فصل: فَصْلٌ: الْمُعَايَنَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْمُعَايَنَةِ:

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: بَابُ الْمُعَايَنَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}.
قُلْتُ: الْمُعَايَنَةُ حَقِيقَتُهَا مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِيَانِ، وَأَصْلُهَا مِنَ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، يُقَالُ: عَايَنَهُ إِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: شَافَهَهُ إِذَا كَلَّمَهُ شِفَاهًا، وَوَاجَهَهُ إِذَا قَابَلَهُ بِوَجْهِهِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ بَشَرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} فَالرُّؤْيَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى نَفْسِ مَدِّ الظِّلِّ، لَا عَلَى الَّذِي مَدَّهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} فَهَاهُنَا أَوْقَعَ الرُّؤْيَةَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، وَفِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أَوْقَعَهَا فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ: فِعْلُهُ مِنْ مَدِّ الظِّلِّ، هَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ بَيِّنٌ مَعْنَاهُ، غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَلَا مُجْمَلٍ، كَمَا قِيلَ فِي الْعُزَّى:
كُفْرَانَكَ الْيَوْمَ لَا سُبْحَــانَكَ ** إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَـــكَ

وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، يَقُولُونَ: رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَالْمُرَادُ رَأَيْتُ فِعْلَهُ، فَالْعِيَانُ وَالرُّؤْيَةُ: وَاقِعٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا عَلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ وَصِفَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ.

.فَصْلٌ: [أَنْوَاعُ الْمُعَايَنَةِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمُعَايَنَةُ ثَلَاثٌ دَرَجَاتُ الْمُعَايَنَةِ. إِحْدَاهَا: مُعَايَنَةُ الْأَبْصَارِ. الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ عَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، عِلْمًا يَقْطَعُ الرَّيْبَةَ، وَلَا تَشُوبُهُ حَيْرَةٌ. الثَّالِثَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الرُّوحِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا، وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طَهُرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ.
جَعَلَ الشَّيْخُ الْمُعَايَنَةَ لِلْعَيْنِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مُعَايَنَةٍ مِنْهَا حُكْمًا.
فَمُعَايَنَةُ الْعَيْنِ الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ: هِيَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ عِيَانًا، إِمَّا بِانْطِبَاعِ صُورَةِ الْمَرْئِيِّ فِي الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ، عِنْدَ أَصْحَابِ الِانْطِبَاعِ، وَإِمَّا بِاتِّصَالِ الشُّعَاعِ الْمُنْبَسِطِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَرْئِيِّ، عِنْدَ أَصْحَابِ الشُّعَاعِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لَا تَخْلُو عَنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، وَالْحَقُّ شَيْءٌ غَيْرُهَا، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، كَمَا جَعَلَ فِي الْأُذُنِ قُوَّةً سَامِعَةً، وَفِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً نَاطِقَةً وَقُوَّةً ذَائِقَةً، فَهَذِهِ قُوًى أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَجَعَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا رَابِطَةً، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا مِنْ خَارِجٍ، وَمَوَانِعَ تَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ انْطِبَاعٍ، وَمُقَابَلَةٍ، وَشُعَاعٍ، وَنِسْبَةٍ، وَإِضَافَةٍ: فَهُوَ سَبَبٌ وَشَرْطٌ، وَالْمُقْتَضَى هُوَ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَحَلِّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ.
وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ: فَهِيَ انْكِشَافُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ لَهُ، بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَلْبَ يُبْصِرُ وَيَعْمَى، كَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ وَكَمَا تَعْمَى، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فَالْقَلْبُ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَيَعْمَى وَيَصِمُّ، وَعَمَاهُ وَصَمَمُهُ أَبْلَغُ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ وَصَمَمِهِ.
وَأَمَّا مَا يُثْبِتُهُ مُتَأَخِّرُو الْقَوْمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ- وَهُوَ رُؤْيَةُ الرُّوحِ، وَسَمْعُهَا وَإِرَادَتُهَا، وَأَحْكَامُهَا، الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ أَحْكَامِ الْقَلْبِ- فَهَؤُلَاءِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مَعْلُومَةً، وَهِيَ: الْبَدَنُ، وَرُوحُهُ الْقَائِمُ بِهِ، وَالْقَلْبُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ إِلَى الْأُذُنِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى تِلْكَ الْقُوَّةُ قَلْبًا، كَمَا تُسَمَّى الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بَصَرًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وَلَمْ يُرِدْ شَكْلَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقُوَّةَ وَالْغَرِيزَةَ الْمُودَعَةَ فِيهِ.
وَالرُّوحُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْقُوَى كُلِّهَا، فَلَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ وَلَا لِقُوَاهُ إِلَّا بِهَا، وَلَهَا- بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهَا إِلَى كُلِّ مَحَلٍّ- حُكْمٌ وَاسْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْبَصَرِ سُمِّيَتْ بَصَرًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ السَّمْعِ سُمِّيَتْ سَمْعًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْعَقْلِ- وَهُوَ الْقَلْبُ- سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، هِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رُوحٌ.
فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ وَالْعَاقِلَةُ وَالسَّامِعَةُ وَالنَّاطِقَةُ رُوحٌ بَاصِرَةٌ وَسَامِعَةٌ وَعَاقِلَةٌ وَنَاطِقَةٌ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْعَاقِلُ، الْفَاهِمُ الْمُدْرِكُ، الْمُحِبُّ الْعَارِفُ، الْمُحَرِّكُ لِلْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً وَنَفْسًا لَوَّامَةً، وَنَفْسًا أَمَّارَةً، وَلَيْسَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَهُمْ يُشِيرُونَ بِالنَّفْسِ إِلَى الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَتْهُ نَفْسُهُ لَمَاتَ، وَلَكِنْ يُرِيدُونَ تَجَرُّدَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ.
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَلَطَّفَتْ وَفَارَقَتِ الرَّذَائِلَ صَارَتْ رُوحًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تُعْدَمْ، وَيُخْلَقُ لَهُ مَكَانَهَا رُوحٌ لَمْ تَكُنْ، وَلَكِنْ عُدِمَتْ مِنْهَا الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، وَصَارَتْ مَكَانَهَا الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ، فَسُمِّيَتْ رُوحًا.
وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مُجَرَّدٌ، وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا نَفْسًا فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا- أَمَّارَةً، وَلَوَّامَةً، وَمُطْمَئِنَّةً- قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ أَنْفُسِ الْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ- مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، بَرَّةً أَوْ فَاجِرَةً- كَقَوْلِهِ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ»، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ وَصِفَتِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَسَمَّى الْمَقْبُوضَ رُوحًا كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ نَفْسًا وَهَذَا الْمَقْبُوضُ وَالْمُتَوَفَّى شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَا ثَلَاثَةٌ وَلَا اثْنَانِ، وَإِذَا قُبِضَ تَبِعَتْهُ الْقُوَى كُلُّهَا الْعَقْلُ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَامِلَ الْجَمِيعِ وَمَرْكَبِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُعَايَنَةُ نَوْعَانِ: مُعَايَنَةُ بَصَرٍ، وَمُعَايَنَةُ بَصِيرَةٍ، فَمُعَايَنَةُ الْبَصَرِ: وُقُوعُهُ عَلَى نَفْسِ الْمَرْئِيِّ، أَوْ مِثَالِهِ الْخَارِجِيِّ، كَرُؤْيَةِ مِثَالِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ، وَمُعَايَنَةُ الْبَصِيرَةِ: وُقُوعُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْخَارِجِيِّ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ لِلصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ، وَقَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ هَذَا الْإِدْرَاكِ الْبَاطِنِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، وَيَقْوَى اسْتِحْضَارُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ لِمُدْرِكِهَا، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهِ، فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْقَلْبِ عَلَى حُكْمِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، بِحَيْثُ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُ خِطَابَهُ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ فِي النَّفْسِ وَالذِّهْنِ، لَكِنْ لِغَلَبَةِ الشُّهُودِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَتَمَكُّنِ حُكْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقُوَى، صَارَ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ بِالْعَيْنِ، مَسْمُوعٌ بِالْأُذُنِ، بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ الْمُدْرِكُ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ عَذْلًا.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ عِلْمِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِلْمُعْتَقِدِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكَ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، إِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ شَاهِدَ نُورِ جَلَالِ الذَّاتِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ نُورِ الذَّاتِ الَّذِي لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهَا لَتَدَكْدَكَتْ، وَلَأَصَابَهَا مَا أَصَابَ الْجَبَلَ، وَكَذَلِكَ شَاهِدُ نُورِ الْعَظَمَةِ فِي الْقَلْبِ، إِنَّمَا هُوَ نُورُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا نُورُ نَفْسِ الْمُعَظَّمِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وَلَيْسَ مَعَ الْقَوْمِ إِلَّا الشَّوَاهِدُ، وَالْأَمْثِلَةُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالرَّقَائِقُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ قُرْبِ الْقَلْبِ مِنَ الرَّبِّ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنِ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَى ذَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ ذَاتِهِ، أَوْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ الشَّوَاهِدُ الَّتِي تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَبْدِ، كَمَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِمَا.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمَّا قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ! إِنِّي أَجِدُ وَاللَّهِ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ»، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» فَهُوَ رَوْضَةٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، لِمَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَاهِدِ الْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَهُمْ رَأْيُ عَيْنٍ، وَإِذَا قَعَدَ الْمُنَافِقُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ».
فَالْعَمَلُ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى الشَّوَاهِدِ، وَعَلَى حَسَبِ شَاهِدِ الْعَبْدِ يَكُونُ عَمَلُهُ.
وَنَحْنُ نُشِيرُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إِلَى الشَّوَاهِدِ، إِشَارَةً يُعْلَمُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ.
فَأَوَّلُ شَوَاهِدِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ: أَنْ يَقُومَ بِهِ شَاهِدٌ مِنَ الدُّنْيَا وَحَقَارَتِهَا، وَقِلَّةِ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةِ جَفَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا، وَيَرَى أَهْلَهَا وَعُشَّاقَهَا صَرْعَى حَوْلَهَا، قَدْ بَدَعَتْ بِهِمْ، وَعَذَّبَتْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَذَاقَتْهُمْ أَمَرَّ الشَّرَابِ، أَضْحَكَتْهُمْ قَلِيلًا، وَأَبْكَتْهُمْ طَوِيلًا، سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ سُمِّهَا، بَعْدَ كُؤُوسِ خَمْرِهَا، فَسَكِرُوا بِحُبِّهَا، وَمَاتُوا بِهَجْرِهَا.
فَإِذَا قَامَ بِالْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْهَا: تَرَحَّلَ قَلْبُهُ عَنْهَا، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَدَوَامِهَا، وَأَنَّهَا هِيَ الْحَيَوَانُ حَقًّا، فَأَهْلُهَا لَا يَرْتَحِلُونَ مِنْهَا، وَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، بَلْ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَمَحَطُّ الرِّجَالِ، وَمُنْتَهَى السَّيْرِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي جِبَالِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ النَّارِ، وَصْفُهَا وَتَوَقُّدِهَا وَاضْطِرَامِهَا، وَبُعْدِ قَعْرِهَا، وَشِدَّةِ حَرِّهَا، وَعَظِيمِ عَذَابِ أَهْلِهَا، فَيُشَاهِدُهُمْ وَقَدْ سِيقُوا إِلَيْهَا سُودَ الْوُجُوهِ، زُرْقَ الْعُيُونِ، وَالسَّلَاسِلُ وَالْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهَا فُتِحَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُهَا، فَشَاهَدُوا ذَلِكَ الْمَنْظَرَ الْفَظِيعَ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} فَأَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ إِلَيْهَا يُدْفَعُونَ، وَأَتَى النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَيَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ فِي الْحَمِيمِ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ، وَفِي النَّارِ كَالْحَطَبِ يُسْجَرُونَ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} فَبِئْسَ اللِّحَافُ وَبِئْسَ الْفِرَاشُ، وَإِنِ اسْتَغَاثُوا مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَصَهَرَ مَا فِي بُطُونِهِمْ، شَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، وَطَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: انْخَلَعَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ، وَأَخْصَبَ قَلْبَهُ مِنْ مَطَرِ أَجْفَانِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ فِي غَيْرِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ.
وَعَلَى حَسْبِ قُوَّةِ هَذَا الشَّاهِدِ يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، فَيُذِيبُ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ قَلْبِهِ الْفَضَلَاتِ، وَالْمَوَادَّ الْمُهْلِكَةَ، وَيُنْضِجُهَا ثُمَّ يُخْرِجُهَا، فَيَجِدُ الْقَلْبُ لَذَّةَ الْعَافِيَةِ وَسُرُورِهَا.
فَيَقُومُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَصْفُهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَضْلًا عَمَّا وَصَفَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُفَصَّلِ، الْكَفِيلِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ اللَّذَّةِ، مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالصُّوَرِ، وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ دَارٍ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الدَّائِمَ بِحَذَافِيرِهِ فِيهَا، تُرْبَتُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ، وَبِنَاؤُهَا لَبِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَصَبُ اللُّؤْلُؤِ، وَشَرَابُهَا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الْكَافُورِ، وَأَلَذُّ مِنَ الزَّنْجَبِيلِ، وَنِسَاؤُهَا لَوْ بَرَزَ وَجْهُ إِحْدَاهُنَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَلِبَاسُهُمُ الْحَرِيرُ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَخَدَمُهُمْ وِلْدَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ، وَفَاكِهَتُهُمْ دَائِمَةٌ، لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَفُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَغِذَاؤُهُمْ لَحْمُ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَشَرَابُهُمْ عَلَيْهِ خَمْرَةٌ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ، وَخُضْرَتُهُمْ فَاكِهَةٌ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَشَاهِدُهُمْ حُورُ عِينٍ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، فَهُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَفِي تِلْكَ الرِّيَاضِ يُحْبَرُونَ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذَا الشَّاهِدِ: شَاهِدُ يَوْمِ الْمَزِيدِ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ- ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}- ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ».
فَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الشَّاهِدُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الَّتِي قَبْلَهُ: فَهُنَاكَ يَسِيرُ الْقَلْبُ إِلَى رَبِّهِ أَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الرِّيَاحِ فِي مَهَابِّهَا، فَلَا يَلْتَفِتُ فِي طَرِيقِهِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا.
هَذَا وَفَوْقَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ آخَرُ تَضْمَحِلُّ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ، وَيَغِيبُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْهَا كُلِّهَا، وَهُوَ شَاهِدُ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَعِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ وَعُلُوِّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ وَكَلِمَاتِ تَكْوِينِهِ، وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ.
فَإِذَا شَاهَدَهُ شَاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيُّومًا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، مُرْسِلًا رُسُلَهُ، وَمُنْزِلًا كُتُبَهُ، يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيَرْحَمُ إِذَا اسْتُرْحِمَ، وَيَغْفِرُ إِذَا اسْتُغْفِرَ، وَيُعْطِي إِذَا سُئِلَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُقِيلُ إِذَا اسْتُقِيلَ، أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوْ كَانَتْ قُوَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقُوَّةِ، ثُمَّ نُسِبَتْ تِلْكَ الْقُوَى إِلَى قُوَّةِ الْبَعُوضَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ الْأَسَدِ، وَلَوْ قُدِّرَ جَمَالُ الْخَلْقِ كُلُّهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ بِذَلِكَ الْجَمَالِ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ دُونَ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ كُلُّ الْخَلْقِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ كَنَقْرَةِ عُصْفُورٍ فِي بَحْرٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ، كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَسَائِرُ نُعُوتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، سَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، فَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا وَمَجَارِيَ الْقُوتِ فِي أَعْضَائِهَا، يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَيَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَالْأَرَضِينَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي كَفِّهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ قَامُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.
فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: اضْمَحَلَّتْ فِيهِ الشَّوَاهِدُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْدَمَ، بَلْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِهَذَا الشَّاهِدِ، وَتَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ كُلُّهَا، وَمِنْ هَذَا شَاهِدُهُ فَلَهُ سُلُوكٌ وَسَيْرٌ خَاصٌّ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ عَنْ هَذَا فِي غَفْلَةٍ، أَوْ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ.
فَصَاحِبُ هَذَا الشَّاهِدِ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ وَفِطْرِهِ وَصِيَامِهِ، لَهُ شَأْنٌ وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ، هُوَ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ.
خَلِيلَيَّ لَا وَاللَّهِ مَا أَنَا مِنْكُــمَا ** إِذَا عَلِمَ مِنْ آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعِيَانَ وَالْكَشْفَ وَالْمُشَاهَدَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ الرُّومِ وَسُورَةِ الشُّورَى، وَهُوَ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِ عَابِدِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وَالْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ لَا يَنْحَصِرُ طَرَفَاهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَعْظَمُ النَّاسِ حَظًّا فِي ذَلِكَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ مَا يُثْنِي عَلَيْهِ الْمُثْنُونَ، وَفَوْقَ مَا يَحْمَدُهُ الْحَامِدُونَ، كَمَا قِيلَ:
وَمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَكَ مِدْحَــةً ** وَإِنْ أَطْنَبُوا إِنَّ الَّذِي فِيكَ أَعْظَمُ

لَكَ الْحَمْدُ كُلُّ الْحَمْدِ لَا مَبْدَأَ لَهُ ** وَلَا مُنْتَهَى وَاللَّهُ بِالْحَمْدِ أَعْلَـمُ

وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ، وَنَزَاهَتُهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْإِرَادَاتِ السُّفْلِيَّةِ، وَخُلُوِّهِ وَتَفْرِيغِهِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، هُوَ كُرْسِيُّ هَذَا الشَّاهِدِ، الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَمَقْعَدُهُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ، فَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ مُتَلَوِّثٍ بِالْخَبَائِثِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمُرَادَاتِ السَّافِلَةِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هَذَا الشَّاهِدُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ.
نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَانَا وَائْتِنَـا ** فَجَنَابُنَا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَـــزِّهِ

وَالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ لِكَنْزِ لِقَائِنَــا ** مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمِ فَازَ بِكَنْزِهِ

إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، وَبَاشَرَتْ جَوَانِبُهَا الْأَرْوَاحَ، وَنُورُهَا الْبَصَائِرَ، تَجَلَّتْ بِهَا ظُلُمَاتُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ، وَتَحَرَّكَتْ بِهَا الْأَرْوَاحُ فِي طَلَبِ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَسَافَرَ الْقَلْبُ فِي بَيْدَاءِ الْأَمْرِ، وَنَزَلَ مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ، مَنْزِلًا مَنْزِلًا، فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَزَالُ شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، تُوقِظُهُ إِذَا رَقَدَ، وَتُذَكِّرُهُ إِذَا غَفَلَ، وَتَحْدُو بِهِ إِذَا سَارَ، وَتُقِيمُهُ إِذَا قَعَدَ، إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.
إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ: رَأَى فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا، وَالْكَرَاهَةَ وَالْبُغْضَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَشَاهَدَ الْأَمْرَ نَازِلًا مِمَّنْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ، وَمَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي الْعُقْبَى نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَيَقْدَمُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرَّحْمَةِ: رَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ قَائِمًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَدْ وَسِعَ مَنْ هِيَ صِفَتُهُ كُلُّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَانْتَهَتْ رَحْمَتُهُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُ، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ؛ لِتَسَعَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا وَسِعَ عَرْشُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ: فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ.
وَهَكَذَا جَمِيعُ شَوَاهِدِ الصِّفَاتِ، فَمَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ أَدْنَى تَنْبِيهٍ عَلَيْهَا، فَالْكَشْفُ وَالْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ لَا تَتَجَاوَزُ الشَّوَاهِدَ أَلْبَتَّةَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ.
فَقَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهَا مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، يُرِيدُ بِهِ مَعْرِفَتَهُ عَلَى نَعْتِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، فَكَيْفَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ وَإِنَّ غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ عَلَى نَعْتِهِ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ أَوْ مُفَصَّلٍ تَفْصِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
قَوْلُهُ: عِلْمًا يَقْطَعُ الرِّيبَةَ، وَلَا يَشُوبُهُ حَيْرَةٌ هَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَتَى شَابَهَا رِيبَةٌ أَوْ حَيْرَةٌ: لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ لَوْ شَابَهَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً تَامَّةً، فَالْمَعْرِفَةُ: مَا قَطَعَ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ وَالْوَسْوَاسَ.
قَوْلُهُ: وَالْمُعَايَنَةُ الثَّالِثَةُ: عَيْنُ الرُّوحِ الثَّالِثَةِ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا.
إِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ- أَيْ: تُعَايِنُ مَا هُوَ حَقٌّ، بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ لَهَا كَمَا يَنْكَشِفُ الْمَرْئِيُّ لِلْبَصَرِ- فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ كَلَامَهُ عَلَى قُوَّةِ الْيَقِينِ، وَمَزِيدِ الْإِيمَانِ، وَنُزُولِ الرُّوحِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الرَّبَّ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُعَايِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بَصَرٌ وَلَا رُوحٌ، بَلِ الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ: حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ، لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ.
يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ هَلْ تَفْنَى الْأَرْوَاحُ مَعَ الْجَسَدِ لَا لِلْفَنَاءِ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ فِيهِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ- مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ- الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، لِكَوْنِهَا قُوَّةً مِنْ قُوَاهَا، وَعَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِهَا.
وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مُنْكِرٌ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَالثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعِيدُ قُوَى الْبَدَنِ وَأَعْرَاضَهُ، وَمِنْهَا: الرُّوحُ فَتَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ رُوحٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، تُسَاكِنُ الْبَدَنَ وَتُفَارِقُهُ، وَتَتَّصِلُ بِهِ وَتَنْفَصِلُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَبْدَانِهَا، لَا تَفْنَى وَلَا تُعْدَمُ، وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ رُدَّتْ إِلَى أَبْدَانِهَا، فَتُنَعَّمُ مَعَهَا أَوْ تُعَذَّبُ، وَلَا تُعْدَمُ وَلَا تَفْنَى.
فَقَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِذَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، يُرِيدُ: الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ الزَّكِيَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِتُنَاغِيَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْصَقُ بِالْبَابِ الَّذِي تَرْجَمَهُ بِبَابِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَضْرَةِ: الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَبِالسَّنَا النُّورُ الَّذِي يَلْمَعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وَمُعَايَنَةُ ذَلِكَ: إِنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُعَايِنُ هَاهُنَا: هُوَ نُورُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ.
قَوْلُهُ: وَيُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ الْبَهَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُسْنُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَهِيَ الرَّجُلُ- بِالْكَسْرِ- وَبَهُوَ أَيْضًا. فَهُوَ بَهِيٌّ.
وَالْعِزَّةُ حَقِيقَتُهَا يُرَادُ بِهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: عِزَّةُ الْقُوَّةِ، وَعِزَّةُ الِامْتِنَاعِ، وَعِزَّةُ الْقَهْرِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ الْعِزَّةُ التَّامَّةُ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثِ، وَيُقَالُ مِنَ الْأَوَّلِ: عَزَّ يَعَزُّ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنَ الثَّانِي: عَزَّ يَعِزُّ- بِكَسْرِهَا- وَمِنَ الثَّالِثِ: عَزَّ يَعُزُّ- بِضَمِّهَا- أَعْطُوا أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِأَقْوَى الْمَعَانِي، وَأَخَفَّهَا لِأَخَفِّهَا، وَأَوْسَطَهَا لِأَوْسَطِهَا، وَهَذِهِ الْعِزَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ، إِذِ الشَّرِكَةُ تُنْقِصُ الْعِزَّةَ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي كَمَالَ الْعِزَّةِ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ أَضْدَادِهَا، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ مُمَاثَلَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
فَالرُّوحُ تُعَايِنُ- بِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهَا وَإِيمَانِهَا- بَهَاءَ الْعِزَّةِ وَجَلَالَهَا وَعَظَمَتَهَا، وَهَذِهِ الْمُعَايَنَةُ هِيَ نَتِيجَةُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، فَلَا يَطْمَعُ فِيهَا وَاقِفٌ مَعَ أَقْيِسَةِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَجَدَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَخَيَالَاتِ الْمُتَصَوِّفِينَ.
قَوْلُهُ: وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ، هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ؛ أَيْ: جَانِبِ الْحَضْرَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ- لِقُوَّةِ طَلَبِهَا، وَشِدَّةِ شَوْقِهَا- تَسُوقُ الْقُلُوبَ وَتَجْذِبُهَا إِلَى هُنَاكَ، فَإِنَّ طَلَبَ الرُّوحِ وَسَيْرَهَا أَقْوَى مِنْ طَلَبِ الْقَلْبِ وَسَيْرِهِ، كَمَا كَانَتْ مُعَايَنَتُهَا أَتَمَّ مِنْ مُعَايَنَتِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَأَحْكَامُ الرُّوحِ- عِنْدَهُمْ- فَوْقَ أَحْكَامِ الْقَلْبِ، وَأَخَصُّ مِنْهَا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ مَتَى عَايَنَتِ الْحَقَّ جَذَبَتِ الْقُوَى كُلَّهَا وَالْقَلْبُ إِلَى حَضْرَتِهِ، فَيَنْقَادُ مَعَهَا انْقِيادًا بِلَا اسْتِعْصَاءٍ، بِخِلَافِ جَذْبِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ قَدْ تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ بَعْضَ الِاسْتِعْصَاءِ، وَتَأْبَى شَيْئًا مِنَ الْإِبَاءِ، وَأَمَّا جَذْبُ الرُّوحِ: فَلَا اسْتِعْصَاءَ مَعَهُ وَلَا إِبَاءَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.