فصل: فصــل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعًا كثيرًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

فهذان القولان ـ قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب، ويخلدون في النار، وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة، ويقول‏:‏ ليس معهم من الإيمان شيء ـ لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث، بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع‏.‏

وكذلك قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة وقال‏:‏ لا أعلم أن أحدًا منهم يدخل النار، وهو ـ أيضًا ـ من الأقوال المبتدعة، بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه لابد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة، ثم يخرجون منها‏.‏ وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من/ أهل القبلة فهذا لا نعرفه قولاً لأحد‏.‏ وبعده قول من يقول‏:‏ ما ثم عذاب أصلا، وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار‏.‏

وربما احتج بعضهم بقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏16‏]‏، فيقال لهذا‏:‏ التخويف إنما يكون تخويفًا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم‏:‏ من أن الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد ـ وإن كان لا حقيقة له ـ فإنما يعقل لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة‏.‏

وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل، فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة، من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم‏.‏ فإن البارع منهم في العلم /والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن،حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون، فلو كان ـ والعياذ بالله ـ دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزومًا لطاعة أمره ـ سرًا وعلانية ـ ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم ـ كأبي بكر وعمر ـ كانوا أعظمهم لزومًا للطاعة سرَّا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنًا وظاهرًا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة، الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبًا على السالك حتى يصير عارفًا محققًا في زعمهم، وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏99‏]‏، زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 45‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قال الحسن البصري‏:‏ إن الله لم يجعل لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت،/ وتلا هذه الآية‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لما توفى عثمان بن مظعون‏:‏ ‏(‏أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه‏)‏‏.‏وهؤلاء قد يشهدون القَدَر أولاً، وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر، ويفنى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تمييز فيه بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته وأوليائه وأعدائه‏.‏

وقد يقول أحدهم‏:‏ العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية ـ يريد بذلك طاعة القدر ـ كقول بعض شيوخهم‏:‏ أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين‏:‏ هذا ماله حرام فقال‏:‏ إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة‏.‏ ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث‏:‏ لا طاعة ولا معصية، و هو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان‏.‏ وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب، والله أعلم‏.‏

 فصــل

ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعًا كثيرًا، منه لفظي،/ وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء كتنازعهم في الإيمان‏:‏ هل يزيد وينقص‏؟‏ وهل يستثنى فيه أم لا ‏؟‏ وهل الأعمال من الإيمان أم لا‏؟‏ وهل الفاسق المِلِّي مؤمن كامل الإيمان أم لا‏؟‏

والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة‏:‏ أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، كما قال عُمَيْر بن حبيب الخَطْمِي وغيره من الصحابة‏:‏ الإيمان يزيد وينقص، فقيل له‏:‏ وما زيادته ونقصانه‏؟‏ فقال‏:‏ إذا ذكرنا الله، وحمدناه، وسبحناه، فتلك زيادته‏.‏ وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا، فذلك نقصانه، فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم‏.‏

وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين‏:‏ قول وعمل ونية، وربما قال آخر‏:‏ قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال‏:‏ قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، أي بالجوارح‏.‏ وروى بعضهم هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النسخة المنسوبة إلى أبي الصلت الهروي عن علي بن أبي موسى الرضا‏.‏ وذلك من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم، باتفاق أهل العلم بحديثه‏.‏وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان/بدون اعتقاد القلب هوقول المنافقين،وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد،كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏11‏]‏، وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله‏.‏ فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك، قال بعضهم‏:‏ ونية، ثم بين آخرون‏:‏ أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة‏.‏ وهذا حق أيضًا، فإن أولئك قالوا‏:‏ قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال، وكذلك قول من قال‏:‏ اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسمًا لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولابد أن يدخل في قوله‏:‏ اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، ونحو ذلك‏.‏ فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها‏.‏

وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه؛ لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه،وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم‏:‏إنه يزيد وينقص،وبعضهم عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، فقال‏:‏ أقول‏:‏ الإيمان يتفاضل ويتفاوت،ويروى هذا عن ابن المبارك/ وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع، إلى معنى لا ريب في ثبوته‏.‏وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء، وأما إبراهيم النَّخعِيّ ـ إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي سليمان ـ وأمثاله،ومن قبله من أصحاب ابن مسعود؛ كعلقمة، والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد ابن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة، ومن بعدهم‏.‏

ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة‏:‏ على عدم تكفير هؤلاء المرجئة‏.‏ ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غلط غلطًا عظيمًا‏.‏ والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حكى عنه في تكفيرهم روايتان‏.‏

وأما المرجئة، فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية،ولا كل من قال‏:‏ إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في/ بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة‏.‏ وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين‏.‏

وهؤلاء المعروفون ـ مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة ـ كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا‏:‏ الإيمان مجرد تصديق القلب‏.‏

لكن هذا القول حكوه عن الجهم بن صفوان، ذكروا أنه قال‏:‏ الإيمان مجرد معرفة القلب، وإن لم يقر بلسانه، واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح، وأحمد ابن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك، فإنه من أقوال الجهمية، وقالوا‏:‏ إن فرعون وإبليس وأبا طالب واليهود وأمثالهم، عرفوا بقلوبهم وجحدوا بألسنتهم، فقد كانوا مؤمنين‏.‏ وذكروا قول الله‏:‏‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏146‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏، وقالوا‏:‏ إبليس لم يكذب خبرًا، ولم يجحد، فإن الله أمره بلا رسول، ولكن عصى واستكبر، وكان كافرًا من غير تكذيب في الباطن، وتحقيق هذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وحدث بعد هؤلاء قول الكرامية‏:‏ إن الإيمان قول اللسان، دون تصديق القلب، مع قولهم‏:‏ إن مثل هذا يعذب في الآخرة ويخلد في النار‏.‏ وقال أبو عبد الله الصالحي‏:‏ إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة،وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة،وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما؛ ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة‏.‏ والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث‏:‏ إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان‏.‏

والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك،/ لا إلى الكمال والنقصان والحال‏.‏ وقد منع أن يطلق القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وصنف في ذلك مصنفًا معروفًا عند أهل السنة، في ‏[‏كتاب المقالات‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ إنه يقول بقولهم‏.‏

وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة ـ كأبي منصور الماتريدي وأمثاله ـ إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا‏:‏إن الإيمان هو ما في القلب، وأن القول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا، لكن هؤلاء يقولون بالاستثناء ونحو ذلك كما عرف من أصلهم وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان‏)‏‏.‏

ثم قالت الخوارج والمعتزلة‏:‏ الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان‏.‏ وقالت المرجئة، والجهمية‏:‏ ليس الإيمان إلا شيئًا واحدًا لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة قالوا‏:‏ لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل/ فيستدل بعدمه على عدمه‏.‏

وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا‏:‏ الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك‏:‏ لا يزول بزوال بعض الأعمال، حتى إن ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضًا في ذلك، فإن الشافعي كان من أئمة السنة، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور، وقد ذكر في كتاب الطهارة من ‏[‏الأم‏]‏ إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفًا فيه، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي، استشكل قول الشافعي ورآه متناقضًا‏.‏

وجماع شبهتهم في ذلك‏:‏ أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة‏.‏ وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا كان الإيمان مركبًا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها‏.‏ وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا‏:‏ ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنًا بما فيه من الإيمان، كافرًا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع، ولهذه الشبهة ـ والله أعلم ـ امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن‏:‏ إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله، بخلاف ما إذا زاد‏.‏

/ثم إن هذه الشبهة هي شبهة من منع أن يكون في الرجل الواحد طاعة ومعصية؛ لأن الطاعة جزء من الإيمان، والمعصية جزء من الكفر‏.‏ فلا يجتمع فيه كفر وإيمان، وقالوا‏:‏ ما ثم إلا مؤمن محض أو كافر محض، ثم نقلوا حكم الواحد من الأشخاص إلى الواحد من الأعمال، فقالوا‏:‏ لا يكون العمل الواحد محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وغلا فيه أبو هاشم فنقله إلى الواحد بالنوع فقال‏:‏ لا يجوز أن يكون جنس السجود أو الركوع أو غير ذلك من الأعمال بعض أنواعه طاعة، وبعضها معصية؛ لأن الحقيقة الواحدة لا توصف بوصفين مختلفين، بل الطاعة والمعصية تتعلق بأعمال القلوب، وهو قصد الساجد دون عمله الظاهر، واشتد نكير الناس عليه في هذا القول وذكروا من مخالفته للإجماع وجحده للضروريات شرعًا وعقلاً، ما يتبين به فساده‏.‏

وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم،فيقولون‏:‏ الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو،لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها،وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف، فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج، ومعلوم أن السواد مختلف، فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان‏.‏ وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق /الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، لكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان‏.‏

ومثل هذا الغلط وقع فيه كثير من الخائضين في أصول الفقه، حيث أنكروا تفاضل العقل أو الإيجاب أو التحريم، وإنكار التفاضل في ذلك قول القاضي أبي بكر وابن عقيل وأمثالهما، لكن الجمهور على خلاف ذلك، وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي محمد البربهاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب وغيرهم‏.‏ وكذلك وقع نظير هذا لأهل المنطق والفلسفة ولمن تابعهم من أهل الكلام والاتحاد،في توحيد واجب الوجود ووحدته، حتى أخرجهم الأمر إلى ما يستلزم التعطيل المحض، كما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏

وأهل المنطق اليونان مضطربون في هذا المقام، يقول أحدهم القول، ويقول نقيضه، كما هو مذكور في موضعه، ونحن نذكر ما يتعلق بهذا الموضع فنقول ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏:‏ الكلام في طرفين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء‏؟‏

والثاني‏:‏ هل هي متلازمة في الثبوت‏؟‏

/أما الأول‏:‏

فإن الحقيقة الجامعة لأمور ـ سواء كانت في الأعيان أو الأعراض ـ إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها‏.‏ وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين‏.‏

فيقال‏:‏ أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد‏:‏ إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض/ أعضائه بقى مجموعًا‏.‏

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏)‏،فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء‏.‏

وأما زوال الاسم فيقال لهم‏:‏ هذا ـ أولا ـ بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول‏:‏لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏ كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، و نحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت‏.‏

يبقى النزاع‏:‏ هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم‏:‏ المركبات في ذلك على وجهين، منها‏:‏ ما يكون التركيب شرطًا في إطلاق الاسم، ومنها‏:‏ ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين، ومنها/ ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك‏.‏

وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك، مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ ‏[‏القرآن‏]‏ فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خفف على داود القرآن‏)‏،وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير‏.‏

وكذلك لفظ الذكر والدعاء، يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل؛ يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة‏.‏

ولفظ البحر والنهر؛يقل عليه وإن نقصت أجزاؤه،وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك،يقال على الجملة المجتمعة،ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق،وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة،يقال على جملتها،فيدخل فيها الأغصان وغيرها،ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق،وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار،يقال على الحيوان المجتمع الخلق،ثم/يذهب كثير من أعضائه والاسم باق،وكذلك أسماء بعض الأعلام؛ كزيد وعمرو، يتناول الجملة المجتمعة، ثم يزول بعض أجزائها والاسم باق‏.‏ وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع، لم يصح قولهم‏:‏ إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي‏.‏

ومعلوم أن اسم ‏[‏الإيمان‏]‏ من هذا الباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شعبه، أعلاها قول‏:‏ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏‏.‏ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان‏.‏

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال‏:‏‏(‏يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان‏)‏، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك، أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال،والرَّمل والاضطباع في الطواف الأول‏.‏

وكذلك الصلاة، فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها/ أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك‏.‏ فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعًا وطبعًا، فإذا قال المعترض‏:‏هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج من الحقيقة، قيل له‏:‏ ماذا تريد بالحقيقة‏؟‏ فإن قال‏:‏ أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافرًا، قيل له‏:‏ ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى ‏[‏مسلم‏]‏ في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك‏.‏

وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق،لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت،فإن الله لما بعث محمدا رسولاً إلى الخلق،كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر،وطاعته فيما أمر،ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرًا‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ كان بدء الإيمان ناقصًا، فجعل يزيد حتى كمل؛ ولهذا /قال تعالى عام حجة الوداع‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏‏.‏

وأيضًا، فبعد نزول القرآن وإكمال الدين، إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلاً، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلا إذا بلغه، وأيضًا‏.‏ فالرجل إذا آمن بالرسول إيمانًا جازمًا، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك‏.‏ وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك‏.‏

فصار ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضًا‏.‏ ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر‏.‏ فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل ـ وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع؛ كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال ـ فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات‏.‏

/يبقى أن يقال‏:‏ فالبعض الآخر قد يكون شرطًا في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطًا فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏150، 151‏]‏‏.‏ وقد يكون البعض المتروك ليس شرطًا في وجود الآخر ولا قبوله‏.‏

وحينئذ، فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق‏.‏ وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر‏)‏، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من مات ولم يغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق‏)‏،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر‏:‏ ‏(‏إنك امرؤ فيك جاهلية‏)‏،وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لن يدعوهن‏:‏ الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق،/ وقتاله كفر‏)‏، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏اثنتان في الناس هما بهم كفر‏:‏ الطعن في النسب، والنياحة على الميت‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏لا ترْغَبُوا عن آبائكم، فإن كُفْرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم‏)‏، وهذا من القرآن الذي نسخت تلاوته‏:‏ ‏(‏لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن أبائكم‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي ذر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ليس من رجل ادَّعَى إلى غير أبيه ـ وهو يعلمه ـ إلا كَفَر، ومن ادَّعَى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر، أو قال‏:‏ ياعدو الله وليس كذلك، إلا رجع عليه‏)‏‏.‏

وفي لفظ البخاري‏:‏ ‏(‏ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر بالله ومن ادعى قومًا ليس منهم، فليتبوأ مقعده من النار‏)‏، وفي الصحيحين من حديث جرير وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏ ورواه البخاري من حديث ابن عباس،وفي البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إذا قال الرجل لأخيه‏:‏ يا كافر، فقد باء بها أحدهما‏)‏،وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثْرِ سَمَاء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون ماذا قال ربكم الليلة‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ أصبح من/ عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏ألم تروا إلى ما قال ربكم ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون‏:‏ بالكواكب، وبالكواكب‏)‏ و نظائر هذا موجودة في الأحاديث‏.‏ وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏47‏]‏ و‏{‏الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏:‏ كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم‏.‏ وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما‏.‏

 الأصل الثاني‏:‏

أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة،ولا تتلازم عند الضعف، فإذا قوى ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله،أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏81‏]‏،وقال‏:‏‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏‏.‏وقد تحصل للرجل موادتهم/ لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بَلْتَعَة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏1‏]‏‏.‏

وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أُبَيّ في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ‏:‏ كذبت والله،لا تقتله، ولا تقدر على قتله، قالت عائشة‏:‏ وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحَمِيَّة، ولهذه الشبهة سمى عمر حاطبًا منافقًا، فقال‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال‏:‏‏(‏إنه شهد بَدْرًا‏)‏ فكان عمر متأولاً في تسميته منافقًا للشبهة التي فعلها‏.‏

وكذلك قول أسَيْد بن حُضَيْر لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله‏!‏ لنقتلنه، إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين، هو من هذا الباب‏.‏ وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدُّخْشُم‏:‏ منافق، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين‏.‏

ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعًا واحدًا، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب، وفيه شعبة من النفاق، وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان، ولما قوى الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك، صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك‏.‏/ ومن هذا الباب، ما يروي عن الحسن البصري ونحوه من السلف، أنهم سموا الفساق منافقين، فجعل أهل المقالات هذا قولاً مخالفًا للجمهور، إذا حكوا تنازع الناس في الفاسق المِلِّي، هل هو كافر‏؟‏ أو فاسق ليس معه إيمان‏؟‏ أو مؤمن كامل الإيمان‏؟‏ أو مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه من الفسق‏؟‏ أو منافق، والحسن ـ رحمه الله تعالى ـ لم يقل ما خرج به عن الجماعة، لكن سماه منافقًا على الوجه الذي ذكرناه‏.‏

والنفاق ـ كالكفر ـ نفاق دون نفاق؛ ولهذا كثيرًا ما يقال‏:‏ كفر ينقل عن الملة، وكفر لا ينقل، ونفاق أكبر، ونفاق أصغر، كما يقال‏:‏ الشرك شركان‏:‏ أصغر، وأكبر، وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، كيف ننجو منه، وهو أخفى من دبيب النمل‏؟‏ فقال‏:‏‏(‏ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله‏؟‏ قل‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك، وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم‏)‏، وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏

وبهذا تبين أن الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص، لانتفاء كماله الواجب، وإن كان معه بعض أجزائه، كما قال‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن‏)‏،ومنه قوله‏:‏‏(‏من غَشَّنَا فليس مِنَّا، ومن حمل علينا/ السلاح فليس منا‏)‏‏.‏ فإن صيغة ‏[‏أنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ ونحو ذلك من ضمير المتكلم في مثل ذلك، يتناول النبي صلى الله عليه وسلم،والمؤمنين معه ـ الإيمان المطلق ـ الذي يستحقون به الثواب، بلا عقاب، ومن هنا قيل‏:‏ إن الفاسق المِلي يجوز أن يقال‏:‏ هو مؤمن باعتبار، ويجوز أن يقال‏:‏ ليس مؤمنًا باعتبار‏.‏

وبهذا تبين أن الرجل قد يكون مسلمًا لا مؤمنًا، ولا منافقًا مطلقًا، بل يكون معه أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة، ولهذا أنكر أحمد وغيره من الأئمة على من فسر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا‏)‏‏:‏ ليس مثلنا، أو ليس من خيارنا، وقال‏:‏ هذا تفسير المرجئة، وقالوا‏:‏ لو لم يفعل هذه الكبيرة، كان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏وكذلك تفسير الخوارج والمعتزلة، بأنه يخرج من الإيمان بالكلية، ويستحق الخلود في النار، تأويل منكر، كما تقدم، فلا هذا ولا هذا‏.‏

ومما يبين ذلك أنه من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه،ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه، فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى،والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته‏.‏ والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدًا /للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة‏.‏

وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام، فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل، هل يحصل بها عقاب‏؟‏ وكثر النزاع في ذلك‏.‏ فمن قال‏:‏ لا يعاقب احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين‏:‏‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به‏)‏،وبما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏إذا هَمَّ العبد بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة،فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف‏)‏ وفي رواية‏:‏‏(‏فإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جَرَّائي‏)‏‏.‏

ومن قال‏:‏ يعاقب، احتج بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار‏)‏، قيل‏:‏ يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول ‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إنه أراد قتل صاحبه‏)‏،وبالحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي كَبْشَةَ الأنماري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ في الرجلين الذين أوتى أحدهما علمًا ومالاً فهو ينفقه في طاعة الله، ورجل أوتي علما ولم يؤت مالا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال‏:‏‏(‏فهما في الأجر سواء‏)‏، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علمًا فهو ينفقه في معصية الله، ورجل لم يؤته الله علمًا ولا مالا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال‏:‏‏(‏فهما في الوِزْر سواء‏)‏‏.‏

/والفصل في ذلك أن يقال‏:‏ فرق بين الهم والإرادة، فالهم قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة، فهذا لا عقوبة فيه بحال، بل إن تركه لله، كما ترك يوسف همه، أثيب على ذلك كما أثيب يوسف؛ ولهذا قال أحمد‏:‏ الهَمُّ هَمَّانِ‏:‏ هَمّ خطرات، وهمّ إصرار، ولهذا كان الذي دل عليه القرآن أن يوسف لم يكن له في هذه القضية ذنب أصلاً، بل صرف الله عنه السوء والفحشاء إنه من عباده المخلصين، مع ما حصل من المراودة، والكذب،والاستعانة عليه بالنسوة، وحبسه، وغير ذلك من الأسباب التي لا يكاد بشر يصبر معها عن الفاحشة،ولكن يوسف اتقى الله وصبر،فأثابه الله برحمته في الدنيا، ‏{‏وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏57‏]‏‏.‏

وأما الإرادة الجازمة، فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور ولو بنظرة، أو حركة رأس، أو لفظة، أو خطوة، أو تحريك بدن، وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ فإن المقتول أراد قتل صاحبه فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعجز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان،فإنه أراد فعل ما يقدر عليه وهو الكلام،ولم يقدر على ذلك؛ ولهذا كان من دعا إلى ضلالة، كان عليه مثل أوزار من اتبعه،من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا؛ لأنه أراد ضلالهم ففعل ما يقدر عليه من دعائهم، إذ لا يقدر إلا على ذلك‏.‏

/وإذا تبين هذا في الإرادة، والعمل، فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب، كما يقتضي الحس الحركة الإرادية؛ لأن النفس فيها قوتان‏:‏ قوة الشعور بالملائم والمنافي والإحساس بذلك، والعمل والتصديق به، وقوة الحب للملائم والبغض للمنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة، وإدراك الملائم يوجب اللذة، والفرح والسرور، وإدراك المنافي، يوجب الألم والغم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ كما تُنْتِج البهيمةُ بَهِيمةً جَمْعَاء هل تحسون فيها من جَدْعَاء‏)‏‏.‏

فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله، تصديقًا به ودينًا له، لكن يعرض لها ما يفسدها، ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه، لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول في الصلاة‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏)‏؛ لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته، والنصارى لهم عبادة، وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، لكن بلا علم، فهم ضلال‏.‏ هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء/ لهم قصد في الخير بلا معرفة له، وينضم إلى ذلك الظن، واتباع الهوى، فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة، ولا قصد نافع، بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب‏:‏‏{‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏‏.‏

فالإيمان في القلب لا يكون إيمانًا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك،كما أنه لا يكون إيمانًا بمجرد ظن وهوى، بل لابد في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب‏.‏

وليس لفظ الإيمان مرادفًا للفظ التصديق، كما يظنه طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال لمن أخبر بالأمور المشهورة مثل‏:‏الواحد نصف الاثنين والسماء فوق الأرض، مجيبًا‏:‏ صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال‏:‏ آمنا لك، ولا آمنا بهذا، حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر‏:‏ آمنا له، وللمخبر به‏:‏ آمنا به، كما قال إخوة يوسف‏:‏‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏17‏]‏ أي بمقر لنا، ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن غائب،ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏111‏]‏،وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏61‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏47‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏21‏]‏، ‏{‏فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏83‏]‏ أي‏:‏ أقر له‏.‏

/وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، أي‏:‏ لفظًا ومعنى، فإنه ـ أيضًا ـ يقال‏:‏ صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال‏:‏ أمنته، إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له، وإذا ساغ أن يقال‏:‏ ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال‏:‏ هل أنت مصدق له‏؟‏ لأن الفعل المتعدى بنفسه إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل، ونحوه مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له، كما يقال‏:‏ عرفت هذا، وأنا به عارف، وضربت هذا، وأنا له ضارب، وسمعت هذا ورأيته، وأنا له سامع، وراء، كذلك يقال‏:‏ صدقته وأنا له مصدق، ولا يقال‏:‏ صدقت له به، وهذا خلاف آمن، فإنه لا يقال إذا أردت التصديق‏:‏ آمنته كما يقال‏:‏ أقررت له، ومنه قوله‏:‏ آمنت له كما يقال‏:‏ أقررت له، فهذا فرق في اللفظ‏.‏

والفرق الثاني‏:‏ ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل‏:‏ آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار‏.‏

وأما المعنى‏:‏ فإن الإيمان مأخوذ من الأمن، الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار‏:‏ مأخوذ من قَرَّ يَقِرُّ، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره، والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال‏:‏ الصدق طمأنينة والكذب رِيبَةٌ، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام ثم إنه يكون على وجهين‏:‏

/أحدهما‏:‏ الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة ونحوهما‏.‏ وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار‏.‏

والثاني‏:‏ إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏81‏]‏‏.‏ وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد، فإنه سبحانه قال‏:‏‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي‏}‏ فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر؛ لا يقال فيه‏:‏ آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع لـه، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنًا للمخبر، إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر ـ المقابل للإيمان ـ في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم،فأبى واستكبر وكان من الكافرين‏.‏

وأيضًا، فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق/ إخبار بصدق المخبر؛ والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، وقد يكذب الرجل الصادق أخرى، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر، لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر مخبر عنها، بخلاف الإيمان والإقرار والإنكار والجحود، ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضًا‏.‏

وأيضًا، فالذوات التي تحب تارة وتبغض أخرى، وتوالى تارة وتعادى أخرى، وتطاوع تارة وتعصى أخرى، ويذل لها تارة ويستكبر عنها أخرى، تختص هذه المعاني فيها بلفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك، وأما لفظ التصديق والصدق ونحو ذلك، فيتعلق بمتعلقها كالحب والبغض، فيقال‏:‏ حب صادق وبغض صادق، فكما أن الصدق والكذب في إثبات الحقائق ونفيها متعلق بالخبر النافي والمثبت دون الحقيقة ابتداء، فكذلك في الحب والبغض ونحوذلك يتعلق بالحب والبغض، دون الحقيقة ابتداء، بخلاف لفظ الإيمان والكفر فإنه يتناول الذوات بلا واسطة إقرار، أو إنكار، أو حب، أو بغض، أو طمأنينة، أو نفور‏.‏

ويشهد لهذا الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر‏:‏ ‏(‏اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏،فقال‏:‏ ‏(‏إيمان بك‏)‏ ولم يقل‏:‏ تصديقًا بك، كما قال‏:‏‏(‏تصديقًا بكتابك‏)‏‏.‏ وقال تعالى عن/ مريم‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏12‏]‏، فجعل التصديق بالكلمات والكتب، ومنه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَكَفَّل الله لمن خرج في سبيله لا يُخْرِجُه إلا إيمان بي، وتصديق بكلماتي‏)‏، ويروى‏:‏ ‏(‏إيمان بي،وتصديق برسلي‏)‏، ويروى‏:‏ ‏(‏لا يخرجه إلا جهاد في سبيل الله وتصديق كلماته‏)‏‏.‏ففي جميع الألفاظ جعل لفظ التصديق بالكلمات والرسل‏.‏

وكذلك قوله في الحديث الذي في الصحيح ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منازل عالية في الجنة،فقيل له‏:‏ يا رسول الله، تلك منازل لا يبلغها إلا الأنبياء‏.‏ فقال‏(‏بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين‏)‏‏.‏وما يحصى الآن الاستعمال المعروف في كلام السلف، صدقت بالله، أو فلان يصدق بالله، أو صدق بالله ونحو ذلك، كما جاء‏:‏ فلان يؤمن وآمن بالله وإيمانًا بالله ونؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونؤمن بالله وحده ونحو ذلك، فإن القرآن والحديث وكلام الخاصة والعامة مملوء من لفظ الإيمان بالله، وآمن بالله، ونؤمن بالله، ويأيها الذين آمنوا، وما أعلم قيل‏:‏ التصديق بالله، أو صدقوا بالله أو يأيها الذي صدق الله ونحو ذلك، اللهم إلا أن يكون في ذلك شيء لا يحضرني الساعة، وما أظنه‏.‏

ولفظ الإيمان يستعمل في الخبر أيضًا، كما يقال‏:‏ كل آمن بالله أي أقر له، والرسول يؤمن له من جهة أنه مخبر، ويؤمن به من جهة أن رسالته مما أخبر بها، كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه‏.‏ فالإيمان متضمن للإقرار بما أخبر/ به، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه؛ ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد غيره، وإن كان الرسول أخبر بكليهما ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره، لا باطنًا ولا ظاهرًا ولا محبة لله ولا تعظيم له لم يكن ذلك إيمانًا‏.‏

وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك،لا لأجل تكذيب‏.‏ وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا،وقال له موسى‏:‏‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏102‏]‏، فالذي يقال هنا أحد أمرين‏:‏

إما أن يقال‏:‏ الاستكبار والإباء والحسد ونحو ذلك مما الكفر به مستلزم لعدم العلم، والتصديق الذي هو الإيمان، وإلا فمن كان علمه وتصديقه تامًا أوجب استسلامه وطاعته مع القدرة،كما أن الإرادة الجازمة تستلزم وجود المراد مع القدرة، فعلم أن المراد إذا لم يوجد مع القدرة، دل على أنه ما في القلب همة ولا إرادة، فكذلك إذا لم يوجد موجب التصديق والعلم من حب القلب وانقياده، دل على أن الحاصل في القلب ليس بتصديق ولا علم، بل هنا شبهة/ وريب، كما يقول ذلك طوائف من الناس، وهو أصل قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه كالقاضي أبي بكر ومن اتبعه، ممن يجعل الأعمال الباطنة والظاهرة من موجبات الإيمان لا من نفسه، ويجعل ما ينتفي الإيمان بانتفائه من لوازم التصديق لا يتصور عنده تصديق باطن مع كفر قط‏.‏

أو أن يقال‏:‏ قد يحصل في القلب علم بالحق وتصديق به، ولكن ما في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته، وليس هذا كالإرادة مع العمل؛ لأن الإرادة مع القدرة مستلزمة للمراد، وليس العلم بالحق والتصديق به مع القدرة على العمل بموجب ذلك العمل، بل لابد مع ذلك من إرادة الحق والحب له‏.‏

فإذا قال القائل‏:‏ القدرة التامة بدون الإرادة الجازمة، مستلزمة لوجود المراد المقدور موجبة لحصول المقدور، لم يكن مصيبًا، بل لابد من الإرادة‏.‏ وبهذا يتبين خطأ من قال‏:‏ إن مجرد علم الله بالمخلوقات موجب لوجودها، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الفلسفة، كما يغلط الناس من يقول‏:‏ إن مجرد إرادة الممكنات بدون القدرة موجب وجودها، وكما خطؤوا من قال‏:‏ إن مجرد القدرة كافية، بل لابد من العلم والقدرة والإرادة في وجود المقدور والمراد، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والعلم به، والعلم والإرادة والقدرة، ونحو ذلك؛ وإن كان قد يقال‏:‏ إنها متلازمة في الحي، أو أن الحياة مستلزمة لهذه الصفات، أو أن بعض الصفات مشروط بالبعض، فلا ريب أنه ليس كل معلوم مرادًا /محبوبًا ولا مقدورًا ولا كل مقدور مرادًا محبوبًا، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الشيء معلومًا مصدقًا به أن يكون محبوبًا معبودًا، بل لابد من العلم، وأمر آخر به يكون هذا محبًا وهذا محبوبًا‏.‏

فقول من جعل مجرد العلم والتصديق في العبد هو الإيمان، وأنه موجب لأعمال القلب، فإذا انتفت دل على انتفاء العلم، بمنزلة من يقول‏:‏ مجرد علم الله بنظام العالم موجب لوجوده، بدون وجود إرادة منه، وهو شبيه بقول المتفلسفة‏:‏ إن سعادة النفس في مجرد أن تعلم الحقائق، ولم يقرنوا ذلك بحب الله ـ تعالى ـ وعبادته التي لا تتم السعادة إلا بها، وهو نظير من يقول‏:‏ كمال الجسم أو النفس في الحب من غير اقتران الحركة الإرادية به، ومن يقول‏:‏ اللذة في مجرد الإدراك والشعور، وهذا غلط باتفاق العقلاء، بل لابد من إدراك الملائم، والملائمة لا تكون إلا بمحبة بين المدرك والمدرك،وتلك المحبة والموافقة والملائمة ليست نفس إدراكه والشعور به‏.‏

وقد قال كثير من الناس من الفلاسفة والأطباء ومن اتبعهم‏:‏ إن اللذة إدراك الملائم، وهذا تقصير منهم، بل اللذة حال يعقب إدراك الملائم، كالإنسان الذي يحب الحلو ويشتهيه فيدركه بالذوق والأكل، فليست اللذة مجرد ذوقه، بل أمر يجده من نفسه يحصل مع الذوق، فلابد أولاً من أمرين، وآخرًا من أمرين‏:‏لابد أولا‏:‏من شعور بالمحبوب، ومحبة له، فما لا شعور به لا يتصور أن يشتهى، وما يشعر به وليس في النفس محبة له لا يشتهى، ثم إذا /حصل إدراكه بالمحبوب نفسه، حصل عقيب ذلك اللذة والفرح مع ذلك‏.‏

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك لذَّةَ النَّظَرِ إلى وجهك، والشَّوْقَ إلى لقائك، من غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّة‏)‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزكُمُوه، فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، و يُثْقِلْ موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجَرنَا من النار‏؟‏‏!‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏فيكشف الحجاب، فينظرون إليه؛ فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه‏)‏ رواه مسلم وغيره‏.‏فاللذة مقرونة بالنظر إليه، ولا أحب إليهم من النظر إليه، لما يقترن بذلك من اللذة، لا أن نفس النظر هو اللذة‏.‏

وفي الجملة، فلابد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله، ومعاداة الله ورسوله، ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليمًا من المعارض، كالحسد والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها‏.‏ ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي اتخذه الله خليلاً، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏88، 89‏]‏‏.‏ فليس مجرد /العلم موجبًا لحب المعلوم، إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس‏.‏

وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوي العمل، والعمل يقوي العلم، فمن عرف الله وقلبه سليم أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما ازداد حبه له ازداد ذكره له ومعرفته بأسمائه وصفاته، فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض، فمن عادى الله ورسوله وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيًا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة، فيضعف علمه به حتى قد ينساه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏، وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة، لكن تصديق ضعيف، وعلم ضعيف، ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنًا‏.‏

فمن شرط الإيمان وجود العلم التام؛ ولهذا كان الصواب‏:‏ أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، إذا كان مقرًا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضى كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته، بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به، ولهذا يوصف من لم يعمل بعلمه بالجهل وعدم العلم، قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏17‏]‏، قال أبو العالية‏:‏/ سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي‏:‏ كل من عصى الله فهو جاهـل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏ ومنه قول ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً‏.‏ وقيل للشعبي‏:‏ أيها العالم‏؟‏ فقال‏:‏ العالم من يخشى الله، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏‏.‏

وقال أبو حَيَّان التَّيْمِيّ‏:‏ العلماء ثلاثة‏:‏ عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، فالعلم بالله الذي يخشاه، والعالم بأمر الله الذي يعلم حدوده وفرائضه، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏‏.‏ وهذا يدل على أن كل من خشى الله فهو عالم، وهو حق ولا يدل على أن كل عالم يخشاه، لكن لما كان العلم به موجبًا للخشية عند عدم المعارض كان عدمه دليلاً على ضعف الأصل، إذ لو قوى لدفع المعارض‏.‏

وهكذا لفظ العقل يراد به الغريزة التي بها يعلم، ويراد بها أنواع من العلم، ويراد به العمل بموجب ذلك العلم‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏الجهل‏]‏ يعبر به عن عدم العلم، ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا كان أحدكم صائمًا فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل‏:‏ إني امرؤ صائم‏)‏‏.‏والجهل هنا هو الكلام الباطل، بمنزلة الجهل المركب، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا لا يجهلن أحد علــــينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

/ومن هذا سميت ‏[‏الجاهلية‏]‏ جاهلية،وهي متضمنة لعدم العلم أو لعدم العمل به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر‏(‏إنك امرؤ فيك جاهلية‏)‏ لما سَابَّ رجلاً وعَيَّرَهُ بأمِّه، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏26‏]‏ فإن الغضب والحمية تحمل المرء على فعل ما يضره وترك ما ينفعه، وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره، وترك ما يعلم أنه ينفعه؛ لما في نفسه من البغض والمعاداة الأشخاص وأفعال، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك لموجب العلم، فدل على ضعف العلم لعدم موجبه ومقتضاه‏.‏ ولكن ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده، بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها، وبغض ما يضرها، فإذا حصل لها مرض ففسدت به، أحبت ما يضرها، وأبغضت ما ينفعها، فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له، مع علمه أنه يضره‏.‏

قلت‏:‏ هذا معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏(‏إن الله يحب البَصَرَ النافذ عند وُرُودِ الشُبُهَات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات‏)‏ رواه البيهقي مرسلاً، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، فوصفهم بالقوة في العمل والبصيرة في العلم، وأصل القوة قوة القلب الموجبة لمحبة الخير وبغض الشر، فإن المؤمن قوته في قلبه وضعفه في جسمه، والمنافق قوته في جسمه وضعفه في قلبه، فالإيمان لابد/ فيه من هذين الأصلين‏:‏ التصديق بالحق والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل‏.‏

ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر، والعمل الظاهر ضرورة كما تقدم، فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبًا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما سمى إيمانًا فقد غلط بل لابد من العلم والحب، والعلم شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله؛ ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم، ونفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته، لكن الله ـ سبحانه ـ يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به، فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبًا له ولرسوله لم يكن مؤمنًا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله‏.‏

وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له ـ أيضًا ـ تأثير فيما في القلب‏.‏ فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله والأصل يثبت ويقوى بفرعه، كما في الشجرة التي يضرب بها المثل لكلمة الإيمان، قال/ تعالى‏:‏‏{‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24، 25‏]‏ وهي كلمة التوحيد والشجرة كلما قوى أصلها وعرق وروي قويت فروعها، وفروعها ـ أيضًا ـ إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها‏.‏

وكذلك ‏[‏الإيمان‏]‏ في القلب و ‏[‏الإسلام‏]‏ علانية، ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏، فأخبر أن من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله ورسوله، بل نفس الإيمان ينافي مودتهم فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان وكذلك قوله‏:‏‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏80، 81‏]‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، فأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في قولهم‏:‏ آمنا، ودل ذلك على أن الناس في قولهم‏:‏ آمنا، صادق وكاذب، والكاذب فيه نفاق بحسب كذبه، قال تعالى في المنافقين‏:‏/‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏:‏ 10‏]‏ وفي ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ قراءتان مشهورتان‏.‏

وفي الحديث ‏(‏أساس النفاق الذي يبني عليه‏:‏ الكذب‏)‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏1‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏75‏:‏ 77‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏58‏]‏ ومثل هذا كثير‏.‏

وبالجملة، فلا يستريب من تدبر ما يقول، في أن الرجل لا يكون مؤمنًا بمجرد تصديق في القلب مع بغضه لله ولرسوله، واستكباره عن عبادته ومعاداته له ولرسوله؛ ولهذا كان جماهير المرجئة على أن عمل القلب داخل في الإيمان كما نقله أهل المقالات عنهم، منهم الأشعري، فإنه قال في كتابه في ‏[‏المقالات‏]‏‏:‏ اختلف المرجئة في الإيمان ما هو ‏؟‏ وهم اثنتا عشرة فرقة‏:‏

الفرقة الأولى منهم‏:‏ يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسوله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان، والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله، والتعظيم لهما والخوف والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به وهذا قول يحكى عن الجهم/بن صفوان،قال‏:‏ وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة، ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون الجوارح، قال‏:‏

والفرقة الثانية من المرجئة‏:‏ يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر به هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏73‏]‏ ليس بكفر ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله كفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر، وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، ويقولون‏:‏ إنه لا يؤمن بالله إلا من آمن بالرسول، ليس ذلك لأن ذلك مستحيل، ولكن الرسول قال‏(‏من لم يؤمن بي فليس بمؤمن بالله‏)‏، وزعموا ـ أيضًا ـ أن الصلاة ليست بعبادة لله،وأنه لا عبادة إلا الإيمان به،وهو معرفته،والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص،وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر‏.‏ والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي‏.‏

وقد ذكر الأشعري في كتابه ‏[‏الموجز‏]‏ قول الصالحي هذا وغيره، ثم قال‏:‏ والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي‏:‏ وفي الخصوص والعموم إني لا أقطع بظاهر الخبر على العموم، ولا على الخصوص إذ كان يحتمل في اللغة أن يكون خاصًا ويحتمل أن يكون عامًا، وأقف في ذلك ولا أقطع على عموم ولا على خصوص إلا بتوقيف أو إجماع‏.‏ ثم قال في ‏[‏المقالات‏]‏‏:‏

والفرقة الثالثة من المرجئة‏:‏ يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله/ والخضوع له، وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة لله، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال، فهو مؤمن، وزعموا أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كفر باستكباره على الله،وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري‏.‏

والفرقة الرابعة‏:‏ وهم أصحاب أبي شَمِر ويونس‏:‏ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والمحبة له والخضوع له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء، وإن كانت قد قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم، والمعرفة لما جاء من عند الله عنهم داخل في الإيمان، ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيمانًا ولا بعض إيمان،حتى تجتمع هذه الخصال، فإذا اجتمعت سموها إيمانًا لاجتماعها،وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقاء إلا مع السواد، وجعلوا ترك كل خصلة من هذه الخصال كفرًا ولم يجعلوا الإيمان متبعضًا ولا محتملاً للزيادة والنقصان‏.‏

وذكر عن الخامسة ـ أصحاب أبي ثَوْبَان ـ‏:‏ أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله وما لا يجوز في العقل إلا أن يفعله‏.‏

وذكر عن الفرقة السادسة‏:‏ أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجمع عليها، والخضوع له بجميع ذلك والإقرار باللسان، وزعموا أن خصال الإيمان كل منها طاعة، وأن كل واحدة إذا فعلت دون الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بلا إقرار، وأن ترك كل خصلة من ذلك معصية، وأن الإنسان لا يكفر/ بترك خصلة واحدة، وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم، ويكون بعضهم أعلم وأكثر تصديقًا له من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه‏.‏

والفرقة السابعة‏:‏ الغَيْلانِيَّة أصحاب غَيْلان‏:‏ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية، والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله، وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار، فلذلك لم يجعلها من الإيمان، وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم ـ من الشَّمريَّة والجَهْمِيَّة والغَيْلانيّة والنَّجَّارية ـ ينكرون أن يكون في الكفار إيمان وأن يقال فيهم بعض إيمان إذ كان الإيمان لا يتبعض عندهم‏.‏

قال‏:‏ والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان‏:‏ الإقرار بالله والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء‏.‏ والإقرار والمعرفة بأنبيائه وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام ونحو ذلك لا نزاع بينهم فيه، والخضوع لله وهو ترك الاستكبار عليه، وزعموا أن إبليس قد عرف الله وأقر به، وإنما كان كافرًا لأنه استكبر، ولولا استكباره ما كان كافرًا، وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله، وأن الخصلة من الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان، ويكون صاحبها كافرًا بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمنًا إلا بإصابة الكل، وكل رجل يعلم أن الله واحد ليس كمثله /شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان، وهي معرفته بالله سبحانه‏.‏

الفرقة التاسعة من المرجئة‏:‏ المنتسبين إلى أبي حنيفة وأصحابه‏:‏ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله وبالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير‏.‏

الفرقة العاشرة من المرجئة‏:‏ أصحاب أبي معاذ التُّوْمَنِيّ، يزعمون أن الإيمان ترك ما عظم من الكبائر، وهو اسم لخصال إذا تركها أو ترك خصلة منها كان كافرًا، فتلك الخصلة التي يكفر بتركها إيمان، وكل طاعة إذا تركها التارك لم يجمع المسلمون على تكفيره، فتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له‏:‏ إنه يفسق ولا يسمى بالفسق، ولا يقال‏:‏ فاسق، وليست تخرج الكبائر من الإيمان إذا لم تكن كفرًا، وتارك الفرائض مثل الصلاة والصيام والحج على الجحود بها، والرد لها، والاستخفاف بها كافر بالله، وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود، وإن تركها غير مستحل لتركها متشاغلاً مسوفًا، يقول‏:‏ الساعة أصلي، وإذا فرغت من لهوي وعملي، فليس بكافر، وإن كان يصلي يومًا ووقتًا من الأوقات، ولكن نفسقه‏.‏ وكان أبو معاذ يقول‏:‏ من قتل نبيًا أو لطمه كفر، وليس من أجل اللطمة كفر، ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له‏.‏

/والفرقة الحادية عشرة من المرجئة‏:‏ أصحاب بِشْر المْريْسِيّ، يقولون‏:‏ إن الإيمان هو التصديق؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان، ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعًا، وإلى هذا القول كان يذهب ابن الراوندي، وكان ابـن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد، والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرًا، ولا يجوز إيمان إلا ما كان في اللغة إيمانًا، وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولا السجود لغير الله كفر، ولكنه علم على الكفر، لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر‏.‏

قال‏:‏ والفرقة الثانية عشرة من المرجئة‏:‏ الكَرَّامِيَّة‏:‏ أصحاب محمد بن كرام، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن تكون معرفة القلب، أو شيء غير التصديق باللسان إيمانًا‏.‏

فهذه الأقوال التي ذكرها الأشعري عن المرجئة يتضمن أكثرها أنه لابد في الإيمان من بعض أعمال القلوب عندهم وإنما نازع في ذلك فرقة يسيرة؛ كجهم والصالحي‏.‏

وقد ذكر ـ أيضًا ـ في ‏[‏المقالات‏]‏ جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة‏.‏ قال‏:‏

جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة‏:‏ الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يردون من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة /ولا ولدًا،وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وأن له يدين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وكما قال‏:‏‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، وأن له عينين، كما قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏14‏]‏، وأن له وجهًا، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامٌِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏27‏]‏، وأن أسماء الله لا يقال‏:‏ إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويقولون‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ بدعة، من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال‏:‏ اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال‏:‏ غير مخلوق‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم‏:‏ هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم، والإسلام هو‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث،والإسلام عندهم غير الإيمان‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون‏:‏ مخلوق ولا غير مخلوق‏.‏ وذكر كلامًا طويلاً ثم قال في آخره‏:‏

وبكل ما ذكرناه/ من قولهم نقول‏:‏ وإليه نذهب‏.‏

فهذا قوله في هذا الكتاب وافق فيه أهل السنة وأصحاب الحديث بخلاف القول الذي نصره في الموجز‏.‏

والمقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب، حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك، وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم في ذلك معروف، وإنما نازع في ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة، وهذا القول شاذ، كما أن قول الكرامية ـ الذين يقولون‏:‏ هو مجرد قول اللسان ـ شاذٌّ أيضًا‏.‏

وهذا ـ أيضًا ـ مما ينبغي الاعتناء به، فإن كثيرًا ممن تكلم في مسألة الإيمان‏:‏ هل تدخل فيه الأعمال‏؟‏ وهل هو قول وعمل‏؟‏ يظن أن النزاع إنما هو في أعمال الجوارح، وأن المراد بالقول قول اللسان، وهذا غلط؛ بل القول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، فليس مجـرد التصديق بالباطن هو الإيمان عند عامة المسلمين إلا من شذ من أتباع جهم والصالحي، وفي قولهم من السفسطة العقلية والمخالفة في الأحكام الدينية أعظم مما في قول ابن كرام، إلا من شذ من أتباع ابن كرام، وكذلك تصديق القلب الذي ليس معه حب الله ولا تعظيم، بل فيه بغض وعداوة لله ورسله ليس إيمانًا باتفاق المسلمين‏.‏

وقول ابن كرام فيه مخالفة في الاسم دون الحكم، فإنه ـ وإن سمى المنافقين مؤمنين ـ يقول‏:‏ إنهم مخلدون في النار، فيخالف الجماعة في الاسم دون الحكم، وأتباع جهم يخالفون في الاسم والحكم جميعًا‏.‏