فصل: (الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَهْذِيبُ الْحَالِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صِيَانَةُ الِانْبِسَاطِ وَالسُّرُورِ وَالشُّهُودِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صِيَانَةُ الِانْبِسَاطِ أَنْ تَشُوبَهُ جُرْأَةٌ مِنْ دَرَجَاتِ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ. وَصِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ.
لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْمُشَاهَدَةِ- وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الِانْبِسَاطُ وَالسُّرُورُ- فَإِنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ، حَذَّرَهُ مِنْ شَائِبَةِ الْجُرْأَةِ. وَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُدْخِلُهُ فِي الشَّطْحِ. كَشَطْحِ مَنْ قَالَ: سُبْحَانِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي نِهَايَةُ صَاحِبِهَا أَنْ يُعْذَرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ، وَغَلَبَةِ سُكْرِ الْحَالِ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَارَنَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لِبَسْطِ الْمُشَاهَدَةِ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْجُرْأَةِ وَلَا بُدَّ. فَالْمُرَاقَبَةُ تَصُونُهُ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ.
يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الِانْبِسَاطِ وَالْمُشَاهَدَةِ يُدَاخِلُهُ سُرُورٌ لَا يُشْبِهُهُ سُرُورٌ الْبَتَّةَ. فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْمَنَ فِي هَذَا الْحَالِ الْمَكْرَ، بَلْ يَصُونُ سُرُورَهُ وَفَرَحَهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَكْرِ بِخَوْفِ الْعَاقِبَةِ، الْمَطْوِيِّ عَنْهُ عِلْمُ غَيْبِهَا. وَلَا يَغْتَرَّ.
وَأَمَّا صِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ، فَيُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الشُّهُودِ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي شُهُودِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ. فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ، وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ. فَيُنْسَبُ حُصُولُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشُّهُودِ إِلَى سَبَبٍ مِنْهُ. وَذَلِكَ نَقْصٌ فِي تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَوْهِبَةً، لَيْسَ هُوَ كَسْبِيًّا. وَلَوْ كَانَ كَسْبِيًّا فَشُهُودُ سَبَبِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَغَيْبَةٌ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْمُعَارِضِ لِلشُّهُودِ وُرُودَ خَاطِرٍ عَلَى الشَّاهِدِ، يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَ شُهُودِهِ. فَيَصُونُهُ عَنْ وُرُودِ سَبَبٍ يُعَارِضُهُ إِمَّا مُعَارِضُ إِرَادَةٍ، أَوْ مُعَارِضُ شُبْهَةٍ. وَقَدْ يَعُمُّ كَلَامُهُ الْأَمْرَيْنِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}. وَقَالَ لَهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا. لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا: لَمْ يُقْبَلْ. حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}. فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ: إِخْلَاصُ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ لِلَّهِ. وَالْإِحْسَانُ فِيهِ: مُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ. أَوْ أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ خَيْرًا، وَدَرَجَةً وَرِفْعَةً». وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» أَيْ لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ. وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ. وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا. وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً. وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً: أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ. وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ».
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ». وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.
وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي.
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ الْأَقْوَالِ فِي بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ.
فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ. وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ. فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ. وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ. وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ.
وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ. فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا.
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ.
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ. وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ.
وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.
قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ، وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ. وَلَا هَوًى فَيُمِيلُهُ.
وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِخْلَاصُ أَنْ لَا تَطْلُبَ عَلَى عَمَلِكَ شَاهِدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا مُجَازِيًا سِوَاهُ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ.

.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ]

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْإِخْلَاصُ: تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ كُلِّ شَوْبٍ.
أَيْ لَا يُمَازِجُ عَمَلَهُ مَا يَشُوبُهُ مِنْ شَوَائِبَ إِرَادَاتُ النَّفْسِ إِمَّا طَلَبُ التَّزَيُّنِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِمَّا طَلَبُ مَدْحِهِمْ، وَالْهَرَبُ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ طَلَبُ تَعْظِيمِهِمْ، أَوْ طَلَبُ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خِدْمَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَقَضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي عَقْدُ مُتَفَرِّقَاتِهَا هُوَ إِرَادَةُ مَا سِوَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:
الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالنُّزُولُ عَنِ الرِّضَا بِالْعَمَلِ.
يَعْرِضُ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ ثَلَاثُ آفَاتٍ: رُؤْيَتُهُ وَمُلَاحَظَتُهُ، وَطَلَبُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ بِهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ.
فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رُؤْيَةِ عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَمَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ لَا مَشِيئَتُهُ هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
فَهُنَا يَنْفَعُهُ شُهُودُ الْجَبْرِ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ- وَالْمَيِّتُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا- وَأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ الصَّالِحِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ. فَإِنَّ النَّفْسَ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، طَبْعُهَا الْكَسَلُ، وَإِيثَارُ الشَّهَوَاتِ وَالْبَطَالَةِ. وَهِيَ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ. وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خَيْرٌ، وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ.
فَالْخَيْرُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ وَبِهِ. لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمُ} الْآيَةَ.
فَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ. وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ. فَرُؤْيَةُ الْعَبْدِ لِأَعْمَالِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَرُؤْيَتِهِ لِصِفَاتِهِ الْخِلْقِيَّةِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَإِدْرَاكِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ مِنْ صِحَّتِهِ، وَسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْكُلُّ مُجَرَّدُ عَطَاءِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.
فَالَّذِي يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ.
وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ: عِلْمُهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِسَيِّدِهِ عِوَضًا وَلَا أُجْرَةً؛ إِذْ هُوَ يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ. فَمَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَإِنْعَامٌ عَلَيْهِ، لَا مُعَارَضَةٌ؛ إِذِ الْأُجْرَةُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا الْحُرُّ، أَوْ عَبْدُ الْغَيْرِ. فَأَمَّا عَبْدُ نَفْسِهِ فَلَا.
وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رِضَاهُ بِعَمَلِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُطَالَعَةُ عُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَتَقْصِيرِهِ فِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَنَصِيبِ الشَّيْطَانِ. فَقَلَّ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَإِنْ قَلَّ. وَلِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ.
سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ؟ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ».
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْتِفَاتَ طَرْفِهِ أَوْ لَحْظِهِ؛ فَكَيْفَ الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ؟ هَذَا أَعْظَمُ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صَلَاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ. فَجَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ النَّزْرِ حَظًّا وَنَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ. فَمَا الظَّنُّ بِمَا فَوْقَهُ؟
وَأَمَّا حَظُّ النَّفْسِ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الصَّادِقُونَ.
الثَّانِي: عِلْمُهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَآدَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَشُرُوطِهَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقًّا، وَأَنْ يَرْضَى بِهَا لِرَبِّهِ. فَالْعَارِفُ لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَيَسْتَحْيِي مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ.
فَسُوءُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ وَبُغْضُهُ لَهَا، وَكَرَاهَتُهُ لِأَنْفَاسِهِ وَصُعُودِهَا إِلَى اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّضَا بِعَمَلِهِ، وَالرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ.
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَهُزُّهَا. وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَهَلْ رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا. وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَتَوْفِيرِ الْجُهْدِ بِالِاحْتِمَاءِ مِنَ الشُّهُودِ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ فِي نُورِ التَّوْفِيقِ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ.
هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورِ خَجَلُهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ شِدَّةُ حَيَائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إِذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْعَمَلَ صَالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَقُومُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ السَّارِقِ أَوِ الزَّانِي، الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ، حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَالْمُؤْمِنُ: جَمَعَ إِحْسَانًا فِي مَخَافَةٍ وَسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. وَالْمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إِسَاءَتِهِ.
الثَّانِي: تَوْفِيرُ الْجُهْدِ بِاحْتِمَائِهِ مِنَ الشُّهُودِ، أَيْ يَأْتِي بِجُهْدِ الطَّاقَةِ فِي تَصْحِيحِ الْعَمَلِ، مُحْتَمِيًا عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ وَبِكَ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَحْتَمِيَ بِنُورِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُنَوِّرُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةَ الْعَبْدِ. فَتَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ أَنَّ عَمَلَكَ مِنْ عَيْنِ جُودِهِ لَا بِكَ، وَلَا مِنْكَ.
فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَمَلٌ، وَاجْتِهَادٌ فِيهِ، وَخَجَلٌ، وَحَيَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِيَانَةٌ عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ، وَرُؤْيَتُهُ مِنْ عَيْنِ جُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْهُ.

.[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَمَلِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَمَلِ، مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ. وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ، حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ.
قَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ.
وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّكَ تَجْعَلُ عَمَلَكَ تَابِعًا لِعِلْمٍ، مُوَافِقًا لَهُ، مُؤْتَمًّا بِهِ. تَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَتَقِفُ بِوُقُوفِهِ، وَتَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ. نَازِلًا مَنَازِلَهُ، مُرْتَوِيًا مِنْ مَوَارِدِهِ، نَاظِرًا إِلَى الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، مُتَقَيِّدًا بِهِ، فِعْلًا وَتَرْكًا، وَطَلَبًا وَهَرَبًا. نَاظِرًا إِلَى تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ سَبَبًا وَكَسْبًا. وَمَعَ ذَلِكَ فَتَسِيرُ أَنْتَ بِقَلْبِكَ، مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَضَائِيِّ، الَّذِي تَنْطَوِي فِيهِ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبَّبَاتُ، وَالْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ. وَلَا يَبْقَى هُنَاكَ غَيْرُ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَتَفَرُّدِ الرَّبِّ وَحْدَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرِهَا عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِعْلًا وَتَرْكًا، سَائِرًا بِسَيْرِهِ، وَبِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، إِيمَانًا وَشُهُودًا وَحَقِيقَةً. فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ. قَائِمٌ بِالشَّرِيعَةِ.
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا عُبُودِيَّةُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
فَتَرْكُ الْعَمَلِ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ: مَشْهَدُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، وَسَيْرُ صَاحِبِهِ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ: مَشْهَدُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ، فَالْحُرِّيَّةُ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا: هِيَ عَدَمُ الدُّخُولِ تَحْتَ عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَالنَّفْسِ، وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ وَحْدَهُ.
وَمُرَادُهُمْ بِالرَّسْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ، فَكُلُّهُ رُسُومٌ. فَإِنَّ الرُّسُومَ هِيَ الْآثَارُ. وَرُسُومُ الْمَنَازِلِ وَالدِّيَارِ: هِيَ الْآثَارُ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ سُكَّانِهَا. وَالْمَخْلُوقَاتُ بِأَسْرِهَا فِي مَنْزِلِ الْحَقِيقَةِ رُسُومٌ وَآثَارٌ لِلْقُدْرَةِ؛ أَيْ فَتُخَلِّصُ نَفْسَكَ مِنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَتَكُونُ بِقَلْبِكَ مَعَ الْقَادِرِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. لَا مَعَ آثَارِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُومٌ. فَلَا تَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ لِتَشْغَلَهَا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَلَا تَطْلُبُ بِعُبُودِيَّتِكَ لَهُ حَالًا وَلَا مَقَامًا. وَلَا مُكَاشَفَةً، وَلَا شَيْئًا سِوَاهُ.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: بَذْلُ الْجُهْدِ، وَتَحْكِيمُ الْعِلْمِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.

.فَصْلٌ: [حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ تَوْحِيدُ الْمَطْلُوبِ]:

الْإِخْلَاصُ عَدَمُ انْقِسَامِ الْمَطْلُوبِ.
وَالصِّدْقُ عَدَمُ انْقِسَامِ الطَّلَبِ.
فَحَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ: تَوْحِيدُ الْمَطْلُوبِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ: تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَلَا يُثْمِرَانِ إِلَّا بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ لِلْمُتَابَعَةِ.
فَهَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ أَرْكَانُ السَّيْرِ، وَأُصُولُ الطَّرِيقِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا سُلُوكَهُ وَسَيْرَهُ فَهُوَ مَقْطُوعٌ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَائِرٌ، فَسَيْرُهُ إِمَّا إِلَى عَكْسِ جِهَةِ مَقْصُودِهِ، وَإِمَّا سَيْرُ الْمُقْعَدِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِمَّا سَيْرُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ الْجَمُوحِ. كُلَّمَا مَشَتْ خُطْوَةً إِلَى قُدَّامٍ رَجَعَتْ عَشَرَةً إِلَى الْخَلْفِ.
فَإِنْ عَدَمَ الْإِخْلَاصَ وَالْمُتَابَعَةَ: انْعَكَسَ سَيْرُهُ إِلَى خَلْفٍ. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ وَيُوَحِّدْ طَلَبَهُ: سَارَ سَيْرَ الْمُقَيَّدِ.
وَإِنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ: فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُجَارَى فِي مِضْمَارِ سَيْرِهِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ.
وَهُوَ سَبْكُ الْعُبُودِيَّةِ فِي كِيرِ الِامْتِحَانِ، طَلَبًا لِإِخْرَاجِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَبَثِ وَالْغِشِّ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
التَّهْذِيبُ: مِحْنَةُ أَرْبَابِ الْبِدَايَاتِ. وَهُوَ شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعَ الرِّيَاضَةِ.
يُرِيدُ: أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُبْتَدِي. فَهُوَ لَهُ كَالْمِحْنَةِ. وَطَرِيقَةٌ لِلْمُرْتَاضِ الَّذِي قَدْ مَرَّنَ نَفْسَهُ حَتَّى اعْتَادَتْ قَبُولَهُ، وَانْقَادَتْ إِلَيْهِ.

.[دَرَجَاتُ التَّهْذِيبِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ؛ أَنْ لَا يُخَالِجَهَا جَهَالَةٌ. وَلَا يَشُوبَهَا عَادَةٌ، وَلَا يَقِفَ عِنْدَهَا هِمَّةٌ.
أَيْ: تَخْلِيصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَصْفِيَتُهَا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ: مُخَالَجَةُ الْجَهَالَةِ، وَشَوْبُ الْعَادَةِ، وَوُقُوفُ هِمَّةِ الطَّالِبِ عِنْدَهَا.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مُخَالَطَةُ الْجُهَّالِ. فَإِنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى خَالَطَتِ الْعُبُودِيَّةَ، أَوْرَدَهَا الْعَبْدُ غَيْرَ مَوْرِدِهَا. وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَفَعَلَهَا فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، وَفَعَلَ أَفْعَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا صَلَاحٌ. وَهِيَ إِفْسَادٌ لِخِدْمَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، بِأَنْ يَتَحَرَّكَ فِي مَوْضِعِ السُّكُونِ، أَوْ يَسْكُنَ فِي مَوْضِعِ التَّحَرُّكِ. أَوْ يُفَرِّقَ فِي مَوْضِعِ جَمْعٍ، أَوْ يَجْمَعَ فِي مَوْضِعِ فَرْقٍ، أَوْ يَطِيرَ فِي مَوْضِعِ سَفُوفٍ، أَوْ يُسِفَّ فِي مَوْضِعِ طَيَرَانٍ، أَوْ يُقْدِمَ فِي مَوْضِعِ إِحْجَامٍ، أَوْ يُحْجِمَ فِي مَوْضِعِ إِقْدَامٍ، أَوْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ وُقُوفٍ، أَوْ يَقِفَ فِي مَوْضِعِ تَقَدُّمٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَكَاتِ، الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ الْخِدْمَةِ كَحَرَكَاتِ الثَّقِيلِ الْبَغِيضِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ.
فَالْخِدْمَةُ مَا لَمْ يَصْحَبْهَا عِلْمٌ ثَانٍ بِآدَابِهَا وَحُقُوقِهَا، غَيْرُ الْعِلْمِ بِهَا نَفْسِهَا، كَانَتْ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُبْعِدَ صَاحِبَهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَا التَّقَرُّبَ. وَلَا يَلْزَمُ حُبُوطُ ثَوَابِهَا وَأَجْرِهَا فَهِيَ إِنْ لَمْ تُبْعِدْهُ عَنِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أَبْعَدَتْهُ عَنِ الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبَةِ. وَلَا تَنْفَصِلُ مَسَائِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَمَحَبَّةٍ تَامَّةٍ لَهُ، وَمَعْرِفَةٍ بِالنَّفْسِ وَمَا مِنْهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: شَوْبُ الْعَادَةِ: وَهُوَ أَنْ يُمَازِجَ الْعُبُودِيَّةَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ عَوَائِدِ النَّفْسِ تَكُونُ مُنَفِّذَةً لَهَا، مُعِينَةً عَلَيْهَا، وَصَاحِبُهَا يَعْتَقِدُهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً، كَمَنِ اعْتَادَ الصَّوْمَ- مَثَلًا- وَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ. فَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ، وَصَارَ لَهَا عَادَةً تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ اقْتِضَاءٍ. فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا التَّقَاضِيَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَقَاضِي الْعَادَةِ.
وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا طَاعَةً دُونَ ذَلِكَ، وَأَيْسَرَ مِنْهُ، وَأَتَمَّ مَصْلَحَةً لَمْ تُؤْثِرْهَا إِيثَارَهَا لِمَا اعْتَادَتْهُ وَأَلِفَتْهُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: حَجَجْتُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةً عَلَى التَّجْرِيدِ، فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مَشُوبًا بِحَظِّي. وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرْعَةَ مَاءٍ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي. فَعَلِمْتُ أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَ بِحَظِّ نَفْسِي وَإِرَادَتِهَا. إِذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فَانِيَةً لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقٌّ فِي الشَّرْعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: وُقُوفُ هِمَّتِهِ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ ضَعْفِهَا وَقُصُورِهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْضَ لَا تَقِفُ هِمَّتُهُ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. بَلْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ هِيَ طَالِبَةٌ لِرِضَا مَخْدُومِهِ. فَهُوَ دَائِمًا مُسْتَصْغِرٌ خِدْمَتَهُ لَهُ. لَيْسَ وَاقِفًا عِنْدَهَا. وَالْقَنَاعَةُ تُحْمَدُ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهَا عَيْنُ الْحِرْمَانِ. فَالْمُحِبُّ لَا يَقْنَعُ بِشَيْءٍ دُونَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُ هِمَّةِ الْعَبْدِ مَعَ خِدْمَتِهِ وَأُجْرَتِهَا: سُقُوطٌ فِيهَا وَحِرْمَانٌ.

.[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَهْذِيبُ الْحَالِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَهْذِيبُ الْحَالِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى عِلْمٍ، وَلَا يَخْضَعَ لِرَسْمٍ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى حَظٍّ.
أَمَّا جُنُوحُ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ حُكْمُهُ فَهُوَ نَوْعَانِ: مَمْدُوحٌ، وَمَذْمُومٌ.
فَالْمَمْدُوحُ: الْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ، وَإِصْغَاؤُهُ إِلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، فَمَتَى لَمْ يَجْنَحْ إِلَيْهِ هَذَا الْجُنُوحَ كَانَ حَالًا مَذْمُومًا. نَاقِصًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ. فَإِنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَصْحَبُهُ عِلْمٌ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ ثُغُورَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ اللَّهِ كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ كُلَّ مَطْرَدٍ؛ حَيْثُ لَمْ يُحَكِّمُوا عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ صَفْحًا، حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ- لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ- فَقَالَ الْجُنَيْدُ: إِنَّ هَذَا كَلَامُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ. وَهُوَ عِنْدِي عَظِيمَةٌ. وَالَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا. فَإِنَّ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ أَخَذُوا الْأَعْمَالَ عَنِ اللَّهِ. وَإِلَيْهِ رَجَعُوا فِيهَا. وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أُنْقِصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بِي دُونَهَا.
وَقَالَ: الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي طَرِيقِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَنَا وَعِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَالَ: عِلْمُنَا هَذَا مَشِيدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ: أَنَّ أَحْكَامَ الْعِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَتَدْعُو إِلَيْهِ. وَأَحْكَامَ الْحَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْكَشْفِ. وَصَاحِبُ الْحَالِ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَيْسَتْ فِي طَوْرِ الْعِلْمِ. فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا مِيزَانَ الْعِلْمِ وَمِعْيَارَهُ، تَعَارَضَ عِنْدِهِ الْعِلْمُ وَالْحَالُ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِبْطَالِ. فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ أَحْوَالُ الْكَشْفِ، ثُمَّ جَنَحَ إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ. فَقَدْ رَجَعَ الْقَهْقَرِى، وَتَأَخَّرَ فِي سَيْرِهِ إِلَى وَرَاءَ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَارِدَ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ سُمٌّ نَاقِعٌ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ كَإِخْرَاجِ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ رُوحُ الْعِلْمِ. وَالْحَالُ الصَّحِيحُ هُوَ رُوحُ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ. فَكُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ نَتِيجَةَ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ مُطَابِقًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الْفَاجِرَةِ. وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الرُّوحِ أَحْوَالٌ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَرْتَبَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَنَازِلِهَا. فَمَتَى عَارَضَ الْحَالَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ، فَذَلِكَ الْحَالُ إِمَّا فَاسِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ. وَلَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا أَبَدًا.
فَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ، وَالْعِلْمُ الْمُسْتَقِيمُ: هُمَا مِيزَانُ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْحَالِ الصَّحِيحِ، وَهُمَا كَالْبَدَنَيْنِ لِرُوحَيْهِمَا.
فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى الْعِلْمِ أَنَّ الْعِلْمَ يَدْعُو إِلَى التَّفْرِقَةِ دَائِمًا. وَالْحَالُ يَدْعُو إِلَى الْجَمْعِيَّةِ. وَالْقَلْبُ بَيْنَ هَذَيْنِ الدَّاعِيَيْنِ. فَهُوَ يُجِيبُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً. فَتَهْذِيبُ الْحَالِ وَتَصْفِيَتُهُ: أَنْ يُجِيبَ دَاعِيَ الْحَالِ لَا دَاعِيَ الْعِلْمِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إِعْرَاضُهُ عَنِ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْعِلْمِ، مُحَكِّمٌ لَهُ، مُسْتَسْلِمٌ لَهُ، غَيْرُ مُجِيبٍ لِدَاعِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. بَلْ هُوَ مُجِيبٌ لِدَاعِي الْحَالِ وَالْجَمْعِيَّةِ، آخِذٌ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُصَحِّحُ لَهُ حَالَهُ وَجَمْعِيَّتَهُ، غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِيهِ اسْتِغْرَاقَ مَنْ هُوَ مُطْرِحٌ هِمَّتَهُ وَغَايَةَ مَقْصِدِهِ، لَا مَطْلُوبَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَا مُرَادَ لَهُ إِلَّا إِيَّاهُ. فَالْعِلْمُ عِنْدَهُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ. وَطَرِيقٌ تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيْهِ. يَدْعُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ يُجِيبُ دَاعِيَهُ لِلدَّلَالَةِ وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَقْصِدِهِ، وَمَطْلَبِهِ مِنْ سَيْرِهِ وَسَفَرِهِ وَبَاعِثِ هِمَّتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَوْطَانِهِ وَمُرَبَّاهُ، وَمِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَخُلَطَائِهِ. الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الِاغْتِرَابِ. وَالتَّفَرُّدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ: هُوَ الْمَسِيرُ لَهُ، وَالْمُحَرِّكُ وَالْبَاعِثُ. فَلَا يَجْنَحُ عَنْ دَاعِيهِ إِلَى اشْتِغَالِهِ بِجُزَيْئَاتِ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ. وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ.
فَهَذَا مَقْصِدُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- لَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.