فصل: فَصْلٌ: (الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.[دَرَجَاتُ السُّرُورِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى سُرُورُ ذَوْقٍ]:

قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ: عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ السُّرُورُ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سُرُورُ ذَوْقٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سُرُورُ ذَوْقٍ. ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَحْزَانٍ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَحُزْنٌ هَاجَمَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ. وَحُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ.
السُّرُورُ ضِدُّ الْحُزْنِ. وَالْحُزْنُ لَا يُجَامِعُهُ: كَانَ مُذْهِبًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ سَبَبُهُ: ذَوْقَ الشَّيْءِ السَّارِّ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّوْقُ أَتَمَّ: كَانَ السُّرُورُ بِهِ أَكْمَلَ.
وَهَذَا السُّرُورُ يُذْهِبُ ثَلَاثَةَ أَحْزَانٍ.
الْحُزْنُ الْأَوَّلُ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَهَذَا حُزْنُ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَكْبِ الْمُحِبِّينَ، وَوَفْدِ الْمَحَبَّةِ، فَأَهْلُ الِانْقِطَاعِ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ صُحْبَةِ هَذَا الرَّكْبِ وَهَذَا الْوَفْدِ. وَهُمُ الَّذِينَ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} فَثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ: أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ. وَأَمَرَ قُلُوبَهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا: أَنْ تَقْعُدَ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَحَابِّهِ. فَلَوْ عَايَنْتَ قُلُوبَهُمْ- حِينَ أُمِرَتْ بِالْقُعُودِ عَنْ مُرَافَقَةِ الْوَفْدِ، وَقَدْ غَمَرَتْهَا الْهُمُومُ، وَعَقَدَتْ عَلَيْهَا سَحَائِبُ الْبَلَاءِ، فَأَحْضَرَتْ كُلَّ حُزْنٍ وَغَمٍّ، وَأَمْوَاجُ الْقَلَقِ وَالْحَسَرَاتِ تَتَقَاذَفُ بِهَا، وَقَدْ غَابَتْ عَنْهَا الْمَسَرَّاتُ. وَنَابَتْ عَنْهَا الْأَحْزَانُ- لَعَلِمْتَ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي نَعِيمٍ. وَأَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رُفْقَتِهِمْ فِي جَحِيمٍ.
وَهَذَا الْحُزْنُ يَذْهَبُ بِهِ ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. فَيُذِيقُ الصِّدِّيقَ طَعْمَ الْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ. وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَيُبَاشِرُ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وقوله تَعَالَى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ: وَحُزْنٌ هَاجَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ.
وَهَذَا الْحُزْنُ الثَّانِي: الَّذِي يُذْهِبُ سُرُورَ الذَّوْقِ، هُوَ حَزْنُ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ.
وَالْجَهْلُ نَوْعَانِ: جَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ. وَهُوَ مُرَادُ الشَّيْخِ هَاهُنَا، وَجَهْلُ عَمَلٍ وَغَيٍّ. وَكِلَاهُمَا لَهُ ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ نُورًا وَأُنْسًا. فَضِدُّهُ يُوجِبُ ظُلْمَةً وَيُوقِعُ وَحْشَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ نُورًا وَهُدًى وَحَيَاةً. وَسَمَّى ضِدَّهُ: ظُلْمَةً وَمَوْتًا وَضَلَالًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} وقال تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}. فَجَعَلَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَنُورًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ.
وَمَثَّلَ هَذَا النُّورَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ فَقَدَ هَذَا النُّورِ: بِمَنْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
الْحُزْنُ الثَّالِثُ: حُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ. وَهُوَ تَفَرُّقُ الْهَمِّ وَالْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلِهَذَا التَّفَرُّقِ حُزْنٌ مُمِضٌّ عَلَى فَوَاتِ جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَلَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، فَلَوْ فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفَرَحِهِ بِهِ، وَأُنْسِهِ بِقُرْبِهِ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ. فَإِنَّمَا يُصَدِّقُكَ مَنْ أَشْرَقَ فِيهِ مَا أَشْرَقَ فِيكَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلُ:
أَيَا صَاحِبِي أَمَا تَرَى نَارَهُمْ ** فَقَالَ: تُرِينِي مَا لَا أَرَى

سَقَاكَ الْغَرَامُ وَلَمْ يَسْقِنِي ** فَأَبْصَرْتَ مَا لَمْ أَكُنْ مُبْصِرًا

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَلَمُ الْوَحْشَةِ، وَنَكَدُ التَّشَتُّتِ، وَغُبَارُ الشَّعَثِ لَكَفَى بِهِ عُقُوبَةً، فَكَيْفَ؟ وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: أَنْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْمُنْقَطِعِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ- الَّتِي هِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ- وَلَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَغْرَقَةً فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَنَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ. وَهَذِهِ عُقُوبَةُ قَلْبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. ثُمَّ آثَرَ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ. وَرَضِيَ بِطَرِيقَةِ بَنِي جِنْسِهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَهُ أَدْنَى حَيَاةٍ فِي قَلْبِهِ وَنُورٍ فَإِنَّهُ يَسْتَغِيثُ قَلْبُهُ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا التَّفَرُّقِ. كَمَا تَسْتَغِيثُ الْحَامِلُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا.
فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ.
وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ.
وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ.
وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ: لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ.
وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا.
فَالتَّفَرُّقُ يُوقِعُ وَحْشَةَ الْحِجَابِ. وَأَلَمُهُ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْحِجَابِ وَعَذَابُ الْجَحِيمِ.
وَالذَّوْقُ الَّذِي يُذْهِبُ وَحْشَةَ هَذَا التَّفَرُّقِ: هُوَ الذَّوْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: سُرُورُ شُهُودٍ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: سُرُورُ شُهُودٍ. كَشَفَ حِجَابَ الْعِلْمِ، وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ. وَنَفَى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. فَشُهُودُ كَشْفِ ذَلِكَ الْحِجَابِ، حَتَّى يُفْضِيَ الْقَلْبُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: يُوجِبُ سُرُورًا.
وَالْعِلْمُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: اسْتِدْلَالٌ. وَالْمَعْرِفَةُ ضَرُورِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ: لَهُ الْخَبَرُ. وَالْمَعْرِفَةُ: لَهَا الْعِيَانُ، فَالْعِلْمُ عِنْدَهُمْ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ لَهَا كَالصِّوَانِ لِمَا تَحْتَهُ، فَهُوَ حِجَابٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ.
وَمِثَالُ هَذَا: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ فِي حَوْمَةِ ثَلْجٍ ثُقْبًا خَالِيًا: اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى أَنَّ تَحْتَهُ حَيَوَانًا يَتَنَفَّسُ، فَهَذَا عِلْمٌ. فَإِذَا حَفَرْتَهُ، وَشَاهَدْتَ الْحَيَوَانَ. فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ.
قَوْلُهُ وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ عِبَارَةٌ قَلِقَةٌ، غَيْرُ سَدِيدَةٍ. وَرِقُّ التَّكْلِيفِ لَا يُفَكُّ إِلَى الْمَمَاتِ. وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ الْعَبْدُ مَنْزِلًا شَاهَدَ مِنْ رَقِّ تَكْلِيفِهِ مَا لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، فَرِقُّ التَّكْلِيفِ: أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مَا بَقِيَ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَالَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ السُّرُورَ بِالذَّوْقِ- الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ- يُعْتِقُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ، بِحَيْثُ لَا يَعُدُّهُ تَكْلِيفًا. بَلْ تَبْقَى الطَّاعَاتُ غِذَاءً لِقَلْبِهِ، وَسُرُورًا لَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّهِ، وَنَعِيمًا لِرُوحِهِ. يَتَلَذَّذُ بِهَا، وَيَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ أَقْوَى وَأَتَمُّ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَلَا يَجِدُ فِي أَوْرَادِ الْعِبَادَةِ كُلْفَةً. وَلَا تَصِيرُ تَكْلِيفًا فِي حَقِّهِ. فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ، وَيَأْتِي بِهِ فِي خِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ: هُوَ أَسَرُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَأَلَذُّهُ عِنْدَهُ. وَلَا يَرَى ذَلِكَ تَكْلِيفًا، لِمَا فِي التَّكْلِيفِ: مِنْ إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سَمَّى أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ: وَصِيَّةً، وَعَهْدًا، وَمَوْعِظَةً، وَرَحْمَةً وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهَا اسْمَ التَّكْلِيفِ إِلَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وَوُقُوعُ الْوُسْعِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُؤَوَّلُ بِهِ كَلَامُهُ.
عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا. وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ: إِنَّمَا هِيَ لِأَقْوَامٍ انْتَقَلَتْ عِبَادَاتُهُمْ مِنْ ظَوَاهِرِهِمْ إِلَى بَوَاطِنِهِمْ. فَانْتَقَلَ حُكْمُ أَوْرَادِهِمْ إِلَى وَارِدَاتِهِمْ. فَاسْتَغْنَوْا بِالْوَارِدَاتِ عَنِ الْأَوْرَادِ، وَبِالْحَقَائِقِ عَنِ الرُّسُومِ، وَبِالْمَعَانِي عَنِ الصُّوَرِ. فَخَلَصُوا مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ الْمُخْتَصِّ بِالْعِلْمِ، وَقَامُوا بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحُكْمُ. وَهَكَذَا الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.
قَوْلُهُ: وَنَفْى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى كَانَ مَرْبُوطًا بِاخْتِيَارَاتِهِ، مَحْبُوسًا فِي سِجْنِ إِرَادَاتِهِ، فَهُوَ فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: انْتَفَى عَنْهُ صَغَارُ الِاخْتِيَارِ. وَبَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ.
فَيَا لَهَا مِنْ عُبُودِيَّةٍ أَوْجَبَتْ حُرِّيَّةً، وَحُرِّيَّةٍ كَمَّلَتْ عُبُودِيَّةً.
فَيَصِيرُ وَاقِفًا مَعَ مَا يَخْتَارُ اللَّهُ لَهُ، لَا مَعَ مَا يَخْتَارُهُ هُوَ لِنَفْسِهِ. بَلْ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَمَنْ كَانَ مَحْجُوبًا بِالْعِلْمِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ: نَازَعَتْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَنَازَعَهَا، فَهُوَ مَعَهَا فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ. وَمَتَى أَفْضَى إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكُشِفَ لَهُ عَنْ حِجَابِهَا: شَاهَدَ الْبَلَاءَ نَعِيمًا، وَالْمَنْعَ عَطَاءً، وَالذُّلَّ عِزًّا، وَالْفَقْرَ غِنًى. فَانْقَادَ بَاطِنُهُ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَظَاهِرُهُ لِأَحْكَامِ الْعِلْمِ.
عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا، قَدْ جَالَ فِيهِ هُوَ وَطَائِفَتُهُ. فَقَالَ: هَذَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَالتَّخَلُّصَ وَالرَّاحَةَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَالِمَ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ. وَالْعَارِفَ يُنْشِقُكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ.
قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ. وَمَعَ الْعَارِفِ فِي رَاحَةٍ. لِأَنَّ الْعَارِفَ يَبْسُطُ عُذْرَ الْعَوَالِمِ وَالْخَلَائِقِ. وَالْعَالِمَ يَلُومُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ مَقَتَهُمْ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ عَذَرَهُمْ.
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي مَلْمَسُهُ نَاعِمٌ. وَسُمُّهُ زُعَافٌ قَاتِلٌ، مِنَ الِانْحِلَالِ عَنِ الدِّينِ وَدَعْوَى الرَّاحَةِ مِنْ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْتِمَاسِ الْأَعْذَارِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- الْوَارِدَيْنِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ- لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ سَعْطِ الْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ، وَأَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلَائِقِ، وَالْوُقُوفَ مَعَهَا، وَالِانْقِيَادَ لِحُكْمِهَا: بِمَنْزِلَةِ تَنْشِيقِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ.
فَلْيَهْنِ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَالْفُسَّاقَ: انْتِشَاقُ هَذَا الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، إِذَا شَهِدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهَا.
وَيَا رَحْمَةً لِلْأَبْرَارِ الْمُحَكِّمِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ كَثْرَةِ سُعُوطِهِمْ بِالْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا يَجُوزُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ. وَهَذَا يُرْضِي اللَّهَ وَهَذَا يُسْخِطُهُ: خَلٌّ وَخَرْدَلٌ، عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ. وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ تُشْهِدُكَ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ- عِنْدَهُمْ- إِلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ: عَذَرْتَ الْجَمِيعَ. فَتَعْذِرُ مَنْ تَوَعَّدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْظَمَ الْوَعِيدِ. وَتَهَدَّدَهُ أَعْظَمَ التَّهْدِيدِ.
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! إِذَا كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَعْذُورَ. وَيُذِيقُهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ؟ وَهَلَّا كَانَ الْغَنِيُّ الرَّحِيمُ أَوْلَى بِعُذْرِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ؟
نَعَمْ. الْعَالِمُ النَّاصِحُ يَلُومُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْعَارِفُ الصَّادِقُ يَرْحَمُ بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا يَتَنَافَى عِنْدَهُ اللَّوْمُ وَالرَّحْمَةُ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ: عُقُوبَةُ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِعُقُوبَتِهِ. فَذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ. وَتَرْكُ عُقُوبَتِهِ زِيَادَةٌ فِي أَذَاهُ وَأَذَى غَيْرِهِ. وَأَنْتَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ يُعْقِبُ كُلَّ الرَّاحَةِ، وَمَعَ عَارِفِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: فِي رَاحَةٍ وَهْمِيَّةٍ: تُعْقِبُ كُلَّ تَعَبٍ وَخَيْبَةٍ وَأَلَمٍ، كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: عَلَى قَدْرِ مَا تَتْعَبُونَ هَاهُنَا تَسْتَرِيحُونَ هُنَالِكَ. وَعَلَى قَدْرِ مَا تَسْتَرِيحُونَ هَاهُنَا تَتْعَبُونَ هُنَالِكَ.
فَالْعِلْمُ يُحَذِّرُكَ، وَيَمْنَعُكَ الْوُقُوفَ حَتَّى تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ. وَعَارِفُ الْمَلَاحِدَةِ يُوهِمُكَ الرَّاحَةَ مِنْ كَدِّ الْمَسِيرِ وَمُؤْنَةِ السَّفَرِ، حَتَّى تُؤْخَذَ فِي الطَّرِيقِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ. وَهُوَ سُرُورٌ يَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ. وَيُضْحِكُ الرُّوحَ.
قَيَّدَ الشَّيْخُ السَّمَاعَ: بِكَوْنِهِ سَمَاعَ إِجَابَةٍ فَإِنَّهُ السَّمَاعُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، لَا مُجَرَّدَ سَمَاعِ الْإِدْرَاكِ. فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُجِيبِ وَالْمُعْرِضِ. وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ وَيَنْقَطِعُ الْعُذْرُ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- لِلْيَهُودِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ-: يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْإِجَابَةِ: فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أَيْ: مُسْتَجِيبُونَ لَهُ. وَهُوَ الْمُرَادُ. وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ. وَهُوَ السَّمْعُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا. فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أَيْ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ سَمْعَ إِجَابَةٍ وَانْقِيَادٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَأَفْهَمَهُمْ. وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ الْمَعْنَى لَأَسْمَعَ قُلُوبَهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ الْفَهْمَ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ. فَلَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَلَجَعَلَهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِمَا سَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ هُوَ سَمَاعُ انْقِيَادِ الْقَلْبِ، وَالرُّوحِ، وَالْجَوَارِحِ، لِمَا سَمِعَتْهُ الْأُذُنَانِ.
قَوْلُهُ: وَيَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ، يَعْنِي: يُزِيلُ بَقَايَا الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَّبَهَا تَرْكُ الِانْقِيَادِ التَّامِّ. فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ فَقْدِ ذَلِكَ: تَكُونُ الْوَحْشَةُ. وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالِانْقِيَادِ التَّامِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ آثَارٌ. وَهُمْ أَهْلُ كَشْفِ حِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ إِذَا انْكَشَفَ عَنْهُمْ حِجَابُ الْعِلْمِ، وَأَفْضَوْا إِلَى الْمَعْرِفَةِ: بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْحِجَابِ. فَإِذَا حَصَلُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَقَايَا.
وَقَدْ يُوَجَّهُ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ. فَسَمِعَ رَبُّهُ دُعَاءَهُ سَمَاعَ إِجَابَةٍ، وَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَهُ، عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ وَمَطْلَبِهِ، أَوْ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْهُ: حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ سُرُورٌ يَمْحُو مِنْ قَلْبِهِ آثَارَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ وَحْشَةِ الْبُعْدِ. فَإِنَّ لِلْعَطَاءِ وَالْإِجَابَةِ سُرُورًا وَأُنْسًا وَحَلَاوَةً. وَلِلْمَنْعِ وَحْشَةً وَمَرَارَةً. فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَتَكَرَّرَ مِنْ رَبِّهِ سَمَاعٌ وَإِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ: مَحَا عَنْهُ آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَأَبْدَلَهُ بِهَا أُنْسًا وَحَلَاوَةً.
قَوْلُهُ: وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ.
يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مُشَاهَدَةَ حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ عِنْدَهُ. وَإِلَّا فَمُشَاهَدَةُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ: قَدْ سَبَقَتْ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ. وَانْتَقَلَ الْمُشَاهِدُ لِذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَضْرَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ وَيُضْحِكُ الرُّوحَ يَعْنِي: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ يُضْحِكُ الرُّوحَ، لِسُرُورِهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرُّوحَ بِالضَّحِكِ: لِيُخْرِجَ بِهِ سُرُورًا يُضْحِكُ النَّفْسَ وَالْعَقْلَ وَالْقَلْبَ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ رَفْعِ الْحِجَابِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، إِذْ مَحَلُّهُ النَّفْسُ. فَإِذَا ارْتَفَعَ وَمَحَا الشُّهُودُ رَسْمَ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ الْإِدْرَاكُ حِينَئِذٍ بِالرُّوحِ. فَيُضْحِكُهَا بِالسُّرُورِ.
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَوْمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَحْكَامِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ.
وَالْفَتْحُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: فَتْحٌ قَلْبِيٌّ، وَفَتْحٌ رُوحِيٌّ. فَالْفَتْحُ الْقَلْبِيُّ: يَجْمَعُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَلُمُّ شَعَثَهُ، وَالْفَتْحُ الرُّوحِيُّ: يُغْنِيهِ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.فَصْلٌ: [مَنْزِلَةُ السـِّرِّ]:

وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ السـِّرِّ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
بَابُ السِّرِّ مَنْزِلَتُهُ وَحَقِيقَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ.
أَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْآيَةِ، فَوَجْهُهُ: أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ، وَآثَرُوا اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ قَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، خَفِيَ عَلَى أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، فَنَظَرُوا إِلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَعَمُوا عَنْ بَوَاطِنِهِمْ فَازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ، وَقَالُوا لِلرَّسُولِ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ عَنْكَ، حَتَّى نَأْتِيَكَ وَنَسْمَعَ مِنْكَ، وَقَالُوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُونِي فِي بَادِي الرَّأْيِ وَظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا رَأَيْتُ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ عَمِلْتُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرَدَدْتُ عِلْمَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، إِذْ أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ حَكِيمٌ، يَضَعُ الْعَطَاءَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهَّلَهُمْ لِلْهُدَى وَالْحَقِّ، وَحَرَمَهُ رُؤَسَاءَ الْكُفَّارِ وَأَهْلَ الْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِعَطَاءِ الدُّنْيَا عَلَى عَطَاءِ الْآخِرَةِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُؤَهِّلُهُ لِذَلِكَ لِسِرٍّ عِنْدَهُ: مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَرُؤْيَتِهَا مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِ الْمُنْعِمِ، وَمَحَبَّتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ هَذَا السِّرُّ. فَلَا يُؤَهَّلُ كُلُّ أَحَدٍ لِهَذَا الْعَطَاءِ.
قَوْلُهُ: أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ قَدْ يُرِيدُ بِهِ: حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. حَيْثُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: أَنْتَ هَاهُنَا وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْإِمَارَةِ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ».
وَقَدْ يُرِيدُ بِهِ: قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»، وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ- وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ-: فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ، إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ: أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ: أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا».

.فَصْلٌ: [أَصْحَابُ السِّرِّ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ]:

.[الْأُولَى: طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ وَصَفَتْ قُصُودُهُمْ]:

قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ وَهِيَ طَبَقَاتُ أَصْحَابِ السِّرِّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى: طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ، وَصَفَتْ قُصُودُهُمْ. وَصَحَّ سُلُوكُهُمْ. وَلَنْ يُوقَفَ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ. وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ. أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا.
ذَكَرَ لَهُمْ ثَلَاثَ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ، وَثَلَاثًا سَلْبِيَّةً.
الْأُولَى: عُلُوُّ هِمَمِهِمْ. وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ: أَنْ لَا تَقِفَ دُونَ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَوَّضَ عَنْهُ بِشَيْءٍ سِوَاهُ. وَلَا تَرْضَى بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ. وَلَا تَبِيعَ حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ وَقُرْبِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ لَهُ، بِشَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ. فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ عَلَى الْهِمَمِ: كَالطَّائِرِ الْعَالِي عَلَى الطُّيُورِ. لَا يَرْضَى بِمَسَاقِطِهِمْ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْآفَاتُ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِمَّةَ كُلَّمَا عَلَتْ بَعُدَتْ عَنْ وُصُولِ الْآفَاتِ إِلَيْهَا.
وَكُلَّمَا نَزَلَتْ قَصَدَتْهَا الْآفَاتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَإِنَّ الْآفَاتِ قَوَاطِعُ وَجَوَاذِبُ، وَهِيَ لَا تَعْلُو إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي فَتَجْتَذِبُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَجْتَذِبُ مِنَ الْمَكَانِ السَّافِلِ، فَعُلُوُّ هِمَّةِ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ فَلَاحِهِ، وَسُفُولُ هِمَّتِهِ: عُنْوَانُ حِرْمَانِهِ.
الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ الْقَصْدِ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ السِّرِّ، وَهُوَ خَلَاصُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ، فَصَفَاءُ الْقَصْدِ: تَجْرِيدُهُ لِطَلَبِ الْمَقْصُودِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهَاتَانِ آفَتَانِ فِي الْقَصْدِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ لِمَطْلُوبِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ لَا لَذَاتِهِ.
وَصَفَاءُ الْقَصْدِ: يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ الْفَنَاءَ غَايَةٌ.
وَيُرَادُ بِهِ: خُلُوصُ الْقَصْدِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ الرَّبِّ تَعَالَى، بَلْ يَصِيرُ الْقَصْدُ مُجَرَّدًا لِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَجْعَلُ الْغَايَةَ: هِيَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، وَعَلَامَتُهُ: انْدِرَاجُ حَظِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَصِيرُ حَظُّهُ هُوَ نَفْسُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْبَصِيرِ الصَّادِقِ عُلُوُّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَفَضْلُهَا عَلَى مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ السُّلُوكِ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ السِّرِّ وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَوَائِقِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّرْبِ الْأَعْظَمِ، الدَّرْبِ النَّبَوِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ، لَا عَلَى الْجَوَادِّ الْوَضْعِيَّةِ، وَالرُّسُومِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهَا الْقَوْلَ وَدَقَّقُوا لَهَا الْإِشَارَةَ، وَحَسَّنُوا لَهَا الْعِبَارَةَ، فَتِلْكَ مِنْ بَقَايَا النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يُجِيبَ عَلَى الطَّرِيقِ دَاعِيَ الْبَطَالَةِ وَالْوُقُوفِ وَالدَّعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي سُلُوكِهِ نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
فَبِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ السُّلُوكُ، وَالْعِبَارَةُ الْجَامِعَةُ لَهَا: أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَنْقَسِمُ طَلَبُهُ وَلَا مَطْلُوبُهُ، وَلَا يَتْلَوَّنُ مَطْلُوبُهُ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ السَّلْبِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. فَأَوُّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ مَعْنَى الرَّسْمِ وَكَوْنُهُ صِفَةً لِأَصْحَابِ السِّرِّ.
يُرِيدُ: أَنَّهُمُ انْمَحَتْ رُسُومُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا يَقِفُ عَلَيْهِ وَاقِفٌ.
وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ الرَّسْمَ الظَّاهِرَ الْمُعَايَنَ لَا يُمْحَى مَا دَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا يَرَوْنَ مَحْوَ هَذَا الرَّسْمِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا يُعَبَّرُ بِالرَّسْمِ عَنْهُ.
فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الرَّسْمُ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَمَحْوُهُ هُوَ ذَهَابُ الْوُقُوفِ مَعَهُ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يُرِيدُ بِالرَّسْمِ: الظَّوَاهِرَ وَالْعَلَامَاتِ.
وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ رَسْمَ الدَّارِ هُوَ الْأَثَرُ الْبَاقِي مِنْهَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْأَثَرِ وَنَحْوَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ؛ لِأَنَّهُمْ- عِنْدَهُمْ- لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْحَقَائِقِ، اشْتَغَلُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَدِلَّةِ.
فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَا رَسْمَ لَهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَهُ، بَلِ اشْتَغَلُوا بِالْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي عَنِ الرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ.
وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ؛ إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْأَوَامِرَ وَالْأَوْرَادَ كُلَّهَا رُسُومٌ، وَأَنَّ الْعِبَادَ وَقَفُوا عَلَى الرُّسُومِ، وَوَقَفُوا هُمْ عَلَى الْحَقَائِقِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهَا لَرُسُومٌ إِلَهِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، وَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ لَا يَتَعَدَّوْهَا، وَلَا يُقَصِّرُوا عَنْهَا، فَالرُّسُلُ قَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الرُّسُومِ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهَا، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَجَاوُزِهَا، لِيَصِلُوا إِلَى حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا، فَعَطَّلَ الْمَلَاحِدَةُ تِلْكَ الرُّسُومَ، وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَقَائِقُ، فَفَاتَتْهُمُ الرُّسُومُ وَالْحَقَائِقُ مَعًا. وَوَصَلُوا؛ وَلَكِنْ إِلَى الْحَقَائِقِ الْإِلْحَادِيَّةِ الْكُفْرِيَّةِ {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
فَأَحْسَنُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخِ وَلَمْ يَقِفُوا مَعَ رَسْمٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعُوا بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ اللَّهِ لَمْ يَقِفُوا مَعَهُ، وَمَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى اللَّهِ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ وُقُوفُهُمْ مَعَهُ.
وَقَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ أَنَّهُمْ- لِعُلُوِّ هِمَمِهِمْ- سَبَقُوا النَّاسَ فِي السَّيْرِ، فَلَمْ يَقِفُوا مَعَهُمْ، فَهُمُ الْمُفَرِّدُونَ السَّابِقُونَ، فَلِسَبْقِهِمْ لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى أَثَرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ أَيْنَ سَلَكُوا؟ وَالْمُشَمِّرُ بَعْدَهُمْ: قَدْ يَرَى آثَارَ نِيرَانِهِمْ عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ، كَمَا يَرَى الْكَوْكَبَ، وَيَسْتَخْبِرُ مِمَّنْ رَآهُمْ: أَيْنَ رَآهُمْ؟ فَحَالُهُ كَمَا قِيلَ:
أُسَائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ ** وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَـــلِّمُ

الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ أَيْ: لَمْ يَشْتَهِرُوا بِاسْمٍ يُعْرَفُونَ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي صَارَتْ أَعْلَامًا لِأَهْلِ الطَّرِيقِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِعَمَلٍ وَاحِدٍ يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُهُ، فَيُعْرَفُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ هَذَا آفَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَهِيَ عُبُودِيَّةٌ مُقَيَّدَةٌ، وَأَمَّا الْعُبُودِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ: فَلَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا بَاسِمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهَا، فَإِنَّهُ مُجِيبٌ لِدَاعِيهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَلَهُ مَعَ كُلِّ أَهْلِ عُبُودِيَّةٍ نَصِيبٌ يَضْرِبُ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِرَسْمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَلَا اسْمٍ وَلَا بِزِيٍّ، وَلَا طَرِيقٍ وَضْعِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ، بَلْ إِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْخِهِ؟ قَالَ: الرَّسُولُ. وَعَنْ طَرِيقِهِ؟ قَالَ: الِاتِّبَاعُ. وَعَنْ خِرْقَتِهِ؟ قَالَ: لِبَاسُ التَّقْوَى. وَعَنْ مَذْهَبِهِ؟ قَالَ: تَحْكِيمُ السُّنَّةِ. وَعَنْ مَقْصُودِهِ وَمَطْلَبِهِ؟ قَالَ: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَعَنْ رِبَاطِهِ وَعَنْ خَانَكَاهْ؟ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}. وَعَنْ نَسَبِهِ؟ قَالَ:
أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ ** إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْـسٍ أَوْ تَمِيـمِ

وَعَنْ مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا.
وَاحَسْرَتَاهْ تَقَضَّى الْعُمُرُ وَانْصَرَمَتْ ** سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ الْعَـجْزِ وَالْكَــسَلِ

وَالْقَوْمُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وَقَدْ ** سَارُوا إِلَى الْمَطْلَـبِ الْأَعْلَى عَلَى مَهْلِ

وَالْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ أَيْ: أَصْحَابُ السِّرِّ يُرِيدُ: أَنَّهُمْ- لِخَفَائِهِمْ عَنِ النَّاسِ- لَمْ يُعَرَفُوا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يُشِيرُوا إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوا لَهُ. وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا». فَسُئِلَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ مَعْنَى: أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَقَالَ: هُوَ الْمُبْتَدِعُ فِي دِينِهِ، الْفَاجِرُ فِي دُنْيَاهُ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُشِيرُونَ بِالْأَصَابِعِ إِلَى مَنْ يَأْتِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُهُ وَبَعْضُهُمْ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِذَا مَرَّ: أَشَارَ مَنْ يَعْرِفُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: هَذَا فُلَانٌ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ ذَمًّا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَدْحًا، فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِاجْتِهَادٍ وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ وَانْقِطَاعٍ عَنِ الْخَلْقِ، ثُمَّ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ: فَإِذَا مَرَّ بِالنَّاسِ أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ فُتِنَ وَانْقَلَبَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: «فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا» لِأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَرَجَعَ بَعْدَ الشِّرَّةِ إِلَى أَسْوَأِ فَتْرَةٍ.
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُنْهَمِكًا فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، ثُمَّ يُوقِظُهُ اللَّهُ لِآخِرَتِهِ، فَيَتْرُكُ مَا هُوَ فِيهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ. فَإِذَا مَرَّ أَشَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ مَفْتُونًا. ثُمَّ تَدَارَكَهُ اللَّهُ. فَهَذَا كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الْمَعَاصِي. ثُمَّ صَارَتْ فِي الطَّاعَاتِ. وَالْأَوَّلُ: كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الطَّاعَاتِ. ثُمَّ فَتَرَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ إِلَى الرَّجُلِ: عَلَامَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَوْرِدُ هَلَاكِهِ وَنَجَاتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا ذَخَائِرُ الْمَلِكِ: مَا يُخَبَّأُ عِنْدَهُ، وَيَذْخُرُهُ لِمُهِمَّاتِهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ ذَخِيرَةُ الرَّجُلِ: مَا يَذْخُرُهُ لِحَوَائِجِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ- لَمَّا كَانُوا مَسْتُورِينَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ، غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِمْ وَلَا مُتَمَيِّزِينَ بِرَسْمٍ دُونَ النَّاسِ، وَلَا مُنْتَسِبِينَ إِلَى اسْمِ طَرِيقٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ زِيٍّ- كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الذَّخَائِرِ الْمَخْبُوءَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الْآفَاتِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ كُلَّهَا تَحْتَ الرُّسُومِ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، وَلُزُومِ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَالْأَوْضَاعِ الْمُتَدَاوَلَةِ الْحَادِثَةِ؛ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَطَعْتَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَهَا: هُمُ الْمَعْرُوفُونَ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَهُمْ- إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ- الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ بِتِلْكَ الرُّسُومِ وَالْقُيُودِ.
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: مَا لَا اسْمَ لَهُ سِوَى السُّنَّةِ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمُ اسْمٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ سِوَاهَا.
فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَتَقَيَّدُ بِلِبَاسٍ لَا يَلْبِسُ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَانٍ لَا يَجْلِسُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ مِشْيَةٍ لَا يَمْشِي غَيْرَهَا، أَوْ بِزِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا، أَوْ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى مَصْدُودُونَ عَنْهُ، قَدْ قَيَّدَتْهُمُ الْعَوَائِدُ وَالرُّسُومُ وَالْأَوْضَاعُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ عَنْ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. فَأَضْحَوْا عَنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، وَمَنْزِلَتُهُمْ مِنْهَا أَبْعَدَ مَنْزِلٍ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَعَبَّدُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ، وَيَعُدُّ الْعِلْمَ قَاطِعًا لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا ذُكِرَ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَدَّ ذَلِكَ فُضُولًا وَشَرًّا، وَإِذَا رَأَوْا بَيْنَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَعَدُّوهُ غَيْرًا عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ إِشَارَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.