فصل: آداب الكسب والمعاش وفضله وصحة المعاملة وما يتعلق بذلك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب آداب الكسب والمعاش وفضله وصحة المعاملة وما يتعلق بذلك

اعلم أن الله سبحانه وتعالى بلطيف حكمته جعل الدنيا دار تسبب واكتساب، تارة للمعاش، وتارة للمعاد، ونحن نورد آداب التجارات، والصناعات، وضرورة الاكتساب وأسبابها ونشرحها‏.‏

1ـ فصل في الكسب والحث عليه

قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وجعلنا النهار معاشاً‏}‏ ‏[‏النبأ ‏:‏11‏]‏، فذكره فى معرض الامتنان، وقال تعالى‏:‏

{‏ وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏10‏]‏ فجعلها نعمة، وطلب الشكر عليها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 198‏]‏‏.‏

وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال ‏:‏ ‏"‏طلب الحلال جهاد‏"‏ ‏‏ و‏"‏إن الله ليحب العبد المحترف‏"‏ ‏‏ وفى أفراد البخارى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده‏"‏‏.‏ وفى حديث آخر ‏:‏ ‏"‏ أن زكريا عليه السلام كان نجاراً‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ كان آدم عليه السلام حراثاً، ونوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط زرًّاعين، وصالح تاجراً، وداود زراداً، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة‏.‏ وأما الآثار فروى أن لقمان الحكيم قال لابنه ‏:‏ يا بنى استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال‏:‏ رقة فى دينه، وضعف فى عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به‏.‏ وقيل لأحمد بن حنبل ‏:‏ ما تقول فى رجل جلس فى بيته أو مسجده وقال‏:‏ لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي‏؟‏ فقال أحمد ‏:‏ هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏"‏إن الله جعل رزقي تحت ظل رحى‏"‏، وقال حين ذكر الطير‏:‏ ‏"‏ تغدو خماصاً وتروح بطاناً‏"‏‏.‏ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يَتّجرون فى البر والبحر، ويعملون فى نخلهم، والقدوة بهم‏.‏ وقال أبو سليمان الدارانى ‏:‏ ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن أبدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد، فان قيل‏:‏ قال أبوالدرداء ‏:‏ زاولت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فاخترت العبادة‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنا لا نقول‏:‏ إن التجارة لا تراد لذاتها، بلا للاستغناء عن الناس، وإغناء العائلة، وإفاضة الفضل على الإخوان، فأما إن كان المقصود نفس المال وجمعه، والتفاخر ونحو ذلك، فهو مذموم، وليكن العقد الذى به الاكتساب جامعاً لأمور أربعة‏:‏ الصحة، والعدل، والإحسان، والشفقة على الدين‏.‏

الأمر الأول ‏:‏فى الصحة، فان كان العقد بيعا، فله ثلاثة أركان‏:‏العاقد والمعقود عليه ، واللفظ‏.‏

الركن الأول ‏:‏ أما العاقد، فينبغي للتاجر أن لا يعامل المجنون، لأنه غير مكلف، فلا يصح بيعه، ولا يعامل العبد إلا أن يعلم أنه مأذون له، وكذلك الصبى لا يعامل إلا أن يكون قد أذن له الأب أو الوصى، فيصير بمنزلة العبد المأذون له، وعند الشافعي لا تصح عقود الصبى، ومعاملة الأعمى عندنا صحيحة، يصح بيعه وشراؤه، وعند الشافعي لا تصح‏.‏ وأما الظَّلمة ومن أكثرُ مالِهِ حرامُ، فلا ينبغي أن يعامل إلا فى شئ يعرف أن عينه حلال‏.‏

الركن الثاني‏:‏ المعقود عليه، وهو المال المقصود نقله، ولا يجوز بيع الكلب، لأنه نجس العين‏.‏ فأما البغل والحمار فيجوز بيعهما، سواء قلنا‏:‏ إنهما طاهران أو نجسان، ولا يجوز بيع الحشرات، ولا بيع العود والمزمار ، والصور المصنوعة من الطين ونحوه، ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه حِساً ولا شرعاً، وأما الحِسُ فكالطير فى الهواء، والعبد الآبق ونحوهما، وأما الشرع فكالمرهون، وبيع الأم دون الولد الصغير، أو الولد دون الأم ، فهذا ممنوع تسليمه شرعاً‏.‏

الركن الثالث‏:‏ اللفظ، وهو الإيجاب والقبول، فان تقدم القبول للإيجاب لم يصح فى إحدى الروايتين، ويصح فى الأخرى، سواء كان بلفظ الماضي أو بلفظ الطلب، فان تبايعا بالمعاطاة، فظاهر كلام أحمد صحة البيع‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى ‏:‏ لا يصح ذلك إلا فى الأشياء اليسيرة، وهذا أصلح الأقوال، أعنى أن تكون المعاطاة فى الأشياء المْحَقرة دون النفيسة، لجريان العادات بذلك، وينبغى من طريق الورع أن لا يترك الإيجاب والقبول ليخرج عن شبهة الخلاف، وقد شدد الله تعالى فى أمر الربا، فينبغي أن يحذر من الوقوع فيه، وهو قسمان‏:‏ ربا الفضل، وربا النسيئة، فينبغي أن يعرف ذلك وما يجرى فيه الربا، ويحتاج أيضاً أن يعرف شروط السلم، والإجارة والمضاربة، والشركة، فان المكاسب لا تنفك عن هذه العقود المذكورة‏.‏

2ـ فصل في العدل واجتناب الظلم فى المعاملة

الأمر الثاني‏:‏ وهو العدل، واجتناب الظلم فى المعاملة، ونعنى بالظلم ما يتضرر به الغير، وهو ينقسم إلى ما يعم ضرره وما يخص‏.‏

الأول‏:‏ الاحتكار، وهو منهي عنه لما فيه من غلاء السعر وتضييق الأقوات على الناس‏.‏

وصفته ‏:‏ أن يستكثر من ابتياع الغلات فى الغلاء، ويتربص بها زيادة الأسعار، فأما إذا دخلت له غلة من ضيعته وحبسها، فليس محتكراً، وكذلك إذا كان الشراء فى حال الاتساع والرخص على صفة لا يضيق على الناس ، وفى الجملة تكره التجارة فى القوت، لأنه قوام الآدمي‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما يخص ضرره، نحو أن يثنى على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها فيضر بذلك المشترى‏.‏ وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏من غشنا ليس منا‏"‏ ‏‏:‏

واعلم ‏:‏ أن الغش حرام فى البيوع، وفى الصناعات، وقد سئل الإمام أحمد عن رَفْو الثواب حتى لا يبين ، فقال‏:‏ لا يجوز لمن يبيعه أن يخفيه‏.‏ وينبغى للتاجر أن يحقق الوزن، ولا يتخلّص فى هذا حتى يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ، ومتى خلط العلاّف الطعام تراباً ثم كاله فهو مطفف، وكذلك القصاب إدا خلط عظما لم تجر العادة بمثله‏.‏ وقد نُهى عن النَّجَش، وهو أن يزيد فى السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشترى، ونهى عن التصرية‏.‏

3ـ فصل ‏[‏في الإحسان بالمعاملة‏]‏

الأمر الثالث‏:‏فى الإحسان بالمعاملة، وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان، فمن الإحسان المسامحة فى البيع ، وأن لا يغبنه فى الربح بما لا يتغابن فى العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشترى زيادة على الربح المعتاد لشدة رغبته وحاجته، فينبغي أن يمتنع البائع من قبول ذلك، فإن ذلك من الإحسان‏.‏ ومن ذلك أنه إذا أراد استيفاء الثمن أو الدين، فيحسن تارة بالمسامحة وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، وتارة فى جودة النقد‏.‏ ومن الإحسان‏:‏ أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متضرر بالبيع، والأحاديث تشهد بفضل هذه الأمور المذكورة، وما لصاحبها من الأجر والثواب‏.‏

4ـ فصل ‏[‏في شفقة التاجر على دينه‏]‏

الأمر الرابع‏:‏فى شفقة التاجر على دينه فيما يخصه ويعم آخرته، لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده، بل يراعى دينه، وإنما تتم شفقته على دينه بمراعاة ستة أشياء‏:‏

الأول‏:‏ حسن النية فى التجارة، فلينو بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، والقيام بكفاية العيال، ليكون بذلك من جملة المجاهدين، ولينوا النصح للمسلمين ‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقصد القيام فى صناعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعة والتجارة لو تركت بطل المعاش، إلا أن من الصناعة ما هو مهم ومنها ما يستغني عنه لكونه متعلقاً بالزينة أو طلب التنعم، فليشتغل بصناعة مهمة، ليكون فى قيامه بها كافياً عن المسلمين مهماً، وليتجنب صناعة الصياغة، والنقش، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما يزخرف به، فانه مكروه‏.‏

ومن المعاصي‏:‏ خياطة الخياط القباء الديباج للرجل، ويكره أن يكون جزاراً، لأنه يوجب قساوة القلب، أو حجاماً، أو كناساً لما فيه مباشرة النجاسة، وفى معناه الدباغ‏.‏ ولا يجوز أخذا الأجرة على تعليم القرآن، والعبادات، وفروض الكفايات‏.‏

الثالث‏:‏ أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته، فيواظب على الأوراد، وقد كان صالحو السلف من التجار يجعلون أول النهار وآخره للآخرة، ووسطه للتجارة، وإذا سمع أذان الظهر والعصر، فينبغي أن يترك المعاش اشتغالاً بأداء الفرض‏.‏

الرابع‏:‏ أن يلازم ذكر الله تعالى فى السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل‏.‏

الخامس‏:‏ أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها‏.‏

السادس‏:‏ أن لا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتوقى مواقع الشبه ومواضع الريب، ولا يقف مع الفتاوى.

5ـ بيان الحلال والحرام

اعلم‏:‏ أن طلب الحلال فرض على كل مسلم ، وقد ادعى كثير من الجهال عدم الحلال، وقالوا‏:‏ لم يبق منه إلا الماء الفرات، والحشيش النبات، وماعدا ذلك فقد أفسدته المعاملات الفاسدة، فلما وقع لهم هذا، وعلموا أنه لا بد لهم من الأقوات توسعوا في الشبهة والحرام ، وهذا من الجهل، وقلة العلم، فإن في ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏الحلال بين ، والحرام بين ، وبينها أمور مشتبهات‏"‏‏.‏ ولما كانت هذه الدعوى من هؤلاء الجهال بدعة قد عم ضررها، واستطار فى الدين شررها، وجب كشف الغطاء عن فسادها بالإرشاد إلى مدرك الفرق بين الحلال والشبهة‏.‏

ونحن نوضح ذلك في أقسام‏:‏

القسم الأول ‏:‏ في فضيلة طلب الحلال، وذم الحرام، ودرجات الحلال والحرام‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً‏}‏ ‏[‏المؤمنون ‏:‏ 51‏]‏، والطيبات ‏:‏ الحلال، فأمر بذلك قبل العمل، وقال في ذم الحرام‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً‏"‏ وذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب ‏!‏ ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك‏"‏ رواه مسلم‏.‏ وروى في ذلك غير حديث‏.‏ وروى أن سعداً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تستجاب دعوته، فقال له ‏"‏ أطب طعمتك تستجب دعوتك‏"‏ ‏‏‏.‏ وقد كان السلف ينظرون في الحلال ويدققون فيه ، فأكل أبو بكر الصديق رضى الله عنه شيئاً من شبهة ثم قاءه ‏(1).‏

6ـ فصل في درجات الحلال والحرام

أعلم ‏:‏ أن الحلال كله طيب، ولكن بعضه أطيب من بعض، والحرام كله خبيث، ولكن بعضه أخبث من بعض، كما أن الطيب يحكم على كل حلو بالحرارة،ولكنه يقول‏:‏ هذا حار في الدرجة الأولى، وهذا في الدرجة الثانية، وهذا في الثالثة، وهذا في الرابعة‏.‏ مثال ذلك في الحرام المأخوذ بعقد فاسد، حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغصوب أغلظ، إذ فيه إيذاء الغير، وترك طريق الشرع في الاكتساب، وليس في العقود الفاسدة إلى ترك طريق التعبد فقط، وكذلك المأخوذ ظلما من فقير أو صالح أو يتيم، أخبث وأغلظ من المأخوذ من قوى أو غنى أو فاسق‏.‏

7ـ فصل ‏[‏في درجات الورع‏]‏

والورع له درجات أربع‏:‏

الدرجة الأولى‏:‏ وهى درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه، وهذا لا يحتاج إلى أمثلة‏.‏

الدرجة الثانية ‏:‏ الورع عن كل شبة لا يجب اجتنابها، ولكن يستحب، كما يأتى في قسم الشبهات‏.‏ ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم ‏"‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ‏"‏‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام‏.‏

الدرجة الرابعة‏:‏الورع عن كل ما ليس لله تعالى،وهو ورع الصديقين ، مثال ذلك ما روى عن يحيى بن يحيى النيسابوري رحمة الله عليه أنه شرب دواءً، فقالت له امرأته‏:‏ لو مشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء، فقال‏:‏ هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة‏.‏

فهذا رجل لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق في الدين، فلم يقدم عليها، فهذا من دقائق الورع‏.‏

والتحقيق فيه أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديداً ، كان أسرع جوازاً على الصراط، وأخف ظهراً، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص‏.‏

القسم الثاني‏:‏ في مراتب الشبهات وتمييزها عن الحلال والحرام، وحديث النعمان بن بشير رضى الله عنه نص في هذه الأقسام الثلاثة، وهى الحلال والحرام وما بينهما، والمشكل فيها هو المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو الشبة‏.‏ ونحن نكشف الغطاء عنها فنقول ‏:‏ الحلال المطلق الذي لا يتعلق بذاته صفة توجب تحريماً لعينه، ولا يتعلق بأسبابه ما يطرق إليه تحريماً أو كراهية‏.‏ مثال ذلك الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد‏.‏ الحرام المحض ‏:‏ ما فيه صفة محرمة ، كالشدة في الخمر ، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه، كالمتحصل بالظلم والربا، فهذان الطرفان ظاهران، ويلتحق بهما ما تحقق أمره ، ولكن يحتمل تغيره، ولم يكن لذلك الاحتمال سبب ظاهر يدل عليه، فإن صيد البر والبحر حلال، إلا أنه من صاد ظبية أو سمكة، فإنه يحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت، وهذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء، فمساكنة ذلك الاحتمال في الصيد ورع الموسوسين، لأنه وهم مجرد لا دلالة عليه، فلو دل عليه دليل، مثل أن يجد الظبية جرحا لا يقدر عليه، إلا بعد الضبط، كالكى، ويحتمل أن يكون غيره، فهذا موضع الورع‏.‏ وحد الشبهة ما تعارض فيه اعتقادان صدرا عن شيئين مقتضيين لاعتقادين‏.‏ ومثالات الشبهة كثيرة، والمهم منها مثالان‏:‏

المثال الأول‏:‏ الشك في السبب المحلل أو المحرم، وينقسم إلى أربعة أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ أن يكون الحلُّ معلوماً من قبل، ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها، ويحرم الإقدام عليها، مثاله أن يرى صيداً فيجرحه فيقع في الماء فيصادفه ميتاً، ولا يدرى هل مات بالغرق أو بالجرح‏؟‏ فهذا حرام، لأن الأصل التحريم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن يعرف الحل ويشك في المحرم، فيكون الأصل الحل، والحكم له، كما لو طار طائر، فقال رجل‏:‏ إن كان هذا غراباً فامرأته طالق، وقال آخر ‏:‏ وإن لم يكن غراباً، فامرأته طالق، تم التبس الأمر، فإنا لا نقضي بالتحريم في واحد منها، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن يكون الأصل التحريم، ولكن طرأ ما يوجب التحليل بظن غالب فهو مشكوك فيه، والغالب حِلُه، مثاله أن يرمى إلى صيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى سهمه، فهذا الظاهر فيه الحل، لأن الاحتمال إذا لم يستند إلى دليل التحق بالوسوسة، فأما إن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالنوع الأول‏.‏

النوع الرابع‏:‏ أن يكون الحل معلوماً، ولكن يغلب على الظن طريان المحرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعاً، مثاله أن يؤدى اجتهاده إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب عليه الظن، فتوجب تحريم شربه، كما أوجب منع الوضوء به‏.‏

المثال الثاني‏:‏ أن يختلط الحرام بالحلال، ويشتبه الأمر فيه‏.‏ وذلك على أضرب‏:‏

أحدها‏:‏ إذااختلطت ميتة بُمذكّاة، أو بعشرة من المذكيات، ونحو ذلك من العدد المحصور، ومثله أن تشتبه أخته بأجنبيات، فهذه شبهة يجب اجتنابها‏.‏

الثاني‏:‏ أن يختلط حرام محصور بحلال غير محصور، كما لو اشتبهت أخته أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير، فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح أهل البلد، بل له أن ينكح من شاء منهن، لأن في تحريمهن حرجا كبيراً، وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعاً، لم يلزمه ترك الشراء والأكل، لأن في ذلك حرجاً ، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن في الناس من يرابى، وما تركو الدراهم بالكلية، وأن مِجَنَّاً سُرِقَ في زمانه، وما تركوا شراء مجن، فاجتناب هذا من ورع الوسوسة‏.‏

الثالث‏:‏ أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال في زماننا هذا، فلا يحرم بهذا الاختلاط تناول شئ بعينه، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام نحو أن يأخذه من يد سلطان ظالم، فإن لم يكن له علامة، فتركه ورع، ولا يحرم ذلك ، لأنه قد علم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده أن أثمان الخمور ودراهم الربا وغلول الغنيمة اختلطت بالأموال، وقد أدركت الصحابة نهب المدينة وتصرف الظلمة ولم يمنعوا من الشراء بالسوق، ولولا صحة ذلك لانسد باب جميع التصرفات فإن الفسق يغلب على الناس، لكن الأصل في الأموال الحل ، وإذا تعارض اصل وغالب، ولا أمارة على الغالب، حكم بالأصل، كما قلنا في طين الشوارع وأواني المشركين، فقد توضأ عمر رضى الله عنه من جرة نصرانية، مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون من نجاسة، وكانت الصحابة تلبس الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة‏.‏ومن تأمل أحوال الدباغين والصباغين، علم غلبة النجاسة عليهم، فيدل ذلك على أنهم لم يكون يحترزون إلا من نجاسة مشاهدة، أو يكون عليها علامة، فأما الظن الذي يستفاد من رد الوهم إلى مجارى الأحوال، فلم يعتبروه، فان قيل قد كانوا يتوسعون في أمورالطهارة قلنا‏:‏ إن أردت أنهم كان يصلون مع النجاسة فباطل، وإن أردت انهم احترزوا من كل نجاسة وجب اجتنابها فصحيح، وأما تورعهم عن الشبه، فكان بطريق كف النفس عما ليس به بأس مخافة ما به بأس، والنفس تميل إلى الأموال كيف كانت بخلاف الأنجاس، وقد كانوا يمتنعون مما يشغل قلوبهم من الحلال، والله أعلم‏.‏

القسم الثالث‏:‏ من الكتاب‏:‏ فى الحلال والحرام والبحث، والسؤال، والهجوم، والإهمال ومظانها‏.‏

اعلم‏:‏ أنه لو قدم لك الطعام أو أُهديت لك هدية، أو أردت أن تشترى شيئاً من شخص فليس لك أن تقول ‏:‏ هذا مما لا أتحقق حله، فأريد أن أفتش عنه وليس لك أن تترك البحث مطلقاً، بل السؤال واجب مرة، ومندوب مرة، ومكروه مرة‏.‏

والقول الشافي فيه‏:‏ أن مظنة السؤال الريبة، وهى تحصل إما من أمر يتعلق بالمال أو بصاحب المال، أما ما يتعلق بصاحب المال، فنحو أن يكون مجهولاً ، وهو الذي ليس عليه قرينة تدل على ظلمة، كزِيَّ الأجناد، ولا على صلاحه‏.‏ كثياب أهل العلم والزهد، فها هنا لا يجب السؤال ولا يجوز، لأن فيه هتك المسلم، وإيذاءه، ولا يقال لهذا‏:‏ إنه مشكوك فيه، لأن المشكوك فيه هو الذي تحصل فيه الريبة بدلالة، مثل أن يكون على خِلقة الأتراك، وأهل البوادي المعروفين بالظلم، وقطع الطريق، فهذا يجوز معاملته، لأن اليد تدل على الملك، وهذه الدلالات ضعاف، إلا أن الترك من الورع‏.‏ وأما ما يتعلق بالمال‏.‏ فنحو أن يختلط الحرام بالحلال، كما إذا طرح فى السوق أحمال من طعام مغصوب فاشتراها أهل السوق، فإنه لا يجب على من يشترى فى تلك البلدة من السوق أن يسأل عما يشتريه، إلا أن يظهر أن أكثر ما في أيديهم حرام، فعند ذلك يجب السؤال، فإن لم يكن الأكثر حراماً كان التفتيش ورعاً غير واجب‏.‏ وكذلك نقول في رجل له مال حلال خالطه حرام، مثل أن يكون تاجراً يعامل معاملات صحيحة وُيرابي، فهذا إن كان الأكثر من ماله حراماً، لم تجز قبول ضيافته ولا هديته إلا بعد التفتيش، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال جاز، وإلا ترك ، وإن كان الحرام أقل، فالمأخوذ شبهة، والورع تركه‏.‏

واعلم‏:‏ أن السؤال إنما يقع لأجل الريبة، فلا ينقطع إلا من حيث تنقطع الريبة المفضية له، بأن لا يكون المسؤول متهماً، فإن كان متهماً وعلمت أن له غرضاً في حضورك أو قبول هديته، فلا ثقة بقوله، وينبغى أن يسأل غيره‏.‏

القسم الرابع‏:‏ في باب الحلال والحرام، وكيفيه خروج التائب عن المظالم المالية‏.‏

اعلم‏:‏ أن من تاب وفى يده مال مختلط، فعليه تمييز الحرام وإخراجه، فإن كان معلوم العين ، فأمره سهل، وإن كان ملتبساً مختلطاً، فإن كان من ذوات الأمثال، كالحبوب والنقود والأدهان، وكان معلوم القدر، ميز ذلك القدر، فإن أشكل فله طريقان‏:‏

أحدهما‏:‏ الأخذ بغالب الظن‏.‏

والثاني‏:‏ الأخذ باليقين، وهو الورع‏.‏

فإذا أخرج المال، فإن كان له مالك معين، وجب صرفه إليه أو إلى وارثه، وإن كان لذلك المال زيادة ومنفعة، جمع ذلك كله وصرفه إليه، وإن يئس من معرفة المالك ولم يدر أمات عن وارث أم لا‏؟‏ فليتصدق به، وإن كان ذلك من مال الفيء والأموال المرصدة لمصالح المسلمين، صرف ذلك إلى القناطر والمساجد ومصالح طريق مكة وما ينتفع به كل من يمر من المسلمين‏.‏

مسألة‏:‏ إذا كان في يده مال حلال وشبهة، فليخص نفسه بالحلال، وليقدم قوته وكسوته على أجرة الحجَّام والزيت وإسجار التنور، وأصل هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم فى كسب الحجام‏:‏ ‏"‏اعلِفْهُ ناضِحَك‏"‏‏.‏ ولو كان في يد أبويه حرام ، فليمتنع من مؤاكلتهما، فإن كان شبهة داراهما، فإن لم يقبلا تناول اليسير‏.‏ وقد روى أن أم بشر الحافي ناولته تمرة فأكلها، ثم صعد الغرفة فقاءها‏.‏

القسم الخامس ‏:‏ في إدرار السلاطين وصلاتهم، وما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة، ونحو ذلك‏.‏

اعلم‏:‏ أن من أخذ مالاً من السلطان فلا بد أن ينظر في مدخل ذلك إلى السلطان من أين هو، وفى صفته التي يستحق بها الأخذ، وفى المقدار الذي يأخذه، هل يستحقه‏؟‏ وقد تورع جماعة عن ذلك، وكان فيهم من يأخذه فيتصدق به‏.‏ وأما في هذا الزمان، فالاحتراز عنه أولى، لأنه قد علم طريق الأخذ، ثم لا ينال إلا بالذل والسؤال والسكوت على الإنكار‏.‏ وقد كان بعض السلف لا يأخذ، ويعلل بأن باقي المستحقين لم يأخذوا، وهذا ليس بشيء، لأنه يأخذ حقه ويبقى أولئك في مقام مظلوم، وليس المال مشتركاً‏.‏

8ـ فصل ‏[‏في أحوال من يخالط الأمراء والعمال والظلمة‏]‏

اعلم‏:‏ أن لك مع الأمراء والعمال والظلمة ثلاثة أحوال‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ أن تدخل عليهم وهى شرُّها‏:‏ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ من أتى أبواب السلاطين افتتن‏"‏ ‏‏ ‏"‏وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً‏"‏ ‏‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ إياكم ومواقف الفتن، فقيل‏:‏ وما مواقف الفتن‏؟‏ قال ‏:‏ أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه‏.‏ وقال بعض الأمراء لبعض الزهاد‏:‏ ألا تأتينا‏؟‏ فقال‏:‏ أخاف إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتنا حرمتني، وليس في يدك ما أريده، ولا في صدى ما أخافك عليه، وإنما أتاك من أتاك ليستغني بك عمن سواك، وقد استغنيت عنك بمن أغناك غنى‏.‏

فهذه الآثار تبين كراهية مخالطة السلاطين‏.‏وأيضاً فان الداخل على السلطان معرض لأن يعصى الله عز وجل، إما بفعله أو قوله أو سكوته‏.‏

أما الفعل‏:‏ فإن الدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى أماكن مغصوبة، ولو فرض أنه في موضع غير مغصوب، ففى الغالب يكون ما تحته أو ما يظله من خيمة أو نحوها من ماله الحرام، والانتفاع بذلك حرام ، ولو فرض ذلك حلالاً، فربما يقع في غيره من المحذورات، إما أن يسجد له، أو يتمثل له قائماً، ويخدمه، ويتواضع له بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه‏.‏

والتواضع للظالم معصية، بل من تواضع لغنى لأجل غناه لا لمعنى آخر يقتضي التواضع، ذهب ثلثا دينه، فكيف إذا تواضع للظالم ‏؟‏‏!‏‍ ‍ وتقبيل اليد له معصية، إلا أن يكون عند خوف، أو لإمام عادل، أو عالم يستحق ذلك، فأما غير ما ذكرنا، فلا يباح في حقهم إلا مجرد السلام‏.‏

وأما القول‏:‏ فهو أن يدعو للظالم، أو يثنى عليه، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله، أو بتحريك رأسه، أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه، والحرص على طول بقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام‏.‏ وقد جاء في الأثر‏:‏ ‏"‏من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يعصى الَّله‏"‏‏.‏ ولا يجوز دعاؤه له إلا أن يقول‏:‏ أصلحك الَّله، أو وفقك الله، أو نحو ذلك‏.‏

وأما السكوت‏:‏ فهو أن يرى في مجالسهم في الفرش الحرير، وأوانى الفضة، والملبوس المحرم على غلمانهم من الحرير، ونحو ذلك، فيسكت‏.‏ وكل من رأى شيئاً من ذلك وسكت فهو شريك فيه، وكذا إذا سمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء، فإن السكوت عن ذلك كله حرام، لأنه يجب عليه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏

فإن قلت‏:‏ إنه يخاف على نفسه، فهو معذور في السكوت‏.‏

قلنا‏:‏ صدقت، إلا أنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، لأنه لو لم يدخل ويشاهد، لم يجب عليه الأمر والنهى، وكل من علم بفساد فى مكان، وعلم أنه إذا حضر لم يقدر على إزالته، لم يجز له أن يحضر‏.‏

9ـ فصل ‏[‏في الدخول على الأمراء الظلمة بعذر‏]

فإن سلم مما ذكرنا، وهيهات، لم يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه، لما يرى من توسعهم في التنعم، فيزدرى نعمة الَّله عليه ، ثم يقتدي به غيره في الدخول، ويكون مكثراً لسواد الظلمة‏.‏

وروى أن سعيد بن المسيب دعي إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك، فقال‏:‏ لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار‏.‏ فقالوا‏:‏ ادخل من هذا الباب واخرج من الآخر، قال‏:‏ لا والله لا يقتدي بى أحد من الناس، فجلد مائه وأُلْبِسَ الُمسُوح‏.‏ فعلى ما بينا لا يجوز الدخول على الأمراء الظلمة إلا بعذرين‏:‏

أحدهما‏:‏ إلزامُ من جهتهم يُخاف من الخلاف فيه الأذى‏.‏

والثاني‏:‏ أن يدخل عليه السلطان زائراً، فجواب السلام لا بد منه‏.‏

وأما القيام والإكرام، فلا يحرم مقابلةً له على إكرامه، فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للحمد، كما أنه بالظلم مستحق للذم‏.‏ فإن دخل عليه وحده، وقد رأى أن يقوم إعزازاً للدين فهو أولى وأمثل‏.‏ ولا بأس بالقيام على هذه النية‏.‏ إن علم أن ذلك لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه، فترك الإكرام بالقيام أولي، ثم يجب عليه أن ينصحه، ويُعّرفه تحريم ما يفعله مما لا يدرى أنه محرم‏.‏ فأما إعلامه بتحريم الظلم وشرب الخمر، فلا فائدة فيه، بل عليه أن يخوفه من ركوب المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر في قلبه، وعليه أن يرشده إلى المصالح‏.‏ ومتى عرف طريقاً للشرع يحصل به غرض الظالم عرفه إياه‏.‏

الحال الثالث‏:‏ أن يعتزل عنهم فلا يراهم ولا يرونه، والسلامة في ذلك، ثم ينبغي أن يعتقد بغضهم على ظلمهم، فلا يُحبّ لقاءهم، ولا يثنى عليهم، ولا يستخبرعن أحوالهم، ولا يقترب إلى المتصلين بهم، ولا يتأسف على ما يفوته بسبب مفارقتهم، كما قال بعضهم‏:‏‏:‏ إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، إما يوم مضى فلا يجدون لذته، وأنا وإياهم في غدٍ على وجلٍ، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون في اليوم‏؟‏‏!‏

مسألة‏:‏ إذا بعث إليك سلطان مالاً لتفرقه على الفقراء، وكان له مالك معين، لم يحل أخذه، وإن لم يكن له ، كان حكمه أن يتصدق به كما سبق بيانه، ويتولى تفرقته على الفقراء‏.‏

ومن العلماء من امتنع من أخذه، وإذا كان اكثر أموالهم الحرام، حرمت معاملتهم وما بنته الظلمة من القناطر والمساجد والسقايات، ينبغي أن ينظر فيه، فإن كانت تلك الأعيان التي بنيت بها لمالك معين، لم يجز العبور عليها إلا للضرورة، وإن لم يعرف مالكها جاز العبور عليها، والورع الامتناع، والله أعلم‏.‏