فصل: فَصْــل: زيادة الإيمان تعرف من وجوه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْــل

فإن قيل‏:‏ فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر اللّه به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل الذنوب كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة، فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم‏.‏

قيل‏:‏ أولا‏:‏ ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا ـ أيضاً ـ على أن نبينا صلىالله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن اللّه له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏‏(‏لكل نبي دعوة مستجابة،وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة‏)‏، وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها‏.‏ وقد نقل بعض الناس عن الصحابة في ذلك خلافاً، كما/ روى ابن عباس‏:‏ أن القاتل لا توبة له، وهذا غلط على الصحابة، فإنه لم يقل أحد منهم‏:‏ إن النبي صلىالله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر ولا قال‏:‏ إنهم يخلدون في النار، ولكن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال‏:‏ إن القاتل لا توبة له، وعن أحمد بن حنبل في قبول توبة القاتل روايتان أيضاً، والنزاع في التوبة غير النزاع في التخليد، وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي؛ فلهذا حصل فيه النزاع‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع‏.‏ وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء ثم قالت الخوارج والمعتزلة‏:‏ هو مجموع ما أمر اللّه به ورسوله، وهوالإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث؛ قالوا‏:‏ فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار‏.‏ وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم‏:‏ لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئًا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء فيكون شيئًا واحداً يستوى فيه البر والفاجر‏.‏ ونصوص الرسول وأصحابه تـدل على ذهـاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله‏:‏ ‏(‏يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏)‏‏.‏

ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل،وجمهورهم يقولون‏:‏ يزيد وينقص، ومنهم من يقول‏:‏ يزيد، ولا يقول‏:‏ ينقص، كما روي عن مالك في إحدى الروايتين، ومنهم من يقول‏:‏ يتفاضل، كعبد اللّه بن المبارك، وقد/ ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف من الصحابة، فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر، عن جده عُمَيْر بن حَبِيب الخَطْمِيّ ـ وهو من أصحاب رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ـ قال‏:‏ الإيمان يزيد وينقص، قيل له‏:‏ وما زيادته وما نقصانه‏؟‏ قال‏:‏ إذا ذكرنا اللّه وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فتلك نقصانه، وروى إسماعيل بن عَيَّاش عن جَرِير بن عثمان، عن الحارث بن محمد عن أبي الدرداء قال‏:‏ الإيمان يزيد وينقص‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن عثمان قال‏:‏ سمعت أشياخنا ـ أو بعض أشياخنا ـ أن أبا الدرداء قال‏:‏ إن من فِقْه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد الإيمان أم ينقص‏؟‏ وأن من فقه الرجل أن يعلم‏:‏ نزغات الشيطان أنى تأتيه‏.‏ وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد اللّه بن ربيعة الحَضْرَمِيّ، عن أبي هريرة قال‏:‏ الإيمان يزيد وينقص‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن طلحة، عن زُبَيْدٍ، عن ذَرٍّ قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه‏:‏ هلموا نَزْدَدْ إيماناً، فيذكرون اللّه ـ عز وجل ـ وقال أبو عبيد في ‏[‏الغريب‏]‏ في حديث على‏:‏ إن الإيمان يبدو لمُظَةً في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللُّمظَة،يروي ذلك عن عثمان بن عبد الله عن عمرو ابن هند الجملي عن علي قال الأصمعي‏:‏ اللُّمْظَة‏:‏ مثل النكتة أو نحوها‏.‏

/وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا وَكِيعٌ، عن شَرِيك،عن هلال، عن عبد اللّه بن عُكَيْم قال‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول في دعائه‏:‏ اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً‏.‏ وروي سفيان الثوري، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال‏:‏ كان معاذ بن جبل يقول لرجل‏:‏ اجلس بنا نؤمن نذكر اللّه ـ تعالى‏.‏ وروى أبو اليَمَان‏:‏ حدثنا صفوان عن شُرَيْح ابن عبيد، أن عبد اللّه بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول‏:‏ قم بنا نؤمن ساعة، فنحن في مجلس ذكر وهذه الزيادة أثبتها الصحابة بعد موت النبي صلىالله عليه وسلم ونزول القرآن كله‏.‏

وصح عن عمار بن ياسر أنه قال‏:‏ ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان‏:‏ الإنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، و بذل السلام للعالم، ذكره البخاري في صحيحه‏.‏ وقال جُنْدُب بن عبد اللّه وابن عمر وغيرهما‏:‏ تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً‏.‏ والآثار في هذا كثيرة، رواها المصنفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة‏.‏

قال مالك بن دينار‏:‏ الإيمان يبدو في القلب ضعيفاً ضئيلاً كالبَقْلَة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وأماط عنه الدَّغَل وما يضعفه ويُوهِنه، أوشك أن ينمو أو يزداد، ويصير له أصل وفروع، وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال، وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عَنْزٌ فنتفتها، أو صبي فذهب بها، وأكثر عليها الدَّغَل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان‏.‏

/وقال خَيْثَمة بن عبد الرحمن‏:‏ الإيمان يَسْمَنْ في الخِصْب، ويَهْزِل في الْجَدْب، فخِصْبُه العمل الصالح، وجَدْبُه الذنوب والمعاصي، وقيل لبعض السلف‏:‏ يزداد الإيمان وينقص، قال‏:‏ نعم يزداد حتى يصير أمثال الجبال، وينقص حتى يصير أمثال الهباء‏.‏

وفي حديث حذيفة الصحيح‏:‏‏(‏حتى يقال للرجل‏:‏ ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان‏)‏، وفي حديثه الآخر الصحيح ‏(‏تعرض الفتن على القلوب كالحَصِير عوداً عوداً، فأي قلب أشْرِبها، نُكِتَتْ فيه نُكْتَة سوداء، وأي قلب أنْكَرَها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين‏:‏ أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود‏:‏ مُرْبَادّا، كالْكُوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه‏)‏‏.‏ وفي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب كفاية، فإنه من أعظم الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه وصفهم بقوة الإيمان وزيادته في تلك الخصال التي تدل على قوة إيمانهم، وتوكلهم على اللّه في أمورهم كلها‏.‏

وروى أبو نُعَيْم من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد اللّه اليزنيّ، عن أبي رافع أنه سمع رجلاً حَدَّثَه أنه سأل رسول اللّه صلىالله عليه وسلم عن الإيمان فقال‏:‏ ‏(‏أتحب أن أخبرك بصريح الإيمان‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا أسأت أو ظلمت أحداً، عَبْدَكَ أو أمَتَكَ أو أحداً من الناس، حَزِنْتَ وساءك ذلك،/وإذا تصدقتَ أو أحسنتَ استبشرتَ وسَرَّكَ ذلك‏)‏، ورواه بعضهم عن يزيد، عمن سمع النبي صلىالله عليه وسلم أنه سأله عن زيادة الإيمان في القلب ونقصانه فذكر نحوه‏.‏ وقال البزار‏:‏ حدثنا محمد بن أبي الحسن البصري،ثنا هانئ بن المتوكل، ثنا عبد اللّه بن سليمان، عن إسحاق، عن أنس مرفوعاً‏:‏ ‏(‏ثلاث من كُنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان‏:‏ خُلُق يعيش به في الناس، وورَع يحجزه عن معصية اللّه، وحِلْم يرد به جهل الجاهل‏)‏‏.‏

و‏(‏أربع من الشقاء‏:‏جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا‏)‏ فالخصال الأولى تدل على زيادة الإيمان وقوته، والأربعة الأخر تدل على ضعفه ونقصانه‏.‏

وقال أبو يعلي الموصلي‏:‏ ثنا عبد اللّه القواريري، ويحيى بن سعيد قالا‏:‏ ثنا يزيد بن زريع، ويحيى بن سعيد قالا‏:‏ حدثنا عوف، حدثني عقبة بن عبد اللّه المزني قال يزيد في حديثه في مسجد البصرة‏:‏ حدثني رجل ـ قد سماه، ونسى عوف اسمه ـ قال‏:‏ كنت بالمدينة في مسجد فيه عمر بن الخطاب، فقال لبعض جلسائه‏:‏ كيف سمعتم رسول اللّه صلىالله عليه وسلم يقول في الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ ‏(‏الإسلام بدأ جَذَعاً، ثم ثَنِيًا؛ ثم رباعيا، ثم سَدِيساً؛ ثم بازلاً‏)‏ فقال عمر‏:‏ فما بعد البُزُول إلا النقصان، كذا ذكره أبو يعلى في ‏[‏مسند عمر‏]‏ وفي ‏[‏مسند‏]‏ هذا الصحابي المبهم ذكره أولى‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليلة‏.‏

/والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، وهذه زيادة، إذا تليت عليهم الآيات أي‏:‏ وقت تليت ليس هو تصديقهم بها عند النزول، وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات، زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن، حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ، ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن، فزاد علمه باللّه ومحبته لطاعته، وهذه زيادة الإيمان، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقيناً وتوكلاً على اللّه، وثباتاً على الجهاد وتوحيداً بألا يخافوا المخلوق، بل يخافون الخالق وحده، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏124،125‏]‏‏.‏

وهذه الزيادة ليست مجرد التصديق بأن اللّه أنزلها، بل زادتهم إيماناً بحسب مقتضاها، فإن كانت أمراً بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة، وإن كانت نهياً عن شيء انتهوا عنه فكرهوا؛ ولهذا قال‏:‏‏{‏وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ والاستبشار غير مجرد التصديق، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏36‏]‏، والفرح بذلك من زيادة الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏4، 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏4‏]‏، وهذه نزلت لما رجع النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية، فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان‏.‏

والسكينة طمأنينة في القلب غير علم القلب وتصديقه؛ ولهذا قال يوم حُنَيْنٍ‏:‏‏{‏ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏، ولم يكن قد نزل يوم حنين قرآن ولا يوم الغار، وإنما أنزل سكينته وطمأنينته من خوف العدو، فلما أنزل السكينة في قلوبهم، مرجعهم من الحديبية، ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، دل على أن الإيمان المزيد حال للقلب وصفة له، وعمل مثل طمأنينته وسكونه ويقينه، واليقين قد يكون بالعمل والطمأنينة، كما يكون بالعلم، والريب المنافي لليقين يكون ريباً في العلم، وريباً في طمأنينة القلب؛ ولهذا جاء في الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللّهم اقسم لنا من خَشْيَتِك ما تَحُول به بيننا وبين مَعَاصِيكَ، ومن طاعتك ما تُبَلِّغُنَا به جَنّتَكَ، ومن اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مصائب الدنيا‏)‏‏.‏ وفي حديث الصديق ـ الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما ـ عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏سَلُوا اللّهَ العافية واليقين، فما أعطى أحد بعد اليقين شيئًا /خيراً من العافية، فسلوهما اللّه تعالى‏)‏،فاليقين عند المصائب بعد العلم بأن اللّه قدرها سكينة القلب وطمأنينته وتسليمه، وهذا من تمام الإيمان بالقدر خيره وشره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏، قال عَلْقَمَة‏:‏ ويروي عن ابن مسعود‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند اللّه فيرضي ويسلم، وقوله تعالى‏:‏‏{‏يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ هداه لقلبه هو زيادة في إيمانه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏17‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏13‏]‏‏.‏ ولفظ ‏[‏الإيمان‏]‏ أكثر ما يذكر في القرآن مقيداً، فلا يكون ذلك اللفظ متناولا لجميع ما أمر اللّه به، بل يجعل موجباً للوازمه وتمام ما أمر به، وحينئذ يتناوله الاسم المطلق قال تعالى‏:‏‏{‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏7‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى في آخر السورة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏‏.‏

وقد قال بعض المفسرين في الآية الأولى‏:‏ إنها خطاب لقريش، وفي الثانية‏:‏ إنها خطاب لليهود والنصارى، وليس كذلك؛ فإن اللّه لم يقل ـ قط ـ للكفار‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏29‏]‏، وهذه السورة مدنية باتفاق، لم يخاطب بها المشركين بمكة، وقد قال‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ وهذا لا يخاطب به كافر، وكفار مكة لم يكن أخذ ميثاقهم، وإنما أخذ ميثاق المؤمنين ببيعتهم له؛ فإن كل من كان مسلماً مهاجراً، كان يبايع النبي صلىالله عليه وسلم كما بايعه الأنصار ليلة العَقَبَة، وإنما دعاهم إلى تحقيق الإيمان وتكميله بأداء ما يجب من تمامه باطناً وظاهراً،كما نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم في كل صلاة، وإن كان قد هدى المؤمنين للإقرار بما جاء به الرسول جملة، لكن الهداية المفصلة في جميع ما يقولونه ويفعلونه في جميع أمورهم لم تحصل،وجميع هذه الهداية الخاصة المفصلة هي من الإيمان المأمور به‏.‏ وبذلك يخرجهم اللّه من الظلمات إلى النور‏.‏

/ فَصْــل‏:‏

وزيادة الإيمان الذي أمر اللّه به، والذي يكون من عباده المؤمنين، يعرف من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ الإجمال والتفصيل فيما أمروا به، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان باللّه ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول، ما يجب على من بلغه غيره، فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها، لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره، ولو آمن الرجل باللّه وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمناً بما وجب عليه من الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع عنه مثل إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا أكمل وجوباً ووقوعاً، فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل، وما وقع منه أكمل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏ أي‏:‏ في التشريع بالأمر والنهي، ليس المراد أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل في الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم، أنه وصف النساء/ بأنهن ناقصات عقل ودين، وجعل نقصان عقلها، أن شهادة امرأتين، شهادة رجل واحد، ونقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس هو نقص مما أمرت به، فلا تعاقب على هذا النقصان، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله، كان دينه كاملاً بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمن آمن بما جاء به الرسول مطلقاً فلم يكذبه قط، لكن أعرض عن معرفة أمره، ونهيه، وخبره، وطلب العلم الواجب عليه؛ فلم يعلم الواجب عليه، ولم يعمله، بل اتبع هواه، وآخر طلب علم ما أمر به فعمل به، وآخر طلب علمه، فعلمه، وآمن به ولم يعمل به وإن اشتركوا في الوجوب، لكن من طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه أكمل به، فهؤلاء ممن عرف ما يجب عليه والتزمه، وأقر به، لكنه لم يعمل بذلك كله، وهذا المقر بما جاء به الرسول، المعترف بذنبه الخائف من عقوبة ربه على ترك العمل، أكمل إيماناً ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك، ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول صلىالله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً‏.‏

فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام عام وإقرار عام‏.‏

وكذلك من عرف أسماء اللّه ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم/ يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً، أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء اللّه وصفاته وآياته، كان إيمانه به أكمل‏.‏

الثالث‏:‏ أن العلم والتصديق نفسه، يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والرِّيب‏.‏ وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد، مثل رؤية الناس للهلال، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد، وشم الرائحة الواحدة، وذوق النوع الواحد من الطعام، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة‏.‏ والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها‏.‏

الرابع‏:‏ أن التصديق المستلزم لعمل القلب، أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان شخصان يعلمان أن اللّه حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة اللّه، وخشيته، والرغبة في الجنة، والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب ذلك، فعلم الأول أكمل؛ فإن قوة المسبب دل على قوة السبب، وهذه الأمور نشأت عن العلم، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس المخبَرُ كالمعاين‏)‏ فإن موسى لما أخبره /ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها؛ وليس ذلك لشك موسى في خبر اللّه، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر، فقد لا يتصور المخبر به في نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر، فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق‏.‏

الخامس‏:‏ أن أعمال القلوب، مثل محبة اللّه ورسوله، وخشية اللّه ـ تعالى ـ ورجائه، ونحو ذلك، هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً‏.‏

السادس‏:‏ أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي ـ أيضاً ـ من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها‏.‏

السابع‏:‏ ذكر الإنسان بقلبه ما أمره اللّه به واستحضاره لذلك، بحيث لا يكون غافلاً عنه، أكمل ممن صدق به وغفل عنه، فإن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، والاستحضار يكمل العلم واليقين؛ ولهذا قال عمر بن حبيب ـ من الصحابةـ‏:‏ إذا ذكرنا اللّه وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضَيَّعْنا فتلك نقصانه وهو كذلك‏.‏ وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه‏:‏ اجلسوا بنا ساعة نؤمن، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏55‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10، 11‏]‏ ثم كلما تذكر الإنسان ما عرفه قبل ذلك، وعمل به،/ حصل له معرفة شيء آخر لم يكن عرفه قبل ذلك وعرف من معاني أسماء اللّه وآياته ما لم يكن عرفه قبل ذلك، كما في الأثر‏:‏‏(‏من عَمِل بما عَلِم وَرَّثَهُ اللّه علم ما لم يَعْلَمْ‏)‏‏.‏ وهذا أمر يجده في نفسه كل مؤمن‏.‏

وفي الصحيح عن النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل الذي يَذْكُر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، وذلك أنها تزيدهم علم ما لم يكونوا قبل ذلك علموه، وتزيدهم عملاً بذلك العلم، وتزيدهم تذكراً لما كانوا نسوه، وعملاً بتلك التذكرة،وكذلك ما يشاهده العباد من الآيات في الآفاق، وفي أنفسهم قال تعالى‏:‏‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ أن القرآن حق، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏، فإن اللّه شهيد في القرآن بما أخبر به، فآمن به المؤمن ثم أراهم في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات، ما يدل على مثل ما أخبر به في القرآن، فبينت لهم هذه الآيات، أن القرآن حق مع ما كان قد حصل لهم قبل ذلك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏6‏:‏ 8‏]‏، فالآيات المخلوقة والمتلوة، فيها تبصرة، وفيها تذكرة‏:‏ تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة، فيبصر من لم يكن عرف حتى يعرف، ويذكر من عرف ونسى، والإنسان يقرأ السورة مرات، حتى سورة الفاتحة، ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك، حتى كأنها تلك الساعة نزلت، فيؤمن بتلك المعاني ويزداد علمه /وعمله، وهذا موجود في كل من قرأ القرآن بتدبر، بخلاف من قرأه مع الغفلة عنه، ثم كلما فعل شيئًا مما أمر به، استحضر أنه أمر به فصدق الأمر، فحصل له في تلك الساعة من التصديق في قلبه ما كان غافلاً عنه، وإن لم يكن مكذباً منكراً‏.‏

الوجه الثامن‏:‏ أن الإنسان قد يكون مكذبًا ومنكراً لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها ، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكراً، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكون قلبه سليما عن تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل، وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج، وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات، فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا، وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملاً أخطأ فيه، وهو مؤمن بالرسول، أو عرف ما قاله وآمن به، لم يعدل عنه، هو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول، وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به، فهو أكمل ممن لم يكن كذلك‏.‏