فصل: فَصْلٌ: (مَعْنَى التَّوَكُّلِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [مَعْنَى التَّوَكُّلِ]:

فَلْنَذْكُرْ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتِهِ. وَمَا قِيلَ فِيهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ. لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَيَقُولُ: هُوَ عِلْمُ الْقَلْبِ بِكِفَايَةِ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالسُّكُونِ وَخُمُودِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ. فَيَقُولُ: التَّوَكُّلُ هُوَ انْطِرَاحُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، كَانْطِرَاحِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ بِقَلْبِهِ كَيْفَ يَشَاءُ. وَهُوَ تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ مَجَارِي الْأَقْدَارِ.
قَالَ سَهْلٌ: التَّوَكُّلُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ اللَّهِ مَعَ مَا يُرِيدُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالرِّضَا. فَيَقُولُ: هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ.
قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ.
وَسُئِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا؟ فَقَالَ: إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: التَّوَكُّلُ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيكَ انْزِعَاجٌ إِلَى الْأَسْبَابِ، مَعَ شِدَّةٍ فَاقَتِكَ إِلَيْهَا، وَلَا تَزُولُ عَنْ حَقِيقَةِ السُّكُونِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُقُوفِكَ عَلَيْهَا.
قَالَ ذُو النُّونِ: هُوَ تَرْكُ تَدْبِيرِ النَّفْسِ، وَالِانْخِلَاعِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ. وَإِنَّمَا يَقْوَى الْعَبْدُ عَلَى التَّوَكُّلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ وَيَرَى مَا هُوَ فِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ أَنْ تَرِدَ عَلَيْكَ مَوَارِدُ الْفَاقَاتِ، فَلَا تَسْمُوَ إِلَّا إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْكِفَايَاتُ.
وَقِيلَ: نَفْيُ الشُّكُوكِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَى مَالِكِ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: خَلْعُ الْأَرْبَابِ وَقَطْعُ الْأَسْبَابِ.
يُرِيدُ قَطْعَهَا مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا، لَا مِنْ مُلَابَسَةِ الْجَوَارِحِ لَهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ أَوْ أُمُورٍ.
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: التَّوَكُّلُ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ.
يُرِيدُ: حَرَكَةَ ذَاتِهِ فِي الْأَسْبَابِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَسُكُونًا إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَرُكُونًا إِلَيْهِ. وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ مَعَهُ. وَلَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهُ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضَاهُ.
وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ: هُوَ طَرْحُ الْبَدَنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الْكِفَايَةِ. فَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ. وَإِنْ مُنِعَ صَبَرَ.
فَجَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ: الْقِيَامِ بِحَرَكَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِتَدْبِيرِ الرَّبِّ، وَسُكُونِهِ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لَهُ، وَشُكْرِهِ إِذَا أَعْطَى، وَصَبْرِهِ إِذَا مَنَعَ.
قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ بِكَمَالِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ بِاللَّهِ. فَلَمْ يَرَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ.
وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ. فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ.
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ. وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ.
فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ. فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: هُوَ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ وَقَوْلُ سَهْلٍ أَبْيَنُ وَأَرْفَعُ.
وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ قَطْعُ عَلَائِقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ.
وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنِ التَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَلَاقَةٍ.
وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ هَجْرُ الْعَلَائِقِ، وَمُوَاصَلَةُ الْحَقَائِقِ.
وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكَ الْإِكْثَارُ وَالْإِقْلَالُ.
وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَآثَارِهِ، لَا أَنَّهُ حَقِيقَتُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ كُلِّ سَبَبٍ يُوَصِّلُكَ إِلَى مُسَبِّبٍ، حَتَّى يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ.
وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ. فَتَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورُ بِهَا قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ. وَقَدْ تَوَلَّى الْحَقُّ إِيصَالَ الْعَبْدِ بِهَا. وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ تَرْكَهَا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهَا مَصْلَحَةً فَمَمْدُوحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَذْمُومٌ.
وَقِيلَ: هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ.
يُرِيدُ اسْتِرْسَالَهَا مَعَ الْأَمْرِ، وَبَرَاءَتَهَا مِنْ حَوْلِهَا وَقُوَّتِهَا، وَشُهُودَ ذَلِكَ بِهَا، بَلْ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّوَكُّلُ هُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الرَّبِّ وَقَضَائِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ بِدَايَةً، وَالتَّسْلِيمَ وَاسِطَةً، وَالتَّفْوِيضَ نِهَايَةً.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: التَّوَكُّلُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ التَّفْوِيضُ. فَالْمُتَوَكِّلُ يَسْكُنُ إِلَى وَعْدِهِ، وَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ، وَصَاحِبُ التَّفْوِيضِ يَرْضَى بِحُكْمِهِ. فَالتَّوَكُّلُ بِدَايَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ وَاسِطَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ نِهَايَةٌ. فَالتَّوَكُّلُ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ. وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ الْمُوَحِّدِينَ.
التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْعَوَامِّ. وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْخَوَاصِّ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ.
التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الدَّقَّاقِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّوَكُّلِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ الرَّجُلُ عَلَى وَكِيلِهِ مَعَ نَوْعِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَإِرَادَةٍ وَشَائِبَةِ مُنَازَعَةٍ. فَإِذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ. وَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ. وَحَالُ الْمُفَوَّضِ فَوْقَ هَذَا. فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُرِيدٌ مِمَّنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، مُلْتَمِسٌ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ. فَهُوَ رِضًا وَاخْتِيَارٌ، وَتَسْلِيمٌ وَاعْتِمَادٌ، فَالتَّوَكُّلُ يَنْدَرِجُ فِي التَّسْلِيمِ، وَهُوَ وَالتَّسْلِيمُ يَنْدَرِجَانِ فِي التَّفْوِيضِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.[حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ]:

.فَصْلٌ: [الْأُولَى مَعْرِفَةُ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ]:

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ حَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ، لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِهَا. وَكُلٌّ أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَعْرِفَةٌ بِالرَّبِّ وَصِفَاتِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى عِلْمِهِ، وَصُدُورِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ يَضَعُ بِهَا الْعَبْدُ قَدَمَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ.
قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ فَيْلَسُوفٍ. وَلَا مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوَكُّلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ.
فَأَيُّ تَوَكُّلٍ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعُمُّ جُزَيْئَاتِ الْعَالِمِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ؟ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ بِاخْتِيَارِهِ؟ وَلَا لَهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ. وَلَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ؟ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ كَانَ تَوَكُّلُهُ أَصَحَّ وَأَقْوَى. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ]:

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ.
فَإِنَّ مَنْ نَفَاهَا فَتَوَكُّلُهُ مَدْخُولٌ. وَهَذَا عَكْسُ مَا يَظْهَرُ فِي بَدَوَاتِ الرَّأْيِ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ نَفْيَهَا تَمَامُ التَّوَكُّلِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْأَسْبَابِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَوَكُّلٌ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي حُصُولِ الْمُتَوَكَّلِ فِيهِ. فَهُوَ كَالدُّعَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَبْدُ أَنَّ تَوَكُّلَهُ لَمْ يَنْصِبْهُ اللَّهُ سَبَبًا. وَلَا جَعْلَ دُعَاءَهُ سَبَبًا لِنَيْلِ شَيْءٍ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ فِيهِ الْمَدْعُوَّ بِحُصُولِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ حَصَلَ، تَوَكَّلَ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَحْصُلْ، تَوَكَّلَ أَيْضًا أَوْ تَرَكَ التَّوَكُّلَ.
وَصَرَّحَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا فَائِدَةَ لَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ. وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ. وَمِنْ غُلَاتِهِمْ مَنْ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ؛ إِذْ هُوَ مَضْمُونُ الْحُصُولِ.
وَرَأَيْتُ بَعْضَ مُتَعَمِّقِي هَؤُلَاءِ- فِي كِتَابٍ لَهُ- لَا يُجَوِّزُ الدُّعَاءَ بِهَذَا. وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ تِلَاوَةً لَا دُعَاءً. قَالَ: لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الشَّكَّ فِي وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ شَكٌّ فِي خَبَرِ اللَّهِ. فَانْظُرْ إِلَى مَا قَادَ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَتَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالدُّعَاءِ بِهِ وَبِطَلَبِهِ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ- مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْآنَ- يَدْعُونَ بِهِ فِي مَقَامَاتِ الدُّعَاءَ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الدَّعَوَاتِ.
وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِحُصُولِ الشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ. فَنَصَبَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ.
وَقَضَى اللَّهُ بِحُصُولِهِ إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ سَبَبَهُ. فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ امْتَنَعَ الْمُسَبَّبُ. وَهَذَا كَمَا قَضَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ مَنْ يُحِبُّهَا. فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ لَمْ يُخْلَقِ الْوَلَدُ.
وَقَضَى بِحُصُولِ الشِّبَعِ إِذَا أَكَلَ، وَالرِّيِّ إِذَا شَرِبَ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشْبَعْ وَلَمْ يُرْوَ.
وَقَضَى بِحُصُولِ الْحَجِّ وَالْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ الطَّرِيقَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَكَّةَ.
وَقَضَى بِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِذَا أَسْلَمَ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَإِذَا تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَبَدًا.
وَقَضَى بِإِنْضَاجِ الطَّعَامِ بِإِيقَادِ النَّارِ تَحْتَهُ.
وَقَضَى بِطُلُوعِ الْحُبُوبِ الَّتِي تُزْرَعُ بِشَقِّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا. فَمَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا الْخَيْبَةُ.
فَوِزَانُ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ: أَنْ يَتْرُكَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبَبَ الْمُوصِّلَ. وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ قُضِيَ لِي وَسَبَقَ فِي الْأَزَلِ حُصُولُ الْوَلَدِ، وَالشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْحَجُّ وَنَحْوُهَا. فَلَابُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ، تَحَرَّكْتُ أَوْ سَكَنْتُ، وَتَزَوَّجْتُ أَوْ تَرَكْتُ، سَافَرْتُ أَوْ قَعَدْتُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُضِيَ لِي لَمْ يَحْصُلْ لِي أَيْضًا، فَعَلْتُ أَوْ تَرَكْتُ.
فَهَلْ يَعُدُّ أَحَدٌ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ؟ وَهَلِ الْبَهَائِمُ إِلَّا أَفْقَهُ مِنْهُ؟ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تَسْعَى فِي السَّبَبِ بِالْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ.
فَالتَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ. وَلَكِنَّ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمَ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعَ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا؛ فَيَكُونُ حَالُ قَلْبِهِ قِيَامَهُ بِاللَّهِ لَا بِهَا. وَحَالُ بَدَنِهِ قِيَامَهُ بِهَا.
فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَدِينِهِ. وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ. وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ]:

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ.
فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَوَكُّلُ الْعَبْدِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ تَوْحِيدُهُ. بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ. فَمَا دَامَتْ فِيهِ عَلَائِقُ الشِّرْكِ، فَتَوَكُّلُهُ مَعْلُولٌ مَدْخُولٌ. وَعَلَى قَدْرِ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ تَكُونُ صِحَّةُ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ أَخَذَ ذَلِكَ الِالْتِفَاتُ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ قَلْبِهِ. فَنَقَصَ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ بِقَدْرِ ذَهَابِ تِلْكَ الشُّعْبَةِ وَمِنْ هَاهُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا حَقٌّ. لَكِنَّ رَفْضَهَا عَنِ الْقَلْبِ لَا عَنِ الْجَوَارِحِ. فَالتَّوَكُّلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ عَنِ الْقَلْبِ، وَتَعَلُّقِ الْجَوَارِحِ بِهَا. فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مِنْهَا مُتَّصِلًا بِهَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ]:

الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ.
بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ اضْطِرَابٌ مِنْ تَشْوِيشِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سُكُونٍ إِلَيْهَا، بَلْ يَخْلَعُ السُّكُونَ إِلَيْهَا مِنْ قَلْبِهِ. وَيَلْبَسُهُ السُّكُونُ إِلَى مُسَبِّبِهَا.
وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَالِي بِإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا. وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ وَيَخْفُقُ عِنْدَ إِدْبَارِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، وَإِقْبَالِ مَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى اللَّهِ، وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِنَادَهُ إِلَيْهِ، قَدْ حَصَّنَهُ مِنْ خَوْفِهَا وَرَجَائِهَا. فَحَالُهُ حَالَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عَدُوٌّ عَظِيمٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ. فَرَأَى حِصْنًا مَفْتُوحًا، فَأَدْخَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ. وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحِصْنِ. فَهُوَ يُشَاهِدُ عَدُوَّهُ خَارِجَ الْحِصْنِ. فَاضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَخَوْفُهُ مِنْ عَدُوِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا مَعْنَى لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ مَلِكٌ دِرْهَمًا، فَسَرَقَ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: عِنْدِي أَضْعَافُهُ. فَلَا تَهْتَمَّ. مَتَى جِئْتُ إِلَيَّ أَعْطَيْتُكَ مِنْ خَزَائِنِي أَضْعَافَهُ. فَإِذَا عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِ الْمَلِكِ، وَوَثِقَ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَزَائِنَهُ مَلِيئَةٌ بِذَلِكَ- لَمْ يُحْزِنْهُ فَوْتُهُ.
وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِحَالِ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ فِي اعْتِمَادِهِ وَسُكُونِهِ. وَطُمَأْنِينَتُهُ بِثَدْيِ أُمِّهِ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ. وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْمُتَوَكِّلُ كَالطِّفْلِ. لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا ثَدْيَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ الْمُتَوَكِّلُ لَا يَأْوِي إِلَّا إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]:

الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَعَلَى قَدْرِ حُسْنِ ظَنِّكَ بِرَبِّكَ وَرَجَائِكَ لَهُ. يَكُونُ تَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّوَكُّلَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ، وَلَا التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ لَا تَرْجُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ: اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لِلَّهِ]:

الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ: اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لَهُ، وَانْجِذَابُ دَوَاعِيهِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَقَطْعُ مُنَازَعَاتِهِ.
وَبِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ قَالَ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ، يُقَلِّبُهُ كَيْفَ أَرَادَ، لَا يَكُونُ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: التَّوَكُّلُ إِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ. يَعْنِي الِاسْتِسْلَامَ لِتَدْبِيرِ الرَّبِّ لَكَ. وَهَذَا فِي غَيْرِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. بَلْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِكَ. لَا فِيمَا أَمَرَكَ بِفِعْلِهِ.
فَالِاسْتِسْلَامُ كَتَسْلِيمِ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ نَفْسَهُ لِسَيِّدِهِ، وَانْقِيَادِهِ لَهُ، وَتَرْكِ مُنَازَعَاتِ نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا مَعَ سَيِّدِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ: التَّفْوِيضُ]:

الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ: التَّفْوِيضُ.
وَهُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ التَّفْوِيضُ وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ. وَهُوَ إِلْقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْزَالُهَا بِهِ طَلَبًا وَاخْتِيَارًا، لَا كَرْهًا وَاضْطِرَارًا. بَلْ كَتَفْوِيضِ الِابْنِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الْمَغْلُوبِ عَلَى أَمْرِهِ: كُلَّ أُمُورِهِ إِلَى أَبِيهِ، الْعَالِمِ بِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَمَامِ كِفَايَتِهِ، وَحُسْنِ وِلَايَتِهِ لَهُ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَدْبِيرَ أَبِيهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِيَامَهُ بِمَصَالِحِهِ وَتَوَلِّيَهُ لَهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِهِ هُوَ بِمَصَالِحَ نَفْسِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا. فَلَا يَجِدُ لَهُ أَصْلَحَ وَلَا أَرْفَقَ مِنْ تَفْوِيضِهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا إِلَى أَبِيهِ، وَرَاحَتِهِ مِنْ حَمْلِ كُلَفِهَا وَثِقَلِ حِمْلِهَا، مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، وَجَهْلِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا، وَعِلْمِهِ بِكَمَالِ عَلَمِ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، وَقُدْرَتِهِ وَشَفَقَتِهِ.

.فَصْلٌ: [ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ]:

فَإِذَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ. انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الرِّضَا.
وَهِيَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ. وَمَنْ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِهَا فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِأَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ، وَأَعْظَمِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَكَّلَ حَقَّ التَّوَكُّلِ رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ.
وَكَانَ شَيْخُنَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: الْمَقْدُورُ يَكْتَنِفُهُ أَمْرَانِ: التَّوَكُّلُ قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَرَضِيَ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَقَدْ قَامَ بِالْعُبُودِيَّةِ. أَوْ مَعْنَى هَذَا.
قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ. فَهَذَا تَوَكُّلٌ وَتَفْوِيضٌ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَتَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. فَهَذَا تَبَرُّؤٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ مَا تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِهَا الْمُتَوَسِّلُونَ. ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، وَأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَضَرَّتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا. فَهَذَا هُوَ حَاجَتُهُ الَّتِي سَأَلَهَا. فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا الرِّضَا بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ. فَقَالَ: وَاقَدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ».
فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ، الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ، قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ. وَهُوَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ. وَالتَّفْوِيضُ عَلَامَةُ صِحَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قُضِيَ لَهُ، فَتَفْوِيضُهُ مَعْلُولٌ فَاسِدٌ.
فَبِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّمَانِي يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ، وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْنَىقَوْلِ بِشْرٍ الْحَافِي: يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَوْلِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا؟ فَقَالَ: إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا.

.فَصْلٌ: [اشْتِبَاهُ الْمَحْمُودِ الْكَامِلِ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ]:

وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَحْمُودُ الْكَامِلُ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ. فَيَشْتَبِهُ التَّفْوِيضُ بِالْإِضَاعَةِ. فَيُضَيِّعُ الْعَبْدُ حَظَّهُ. ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ تَفْوِيضٌ وَتَوَكُّلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ تَضْيِيعٌ لَا تَفْوِيضٌ. فَالتَّضْيِيعُ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَالتَّفْوِيضُ فِي حَقِّكَ.
وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ التَّوَكُّلِ بِالرَّاحَةِ، وَإِلْقَاءُ حِمْلِ الْكُلِّ. فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ عَلَى عَدَمِ الرَّاحَةِ.
وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُجْتَهِدٌ فِي الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، مُسْتَرِيحٌ مِنْ غَيْرِهَا لِتَعَبِهِ بِهَا. وَالْعَامِلُ عَلَى الرَّاحَةِ آخِذٌ مِنَ الْأَمْرِ مِقْدَارَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَتَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الشَّرْعِ. فَهَذَا لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ.
وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ خَلْعِ الْأَسْبَابِ بِتَعْطِيلِهَا. فَخَلْعُهَا تَوْحِيدٌ، وَتَعْطِيلُهَا إِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ. فَخَلْعُهَا عَدَمُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا، وَوُثُوقِهِ وَرُكُونِهِ إِلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِهَا. وَتَعْطِيلُهَا إِلْغَاؤُهَا عَنِ الْجَوَارِحِ.
وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ بِالْغُرُورِ وَالْعَجْزِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَوَثِقَ بِاللَّهِ فِي طُلُوعِ ثَمَرَتِهِ، وَتَنْمِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، كَغَارِسِ الشَّجَرَةِ، وَبَاذِرِ الْأَرْضِ. وَالْمُغْتَرُّ الْعَاجِزُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَاثِقٌ بِاللَّهِ. وَالثِّقَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ.
وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى اللَّهِ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ، بِالطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الْمَعْلُومِ، وَسُكُونِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ. كَمَا يُذْكَرُعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِمَكَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَّا شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. فَمَضَى عَلَيْهِ أَيَّامٌ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا: أَرَأَيْتَ لَوْ غَارَتْ زَمْزَمُ، أَيُّ شَيْءٍ كُنْتَ تَشْرَبُ؟ فَقَامَ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، حَيْثُ أَرْشَدْتَنِي. فَإِنِّي كُنْتُ أَعْبُدَ زَمْزَمَ مُنْذُ أَيَّامٍ. ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى.
وَأَكْثَرُ الْمُتَوَكِّلِينَ سُكُونُهُمْ وَطُمَأْنِينَتُهُمْ إِلَى الْمَعْلُومِ. وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ مَعْلُومُ أَحَدِهِمْ حَضَرَهُ هَمُّهُ وَبَثُّهُ وَخَوْفُهُ. فَعَلِمَ أَنَّ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى اللَّهِ.
وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ- مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ- بِالْعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِهِ. وَذَلِكَ شَيْءٌ وَالْحَقِيقَةُ شَيْءٌ آخَرُ. كَمَا يُحْكَىعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أُعْطِيتُ طَرَفًا مِنَ الرِّضَا، لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ بِذَلِكَ رَاضِيًا.
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: هَذَا عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا وَحَدِيثُ نَفْسٍ بِهِ. وَلَوْ أَدْخَلَهُ النَّارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الشَّيْءِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ.
وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ عِلْمِ التَّوَكُّلِ بِحَالِ التَّوَكُّلِ. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ وَحَقِيقَتَهُ وَتَفَاصِيلَهُ. فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ. وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّوَكُّلِ. فَحَالُ التَّوَكُّلِ أَمْرٌ آخَرُ مِنْ وَرَاءِ الْعِلْمِ بِهِ. وَهَذَا كَمَعْرِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِهَا وَأَسْبَابِهَا وَدَوَاعِيهَا. وَحَالُ الْمُحِبِّ الْعَاشِقِ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَكَمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْخَوْفِ، وَحَالُ الْخَائِفِ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَرِيضِ مَاهِيَّةَ الصِّحَّةِ وَحَقِيقَتَهَا وَحَالُهُ بِخِلَافِهَا.
فَهَذَا الْبَابُ يَكْثُرُ اشْتِبَاهُ الدَّعَاوِي فِيهِ بِالْحَقَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ بِالْمَطَالِبِ، وَالْآفَاتِ الْقَاطِعَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.