فصل: فَصْلٌ: الْمُشَاهَدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْمُشَاهَدَةِ:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
بَابُ الْمُشَاهَدَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
قُلْتُ: جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَلَامَهُ ذِكْرَى، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَة‍َ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَاعٍ، فَإِذَا فَقَدَ هَذَا الْقَلْبَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالذِّكْرَى،
الثَّانِي: أَنْ يُصْغِيَ بِسَمْعِهِ كُلِّهِ نَحْوَ الْمُخَاطَبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِكَلَامِهِ،
الثَّالِثُ: أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ عِنْدَ الْمُكَلِّمِ لَهُ، وَهُوَ الشَّهِيدُ؛ أَيِ: الْحَاضِرُ غَيْرُ الْغَائِبِ، فَإِنْ غَابَ قَلْبُهُ وَسَافَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْخِطَابِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُبْصِرَ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَرْئِيِّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مُبْصِرَةٌ، وَحَدَّقَ بِهَا نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَقَدَ الْقُوَّةَ الْمُبْصِرَةَ، أَوْ لَمْ يُحَدِّقْ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، أَوْ حَدَّقَ نَحْوَهُ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ كُلَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يُدْرِكْهُ، فَكَثِيرًا مَا يَمُرُّ بِكَ إِنْسَانٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَلْبُكَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، فَلَا تَشْعُرُ بِمُرُورِهِ، فَهَذَا الشَّأْنُ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْقَلْبِ وَحُضُورَهُ، وَكَمَالَ الْإِصْغَاءِ.

.[حَقِيقَةُ الْمُشَاهَدَةِ]:

قَالَ الشَّيْخُ: الْمُشَاهَدَةُ مَعْنَاهَا: سُقُوطُ الْحِجَابِ بَتًّا أَيْ: قَطْعًا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُشَاهَدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِلْحِجَابِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ سُقُوطِ الْحِجَابِ، وَلَيْسَتْ هِيَ نَفْسُ سُقُوطِ الْحِجَابِ، لَكِنْ عَبَّرَ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، فَإِنَّ سُقُوطَ الْحِجَابِ يُلَازِمُ حُصُولَ الْمُشَاهَدَةِ.
قَوْلُهُ: وَهِيَ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ هَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ- وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ- بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ قُوَّةُ الْيَقِينِ، وَمَزِيدُ الْعِلْمِ، وَارْتِفَاعُ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ، لَا نَفْسُ مُعَايَنَةِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ مُعَايَنَةُ الْحَقِيقَةِ، لَمَا كَانَ فَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاشَفَةَ وِلَايَةُ النَّعْتِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ بَقَايَا الرَّسْمِ، وَالْمُشَاهَدَةَ وِلَايَةُ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَوِلَايَتُهَا وِلَايَةُ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ؛ أَيْ: سُلْطَانِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ النُّعُوتُ وَالصِّفَاتُ وَسُلْطَانُ الْمُشَاهَدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِلنُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ فَوْقَهَا، وَأَكْمَلَ مِنْهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ وِلَايَةِ النَّعْتِ وَوِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ أَنَّ النَّعْتَ صِفَةٌ، وَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَاهِدَ مُتَعَلِّقَاتِهَا، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا يُكْسِبُهُ التَّعْظِيمَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَعَلِّقًا بِسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى- مِنْ وَاجِبٍ، وَمُمْكِنٍ، وَمُسْتَحِيلٍ- وَمَنْ شَاهَدَ الْإِرَادَةَ الْمُوجِبَةَ لِسَائِرِ الْإِرَادَاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا- مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى- وَشَاهَدَ الْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، وَشَاهَدَ صِفَةَ الْكَلَامِ، الَّذِي لَوْ أَنَّ الْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَأَشْجَارُ الْعَالَمِ كُلُّهَا أَقْلَامٌ يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، لَفَنِيَتِ الْبِحَارُ، وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ، وَكَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْفَدُ وَلَا يَفْنَى.
فَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَاتَ كَذَلِكَ، وَجَالَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَتِهَا فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالصِّفَاتِ، وَمُتَفَرِّقُ قَلْبُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، بِخِلَافِ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ، وَشَاهَدَ قِدَمَهَا وَبَقَاءَهَا، وَاسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَةِ تِلْكَ الذَّاتِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَاتِهَا، فَهُوَ مُشَاهِدٌ لِلْعَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مُشَاهِدٌ لِلصِّفَاتِ، فَالْأَوَّلُ فِي فَرْقٍ، وَهَذَا فِي جَمْعٍ، فَمَنِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُشَاهِدِ، وَوَصْفُ الْمُشَاهَدَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذَا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ رَسْمِهِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ.
وَبَعْدُ، فَإِنَّ وِلَايَةَ! النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا دُونَ وِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا زَعَمَ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ فِي كُتُبِهِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَبِذَلِكَ نَطَقَتْ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ، فَهَذَا الْقُرْآنُ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- إِنَّمَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى النَّظَرِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، دُونَ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ، فَإِنَّ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ لَا يُلْحَظُ مَعَهَا وَصْفٌ، وَلَا يُشْهَدُ فِيهَا نَعْتٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ وَلَا جَلَالٍ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ شُهُودِهَا إِيمَانٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ.
وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ يَقَعُ شُهُودُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنَوُّعِهَا وَكَثْرَتِهَا، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عَظَمَةِ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي كَمَالِهِ؛ لِكَثْرَةِ أَوْصَافِهِ وَنُعُوتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَامْتِنَاعِ أَضْدَادِهَا عَلَيْهِ، وَثُبُوتِهَا لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا- مِنْ شُهُودِ ذَاتٍ قَدْ غَابَ مُشَاهِدُهَا عَنْ كُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ وَاسْمٍ؟!
فَبَيْنَ هَذَيْنِ الْمَشْهَدَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ مَشْهَدُ مَنْ تَأَلَّهَ وَفَنِيَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ كَمَالَ هَذَا الْمَشْهَدِ هُوَ قَصْرُ النَّظَرِ الْقَلْبِيِّ عَلَى عَيْنِ الذَّاتِ، وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْأَغْرَاضِ وَالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ.
وَمُرَادُهُمْ بِالْأَعْرَاضِ: الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِالْحَيِّ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ، فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ، وَلَا إِرَادَةَ، وَلَا حَيَاةَ وَلَا عِلْمَ، وَلَا قُدْرَةَ.
وَمُرَادُهُمْ بِالْأَبْعَاضِ: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا يَدَانِ، وَلَمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِهِ، وَلَا يَطْوِي سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ، وَلَا يَقْبِضُ الْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَلَا الْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَا الشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمُرَادُهُمْ بِالْأَغْرَاضِ: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ، وَلَا لِعِلَّةٍ غَائِيَّةٍ، وَلَا سَبَبَ لِفِعْلِهِ، وَلَا غَايَةَ مَقْصُودَةٌ.
وَمُرَادُهُمْ بِالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ: مَسْأَلَةُ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ خَلْقِهِ، وَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي، وَلَا تَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَلَا رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، بَلْ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ!
فَكَمَالُ الشُّهُودِ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ كُلِّ اسْمٍ وَوَصْفٍ وَنَعْتٍ.
وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَدُوُّ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بَرَاءَةَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ، وَهِيَ جَعْلُ مَشْهَدِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقَعُ الشُّهُودُ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَلَا جَعْلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا إِلَيْهَا شُهُودُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الذَّاتِ وَالْعَيْنِ: فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِيَّةِ، وَلَمَّا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَلِذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَجَابَهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} إِذْ لَا وُصُولَ لِلْبَشَرِ إِلَى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ مِنْ كَوْنِهِ صَمَدًا، وَصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلثُّبُوتِ؛ مِنْ كَوْنِهِ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلًا إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالْكُنْهِ.
فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الْعَيْنِيُّ الذَّاتِيُّ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ لِلْمُشَاهِدِ، وَجَعَلْتُمُوهُ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ، وَجَعَلْتُمْ وِلَايَةَ الْمُكَاشَفَةِ النَّعْتَ وَوِلَايَةَ الْمُشَاهَدَةِ الْعَيْنَ؟
فَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ- وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْعَارِفِينَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ-: أَنْ لَا يَقْصِرَ نَظَرَ الْقَلْبِ عَلَى صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهَا وَحْدَهَا، بَلْ يَكُونُ الْتِفَاتُهُ وَشُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتَةِ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِالصِّفَاتِ.
وَلَكِنْ يُقَالُ: الشُّهُودُ لَا يَقَعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَجَرُّدُهَا فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ، بَلْ مَتَى شَهِدَ الصِّفَةَ شَهِدَ قِيَامَهَا بِالْمَوْصُوفِ وَلَا بُدَّ، فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الذَّاتِيُّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الشُّهُودِ الْوَصْفِيِّ؟
وَالْأَمْرُ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِصِفَاتِ اللَّهِ أَعْرَفَ وَلَهَا أَثْبَتَ، وَمَعَارِضُ الْإِثْبَاتِ مُنْتَفٍ عِنْدَهُ- كَانَ أَكْمَلَ شُهُودًا، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ شُهُودًا هُوَ مَنْ قَالَ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: اسْتَدَلَّ بِمَا عَرَفَهُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا أَحْصَاهُ وَعَلِمَهُ.
فَمَشْهَدُ الصِّفَاتِ: مَشْهَدُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا أَعْرَفَ كَانَ بِاللَّهِ أَعْلَمَ، وَكَانَ مَشْهَدُهُ بِحَسَبِ مَا عَرَفَ مِنْهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشَاهَدَةٌ وَلَا مُكَاشَفَةٌ، لَا لِلذَّاتِ وَلَا لِلصِّفَاتِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ عِيَانٍ وَكَشْفَ عِيَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ إِيمَانٍ وَإِيقَانٍ.
وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ هَاهُنَا عَلَى أَمْرٍ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ نَتَائِجُ الْعَقَائِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ مُعْتَقَدُهُ ثَابِتًا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَفَتْ نَفْسُهُ وَارْتَاضَتْ، وَفَارَقَتِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّذَائِلَ، وَصَارَتْ رُوحَانِيَّةً تَجَلَّتْ لَهَا صُورَةُ مُعْتَقَدِهَا كَمَا اعْتَقَدَتْهُ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ التَّجَلِّي حَتَّى يَصِيرَ كَالْعِيَانِ، وَلَيْسَ بِهِ، فَيَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: ظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَفَا الِارْتِيَاضُ وَانْجَلَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ الطَّبْعِ، وَغَابَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقَلْبِ، بَلْ أَحْكَامُ الرُّوحِ- ظَنَّ أَنَّهُ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَوْ جَاءَتْهُ كُلُّ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَ الْهِلَالَ بِبَصَرِهِ جَهْرَةً، فَلَوْ قَالَ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: لَمْ تَرَهُ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّا لَا نُكَذِّبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا نُوقِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى صُورَةَ مُعْتَقَدِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، لَا الْحَقِيقَةَ فِي الْخَارِجِ، فَهَذَا أَحَدُ الْغَلَطَيْنِ.
وَسَبَبُهُ: قُوَّةُ ارْتِبَاطِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِالْقَلْبِ، فَالْعَيْنُ مِرْآةُ الْقَلْبِ شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِهِ، وَتَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الِاعْتِقَادِ، وَضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وَغَلَبَةُ حُكْمِ الْهَوَى وَالْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَسَمَاعُهُ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ.
وَالْغَلَطُ الثَّانِي: ظَنُّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنَّ مَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقٌ لِاعْتِقَادِهِ،
فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْغَلَطَيْنِ مِثْلُ هَذَا الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ.
وَلَقَدْ أَخْبَرَ صَادِقُ الْمَلَاحِدَةِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ: أَنَّهُمْ كُشِفَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوهُ، وَشَهِدُوهُ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ عِيَانًا، وَهَذَا الْكَشْفُ وَالشُّهُودُ: ثَمَرَةُ اعْتِقَادِهِمْ وَنَتِيجَتُهُ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مَا إِلَى الْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.[دَرَجَاتُ الْمُشَاهَدَةِ]:

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُشَاهَدَةُ مَعْرِفَةٍ]:

قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُشَاهَدَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُشَاهَدَةُ مِعْرِفَةٍ، الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ.
هَذَا بِنَاءً عَلَى أُصُولِ الْقَوْمِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فَوْقَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ، وَلَوْ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَالْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُمْ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ- كَمَا حَدَّهَا الشَّيْخُ- وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- فَوْقَ الْعِلْمِ، لَكِنْ- عَلَى هَذَا الْحَدِّ- لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَلْبَتَّةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَشْرُوطَةً بِمَا ذَكَرُوا، وَسَنَذْكُرُ كَلَامَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَبْرَارِ بِالْعِلْمِ، وَأَعْمَالَ الْمُقَرَّبِينَ بِالْمَعْرِفَةِ.
وَهَذَا كَلَامٌ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ، وَيَبْطُلُ مِنْ وَجْهٍ، فَالْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ عَامِلُونَ بِالْعِلْمِ، وَاقِفُونَ مَعَ أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الْمُقَرَّبِينَ أَكْمَلُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَبْرَارِ، فَكِلَاهُمَا أَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَلَا يُسْلَبُ الْأَبْرَارُ الْمَعْرِفَةَ، وَلَا يَسْتَغْنِي الْمُقَرَّبُونَ عَنِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فَجَعَلَهُمْ عَارِفِينَ بِاللَّهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، بَلْ جَعَلَهُمْ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ كَمَعْرِفَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا.
قَوْلُهُ: فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ يَعْنِي: أَنَّ شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ بَوَارِقٌ تَلُوحُ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَ الشَّيْخِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذِهِ اللَّوَائِحُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا: تَلُوحُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنِ الْجُنَيْدِ، أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ مُبَايِنٌ لِعِلْمِهِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَصِحُّ لَهُ الْعِلْمُ بِانْفِرَادِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عِلْمًا جَازِمًا، لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ، وَلَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ، وَتَقَاذَفَتْ بِهِ أَمْوَاجُهَا لَمْ يَثْبُتْ قَلْبُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّدَمَاتِ، وَلَمْ يُبَادِرْ إِذْ ذَاكَ إِلَى رُؤْيَةِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَوَّلِيَّتِهِ؛ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ وَالْمُشَاهَدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ، فَهَذَا عَالِمٌ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَقَامِهِ، وَلَا مُتَّصِفٍ بِحَالٍ أَكْسَبَهُ إِيَّاهَا التَّوْحِيدُ، فَإِذَا وَجَدَ قَلْبَهُ- وَقْتَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَبَايُنِ الْأَسْبَابِ- وَاثِقًا بِرَبِّهِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُسْتَغْرِقًا فِي شُهُودِ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ- فَقَدْ وَجَدَ مَقَامَ التَّوْحِيدِ حَالَهُ.
وَأَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ مُتَفَاوِتُونَ فِي شُهُودِهِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا: مِنْ مُدْرِكٍ لِمَا هُوَ فِيهِ مُتَنَعِّمٍ مُتَلَذِّذٍ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَمِنْ غَالِبٍ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَالُ، وَمِنْ مُسْتَغْرِقٍ غَائِبٍ عَنْ حَظِّهِ وَلَذَّتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ وُجُودِهِ، فَنُورُ الْوُجُودِ قَدْ غَشِيَ مُشَاهَدَتَهُ لِحَالِهِ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، بَلْ قَدْ أَنَاخَ بِفِنَائِهِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَهُ هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَيُسَمَّى حَضْرَةَ الْوُجُودِ.
قَوْلُهُ: مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ يَعْنِي: قَدْ شَارَفَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِحَالِهِ مَنْزِلَ الْجَمْعِ، وَأَنَاخَتْ بِهِ، وَتَهَيَّأَ لِدُخُولِهِ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، فَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْمُشَاهِدَ بِالْمُسَافِرِ، وَمَثَّلَ مُشَاهَدَتَهُ بِنَاقَتِهِ الَّتِي يُسَافِرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا الْحَامِلَةُ لَهُ، وَشَبَّهَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ بِالْمَنْزِلِ وَالدَّارِ، وَقَدْ أَنَاخَ الْمُسَافِرُ بِفِنَائِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى إِشْرَافِهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَا يَلُوحُ إِلَّا مِنْهَا.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُشَاهَدَةُ مُعَايَنَةٍ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُشَاهَدَةُ مُعَايَنَةٍ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، تَقْطَعُ حِبَالَ الشَّوَاهِدِ، وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ، وَتُخْرِسُ أَلْسِنَةَ الْإِشَارَاتِ.
إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مُشَاهَدَةُ بَرْقٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ بِالتَّوْحِيدِ، وَتَمَكَّنَتْ فِي وُجُودِ التَّوْحِيدِ، حَتَّى صَارَ صَاحِبُهَا يَرَى الْأَسْبَابَ كُلَّهَا عَنْ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا، لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ حَالًا وَذَوْقًا، وَأَنَاخَ بِفِنَاءِ الْجَمْعِ لِيَتَبَوَّأَهُ مَنْزِلًا لِتَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّهُ بَعْدُ لَمْ يُكْمِلِ اسْتِغْرَاقَهُ عَنْ شُهُودِ رَسْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَشَوَاهِدُ الرُّسُومِ بَعْدُ مَعَهُ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ نُعُوتِ النَّفْسِ وَلَبِسَ نُعُوتَ الْقُدْسِ، فَتَطَهَّرَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ مَشْهُودِهِ، فَحَرَسَ لِذَلِكَ لِسَانَهُ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرَفَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، وَهَذِهِ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ نَفْسِهِ، لَا بَوَارِقَ نُورِهِ، فَهِيَ أَعْلَى؛ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةُ عِيَانٍ، وَالْعِيَانُ وَالْمُعَايَنَةُ: أَنْ تَقَعَ الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ.
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ أَقْبَحَ الْخَطَأِ، وَتَعَدَّى مَقَامَ الرُّسُلِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَارِفُ: مَزِيدُ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ؛ لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَإِيمَانِهِ بِوُجُودِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ الْأَنْوَارَ وَاللَّوَامِعَ وَالْبَوَارِقَ إِنَّمَا هِيَ أَنْوَارُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا، أَوْ هِيَ أَنْوَارُ اسْتِغْرَاقِهِ فِي مُطَالَعَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا، بِحَيْثُ يَبْقَى كَالْمُعَايِنِ لَهَا، فَيُشْرِقُ عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْمَعْرِفَةِ، فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَقَدَّمَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُوقِعِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ غَلُظَ فِي هَذَا الْبَابِ حِجَابُهُمْ، وَكَثُفَتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَرْوَاحُهُمْ، وَقَصُرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ، وَلَمْ يَكَادُوا يَظْفَرُونَ بِذَائِقٍ صَحِيحِ الذَّوْقِ يُفَصِّلُ لَهُمْ أَحْكَامَ أَذْوَاقِهِمْ وَمُشَاهَدَتِهِمْ، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَعِلَلَهَا، فَوُجُودُ هَذَا أَعَزُّ شَيْءٍ، وَالْقَوْمُ لَهُمْ طَلَبٌ شَدِيدٌ وَهِمَمٌ عَالِيَةٌ، وَمَطْلَبُهُمْ وَهِمَمُهُمْ- عِنْدَهُمْ- فَوْقَ مَطَالِبِ النَّاسِ وَهِمَمِهِمْ، فَتَشْهَدُ أَرْوَاحُهُمْ مَقَامَاتِ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ وَسُفُولِهَا، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي حُظُوظِهِ وَأَحْكَامِ نَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَلَا تَسْمَحُ نُفُوسُهُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَلَوْ وَجَدُوا عَارِفًا ذَا قُرْآنٍ وَإِيمَانٍ يُنَادِي الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَتَدُلُّ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، مُحَكِّمًا لِلْوَحْيِ عَلَى الذَّوْقِ، مُسْتَخْرِجًا أَحْكَامَ الذَّوْقِ مِنَ الْوَحْيِ، لَيْسَ فَظًّا وَلَا غَلِيظًا، وَلَا مُدَّعِيًا وَلَا مَحْجُوبًا بِالْوَسَائِلِ عَنِ الْغَايَاتِ، إِشَارَتُهُ دُونَ مَقَامِهِ، وَمَقَامُهُ فَوْقَ إِشَارَتِهِ، إِنْ أَشَارَ أَشَارَ بِاللَّهِ مُسْتَشْهِدًا بِشَوَاهِدِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، عَاكِفًا بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ- فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ الصَّادِقُونَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: وَقَطْعُ حِبَالِ الشَّوَاهِدِ شَبَّهَ الشَّوَاهِدَ بِالْحِبَالِ الَّتِي تَجْذِبُ الْعَبْدَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ عَنْهُ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْعِيَانِ: انْقَطَعَتْ حِينَئِذٍ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ بِحُكْمِ الْمُعَايَنَةِ.
قَوْلُهُ: وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ الْقُدْسُ: هُوَ النَّزَاهَةُ وَالطَّهَارَةُ، وَنُعُوتُ الْقُدْسِ هِيَ صِفَاتُهُ، فَيُلْبِسُهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ النُّعُوتِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ لَفْظَةَ اللُّبْسِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ خِلَعٌ، وَخِلَعُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُلْبِسُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُلْحِدُونَ، فَالْمُوَحِّدُ يَعْتَقِدُ: أَنَّ الَّذِي أَلْبَسَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ صِفَاتٌ جَمَّلَ اللَّهُ بِهَا ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَهِيَ صِفَاتٌ مَخْلُوقَةٌ أُلْبِسَتْ عَبْدًا مَخْلُوقًا، فَكَسَا عَبْدَهُ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ.
وَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: كَسَاهُ نَفْسَ صِفَاتِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، حَتَّى صَارَ شَبِيهًا بِهِ، بَلْ هُوَ هُوَ، وَيَقُولُونَ: الْوُصُولُ هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبَعْضُهُمْ يُلَطِّفُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ: بَلْ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الرَّبِّ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَثَرًا بَاطِلًا تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ.
وَلَيْسَ هَاهُنَا غَيْرَ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَيَخْلُقُهَا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَالْعَبْدُ مَخْلُوقٌ، وَخِلْعَتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَائِنٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ خَلْقِهِ، لَا يُمَازِجُهُمْ وَلَا يُمَازِجُونَهُ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَحِلُّونَ فِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُشَاهَدَةُ جَمْعٍ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُشَاهَدَةُ جَمْعٍ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ. تَجْذِبُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ، رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ.
صَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَثْبَتُ- عِنْدَ الشَّيْخِ- فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَمْكَنُ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ، الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْوُجُودِ، وَأَمْلَكُ لِحَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ فِي مَقَامِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُشُوفَاتِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُشَاهَدَتُهُ مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ؛ أَيْ: تَشْهَدُ لِنَفْسِهَا بِصِحَّةِ وُرُودِهَا إِلَى حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَتَشْهَدُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهَا بِالصِّدْقِ، وَيَشْهَدُ الْمَشْهُودُ أَيْضًا لَهَا بِذَلِكَ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا احْتِمَالُ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ.
وَهَذَا أَيْضًا مَوْرِدٌ لِلْمُلْحِدِ وَالْمُوَحِّدِ.
فَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: مُشَاهَدَةُ الْجَمْعِ هِيَ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ الْوَاحِدِ، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَعَانِي وَالصُّوَرِ وَالْقُوَى وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، وَحَضْرَةُ الْجَمْعِ عِنْدَهُ: هِيَ حَضْرَةُ هَذَا الْوُجُودِ، وَمُشَاهَدَةُ هَذَا الْجَذْبِ تُجْذَبُ إِلَى عَيْنِهِ.
قَالَ: وَصِفَةُ هَذَا الْجَذْبِ: أَنْ يُحِلَّ الْحَقُّ تَعَالَى عَقْدَ خَلِيقَتِهِ بِيَدِ حَقِيقَتِهِ، فَيَرْجِعُ النُّورُ الْفَائِضُ عَلَى صُورَةِ خَلِيقَتِهِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى عَدَمِيَّتِهِ، فَيَبْقَى الْوُجُودُ لِلْحَقِّ، وَالْفَنَاءُ لِلْخَلْقِ، وَيُقِيمُ الْحَقُّ تَعَالَى وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ، نَائِبًا عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ الْمُشَاهِدُ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ، فِي طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ عَبْدِهِ، فَإِذَا ثَبَّتَ الْحَقُّ تَعَالَى عَبْدَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ وَمَحْوِهِ، وَأَبْقَاهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، فَعَادَ كَمَا يَعُودُ السَّكْرَانُ إِلَى صَحْوِهِ- وَجَدَ فِي ذَاتِهِ أَسْرَارَ رَبِّهِ، وَطَوْرَ صِفَاتِهِ، وَحَقَائِقَ ذَاتِهِ، وَمَعَالِمَ وُجُودِهِ، وَمَطَارِحَ أَشِعَّةِ نُورِهِ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، وَعَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَيَرَى الْعَبْدُ ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، الْمُوهِمِ الْفَرْعَ، فَيُؤَدِّي اسْتِصْحَابُ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِهِ: أَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُفَارِقْهُ هُوَ إِلَّا بِشَكْلِهِ. وَالشَّكْلُ- عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهِ- فَمَعْنًى عَدَمِيٌّ لِتَعَيُّنِ إِمْكَانِهِ فِي وُجُوبِهِ.
فَانْظُرْ مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ الصَّرَاحِ، وَجَعْلِ عَيْنِ الْمَخْلُوقِ نَفْسَ عَيْنِ الْخَالِقِ، وَأَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَقَامَ نَفْسَ أَوْصَافِهِ نَائِبَةً عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، وَأَنَّهُ شَاهَدَ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ فِي مَرَاتِبِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ وَجَدَ فِي ذَاتِهِ حَقَائِقَ ذَاتِ الرَّبِّ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، فَيَرَى ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، يَعْنِي عَنْ الِانْقِسَامِ وَالتَّكَثُّرِ الْمُوهِمِ الْفَرْعَ يَعْنِي الَّذِي يُوهِمُ فُرُوعُهُ وَتَكْثُرُ مَظَاهِرُهُ، وَاخْتِلَافُ أَشْكَالِهِ أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وُجُودٌ وَاحِدٌ، وَالْأَشْكَالُ عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَإِمْكَانُهَا يَفْنَى فِي وُجُوبِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا وُجُوبُ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَشْكَالُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ.
فَالِاتِّحَادِيُّ يُشَاهِدُ وُجُودًا وَاحِدًا، جَامِعًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، فَاضَ عَلَيْهَا كُلُّهَا، فَظَهَرَ فِيهَا بِحَسَبِ قَوَابِلِهَا وَاسْتِعْدَادَاتِهَا.
وَذَلِكَ الشُّهُودُ يَجْذِبُهُ إِلَى انْحِلَالِ عَزْمِهِ عَنِ التَّقَيُّدِ بِمَعْبُودٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ يَبْقَى مَعْبُودُهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ بِأَيِّ مَعْنًى ظَهَرَ، وَفِي أَيِّ مَاهِيَّةٍ تَحَقَّقَ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْقَوْمِ:
وَإِنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ عَاكِـفٌ ** فَلَا تَعْدُ بِالْإِنْكَــارِ بِالْعَصَبِيَّــةِ

وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الْمَجُوسُ وَمَا انْطَفَـتْ ** كَمَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مُذْ أَلْفِ حَجَّةِ

فَمَا عَبَدُوا غَيْرِي وَمَا كَانَ قَصْدُهُمْ ** سِوَايَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّـةِ

وَمَا عَقَدَ الزُّنَّارُ حُكْمًا سِوَى يَـدِي ** وَإِنْ حَلَّ بِالْإِقْرَارِ لِي فَهْيَ بَيْعَتِـي

وَكَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ، وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ، قَالَ اللَّهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قَالَ: وَمَا قَضَى اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا وَقَعَ، وَمَا عُبِدَ غَيْرٌ لِلَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ، فَهَذَا مَشْهَدُ الْمُلْحِدِ.
وَالْمُوَحِّدُ يُشَاهِدُ- بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ- ذَاتًا جَامِعَةً لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، لَهَا كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَكُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ، وَذَلِكَ يَجْذِبُهُ إِلَى نَفْسِ اجْتِمَاعِ هَمِّهِ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ.
وَالطَّرِيقُ- بِمَجْمُوعِهَا- لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ، وَإِنْ طَوَّلُوا الْعِبَارَاتِ، وَدَقَّقُوا الْإِشَارَاتِ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى جَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ بِغَايَةِ النَّصِيحَةِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، بَعْدَ تَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ، فَلَا تُطَوِّلُ وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْكَ.
وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُرَادُهُ بِالْجَمْعِ الْجَاذِبِ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ أَمْرٌ آخَرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَمْعِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَعَيْنِ جَمْعِهِمْ، لَا هُوَ هَذَا وَلَا هُوَ هَذَا، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى الْفَنَاءِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ، وَعَيْنُ الْجَمْعِ عِنْدَهُ هُوَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَبِالدَّوَامِ، وَبِالْخَلْقِ وَالْفِعْلِ، فَكَانَ وَلَا شَيْءَ، وَيَعُودُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ، وَلَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ، بَلْ وُجُودُ غَيْرِهِ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ، وَفِعْلُ غَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَطَيِّ بِسَاطِ شُهُودِ الْأَكْوَانِ، فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا الْحُكْمُ انْمَحَقَ وُجُودُ الْعَبْدِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ، وَتَدْبِيرُهُ فِي تَدْبِيرِ الْحَقِّ، فَصَارَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَشْهُودُ بِوُجُودِ الْعَبْدِ، مُتَلَاشٍ مُضْمَحِلٍّ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ.
وَلَا يَسْتَعِدُّ لِهَذَا عِنْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ عَلَى الْمُرَادِ وَحْدَهُ، حَالًا لَا تَكَلُّفًا، وَطَبْعًا لَا تَطَبُّعًا، فَقَدْ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى أَمْرٍ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، وَصَاحِبُهَا مُعْرِضٌ عَنْ غَيْرِ مَطْلَبِهِ، مُتَحَلٍّ بِهِ، وَلَكِنَّ إِرَادَةَ السِّوَى كَامِنَةٌ فِيهِ، قَدْ تَوَارَى حُكْمُهَا وَاسْتَتَرَ، وَلَمَّا يَزُلْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ اشْتِغَالًا تَامًّا تَوَارَثَ عَنْهُ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَالْتِفَاتَهُ إِلَى مَا سِوَاهُ مَعَ كَوْنِهِ كَامِنًا فِي نَفْسِهِ، مَادَّتُهُ حَاضِرَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً وَأَدْنَى تَخَلٍّ مِنْ شَاغِلِهِ، ظَهَرَ حُكْمُ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ الَّتِي كَانَ سُلْطَانُ شُهُودِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِذًا الْجَمْعُ وَعَيْنُ الْجَمْعِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ.
أَعْلَاهَا: جَمْعٌ لِهَمٍّ عَلَى اللَّهِ: إِرَادَةً وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَجَمْعُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، دُونَ رُسُومِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ، فَهَذَا جَمْعُ خَوَاصِّ الْمُقَرَّبِينَ وَسَادَاتِهِمْ.
وَالثَّانِي: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَالدَّوَامِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ لَهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْجَمْعُ دُونَ الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ.
وَالثَّالِثُ: جَمْعُ الْمَلَاحِدَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَعَيْنُ جَمْعِهِمْ؛ وَهُوَ جَمْعُ الشُّهُودِ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَعَلَيْكَ بِتَمْيِيزِ الْمَرَاتِبِ؛ لِتَسْلَمَ مِنَ الْمَعَاطِبِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا، فِي آخِرِ بَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ أَيْ: ضَامِنَةً لِصِحَّةِ وُرُودِهَا، شَاهِدَةً بِذَلِكَ مَشْهُودًا لَهَا بِهِ، لِأَنَّهَا فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَفَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ.
قَوْلُهُ: رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ يَعْنِي: تِلْكَ الْمُشَاهَدَةَ رَاكِبَةٌ بَحْرَ الْوُجُودِ، فَهِيَ فِي لُجَّةِ بَحْرِهِ لَا فِي أَنْوَارِهِ، وَلَا فِي بَوَارِقِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُرَادِهِ بِالْوُجُودِ وَأَنَّهُ وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.