأن ‏"‏ بقوله ‏"‏ كله ‏"‏ يدل على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقوله ‏"‏ في شأنه كله ‏"‏ متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك‏.‏

وقال الطيبي قوله ‏"‏ في شأنه ‏"‏ بدل من قوله ‏"‏ في تنعله ‏"‏ بإعادة العامل‏.‏

قال‏:‏ وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله ‏"‏ في شأنه كله ‏"‏ على قوله ‏"‏ في تنعله الخ ‏"‏ وعليها شرح الطيبي، وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق الوارد هنا، لكن بين المصنف في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصرا على قوله ‏"‏ في شأنه كله ‏"‏ وتارة على قوله ‏"‏ في تنعله الخ ‏"‏ وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة أن عائشة أيضا كانت تجمله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله ‏"‏ في شأنه كله‏"‏، وكأن الرواية المقتصرة على ‏"‏ في شأنه كله ‏"‏ من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم ‏"‏ في طهوره ونعله ‏"‏ بفتح النون وإسكان العين أي هيئة تنعله‏.‏

وفي رواية ابن ماهان في مسلم ‏"‏ ونعله ‏"‏ بفتح العين‏.‏

وفي الحديث استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، ولا يقال هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق كما سيأتي قريبا، وفيه البداءة بالرجل اليمنى في التنعل وفي إزالتها باليسرى وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرجل، وبالشق الأيمن في الغسل‏.‏

واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد وفي الأكل والشرب باليمين، وقد أورده المصنف في هذه المواضع كلها، قال النووي‏:‏ قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر‏.‏

قال‏:‏ وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه، انتهى‏.‏

ومراده بالعلماء أهل السنة، وإلا فذهب الشيعة الوجوب، وغلط المرتضى منهم فنسبه للشافعي، وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب، لكنه لم يقل بذلك في اليدين ولا في الرجلين لأنهما بمنزلة العضو الواحد، ولأنهما جمعا في لفظ القرآن‏.‏

لكن يشكل على أصحابه حكمهم على الماء بالاستعمال إذا انتقل من يد إلى يد أخرى، مع قولهم بأن الماء ما دام مترددا على العضو لا يسمى مستعملا، وفي استدلالهم على وجوب الترتيب بأنه لم ينقل أحد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ منكسا، وكذلك لم ينقل أحد أنه قدم اليسرى على اليمنى‏.‏

ووقع في البيان للعمراني والتجريد للبندنيجي نسبة القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، وهو تصحيف من الشيعة‏.‏

وفي كلام الرافعي ما يوهم أن أحمد قال بوجوبه، ولا يعرف ذلك عنه، بل قال الشيخ الموفق في المغني‏:‏ لا نعلم في عدم الوجوب خلافا‏.‏

*3*باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتْ الصَّلَاةُ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ حَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التماس الوضوء‏)‏ بفتح الواو أي طلب الماء للوضوء ‏(‏إذا حانت‏)‏ بالمهملة أي قربت ‏(‏الصلاة‏)‏ والمراد وقتها الذي توقع فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقالت عائشة‏)‏ هذا طرف من حديثا في قصة نزول آية التيمم وسيأتي في كتاب التيمم إن شاء الله تعالى، وساقه هنا بلفظ عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وهو موصول عنده في تفسير المائدة، قال ابن المنير‏:‏ أراد الاستدلال على أنه لا يجب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم التأخير فدل على الجواز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فالتمس‏)‏ بالضم على البناء للمفعول، وللكشميهني ‏"‏ فالتمسوا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحان‏)‏ وللكشميهني ‏"‏ وحانت ‏"‏ والواو للحال بتقدير قد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الوضوء‏)‏ بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم يجدوا‏)‏ وللكشميهني ‏"‏ فلم يجدوه ‏"‏ بزيادة الضمير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتى‏)‏ بالضم على البناء للمفعول، وبين المصنف في رواية قتادة أن ذلك كان بالزوراء وهو سوق بالمدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بوضوء‏)‏ بالفتح أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به، ووقع في رواية ابن المبارك ‏"‏ فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، فصغر أن يبسط صلى الله عليه وسلم فيه كفه فضم أصابعه‏"‏، ونحوه في رواية حميد الآتية في باب الوضوء من المخضب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينبع‏)‏ بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها، وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث في كتاب علامات النبوة مستوعبا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى توضؤوا من عند آخرهم‏)‏ قال الكرماني حتى للتدريج ومن للبيان، أي توضأ الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم، قال‏:‏ وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال‏:‏ الذين هم في آخرهم‏.‏

وقال التيمي‏:‏ المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر‏.‏

وقال النووي‏:‏ من هنا بمعنى إلى وهي لغة‏.‏

وتعقبه الكرماني بأنها شاذة، قال‏:‏ ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند، ويلزم عليه وعلى ما قال التيمي أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرماني من أن ‏"‏ إلى ‏"‏ لا تدخل على ‏"‏ عند‏"‏، لا يلزم مثله في ‏"‏ من ‏"‏ إذا وقعت بمعنى إلى، وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال‏:‏ عند زائدة‏.‏

وفي الحديث دليل على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائة فضل عن وضوئه‏.‏

وفيه أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا، واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمر ندب لا حتم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث - يعني حديث نبع الماء - شهده جمع من الصحابة، إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره ولطلب الناس علو السند‏.‏

كذا قال‏.‏

وقد قال القاضي عياض‏:‏ هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات عن الجم الغفير عن الكافة متصلا عن جملة من الصحابة، بل لم يؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك فهو ملتحق بالقطعي من معجزاته‏.‏

انتهى‏.‏

فانظر كم بين الكلامين من التفاوت وسنحرر هذا الموضع في كتاب علامات النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الْإِنْسَانِ

وَكَانَ عَطَاءٌ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ وَسُؤْرِ الْكِلَابِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَقَالَ سُفْيَانُ هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَهَذَا مَاءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الماء‏)‏ أي حكم الماء ‏"‏ الذي يغسل به شعر الإنسان‏"‏‏.‏

أشار المصنف إلى أن حكمه الطهارة لأن المغتسل قد يقع في ماء غسله من شعره، فلو كان نجسا لتنجس الماء بملاقاته، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجنب ذلك في اغتساله، بل كان يخلل أصول شعره كما سيأتي، وذلك يفضي غالبا إلى تناثر بعضه فدل على طهارته، وهو قول جمهور العلماء، وكذا قاله الشافعي في القديم، ونص عليه في الجديد أيضا وصححه جماعة من أصحابه وهي طريقة الخراسانيين، وصحح جماعة القول بتنجيسه وهي طريقة العراقيين، واستدل المصنف على طهارته بما ذكره من الحديث المرفوع، وتعقب بأن شعر النبي صلى الله عليه وسلم مكرم لا يقاس عليه غيره، ونقضه ابن المنذر والخطابي وغيرهما بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل والأصل عدمه، قالوا‏:‏ ويلزم القائل بذلك أن لا يحتج على طهارة المني بأن عائشة كانت تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم لإمكان أن يقال له منيه طاهر فلا يقاس على غيره، والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلا فيما خص بدليل، وقد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته وعد الأئمة ذلك في خصائصه، فلا يلتفت إلى ما وقع في كتب كثير من الشافعية مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر بين أئمتهم على القول بالطهارة وهذا كله في شعر الآدمي، أما شعر الحيوان غير المأكول المذكى ففيه اختلاف مبني على أن الشعر هل تحله الحياة فينجس بالموت أو لا، فالأصح عند الشافعية أنه ينجس بالموت، وذهب جمهور العلماء إلى خلافه، واستدل ابن المنذر على أنه لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت ولا بالانفصال بأنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية، فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها، وعلى التسوية بين حالتي الموت والانفصال والله أعلم‏.‏

وقال البغوي في شرح السنة في قوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة ‏"‏ إنما حرم أكلها‏"‏‏.‏

يستدل به لمن ذهب إلى أن ما عدا ما يؤكل من أجزاء الميتة لا يحرم الانتفاع به ا ه‏.‏

وسيأتي الكلام على ريش الميتة وعظمها في باب مفرد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عطاء‏)‏ هذا التعليق وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة بسند صحيح إلى عطاء وهو ابن أبي رباح أنه كان لا يرى بأسا بالانتفاع بشعور الناس التي تحلق بمني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسؤر الكلاب‏)‏ و بالجر عطفا على قوله ‏"‏ الماء ‏"‏ والتقدير وباب سؤر الكلاب أي ما حكمه‏؟‏ والسؤر البقية‏.‏

والظاهر من تصرف المصنف أنه يقول بطهارته‏.‏

وفي بعض النسخ بعد قوله في المسجد ‏"‏ وأكلها ‏"‏ وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري إذا ولغ الكلب‏)‏ جمع المصنف في هذا الباب بين مسألتين وهما حكم شعر الآدمي وسؤر الكلب‏.‏

فذكر الترجمة الأولى وأثرها معها، ثم ثنى بالثانية وأثرها معها، ثم رجع إلى دليل الأولى من الحديث المرفوع، ثم ثنى بأدلة الثانية‏.‏

وقول الزهري هذا رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه ولفظه ‏"‏ سمعت الزهري في إناء ولغ فيه كلب فلم يجدوا ماء غيره، قال‏:‏ يتوضأ به‏"‏، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريقه بسند صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سفيان‏)‏ المتبادر إلى الذهن أنه ابن عيينة لكونه معروفا بالرواية عن الزهري دون الثوري، لكن المراد به هنا الثوري، فإن الوليد بن مسلم عقب أثر الزهري هذا بقوله‏:‏ فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال والله هذا الفقه بعينه‏.‏

فذكره، وزاد بعد قوله شيء ‏"‏ فأرى أن يتوضأ به ويتيمم‏"‏، فسمى الثوري الأخذ بدلالة العموم فقها، وهي التي تضمنها قوله تعالى ‏(‏فلم تجدوا ماء‏)‏ لكونها نكرة في سياق النفي فتعم ولا تخص إلا بدليل، وتنجيس الماء بولوغ الكلب فيه غير متفق عليه بين أهل العلم‏.‏

وزاد من رأيه التيمم احتياطا‏.‏

وتعقبه الإسماعيلي بأن اشتراطه جواز التوضؤ به إذا لم يجد غيره يدل على تنجيسه عنده، لأن الظاهر يجوز التوضؤ به مع وجود غيره‏.‏

وأجيب بأن المراد أن استعمال غيره مما لم يختلف فيه أولى، فأما إذا لم يجد غيره فلا يعدل عنه - وهو يعتقد طهارته - إلى التيمم، وأما فتيا سفيان بالتيمم بعد الوضوء به فلأنه رأى أنه ماء مشكوك فيه من أجل الاختلاف فاحتاط للعبادة، وقد تعقب بأنه يلزم من استعماله أن يكون جسده طاهرا بلا شك فيصير باستعماله مشكوكا في طهارته، ولهذا قال بعض الأئمة‏:‏ الأولى أن يريق ذلك الماء ثم يتيمم، والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية أبي الحسن القابسي عن أبي زيد المروزي في حكاية قول سفيان‏:‏ يقول الله تعالى فإن لم تجدوا ماء، وكذا حكاه أبو نعيم في المستخرج على البخاري، وفي باقي الروايات ‏(‏فلم تجدوا‏)‏ وهو الموافق للتلاوة‏.‏

وقال القابسي‏:‏ وقد ثبت ذلك في الأحكام لإسماعيل القاضي - يعني بإسناده إلى سفيان - قال‏:‏ وما أعرف من قرأ بذلك‏.‏

قلت‏:‏ لعل الثوري حكاه بالمعنى وكان يرى جواز ذلك، وكأن هذا هو الذي جر المصنف أن يأتي بمثل هذه العبارة في كتاب التيمم كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لِعَبِيدَةَ عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عاصم‏)‏ هو ابن سليمان، وابن سيرين هو محمد، وعبيدة هو ابن عمرو السلماني أحد كبار التابعين المخضرمين أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شعر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصبناه‏)‏ أي حصل لنا من جهة أنس بن مالك‏.‏

وأراد المصنف بإيراد هذا الأثر تقرير أن الشعر الذي حصل لأبي طلحة كما في الحديث الذي يليه بقي عند آل بيته إلى أن صار لمواليهم منه لأن سيرين والد محمد كان مولى أنس بن مالك وكان أنس ربيب أبي طلحة‏.‏

ووجه الدلالة منه على الترجمة أن الشعر طاهر وإلا لما حفظوه ولا تمنى عبيدة أن يكون عنده شعرة واحدة منه، وإذا كان طاهرا فالماء الذي يغسل به طاهر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عباد‏)‏ هو ابن عباد المهلبي، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد لأنه قد سمع من شيخ شيخه سعيد بن سليمان، بل سمع من أبي عاصم وغيره من أصحاب ابن عون فيقع بينه وبين ابن عون واحد، وهنا بينه وبينه ثلاثة أنفس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما حلق‏)‏ أي أمر الحلاق فحلقه، فأضعاف الفعل إليه مجازا، وكان ذلك في حجة الوداع كما سنبينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان أبو طلحة‏)‏ يعني الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس، وقد أخرج أبو عوانة في صحيحه هذا الحديث من طريق سعيد بن سليمان المذكور أبين مما ساقه محمد بن عبد الرحيم ولفظه ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق فحلق رأسه، ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن، ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس‏"‏‏.‏

ورواه مسلم من طريق ابن عيينة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ لما رمى الجمرة ونحر نسكه ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال‏:‏ اقسمه بين الناس‏"‏، وله من رواية حفص بن غياث عن هشام أنه قسم الأيمن فيمن يليه، وفي لفظ ‏"‏ فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين، وأعطى الأيسر أم سليم‏"‏، وفي لفظ ‏"‏ أبا طلحة ‏"‏ ولا تناقض في هذه الروايات، بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره صلى الله عليه وسلم أيضا، زاد أحمد في رواية له لتجعله في طيبها، وعلى هذا فالضمير في قوله ‏"‏ يقسمه ‏"‏ في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن، وكذا قوله في رواية ابن عيينة ‏"‏ فقال اقسمه بين الناس ‏"‏ قال النووي‏:‏ فيه استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق، وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة، وفيه طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور وهو الصحيح عندنا، وفيه التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وجواز اقتنائه، وفيه المواساة بين الأصحاب في العطية والهدية‏.‏

أقول‏:‏ وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة‏.‏

وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره، قال‏:‏ واختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكر البخاري، وقيل هو خراش بن أمية وهو بمعجمتين ا هـ‏.‏

والصحيح أن خراشا كان الحالق بالحديبية‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا

الشرح‏:‏

وقع هنا - في رواية ابن عساكر - قبل إيراد حديث مالك ‏"‏ باب إذا شرب الكلب في الإناء ‏"‏ قول ‏(‏إذا شرب‏)‏ كذا هو في الموطأ، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه ‏"‏ إذا ولغ‏"‏، وهو المعروف في اللغة، يقال ولغ يلغ - بالفتح فيهما - إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه‏:‏ شرب أو لم يشرب‏.‏

وقال ابن مكي‏:‏ فإن كان غير مائع يقال لعقه‏.‏

وقال المطرزي‏:‏ فإن كان فارغا يقال لحسه‏.‏

وادعى ابن عبد البر أن لفظ ‏"‏ شرب ‏"‏ لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ ‏"‏ ولغ‏"‏، وليس كما ادعى فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا شرب‏"‏، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ إذا ولغ، كذا أخرجه مسلم وغيره من طرق عنه، وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ ‏"‏ إذا شرب ‏"‏ ورقاء بن عمر أخرجه الجوزقي، وكذا المغيرة ابن عبد الرحمن أخرجه أبو يعلي، نعم وروى عن مالك بلفظ ‏"‏ إذا ولغ ‏"‏ أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في الموطآت له من طريق أبي علي الحنفي عن مالك، وهو في نسخة صحيحة من سنن ابن ماجه من رواية روح بن عبادة عن مالك أيضا، وكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بينا أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه‏.‏

ومفهوم الشرط في قوله إذا ولغ يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلا، ويكون ذكر الولوغ للغالب، وأما إلحاق باقي أعضائه كيده ورجله فالمذهب المنصوص أنه كذلك لأن فمه أشرفها فيكون الباقي من باب الأولى، وخصه في القديم الأول‏.‏

وقال النووي في الروضة‏:‏ إنه وجه شاذ‏.‏

وفي شرح المهذب‏:‏ إنه القوي من حيث الدليل، والأولوية المذكورة قد تمنع لكون فمه محل استعمال النجاسات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في إناء أحدكم‏)‏ ظاهره العموم في الآنية، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلا، وبه قال الأوزاعي مطلقا، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، والإضافة التي في إناء أحدكم يلغى اعتبارها هنا لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا قوله فليغسله لا يتوقف على أن يكون هو الغاسل‏.‏

وزاد مسلم والنسائي من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة في هذا الحديث ‏"‏ فليرقه ‏"‏ وهو يقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراق أعم من أن يكون ماء أو طعاما، فلو كان طاهرا لم يؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال، لكن قال النسائي‏:‏ لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه‏.‏

وقال حمزة الكناني‏:‏ إنها غير محفوظة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة‏.‏

وقال ابن مندة‏:‏ لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد‏.‏

قلت‏:‏ قد ورد الأمر بالإراقة أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه ابن عدي، لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف‏.‏

وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليغسله‏)‏ يقتضي الفور، لكن حمله الجمهور على الاستحباب إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبعا‏)‏ أي سبع مرار، ولم يقع في رواية مالك التتريب ولم يثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره‏.‏

وروى أيضا عن الحسن وأبي رافع عند الدارقطني وعبد الرحمن والد السدي عند البزار‏.‏

واختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، فلمسلم وغيره من طريق هشام بن حسان عنه ‏"‏ أولاهن ‏"‏ وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين وكذا في رواية أبي رافع المذكورة، واختلف عن قتادة عن ابن سيرين فقال سعيد بن بشير عنه ‏"‏ أولاهن ‏"‏ أيضا أخرجه الدارقطني‏.‏

وقال أبان عن قتادة ‏"‏ السابعة ‏"‏ أخرجه أبو داود، وللشافعي عن سفيان عن أيوب عن ابن سيرين ‏"‏ أولاهن أو إحداهن‏"‏‏.‏

وفي رواية السدي عن البزار ‏"‏ إحداهن ‏"‏ وكذا في رواية هشام بن عروة عن أبي الزناد عنه، فطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال إحداهن مبهمة وأولاهن والسابعة معينة و ‏"‏ أو ‏"‏ إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يحمل على أحدهما لأن فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي نص عليه الشافعي في الأم والبويطي وصرح به المرعشي وغيره من الأصحاب وذكره ابن دقيق العيد والسبكي بحثا، وهو منصوص كما ذكرنا‏.‏

وإن كانت ‏"‏ أو ‏"‏ شكا من الراوي فرواية من عين ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقي النظر في الترجيح بين رواية أولاهن ورواية السابعة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية ومن حيث المعنى أيضا، لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي في حرملة على أن الأولى أولى والله أعلم‏.‏

وفي الحديث دليل على أن حكم النجاسة يتعدى عن محلها إلى ما يجاورها بشرط كونه مائعا، وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جزء منها نجاسة، وعلى تنجيس الإناء الذي يتصل بالمائع، وعلى أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، لأن ولوغ الكلب لا يغير الماء الذي في الإناء غالبا، وعلى أن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه لأنه أمر بإراقة الماء لما وردت عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه وأمر بغسله، وحقيقته تتأدى بما يسمى غسلا ولو كان ما يغسل به أقل مما أريق‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية، فأما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلا مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم، لأن التتريب لم يقع في رواية مالك، قال القرافي منهم‏:‏ قد صحت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها‏.‏

وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والمعروف عند أصحابه أنه للوجوب لكنه للتعبد لكون الكلب طاهرا عندهم‏.‏

وأبدى بعض متأخريهم له حكمة غير التنجيس كما سيأتي‏.‏

وعن مالك رواية بأنه نجس، لكن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير‏.‏

فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد، لكن يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث فيما رواه مسلم وغيره من طريق محمد ابن سيرين وهمام بن منبه عن أبي هريرة ‏"‏ طهور إناء أحدكم ‏"‏ لأن الطهارة تستعمل إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعين الخبث‏.‏

وأجيب بمنع الحصر لأن التيمم لا يرفع الحدث وقد قيل له طهور المسلم، ولأن الطهارة تطلق على غير ذلك كقوله تعالى ‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏السواك مطهرة للفم ‏"‏ والجواب عن الأول بأن التيمم ناشئ عن حدث فلما قام يطهر ما يطهر الحدث سمي طهورا‏.‏

ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الإيراد من أصله‏.‏

والجواب عن الثاني أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل، ودعوى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من ولوغه الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه يحتاج إلى ثبوت تقدم النهي عن الاتخاذ عن الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه، لأن الظاهر من اللام في قوله الكلب أنها للجنس أو لتعريف الماهية فيحتاج المدعي أنها للعهد إلى دليل، ومثله تفرقة بعضهم بين البدوي والحضري، ودعوى بعضهم أن ذلك مخصوص بالكلب الكلب، وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه كقوله ‏"‏ صبوا علي من سبع قرب‏"‏، قوله ‏"‏ من تصبح بسبع تمرات عجوة‏"‏‏.‏

وتعقب بأن الكلب الكلب لا يقرب الماء فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه‏؟‏ وأجاب حفيد ابن رشد بأنه لا يقرب الماء بعد استحكام الكلب منه، أما في ابتدائه فلا يمتنع‏.‏

وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل والتعليل بالتنجيس أقوى لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه والمشهور عن المالكية أيضا التفرقة بين إناء الماء فيراق ويغسل وبين إناء الطعام فيؤكل ثم يغسل الإناء تعبدا لأن الأمر بالإراقة عام فيخص الطعام منه بالنهي عن إضاعة المال، وعورض بأن النهي عن الإضاعة مخصوص بالأمر بالإراقة ويترجح هذا الثاني بالإجماع على إراقة ما تقع فيه النجاسة من قليل المائعات ولو عظم ثمنه، فثبت أن عموم النهي عن الإضاعة مخصوص بخلاف الأمر بالإراقة، وإذا ثبتت نجاسة سؤره كان أعم من أن يكون لنجاسة عينه أو لنجاسة طارئة كأكل الميتة مثلا، لكن الأول أرجح إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم كالهرة مثلا، وإذا ثبتت نجاسة سؤره لعينه لم يدل على نجاسة باقيه إلا بطريق القياس كأن يقال لعابه نجس ففمه نجس لأنه متحلب منه واللعاب عرق فمه وفمه أطيب بدنه فيكون عرقه نجسا وإذا كان عرقه نجسا كان بدنه نجسا لأن العرق متحلب من البدن ولكن هل يلتحق باقي أعضائه بلسانه في وجوب السبع والتتريب أم لا‏؟‏ تقدمت الإشارة إلى ذلك من كلام النووي، وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب، واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور، منها كون أبي هريرة راوية أفتى بثلاث غسلات فثبت بذلك نسخ السبع، وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، وأيضا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعا ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير، ومنها أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يقيد بالسبع فيكون الولوغ كذلك من باب الأولى‏.‏

وأجيب بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار‏.‏

ومنها دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل‏.‏

وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة والأمر بالغسل متأخر جدا لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل، وقد ذكر ابن مغفل أنه سمع صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب، ومنها إلزام الشافعية بإيجاب ثمان غسلات عملا بظاهر حديث عبد الله بن مغفل الذي أخرجه مسلم ولفظه ‏"‏ فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ بالتراب ‏"‏ وأجيب بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بظاهر حديث عبد الله بن مغفل أن يتركوا هم العمل بالحديث أصلا ورأسا، لأن اعتذار الشافعية عن ذلك إن كان متجها فذاك، وإلا فكل من الفريقين ملوم في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد‏.‏

وقد اعتذر بعضهم عن العمل به بالإجماع على خلافه، وفيه نظر لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرماني عنه، ونقل عن الشافعي أنه قال‏:‏ هو حديث لم أقف على صحته، ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته، وجنح بعضهم إلى الترجيح لحديث أبي هريرة على حديث ابن مغفل، والترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمـع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة‏.‏

ولو سلكنا الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلا لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك فقلنا به أخذا بزيادة الثقة‏.‏

وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز فقال‏:‏ لما كان التراب جنسا غير الماء جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنتين‏.‏

وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله ‏"‏ وعفروه الثامنة بالتراب ‏"‏ ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازا‏.‏

وهذا الجمـع من مرجحات تعين التراب في الأولى‏.‏

والكلام على هذا الحديث وما يتفرع منه منتشر جدا، ويمكن أن يفرد بالتصنيف‏.‏

ولكن هذا القدر كاف في هذا المختصر‏.‏

والله المستعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن منصور الكوسج كما جزم به أبو نعيم في المستخرج، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث، وشيخه عبد الرحمن تكلم فيه بعضهم لكنه صدوق ولم ينفرد بهذا الحديث، والإسناد منه فصاعدا مدنيون، وأبوه وشيخه أبو صالح السمان تابعيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ لم يسم هذا الرجل وهو من بني إسرائيل كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يأكل الثرى‏)‏ بالمثلثة أي يلعق التراب الندي‏.‏

وفي المحكم الثرى التراب، وقيل التراب الذي إذا بل لم يصر طينا لازبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من العطش‏)‏ أي بسبب العطش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يغرف له به‏)‏ استدل به المصنف على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنه سقى الكلب فيه‏.‏

وتعقب بأن الاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا وفيه اختلاف، ولو قلنا به لكان محله فيما لم ينسخ، ومع إرخاء العنان لا يتم الاستدلال به أيضا لاحتمال أن يكون صبه في شيء فسقاه أو غسل خفه بعد ذلك أو لم يلبسه بعد ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فشكر الله له‏)‏ أي أثنى عليه فجزاه على ذلك بأن قبل عمله وأدخله الجنة‏.‏

وسيأتي بقية الكلام على فوائد هذا الحديث في باب فضل سقي الماء من كتاب الشرب إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقال أحمد بن شبيب‏)‏ بفتح المعجمة وكسر الموحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حمزة بن عبد الله‏)‏ أي ابن عمر بن الخطاب‏.‏

‏(‏كانت الكلاب‏)‏ زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولا بصريح التحديث قبل قوله تقبل ‏"‏ تبول ‏"‏ وبعدها واو العطف، وكذا ذكر الأصيلي أنها في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري، وكذا أخرجها أبو داود والإسماعيلي من رواية عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد شيخ شبيب بن سعيد المذكور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب للاتفاق على نجاسة بولها قاله ابن المنير‏.‏

وتعقب بأن من يقول إن الكلب يؤكل وأن بول ما يؤكل لحمه طاهر يقدح في نقل الاتفاق‏.‏

لا سيما وقد قال جمع بأن أبوال الحيوانات كلها طاهرة إلا الآدمي، وممن قال به ابن وهب حكاه الإسماعيلي وغيره عنه وسيأتي في باب غسل البول‏.‏

وقال المنذري‏:‏ المراد أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، إذ لم يكن عليه في ذلك الوقت غلق‏.‏

قال‏:‏ ويبعد أن تترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تمتهنه بالبول فيه‏.‏

وتعقب بأنه إذا قيل بطهارتها لم يمتنع ذلك كما في الهرة، والأقرب أن يقال‏:‏ إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها، ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث عن ابن عمر قال‏:‏ كان عمر يقول بأعلى صوته ‏"‏ اجتنبوا اللغو في المسجد ‏"‏ قال ابن عمر‏:‏ وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الكلاب‏.‏

الخ، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام، وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب‏.‏

وأما قوله ‏"‏ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فهو وإن كان عاما في جميع الأزمنة لأنه اسم مضاف لكنه مخصوص بما قبل الزمن الذي أمر فيه بصيانة المسجد‏.‏

وفي قوله ‏"‏ فلم يكونوا يرشون ‏"‏ مبالغة لدلالته على نفي الغسل من باب الأولى، واستدل بذلك ابن بطال على طهارة سؤره لأن من شأن الكلاب أن تتبع مواضع المأكول، وكان بعض الصحابة لا بيوت لهم إلا المسجد فلا يخلو أن يصل لعابها إلى بعض أجزاء المسجد، وتعقب بأن طهارة المسجد متيقنة وما ذكر مشكوك فيه، واليقين لا يرفع بالشك‏.‏

ثم إن دلالته لا تعارض دلالة منطوق الحديث الوارد في الأمر بالغسل من ولوغه، واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، يعني أن قوله ‏"‏ لم يكونوا يرشون ‏"‏ يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك، ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ حكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه أبدل قوله يرشون بلفظ ‏"‏ يرتقبون ‏"‏ بإسكان الراء ثم مثناة مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم موحدة، وفسره بأن معناه لا يخشون فصحف اللفظ، وأبعد في التفسير لأن معنى الارتقاب الانتظار، وأما نفي الخوف من نفي الارتقاب فهو تفسير ببعض لوازمه‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن أبي السفر‏)‏ تقدم في المقدمة أن اسمه عبد الله، وأن السفر بفتح الفاء، ووهم من سكنها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عدي بن حاتم‏)‏ أي الطائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت‏)‏ أي عن حكم صيد الكلاب، وحذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب عليه، وقد صرح به المصنف من طريق أخرى في الصيد كما سيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

وإنما ساق المصنف هذا الحديث هنا ليستدل به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب، ومطابقته للترجمة من قوله فيها ‏"‏ وسؤر الكلاب‏"‏، ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في أكل ما صاده الكلب ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه، ومن ثم قال مالك‏:‏ كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسا‏؟‏ وأجاب الإسماعيلي بأن الحديث سيق لتعريف أن قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسة ولا نفيها‏.‏

ويدل لذلك أنه لم يقل له اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، لكنه وكله إلى ما تقرر عنده من وجوب غسل الدم، فلعله وكله أيضا إلى ما تقرر عنده من غسل ما يماسه فمه‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ عند الشافعية أن السكين إذا سقيت بماء نجس وذبح بها نجست الذبيحة، وناب الكلب عندهم نجس العين، وقد وافقونا على أن ذكاته شرعية لا تنجس المذكي‏.‏

وتعقب بأنه لا يلزم من الاتفاق على أن الذبيحة لا تصير نجسة بعض الكلب ثبوت الإجماع على أنها لا تصير متنجسة، فما ألزمهم به من التناقض ليس بلازم، على أن في المسألة عندهم خلافا، والمشهور وجوب غسل المعض، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين‏)‏ الاستثناء مفرغ، والمعنى من لم ير الوضوء واجبا من الخروج من شيء من مخارج البدن إلا من القبل والدبر، وأشار بذلك إلى خلاف من رأى الوضوء مما يخرج من غيرهما من البدن كالقيء والحجامة وغيرهما، ويمكن أن يقال‏:‏ إن نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إلى المخرجين‏:‏ فالنوم مظنة خروج الريح، ولمس المرأة ومس الذكر مظنة خروج المذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقوله تعالى‏:‏ أو جاء أحد منكم من الغائط‏)‏ فعلق وجوب الوضوء - أو التيمم عند فقد الماء - على المجيء من الغائط، وهو المكان المطمئن من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة، فهذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أو لامستم النساء‏)‏ دليل الوضوء من ملامسة النساء، وفي معناه مس الذكر مع صحة الحديث فيه، إلا أنه ليس على شرط الشيخين، وقد صححه مالك وجميع من أخرج الصحيح غير الشيخين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عطاء‏)‏ هو ابن أبي رباح‏.‏

وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وغيره بنحوه وإسناده صحيح، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان، قالوا لا ينقض النادر، وهو قول مالك قال‏:‏ إلا إن حصل معه تلويث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال جابر‏)‏ هذا التعليق وصله سعيد بن منصور والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح من قول جابر، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى مرفوعا لكن ضعفها‏.‏

والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه قالوا‏:‏ ينقض الضحك إذا وقع داخل الصلاة لا خارجها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع فيها، فخالف من قال به القياس الجلي، وتمسكوا بحديث لا يصح، وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

انتهى‏.‏

على أنهم لم يأخذوا بعموم الخبر المروي في الضحك بل خصوه بالقهقهة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن‏)‏ أي ابن أبي الحسن البصري، والتعليق عنه للمسألة الأولى وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح‏.‏

والمخالف في ذلك مجاهد والحكم بن عتيبة وحماد قالوا‏:‏ من قص أظفاره أو جز شاربه فعليه الوضوء‏.‏

ونقل ابن المنذر أن الإجماع استقر على خلاف ذلك‏.‏

وأما التعليق عنه للمسألة الثانية فوصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ووافقه على ذلك إبراهيم النخعي وطاوس وقتادة وعطاء وبه كان يفتي سليمان بن حرب وداود، وخالفهم الجمهور على قولين مرتبين على إيجاب الموالاة وعدمها، فمن أوجبها قال‏:‏ يجب استئناف الوضوء إذا طال الفصل، ومن لم يوجبها قال‏:‏ يكتفي بغسل رجليه وهو الأظهر من مذهب الشافعي‏.‏

وقال في الموطأ‏:‏ أحب إلي أن يبتدئ الوضوء من أوله‏.‏

وقال بعض العلماء من الشافعية وغيرهم يجب الاستئناف وإن لم تجب الموالاة، وعن الليث عكس ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة‏)‏ وصله إسماعيل القاضي في الأحكام بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا وزاد ‏"‏ أو ريح‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن جابر‏)‏ وصله ابن إسحاق في المغازي قال‏:‏ حدثني صدقة بن يسار عن عقيل ابن جابر عن أبيه مطولا‏.‏

وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كلهم من طريق ابن إسحاق، وشيخه صدقة ثقة، وعقيل بفتح العين لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف، أو لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في غزوة ذات الرقاع‏)‏ سيأتي الكلام عليها في المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرمى‏)‏ بضم الراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رجل‏)‏ تبين من سياق المذكورين سبب هذه القصة، ومحصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بشعب فقال‏:‏ من يحرسنا الليلة‏؟‏ فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليل للحراسة، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، فجاء رجل من العدو فرأى الأنصاري فرماه بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته، ثم رماه بثان فصنع كذلك، ثم رماه بثالث فانتزعه وركع وسجد وقضى صلاته، ثم أيقظ رفيقه‏.‏

فلما رأى ما به من الدماء قال له‏:‏ لم لا أنبهتني أولى ما رمى‏؟‏ قال‏:‏ كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها‏.‏

وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر وسمى الأنصاري المذكور عباد بن بشر، والمهاجري عمار بن ياسر، والسورة الكهف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنزفه‏)‏ قال ابن طريف في الأفعال‏:‏ يقال نزفه الدم وأنزفه إذا سال منه كثيرا حتى يضعفه فهو نزيف ومنزوف‏.‏

وأراد المصنف بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء، فإن قيل‏:‏ كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه واجتناب النجاسة فيها واجب‏؟‏ أجاب الخطابي بأنه يحتمل أن يكون الدم جرى من الجراح على سبيل الدفق بحيث لم يصب شيئا من ظاهر بدنه وثيابه، وفيه بعد‏.‏

ويحتمل أن يكون الدم أصاب الثوب فقط فنزعه عنه ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه‏.‏

ثم الحجة قائمة به على كون خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه‏.‏

والظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطلها بدليل أنه ذكر عقب هذا الحديث أثر الحسن وهو البصري قال‏:‏ ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال طاوس‏)‏ هو ابن كيسان التابعي المشهور، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه ‏"‏ أنه كان لا يرى في الدم وضوءا، يغسل عنه الدم ثم حسبه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومحمد بن علي‏)‏ أي ابن الحسين بن علي أبو جعفر الباقر، وأثره هذا رويناه موصولا في فوائد الحافظ أبي بشر المعروف بسموية من طريق الأعمش قال‏:‏ سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف، فقال‏:‏ لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء‏.‏

وعطاء هو ابن أبي رباح وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه‏.‏

قوله ‏(‏وأهل الحجاز‏)‏ هو من عطف العام على الخاص، لأن الثلاثة المذكورين قبل حجازيون‏.‏

وقد رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد بن جبير، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيب، وأخرجه إسماعيل القاضي من طريق أبي الزناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهو قول مالك والشافعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعصر ابن عمر‏)‏ وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وزاد قبل قوله ولم يتوضأ ‏"‏ ثم صلى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بثرة‏)‏ بفتح الموحدة وسكون المثلثة ويجوز فتحها، هي خراج صغير يقال بثر وجهه مثلث الثاء المثلثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبزق ابن أبي أوفى‏)‏ هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي، وأثره هذا وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب أنه رآه فعل ذلك‏.‏

وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه فالإسناد صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عمر‏)‏ صله الشافعي وابن أبي شيبة بلفظ ‏"‏ كان إذا احتجم غسل محاجمه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحسن‏)‏ أي البصري، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا ولفظه ‏"‏ أنه سئل عن الرجل يحتجم ماذا عليه‏؟‏ قال يغسل أثر محاجمه‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية الأصيلي وغيره ‏"‏ ليس عليه غسل محاجمه ‏"‏ بإسقاط أداة الاستثناء، وهو الذي ذكره الإسماعيلي‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ ثبتت ‏"‏ إلا ‏"‏ في رواية المستملي دون رفيقيه، انتهـى‏.‏

وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذر عن الثلاثة، وتخريج التعليق المذكور يؤيد ثبوتها، وقد حكى عن الليث أنه قال‏:‏ يجزئ المحتجم أن يمسح موضع الحجامة ويصلي ولا يغسله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ الصَّوْتُ يَعْنِي الضَّرْطَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن أبي ذئب‏)‏ تقدم أن اسمه محمد بن عبد الرحمن، والإسناد كله مدنيون إلا آدم وقد دخلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما كان في المسجد‏)‏ ، أي ما دام، وهي رواية الكشميهني، والمراد أنه في ثواب الصلاة ما دام ينتظرها وإلا لامتنع عليه الكلام ونحوه‏.‏

وقال الكرماني نكر قوله ‏"‏ في صلاة ‏"‏ ليشعر بأن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الصلاة في أبواب صلاة الجماعة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعجمي‏)‏ أي غير فصيح بالعربية سواء كان عربي الأصل أم لا، ويحتمل أن يكون هذا الأعجمي هو الحضرمي الذي تقدم ذكره في أوائل كتاب الوضوء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الصوت‏)‏ كذا فسره هنا، ويؤيده الزيادة المذكورة قبل في رواية أبي داود وغيره حيث قال ‏"‏ لا وضوء إلا من صوت أو ريح ‏"‏ فكأنه قال‏:‏ لا وضوء إلا من ضراط أو فساء، وإنما خصهما بالذكر دون ما هو أشد منهما لكونهما لا يخرج من المرء غالبا في المسجد غيرهما، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحديث الخاص وهو المعهود وقوعه غالبا في الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الوضوء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو الوليد‏)‏ هو الطيالسي، وإن كان هشام بن عمار يكنى أيضا أبا الوليد، ويروي أيضا عن ابن عيينة ويروي عنه البخاري‏.‏

قوله ‏(‏عن عمه‏)‏ هو عبد الله بن زيد المازني، وتقدم الكلام على حديثه هذا في ‏"‏ باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ‏"‏ وأورده هنا لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين، وقد قدمنا توجيه إلحاق بقية النواقض بهما أوائل الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الْثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ فِيهِ الْوُضُوءُ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، وسيأتي الكلام على المتن في باب غسل المذي من كتاب الغسل إن شاء الله تعالى‏.‏

وتقدمت له طريق أخرى في أواخر كتاب العلم‏.‏

وأورده هنا لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي وهو خارج من أحد المخرجين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورواه شعبة عن الأعمش‏)‏ ، أي بالإسناد المذكور، وقد وصله أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعد بن حفص‏)‏ كذا للجميع، إلا القابسي فقال ‏"‏ سعيد ‏"‏ وكذا صنع في حديثه الآخر الآتي في باب فضل النفقة في سبيل الله من كتاب الجهاد، نبه عليهما الجياني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة أي ابن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وفي الإسناد تابعيان كبيران مدنيان يروي أحدهما عن الآخر وصحابيان كذلك، ويحيى بن أبي كثير أيضا تابعي صغير، ففيه ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرأيت‏)‏ أي أخبرني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا جامع‏)‏ أي الرجل فلم يمن بضم التحتانية وسكون الميم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما يتوضأ للصلاة‏)‏ بيان لأن المراد الوضوء الشرعي لا اللغوي، وسيأتي حكم هذه المسألة في آخر كتاب الغسل، ونبين هناك أنه منسوخ، ولا يقال إذا كان منسوخا كيف يصح الاستدلال به لأنا نقول المنسوخ منه عدم وجوب الغسل وناسخه الأمر بالغسل، وأما الأمر بالوضوء فهو باق لأنه مندرج تحت الغسل، والحكمة في الأمر بالوضوء قبل أن يجب الغسل إما لكون الجماع مظنة خروج المذي أو لملامسة المرأة، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ فَقَالَ نَعَمْ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ تَابَعَهُ وَهْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ الْوُضُوءُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ كذا في رواية كريمة وغيرها، زاد الأصيلي ‏"‏ هو ابن منصور ‏"‏ وفي رواية أبي ذر ‏"‏ حدثنا إسحاق بن منصور بن بهرام ‏"‏ بفتح الموحدة وهو المعروف بالكوسج كما صرح به أبو نعيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا النضر‏)‏ هو ابن شميل بالمعجمة مصغرا، والحكم هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرسل إلى رجل من الأنصار‏)‏ ولمسلم وغيره ‏"‏ مر على رجل ‏"‏ فيحمل على أنه مر به فأرسل إليه، وهذا الأنصاري سماه مسلم في روايته من طريق أخرى عن أبي سعيد ‏"‏ عتبان ‏"‏ وهو بكسر المهملة وسكون المثناة ثم موحدة خفيفة ولفظه من رواية شريك بن أبي نمر عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال ‏"‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فخرج يجر إزاره‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعجلنا الرجل ‏"‏ فذكر الحديث بمعناه‏.‏

وعتبان المذكور هو ابن مالك الأنصاري كما نسبه بقي بن مخلد في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه، ووقع في رواية في صحيح أبي عوانة أنه ابن عتبان والأول أصح، ورواه ابن إسحاق في المغازي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن جده لكنه قال ‏"‏ فهتف برجل من أصحابه يقال له صالح ‏"‏ فإن حمل على تعدد الواقعة وإلا فطريق مسلم أصح‏.‏

وقد وقعت القصة أيضا لرافع بن خديج وغيره أخرجه أحمد وغيره، ولكن الأقرب في تفسير المبهم الذي في البخاري أنه عتبان‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقطر‏)‏ أي ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الغسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لعلنا أعجلناك‏)‏ أي عن فراغ حاجتك من الجماع، وفيه جواز الأخذ بالقرائن، لأن الصحابي لما أبطأ عن الإجابة مدة الاغتسال خالف المعهود منه وهو سرعة الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عليه أثر الغسل دل على أن شغله كان به، واحتمل أن يكون نزع قبل الإنزال ليسرع الإجابة، أو كان أنزل فوقع السؤال عن ذلك‏.‏

وفيه استحباب الدوام على الطهارة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه تأخير إجابته، وكأن ذلك كان قبل إيجابها، إذ الواجب لا يؤخر للمستحب‏.‏

وقد كان عتبان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى فأجابه، كما سيأتي في موضعه، فيحتمل أن تكون هي هذه الواقعة، وقدم الاغتسال ليكون متأهبا للصلاة معه، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أعجلت‏)‏ بضم الهمزة وكسر الجيم، وفي أصل أبي ذر ‏"‏ إذا عجلت ‏"‏ بلا همز و ‏"‏ قحطت ‏"‏ وفي رواية غيره ‏"‏ أقحطت ‏"‏ بوزن أعجلت، وكذا لمسلم‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ يقال أقحط الرجل إذا جامع ولم ينزل‏.‏

وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب أن المحدثين يقولون قحط بفتح القاف قال والصواب الضم‏.‏

قلت‏:‏ وروايته في أمالي أبي علي القالي بالوجهين في القاف، وبزيادة الهمزة المضمومة، يقال قحط الناس وأقحطوا إذا حبس عنهم المطر، ومنه استعير ذلك لتأخر الإنزال‏.‏

قال الكرماني ليس قوله ‏"‏ أو ‏"‏ للشك بل هو لبيان عدم الإنزال سواء كان بحسب أمر من ذات الشخص أم لا، وهذا بناء على أن إحداهما بالتعدية وإلا فهي للشك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه وهب‏)‏ أي ابن جرير بن حازم، والضمير يعود على النضر، ومتابعة وهب وصلها أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يقل غندر ويحيى عن شعبة الوضوء‏)‏ يعني أن غندرا وهو محمد بن جعفر ويحيى وهو ابن سعيد القطان رويا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه ‏"‏ عليك الوضوء ‏"‏ فأما يحيى فهو كما قال فقد أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده عنه ولفظه ‏"‏ فليس عليك غسل ‏"‏ وأما غندر فقد أخرجه أحمد أيضا في مسنده عنه لكنه ذكر الوضوء ولفظه ‏"‏ فلا غسل عليك، عليك الوضوء‏"‏، وهكذا أخرجه مسلم وابن ماجه والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عنه، وكذا ذكره أكثر أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه‏.‏

فكأن بعض مشايخ البخاري حدثه به عن يحيى وغندر معا فساقه له على لفظ يحيى والله أعلم‏.‏

وقد كان بين الصحابة اختلاف في هذه المسألة كما سنذكره في آخر كتاب الغسل إن شاء الله تعالى‏.‏