فصل: حديث جبريل الحديث به عن عمر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


فصل‏:‏ أذكر فيه بيان حقيقة السحر وحكم الساحر وذكر عقوبة من صدق كاهنا

أي ما عليه من العقوبة شرعا، وأن منه؛ أي من السحر علم التنجيم وهو النظر في النجوم الآتي بيانه، وذكر عقوبة من صدق كاهنا بقلبه؛ ويعني عقوبته الوعيدية‏.‏ والبحث في هذا الفصل في أمور‏:‏

الأول‏:‏ هل السحر حقيقة وقوعه ووجوده أم لا‏.‏

الثاني‏:‏ حكم متعلمه إن عمل به أو لم يعمل‏.‏

الثالث‏:‏ عقوبته شرعا ووعيدا‏.‏

الرابع‏:‏ أنواعه‏.‏

والسحر حق وله تأثير *** لكن بما قدره القدير

أعني بذا التقدير ما قد قدره *** في الكون لا في الشرعة المطهره

هذا هو البحث الأول حقيقته وتأثيره‏:‏

‏(‏والسحر حق‏)‏ يعني متحقق وقوعه ووجوده، ولو لم يكن موجودا حقيقة لم ترد النواهي عنه في الشرع والوعيد على فاعله والعقوبات الدينية والأخروية على متعاطيه والاستعاذة منه أمرا وخبرا‏.‏ وقد أخبر الله تعالى أنه كان موجودا في زمن فرعون وأنه أراد أن يعارض به معجزات نبي الله موسى عليه السلام في العصا بعد أن رماه هو وقومه به بقولهم‏:‏ ‏(‏إن هذا لساحر عليم‏)‏- إلى قوله- ‏(‏يأتوك بكل سحار عليم‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 34- 36‏)‏ وقال تعالى عن السحرة‏:‏ ‏(‏فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 116‏)‏ وقال تعالى فيهم‏:‏ ‏(‏فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏)‏ ‏(‏طه‏:‏ 66- 69‏)‏ يقال‏:‏ إنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا فأخذوا بأبصار الناس بسحرهم وألقوا تلك الحبال والعصي فرآها الناس حيات عظاما ضخاما، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏)‏‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك‏)‏ ‏(‏طه‏:‏ 67- 69‏)‏ يعني العصا ‏(‏تلقف‏)‏ تبتلع ‏(‏ما صنعوا‏)‏؛ أي السحرة أي ما اختلفوا وأتفكوا من الزور والتخييل، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏(‏فإذا هي تلقف ما يأفكون‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 117‏)‏ وهون الله أمرهم على نبيه موسى عليه السلام بقوله سبحانه‏:‏ ‏(‏إنما صنعوا كيد ساحر‏)‏ مكره وخداعه ‏(‏ولا يفلح الساحر حيث أتى‏)‏، ‏(‏فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 119‏)‏ إلى أخر الآيات‏.‏

وقد أخبر الله تعالى عن قوم صالح وكانوا قبل إبراهيم عليه السلام، أنهم قالوا لنبيهم عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما أنت من المسحرين‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 153‏)‏ وكذا قال قوم شعيب له عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما أنت من المسحرين‏)‏ وقالت قريش لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم في غير موضع، بل ذكر الله عز وجل أن ذلك القول تداوله كل الكفار لرسلهم فقال تعالى‏:‏ ‏(‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به‏)‏ ‏(‏الذاريات‏:‏ 52‏)‏ الآية‏.‏ وقال سبحانه في ذم اليهود‏:‏ ‏(‏ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 101- 102‏)‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن شر النفاثات في العقد‏)‏ ‏(‏الفلق‏:‏ 4‏)‏ والنفاثات هن السواحر يعقدن وينفثن‏.‏ والمقصود أنه قد ثبت بهذه النصوص وغيرها ما سنذكر، ومما لا نذكر أن السحر حقيقة وجوده‏.‏

‏(‏وله تأثير‏)‏ فمنه ما يمرض ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول ومنه ما يأخذ بالأبصار ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، لكن تأثيره ذلك إنما هو بما قدره القدير سبحانه وتعالى؛ أي بما قضاه وقدره وخلقه عندما يلقي الساحر ما ألقى، ولذا قلنا ‏(‏أعني بذا التقدير‏)‏ في قوله بما قدره القدير ‏(‏ما قد قدره في الكون‏)‏ وشاءه ‏(‏لا‏)‏ أنه أمر به ‏(‏في الشرعة‏)‏ التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه ‏(‏المطهرة‏)‏، من ذلك وغيره كما تقدم أن القضاء والأمر والحكم والإرادة كل منها ينقسم على كوني وشرعي، فالكوني يشمل ما يرضاه الله ويحبه شرعا وما لا يرضاه في الشرع ولا يحبه، والشرعي يختص بمرضاته سبحانه وتعالى ومحابه، ولهذا قال تعالى في الشرعي‏:‏ ‏(‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 185‏)‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏(‏ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم‏)‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 7‏)‏ فأخبر تعالى أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يرضى لهم الشكر ولا يرضى لهم الكفر مع كون كل من العسر واليسر والشكر والكفر واقع بقضاء الله وقدره وخلقه وتكوينه ومشيئته، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل‏)‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 62‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏ ‏(‏القمر‏:‏ 49‏)‏‏.‏

والمقصود أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا، وإنما يؤثر بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وتكوينه؛ لأنه تعالى خالق الخير والشر والسحر من الشر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏(‏فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏ وهو القضاء الكوني القدري، فإن الله تعالى لم يأذن بذلك شرعا، وقد ثبت في الصحيحين من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله عز وجل ودعاه ثم قال‏:‏ ‏"‏ أشعرت يا عائشه، إن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ‏"‏ قلت‏:‏ وما ذاك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ ما وجع الرجل‏؟‏ قال‏:‏ مطبوب‏.‏ قال‏:‏ ومن طبه‏؟‏ قال‏:‏ لبيد بن العاص اليهودي من بني زريق‏.‏ قال‏:‏ فبماذا‏؟‏ قال‏:‏ مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر‏.‏ قال‏:‏ فأين‏؟‏ قال‏:‏ في بئر ذي أروان‏.‏ ‏"‏ قال‏:‏ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابة إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال‏:‏ ‏"‏ والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أفأخرجته‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا، أما أنا فقد عافاني الله عز وجل وشفاني، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا ‏"‏‏.‏ وأمر بها فدفنت‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏ ومن طبه‏؟‏ قال‏:‏ لبيد بن الأعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقا‏.‏ قال‏:‏ وفيم‏؟‏ قال‏:‏ في مشط ومشاقة‏.‏ قال‏:‏ وأين‏؟‏ قال‏:‏ في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان ‏"‏- وذكره- هذا لفظ البخاري‏.‏ المشاطة ما يخرج من الشعر، والمشط أسنان ما يمشط به، والمشاقة من مشاقة الكتان، وجف طلعة غشاؤها وهو الوعاء الذي يكون فيه الطلع، تحت راعوفة، هو حجر يترك في البئر عند الحفر ثابت لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقي، وقيل‏:‏ حجر على رأس البئر يستقي عليه المستقي، وقيل‏:‏ حجر بارز من طيها يقف عليها المستقي والناظر فيها، وقيل‏:‏ في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظفها لا يمكن قلعه لصلابته، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم‏:‏ قال المازري رحمه الله تعالى‏:‏ مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كله يبطل ما قالوه فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم، ومنها مسقمة كالأدوية الحادة، ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة‏.‏ قال‏:‏ ومن أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع‏.‏ وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجوز ما قام الدليل بخلافه باطل‏.‏

فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد‏.‏ قال القاضي عياض رحمه الله تعالى‏:‏ وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده‏.‏ ويكون معنى قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن ‏"‏، ويروى‏:‏ ‏"‏ يخيل إليه ‏"‏؛ أي يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك، كما يعتري المسحور‏.‏ وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر لا كالخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة، ولا طعنا لأهل الضلالة، والله أعلم‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

قلت‏:‏ قول المازري خلافا لمن أنكر ذلك، قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى‏:‏ أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال‏:‏ لا حقيقة له عنده‏.‏ ثم ذكر الاختلاف في حكم الساحر‏.‏ وقال القرطبي رحمه الله تعالى‏:‏ وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني، حيث قالوا‏:‏ إنه تمويه وتخييل‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

قلت‏:‏ قد ثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثيره بإذن الله بظواهر الآيات والأحاديث وأقوال عامة الصحابة، وجماهير العلماء بعدهم رواية ودراية، فأما القتل به والأمراض والتفرقة بين المرء وزوجه وأخده بالأبصار، فحقيقة لا مكابرة فيها، وأما قلب الأعيان كقلب الجماد حيوانا وقلب الحيوان من شكل إلى آخر، فليس بمحال في قدرة الله عز وجل ولا غير ممكن، فإنه هو الفاعل في الحقيقة وهو الفعال لما يريد، فلا مانع من أن يحول الله ذلك عندما يلقي الساحر ما ألقى امتحانا وابتلاء وفتنة لعباده، ولكن الذي أخبرنا الله تعالى به في الواقع من سحرة فرعون في قصتهم مع موسى إنما هو التخييل والأخذ بالأبصار حتى رأوا الحبال والعصي حيات، فنؤمن بالخبر ونصدقه ولا نتعداه ولا نبدل قولا غير الذي قيل لنا، ولا نقول على الله ما لا نعلم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

واحكم على الساحر بالتكفير *** وحده القتل بلا نكير

كما أتى في السنة المصرحة *** مما رواه الترمذي وصححه

عن جندب وهكذا في أثر *** أمر بقتلهم روى عن عمر

وصح عن حفصة عند مالك *** ما فيه أقوى مرشد للسالك

هذا هو البحث الثاني وهو حكم الساحر‏:‏

‏(‏واحكم على الساحر‏)‏ تعلمه أو علمه عمل به أو لم يعمل ‏(‏بالتكفير‏)‏ أي بأنه كفر بهذا الذنب الذي هو السحر، وذلك واضح صريح في آية البقرة بأمور‏:‏

منها سبب عدول اليهود إليه وهو نبذهم الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم‏:‏ ‏(‏ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 101‏)‏ سواء أريد بالكتاب التوارة التي بأيديهم، أو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كل ذلك نبذه كفر، وقد علم أن السحر لا يعمل إلا مع من كفر بالله، وهذا معلوم من سبب نزول الآية، كما قال الربيع بن أنس وغيره‏:‏ إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا‏:‏ هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا، وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏ الآيات‏.‏

ومنها قوله‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين‏)‏ تتقوله وتزوره ‏(‏على ملك سليمان‏)‏؛ أي في ملكه وعهده، ومعلوم أن استبدال ما تتلوه الشياطين وتتقوله والانقياد له والعمل به عوضا عما أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا من أعظم الكفر وهو من عبادة الطاغوت التي هي أصل الكفر، وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أربابا من دون الله فقال تعالى‏:‏ ‏(‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 31‏)‏ الآية‏.‏ قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها‏:‏ إنا لسنا نعبدهم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فتلك عبادتكم إياهم ‏"‏‏.‏

ولهذا قال تعالى بعدها‏:‏ ‏(‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 31‏)‏ فإذا كان هذا في طاعة الأحبار والرهبان فكيف في طاعة الشيطان فيما ينافي الوحي‏؟‏ فهل فوق هذا الشرك من كفر‏؟‏ ‏(‏سبحان الله عما يشركون‏)‏ وعبادة الشيطان هي إتباعه فيما أمر به من الكفر والضلال ودعا إليه، كما قال عز وجل فيه‏:‏ ‏(‏إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‏)‏ وكما يقول للمجرمين يوم القيامة‏:‏ ‏(‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون‏)‏ ‏(‏يس‏:‏ 60- 62‏)‏‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كفر سليمان‏)‏، برأ الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام من الكفر، وهذا الذي برأه تعالى منه هو علم الساحر وعمله، وإن كان بريئا من الكفر كله معصوما مما هو دونه، لكن سياق الآية في خصوص السحر، وأنه بريء منه، ولو فرض وجود عمله به لكفر؛ لأنه شرك والشرك أقبح الذنوب وأعظم المحبطات للأعمال، كما قال تعالى في جميع رسله سليمان وغيره عليهم السلام بعد أن ذكرهم‏:‏ ‏(‏ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 88‏)‏، وهذا معلوم من أصل القصة، فإن اليهود قاتلهم الله تلقوا السحر عن الشياطين ونسبوه إلى سليمان عليه السلام، فبرأه الله تعالى من إفكهم بهذه الآية، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان‏)‏‏.‏ قال‏:‏ كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر‏.‏

وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى‏:‏ كان سليمان عليه السلام يتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم‏:‏ أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ فإنه في بيت خرانته وتحت كرسيه‏.‏ فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به، فقال أهل الحجاز- يعني اليهود من أهل الحجاز- كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليهما السلام فكتبوا أصناف السحر، من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان ين داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود‏:‏ تعجبون من محمد يزعم أن بن داود كان نبيا، والله ما كان إلا ساحرا‏.‏ وأنزل الله تعالى في ذلك‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ الآية‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا‏:‏ هذا الذي كان سليمان يعمل به‏.‏ قال‏:‏ فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ وتفاسير السلف وآثارهم في هذه الآية كثيرة جدا، وما كان منه إسرائيليا فهو من القسم المقبول لموافقته ظاهر الآية في أن اليهود تعلموا السحر من الشياطين ورموا به نبي الله سليمان وأكفروه به وسبوه وخاصموا به محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فبين الله تعالى ما لبسوه وهدم ما أسسوه وبرأ نبيه سليمان عليه السلام مما ائتفكوه وأقام الحجة عليهم في بطلان ما انتحلوه، فلله الحمد والمنة‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏ أكذب الله تعالى اليهود فيما نسبوه إلى نبيه سليمان عليه السلام بقوله‏:‏ ‏(‏وما كفر سليمان‏)‏ وهم إنما نسبوا السحر إليه، ولازم ما نسبوه إليه هو الكفر؛ لأن السحر كفر، ولهذا أثبت كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر فقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‏)‏ وكذلك كل من تعلم السحر أو علمه أو عمل به يكفر ككفر الشياطين الذين علموه الناس، إذ لا فرق بينه وبينهم، بل هو تلميذ الشيطان وخريجه، عنه روى وبه تخرج وإياه اتبع، ولهذا قال تعالى في الملكين‏:‏ ‏(‏وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏)‏ فبين تعالى أنه بمجرد تعلمه يكفر سواء عمل به وعلمه أو لا‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ فإذا أتاهما الآتي مريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له‏:‏ ‏(‏إنما نحن فتنة فلا تكفر‏)‏ وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال‏:‏ فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتى عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول يا حسرتاه ويا ويله ماذا صنع‏.‏ وروى ابن حاتم عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ نعم، أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله تعالى أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة؛ أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر‏.‏ وقال السدي‏:‏ إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له‏:‏ لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏)‏ الآية‏.‏ وعن ابن جريج في هذه الآية‏:‏ لا يجترئ على السحر إلا كافر، والفتنة هي المحنه والاختبار‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏ يعني من حظ ولا نصيب، وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا يدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقا ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏(‏ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولو أنهم آمنوا‏)‏ يعنى بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏(‏واتقوا‏)‏ بالسحر وسائر الذنوب ‏(‏لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 103‏)‏ وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر ونفى الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي‏:‏ ولو أنه آمن واتقى، إنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر وعمل بالسحز واتبعه وخاصم به رسوله ورمى به نبيه ونبذ الكتاب وراء ظهره، وهذا ظاهر لا غبار عليه، والله أعلم‏.‏ وقد صرح بذلك أئمة السلف من الصحابة والتابعين، وإنما اختلفوا في القدر الذي يصير به كافرا، والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين كله كفر قليله وكثيره كما هو ظاهر القرآن‏.‏

المبحث الثالث وهو عقوبة الساحر شرعا ووعيدا‏.‏

‏(‏وحده‏)‏ أي حد الساحر ‏(‏القتل‏)‏ ضريه بالسيف ‏(‏بلا نكير‏)‏ بل هو ثابت بالكتاب من عموم النصوص في الكفار المرتدين وغيرهم، كما أتى ثابتا ‏(‏في السنة المصرحة‏)‏ الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏مما رواه الترمذي‏)‏ محمد بن عيسى بن سورة بمهملتين ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الحافظ الضرير أحد الأعلام وصاحب الجامع والتفسير عن خلق مذكورين في تراجمهم من جامعه وغيره، وعنه محمد بن إسماعيل السمرقندي وحماد بن شكر وأبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي راوي الجامع والهيثم بن كليب، وخلق من أهل سمرقند ونسف وتلك الديار، وقال ابن حبان‏:‏ كان ممن جمع وصنف‏.‏ قال أبو العباس المستغفري‏:‏ مات سنة تسع وسبعين ومائتين، مروفوعا ‏(‏وصححه‏)‏ موقوفا عن ‏(‏جندب‏)‏ هو ابن عبد الله بن سفيان البجلي العلقمي أو العلقي، له ثلاثة وأربعون حديثا اتفقا على سبعة وانفرد مسلم بخمسة‏.‏ روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مجلز، مات بعد الستين، وقال رحمه الله تعالى‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في حد الساحر، حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية حدثنا عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حد الساحر ضربه بالسيف ‏"‏‏.‏ هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع‏:‏ هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوفا والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي‏:‏ إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم ير عليه قتلا‏.‏

ويعني بقوله ما يبلغ الكفر؛ أي ما كان فيه اعتقاد التصرف لغير الله وصرف العبادة له كما يفعله عباد هياكل النجوم من أهل بابل وغيرهم والله أعلم‏.‏ ‏(‏وهكذا في أثر‏.‏ أمر بقتلهم‏)‏ يعني السحرة، ‏(‏روي عن عمر‏)‏ ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبي حفص المدني أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على عشرة وانفرد البخاري في تسعة ومسلم بخمسة عشر، وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن أبي وقاص وغيرهم، شهد بدرا والمشاهد والمواقف، وولي أمر الأمر بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلا، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه ‏"‏‏.‏ ولما دفن قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم‏.‏ استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ودفن في أول سنة أربع وعشرين في الحجرة النبوية وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ومناقبه جمة قد أفردت في مجلدات‏.‏ وهذا الأثر المشار إليه في الباب هو ما رواه الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله تعالى قالا‏:‏ أخبرنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول‏:‏ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة‏.‏ قال‏:‏ فقتلنا ثلاث سواحر‏.‏

‏(‏وصح‏)‏ نقلا ‏(‏عن حفصة‏)‏ بنت عمر بن الخطاب العدوية أم المؤمنين رضي الله عنها ‏(‏عند مالك‏)‏ بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبي عبد الله المدني أحد الأعلام في الإسلام وإمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين، وحمل به ثلاث سنين، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى ورضي عنه‏.‏ ‏(‏ما‏)‏؛ أي الذي ‏(‏فيه أقوى‏)‏ دليل ‏(‏مرشد للسالك‏)‏ وهو ما رواه في موطإه في ‏"‏ باب ما جاء في الغيلة والسحر من كتاب العقول‏:‏ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت، قال مالك‏:‏ الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره، هو مثل الذي قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏(‏ولقد عملوا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق‏)‏ فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

قال ابن كثير رحمه الله تعالى‏:‏ وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس‏:‏ سبحان الله يحيي الموتى‏!‏ ورآه رجل من صالح المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال‏:‏ إن كان صادقا فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أفتأتون السحر وأنتم تبصرون‏)‏ ‏(‏الأنبياء‏:‏ 3‏)‏ فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه، ثم أطلقه والله أعلم‏.‏ وقال الإمام أبو بكر الخلال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال‏:‏ كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله، قال‏:‏ آراه كان ساحرا‏.‏ وحمل الشافعي رحمه الله تعالى قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا، والله أعلم‏.‏

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى‏:‏ فصل‏.‏ وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد‏:‏ يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال‏:‏ إن تعمله ليتقيه أو ليتجنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ إذا تعلم السحر قلنا له‏:‏ صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر‏.‏ وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر‏.‏ قال ابن هبيرة‏:‏ وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله‏؟‏ قال مالك وأحمد‏:‏ نعم‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا‏.‏ فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا فإنه يقتل حدا عندهم، إلا الشافعي فإنه قال‏:‏ يقتل والحالة هذه قصاصا‏.‏ قال‏:‏ وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه‏:‏ لا تقبل‏.‏ وقال الشافعي وأحمد في الرواية‏:‏ تقبل‏.‏ وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر إذا كان مسلما، وقال مالك وأحمد والشافعي‏:‏ لا يقتل، يعفى لقصة لبيد بن الأعصم‏.‏ واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل، والله أعلم‏.‏

وقال أبو بكر الخلال‏:‏ أخبرنا أبو بكر المروزي قال‏:‏ قرأ على أبي عبد الله؛ يعني أحمد بن حنبل‏:‏ عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال‏:‏ يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها‏.‏ وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في الذمي‏:‏ يقتل إن قتل سحره‏.‏ وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر أحدا‏.‏ الأولى‏:‏ أنه يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل‏.‏ والثانية‏:‏ أنه يقتل وإن أسلم‏.‏ وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه‏)‏ لكن قال مالك‏:‏ إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه، فإن قتل بسحره قتل‏.‏ قال الشافعي‏:‏ فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ عليه الديه‏.‏

هذا ومن أنواعه وشعبه *** علم النجوم فادر هذا وانتبه

هذا هو البحث الرابع وهو ‏(‏بيان أنواعه‏)‏‏:‏

فمنها علم التنجيم وهو أنواع‏:‏ أعظمها ما يفعله عبدة النجوم ويعتقدونه في السبعة السيارة وغيرها، فقد بنوا بيوتا لأجلها وصوروا فيها تماثيل سموها بأسماء النجوم، وجعلوا لها مناسك وشرائع يعبدونها بكيفياتها، ويلبسون لها لباسا خاصا وحلية خاصة وينحرون لها من الأنعام أجناسا خاصة، لكل نجم منها جنس زعموا أنه يناسبه، وكل نجم جعلوا لعبادته أوقاتا مخصوصة كأوقات الصلوات عند المسلمين، واعتقدوا تصرفها في الكون‏.‏ وهذا هو المعروف عن قوم إبراهيم ببابل وغيرها، وإياهم خاطب فيها حكى الله عنهم متحديا له مبينا سخافة عقولهم وضلال قلوبهم، قال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفل قال يا قوم إني بريء مما تشركون‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 75- 78‏)‏ إلى آخر الآيات‏.‏

ومنها ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد ويجعل لكل حرف منها قدرا من العدد معلوما ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ويجمع جمعا معروفا عنده ويطرح منها طرحا خاصا، ويثبت إثباتا خاصا وينسبه إلى الأبراج الاثني عشر المعروفة عند آهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان، وكثير منهم يغير الاسم لأجل ذلك ويفرق بين المرء وزجه بذلك، ويعتقد أنهم إن جمعهم بيت لا يعيش أحدهم‏.‏ وقد يتحكم بذلك في الغيب فيدعي أن هذا يولد له وهذا لا، وهذا الذكر وهذا الأنثى، وهذا يكون غنيا وهذا يكون فقيرا، وهذا يكون شريفا وهذا وضيعا، وهذا محببا وهذا مبغضا‏.‏ كأنه هو الكاتب ذلك للجنين في بطن أمه، لا والله لا يدريه الملك الذي يكتب ذلك حتى يسأل ربه أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الرزق وما الأجل‏؟‏ فيقول له فيكتب‏.‏ وهذا الكاذب المفتري يدعي علم ما استأثر الله بعلمه، ويدعي أنه يدركه بصناعة اخترقها وأكاذيب اختلقها وهذا من أعظم الشرك في الربوبية‏.‏ ومن صدقه به واعتقده فيه كفر والعياذ بالله‏.‏

ومنها النظر في حركات الأفلاك ودورانها وطلوعها وغروبها واقترانها وافتراقها معتقدين أن لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفردا، وله تأثيرات أخر عند اقترانه بغيره في غلاء الأسعار ورخصها، وهبوب الرياح وسكونها، ووقوع الكوائن والحوادث، وقد ينسبون ذلك إليها مطلقا، ومن هذا القسم الاستسقاء بالأنواء، وسيأتي الحديث فيه عند ذكره في المتن إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

ومنها النظر في منازل القمر الثمانية والعشرين مع اعتقاد التأثيرات في اقتران القمر بكل منها ومفارقته، وأن في تلك سعودا أو نحوسا وتأليفا وتفريقا وغير ذلك، وكل هذه الأنواع اعتقاد صدقها محادة لله ورسوله، وتكذيب بشرعه وتنزيله، واتباع لزخارف الشيطان ما أنزل الله بذلك من سلطان، والنجم مخلوق من المخلوقات مربوب مسخر مدبر كائن بعد أن لم يكن، مسبوقا بالعدم المحض متعقب به، ليس له تأثير في حركة الكون ولا سكون لا في نفسه ولا في غيره، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 54‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون‏)‏ ‏(‏فصلت‏:‏ 37‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون‏)‏ ‏(‏يس‏:‏ 37- 40‏)‏‏.‏

وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا‏)‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 61- 62‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 97‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وعلامات وبالنجم هم يهتدون‏)‏ ‏(‏النحل‏:‏ 66‏)‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏(‏إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏)‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 6- 10‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين‏)‏ ‏(‏الملك‏:‏ 5‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏)‏ ‏(‏يونس‏:‏ 5‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏

وقال تعالى في ذهابها وفنائها وعودها إلى العدم كما أوجدت بعد العدم‏:‏ ‏(‏إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت‏)‏ ‏(‏التكوير‏:‏ 1- 2‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا الكواكب انتثرت‏)‏ ‏(‏الإنفطار‏:‏ 2‏)‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏(‏وخسف القمر وجمع الشمس والقمر‏)‏ ‏(‏القيامة‏:‏ 8- 9‏)‏ وروى ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى عن قتادة الإمام في التفسير وغيره قال رحمه الله تعالى‏:‏ إنما جعل الله سبحانه هذه النجوم لثلاث خصال، جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدي بها، وجعلها رجوما للشياطين‏.‏ فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهله بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن ولد نجم كذا وكذا كان كذا وكذا‏.‏

ولعمري ما من نجم إلا يولد إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم، وما على هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله تعالى أنه‏:‏ ‏(‏لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون‏)‏ ‏(‏النمل‏:‏ 65‏)‏‏.‏ وهذا كلام جليل متين صحيح، وأصله في صحيح البخاري تعليقا‏.‏ وقال أبو داود رحمه الله تعالى في كتاب الطب من سننه‏:‏ ‏"‏ باب في النجوم ‏"‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد، المعنى، قالا‏:‏ حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ‏"‏ وذكر حديث النوء‏.‏ وروى عبد بن حميد عن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة ‏"‏‏.‏ وروى ابن عساكر وحسنه عن أبي محجن مرفوعا‏:‏ ‏"‏ أخاف على أمتي ثلاثا‏:‏ حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيب بالقدر ‏"‏‏.‏

وروى أبو يعلى وابن عدي عن أنس رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏"‏ أخاف على أمتي بعدي خصلتين‏:‏ تكذيبا بالقدر، وإيمانا بالنجوم ‏"‏‏.‏ وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا‏:‏ ‏"‏ رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة ‏"‏ ورواه حميد بن زنجوية عنه بلفظ‏:‏ ‏"‏ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق ‏"‏‏.‏

ومن أنواع السحر زجر الطير والخط بالأرض، قال أبو داود‏:‏ حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان- قال غير مسدد‏:‏ حيان بن العلاء- حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ العيافة والطيرة والطرق من الجبت ‏"‏ ورواه أحمد في مسنده‏.‏ والجبت هو السحر، قاله عمر رضي الله عنه، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم‏.‏ وعن ابن عباس وغيره أيضا الجبت الشيطان، ولا ينافي الأول؛ لأن السحر من عمل الشيطان، وعنه أيضا الجبت الشرك، وعنه الجبت الأصنام، وعنه الجبت حيي بن أخطب، وعن الشعبي الجبت كاهن، وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف، ولا منافاة أيضا فإن السحر من الشرك الذي يشمله عبادة غير الله، وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ممن خاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر، والكاهن عامل بالسحر، وقال في القاموس‏:‏ الجبت بالكسر الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله عز وجل‏.‏

ومن أنواعه العقد والنفث فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن شر النفاثات في العقد‏)‏ ‏(‏الفلق‏:‏ 4‏)‏ وقد تقدم حديث عائشة في قصة لبيد بن الأعصم، وقد ثبت في حديث نزول المعوذتين ورقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بهما أنه كان كلما قرأ آية انحلت عقدة‏.‏ وقال النسائي رحمه الله تعالى في كتاب تحريم الدم من سننه‏:‏ ‏"‏ الحكم في السحرة ‏"‏ أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ‏"‏‏.‏ وقد أطلق السحر على ما فيه التخييل في قلب الأعيان وإن لم يكن السحر الحقيقي كما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ إن من البيان لسحرا ‏"‏ يعني لتضمنه التخييل، فيخيل الباطل في صورة الحق، وإنما عني به البيان في المفاخرة والخصومات بالباطل ونحوها، كما يدل عليه أصل القصة في التميميين اللذين تفاخرا عنده بأحسابهما وطعن أحدهما في حسب الآخر ونسبه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع، فمن حكمت له من حق أخيه بشيء فإنما هو قطعة من النار ‏"‏ أو كما قال‏.‏ وهو في الصحيح‏.‏

وأما البيان بالحق لنصرة الحق فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهو من الجهاد في سبيل الله عز وجل‏.‏ وقد سمى صلى الله عليه وسلم ما يعمل عمل السحر سحرا وإن لم يكن سحرا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أنبئكم ما العضه، هي النميمة، القالة بين الناس ‏"‏ رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ والعضه في لغة قريش السحر، ويقولون للساحر عاضه، فسمى النميمة سحرا؛ لأنها تعمل عمل السحر في التفرقة بين المرء وزوجه وغيرها من المتحابين، بل هي أعظم في الوشاية؛ لأنها تثير العداوة بين الأخوين، وتسعر الحرب بين المتسالمين كما هو معروف مشاهد لا ينكر‏.‏ وقد جاء الوعيد للقتات في الآيات والأحاديث كثيرا جدا‏.‏ ومع هذا فالخداع للكفار للفتك بهم وإظهار المسلمين عليهم وكسر شوكتهم وتفريق كلمتهم من أعظم الجهاد وأنفعه وأشده نكاية فيهم، كما فعله نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه في تفريق كلمة الأحزاب بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق بين قريش وبين يهود بن قريظة ونقض الله بذلك ما أبرموه، ولله الحمد والمنة‏.‏

حرمة حل السحر بالسحر

وحله بالوحي نصا يشرع *** أما بسحر مثله فيمنع

‏(‏وحله‏)‏؛ يعني حل السحر عن المسحور ‏(‏بِـ‏)‏ الرقى والتعاويذ والأدعية من ‏(‏الوحي‏)‏ الكتاب والسنة ‏(‏نصا‏)‏ أي بالنص ‏(‏يشرع‏)‏ كما رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين، وكما يشمل ذلك أحاديث الرقي المتقدمة في بابها التي أمر بها الشارع صلى الله عليه وسلم وندب إليها، ومن أعظمها‏:‏ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والمعوذتان وآخر سورة الحشر، فإن ضم إلى ذلك الآيات التي فيها التعوذ من الشياطين مطلقا والآيات التي يتضمن لفظها إبطال السحر كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 119‏)‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏)‏ ‏(‏يونس‏:‏ 81‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏)‏ ‏(‏طه‏:‏ 69‏)‏ ونحوها، كان ذلك حسنا، ومثل ذلك الأدعية والتعاويذ المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الأحاديث الصحيحة كما تقدم كثير منها في باب الرقى، وكحديث‏:‏ ‏"‏ ربنا الله الذي في السماء تبارك اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ ‏"‏ رواه أبو داود‏.‏ وكحديث عثمان بن أبي العاص أنه قال‏:‏ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ امسح بيمينك سبع مرات وقل‏:‏ أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ففعلت فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وكتب السنة من الأمهات وغيرها مشحونات بالأدعية والتعوذات الكافية الشافية بإذن الله عز وجل، فمن ابتغى ذلك وجده، والله الموفق‏.‏

‏(‏أما‏)‏ حل السحر عن المسحور ‏(‏بسحر مثله فيحرم‏)‏ فإنه معاونة للساحر وإقرار له على عمله، وتقرب إلى الشيطان بأنواع القرب ليبطل عمله عن المسحور، ولهذا قال الحسن‏:‏ لا يحل السحر إلا ساحر‏.‏ ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو تنشرت‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أما أنا فقد شفاني الله وعافاني، وخشيت أن أثير على الناس شرًّا ‏"‏‏.‏ وقال أبو داود في كتاب الطب من سننه‏:‏ ‏"‏ باب في النشرة ‏"‏ حدتنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا عقيل بن معقل قال‏:‏ سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال‏:‏ ‏"‏ هو من عمل الشيطان ‏"‏‏.‏ ولهذا ترى كثيرا من السحرة الفجرة في الأزمان التي لا سيف فيها يردعهم يتعمد سحر الناس ممن يحبه أو يبغضه ليضطره بذلك إلى سؤاله حله ليتوصل بذلك إلى أموال الناس بالباطل فيستحوذ على أموالهم ودينهم، نسأل الله تعالى العافية‏.‏

تصديق الكاهن كفر

ومن صدق كاهنا فقد كفر *** بما أتى به الرسول المعتبر

‏(‏ومن يصدق كاهنا‏)‏ يعتقد بقلبه صدقه في ما ادعاه من علم المغيبات التي استأثر الله تعالى بعلمها، ‏(‏فقد كفر‏)‏ أي بلغ دركة الكفر بتصديقه الكاهن ‏(‏بما أتى به الرسول‏)‏ محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل من الكتاب والسنة، وبما أتى به غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل عليهم السلام‏.‏ ولنسق الكلام أولا في تعريف الكاهن من هو ثم في بيان كذبه وكفره ثم في كفر من صدقه بما قال والله المستعان، فنقول‏:‏

الكاهن في الأصل هو من يأتيه الرَّئِيُّ من الشياطين المسترقة السمع تتنزل عليهم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 221‏)‏ وهذه الآيات متعلقة بما قبلها وهي قوله عز وجل لما قال المشركون في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إنه كاهن، وقالوا في القرآن كهانة وأنه مما يلقيه الشيطان، فنفى الله تعالى ذلك وبرأ رسوله وكتابه مما أفكوه وافتروه‏:‏ ‏(‏وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 192- 195‏)‏ إلى أن قال تعالى‏:‏ ‏(‏وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 210- 212‏)‏ فأثبت تعالى أن القرآن كلامه وتنزيله وأن جبريل عليه السلام رسول منه مبلغ كلامه إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ له إلى الناس، ثم نفى ما افتراه المشركون عليه فقال‏:‏ ‏(‏وما تنزلت به الشياطين‏)‏ وقرر انتقاء ذلك بثلاثة أمور‏:‏ الأول‏:‏ بعد الشياطين وأعمالهم عن القرآن، وبعده وبعد مقاصده منهم، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما ينبغي لهم‏)‏؛ لأن الشياطين مقاصدها الفساد والكفر والمعاصي والبغي والعتو والتمرد وغير ذلك من القبائح، والقرآن آت بصلاح الدنيا والآخرة آمر بأصول الإيمان وشرائعه، مقرر لها مرغب فيها زاجر عن الكفر والمعاصي، ذام لها متوعد عليها آمر بالمعروف ناه عن المنكر، ما من خير آجل ولا عاجل إلا وفيه الدلالة عليه والدعوة إليه والبيان له، وما من شر عاجل ولا آجل إلا وفيه النهي عنه والتحذير منه، فأين هذا من مقاصد الشياطين‏؟‏

الثاني‏:‏ عجزهم عنه فقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما يستطيعون‏)‏؛ أي لو انبغى لهم ما استطاعوه؛ لأنه كلام رب العالمين ليس يشبه كلام شيء من المخلوقين، وليس في وسعهم الإتيان به ولا بسورة من مثله، ‏(‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 88‏)‏‏.‏

الثالث‏:‏ عزلهم عن السمع وطردهم عن مقاعده التي كانوا يقعدون من السماء قبل نزول القرآن فقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنهم عن السمع لمعزولون‏)‏ فبين تعالى- مع كونه لا ينبغي لهم- أنه لو انبغى ما استطاعوا الإتيان به أو بمثله، لا من عند أنفسهم ولا نقلا عن غيرهم من الملائكة، نفى عنهم الأول بعدم الاستطاعة، والثاني بعزلهم عن السمع وطردهم منه، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏)‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 9‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين‏)‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 16- 18‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏)‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 6- 10‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين‏)‏ ‏(‏الملك‏:‏ 5‏)‏ وقال تعالى عن مؤمني الجن رضي الله عنهم‏:‏ ‏(‏وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا‏)‏ ‏(‏الجن‏:‏ 8- 10‏)‏‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حيل بينا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب قالوا‏:‏ ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما الذي حال بيننا وبين خبر السماء‏.‏ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو صلى الله عليه وسلم بنخل عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا‏:‏ هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء‏.‏ فرجعوا إلى قومهم فقالوا‏:‏ ‏(‏إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا‏)‏ ‏(‏الجن‏:‏ 1- 2‏)‏، فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن‏)‏ الجن‏:‏ 1‏)‏‏.‏ وهذا الحديث بطوله وطرقه في الصحيحين وغيرهما، ثم قال تعالى في جواب الكفار مبينا لهم أولياء الشياطين الذين تنزل عليهم، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطن‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 221‏)‏ الآيات‏.‏

وفي صحيح البخاري قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال‏:‏ ‏"‏ إنهم ليسوا بشيء ‏"‏ قالوا يا رسول الله‏:‏ إنهم يحدثون بالشيء يكون حقا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة ‏"‏‏.‏ وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض- وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال‏:‏ أوليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا‏؟‏ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ‏"‏‏.‏

ولمسلم عن ابن عباس نحوه، وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة ‏"‏‏.‏ وقد بين الله تعالى كذب الكاهن بقوله‏:‏ ‏(‏أفاك أثيم‏)‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 222‏)‏ فسماه أفاكا، وذلك مبالغة في وصفه بالكذب‏.‏ وسماه أثيما، وذلك مبالغة في وصفه بالفجور‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وأكثرهم كاذبون‏)‏؛ أي أكثر ما يقولون الكذب فلا يفهم منه أن فيهم صادقا، يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فيكذب معها مائة كذبة ‏"‏ فلا يكون صدقا إلا الكلمة التي سمعت من السماء‏.‏

وأما كفر الكاهن فمن وجوه‏:‏ منها كونه وليا للشياطين فلم يوح إليه الشيطان إلا بعد أن تولاه، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 121‏)‏ والشيطان لا يتولى إلا الكفار ويتولونه، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 257‏)‏ وهذا وجه ثان‏.‏ والثالث قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يخرجونهم من النور‏)‏؛ أي نور الإيمان والهدى ‏(‏إلى الظلمات‏)‏؛ أي ظلمات الكفر والضلالة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 119‏)‏ وهذا وجه رابع‏.‏ والخامس تسميته طاغوتا في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏يريدون أن يتحاكموا إلى الظاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 60‏)‏ نزلت في المتحاكمين إلى كاهن جهينة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وقد أمروا أن يكفروا به‏)‏؛ أي بالطاغوت، وهذا وجه سادس‏.‏ والسابع أن من هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب رضي الله عنه لم يأته رَئِيُّهُ بعد أن دخل في الإسلام، فدل أنه لم يتنزل عليه في الجاهلية إلا لكفره وتوليه إياه، حتى إنه رضي الله عنه كان يغضب إذا سئل عنه حتى قال له عمر رضي الله عنه‏:‏ ما كنا فيه من عبادة الأوثان أعظم‏.‏ الثامن وهو أعظمها تشبهه بالله عز وجل في صفاته ومنازعته له تعالى في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه، فلا سمي له مضاهي ولا مشارك‏:‏ ‏(‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏)‏ ‏(‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون‏)‏ ‏(‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا‏)‏ ‏(‏أم عندهم الغيب فهم يكتبون‏)‏ ‏(‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏)‏ ولسان حال الكاهن وقاله يقول نعم‏.‏ التاسع أن دعواه تلك تتضمن التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله‏.‏ العاشر النصوص في كفر من سأله عن شيء فصدقه بما يقول، فكيف به هو نفسه فيما ادعاه‏؟‏ فقد روى الأربعه والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏ ولمسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ‏"‏‏.‏ فهذا حكم من سأله مطلقا، والأول حكم من سأله وصدقه بما قال‏.‏

ثم اعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرنا فهو عام في كل من ادعى معرفة المغيبات ولو بغيره كالرمال الذي يخط بالأرض أو غيرها، والمنجم الذي قدمنا ذكره أو الطارق بالحصى وغيرهم ممن يتكلم في معرفة الأمور الغائبة كالدلالة على المسروق ومكان الضالة ونحوها، أو المستقبلة كمجيء المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح، ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا‏)‏ ‏(‏الجن‏:‏ 26‏)‏ ملائكة يحفظونه من مسترقي السمع وغيرهم ‏(‏ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا‏)‏ ‏(‏الجن‏:‏ 28‏)‏ فمن ذا الذي يدعي علم ما استأثر الله بعلمه عن رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى عن نوح عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 50‏)‏ الآية‏.‏ وقال تعالى عن هود عليه السلام‏:‏ ‏(‏قل إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به‏)‏ ‏(‏الأحقاف‏:‏ 23‏)‏ وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب‏)‏ ‏(‏الأحقاف‏:‏ 23‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 188‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏)‏ ‏(‏الأحقاف‏:‏ 9‏)‏ الآية‏.‏

وقال تعالى عن الملائكة‏:‏ ‏(‏وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 31- 32‏)‏ الآيات‏.‏ ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم مكان راحلته حتى أعلمه الله بذلك، وقال في سؤال الحبر إياه فأجابه صلى الله عليه وسلم وصدقه الحبر ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله عز وجل به ‏"‏ وهي في مسلم‏.‏ وفيه قول عائشة رضي الله عنها لمسروق رحمه الله تعالى‏:‏ ومن زعم أن رسول الله يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏)‏‏.‏

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم شيئا من الرسالة حتى أتاه الله عز وجل به كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏ووجدك ضالا فهدى‏)‏ ‏(‏الضحى‏:‏ 6‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏)‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 52‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا‏)‏ ‏(‏هود‏:‏ 49‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون‏)‏ ‏(‏يونس‏:‏ 16‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 113‏)‏ نسأل الله العظيم من فضله العظيم‏.‏

الإسلام والإيمان والإحسان

هذا فصل يجمع معنى حديث جبريل في تعليمنا الدين وإنه ينقسم إلى ثلاث مراتب‏:‏ الإسلام والإيمان والإحسان‏.‏ وبيان كل منها‏.‏

اعلم أن هذا الفصل مهم جدا جامع لأصول الدين وشرائعه ومراتبه وشعبه القولية والعملية، وهو معنى حديث جبريل في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه إياه وهو حديث عظيم الشأن جليل كبير جامع نافع، سمي النبي صلى الله عليه وسلم ما احتوى عليه ‏"‏ الدين ‏"‏ فقال ‏"‏ هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ‏"‏‏.‏ وهو حديث مشهور في كتب السنة عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو ذر وعبد الله بن عباس وأبو عامر الأشعري وغيرهم رضي الله عنهم‏.‏

وها نحن نذكر أحاديثهم بألفاظها مع بيان مخرجيها من أئمة الحديث، ثم نتكلم على الخصال التي فيها عند مواضعها من هذا المتن إن شاء الله تعالى، وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

حديث جبريل الحديث به عن عمر

فأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخرجه مسلم في أول جامعه‏:‏ حدثني أبو خثيمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر‏.‏ ح‏.‏ وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه‏:‏ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال‏:‏ كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنى، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت‏:‏ أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم‏.‏ وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف‏.‏ قال‏:‏ فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال‏:‏ حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال‏:‏ يا محمد، أخبرني عن الإسلام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا‏.‏ قال‏:‏ صدقت‏.‏ فعجبنا له يسأله ويصدقه‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الإيمان‏.‏ قال‏:‏ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏.‏ قال‏:‏ صدقت‏.‏ فأخبرني عن الإحسان‏.‏ قال‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الساعة‏.‏ قال‏:‏ ما المسئول عنها بأعلم من السائل‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن إماراتها‏.‏ قال‏:‏ أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي‏:‏ ‏"‏ يا عمر، أتدري من السائل‏؟‏ ‏"‏ قلت الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ‏"‏‏.‏

حدثني محمد بن عبيد الغبري وأبو كامل الجحدري وأحمد بن عبدة قالوا‏:‏ حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال‏:‏ لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك‏.‏ قال‏:‏ فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة‏.‏ وساقوا الحديث بمعنى حديث كهمس وإسناده‏.‏ وفيه بعض زيادة ونقصان أحرف‏.‏

وحدثني محمد بن حاتم حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عثمان بن غياث حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا‏:‏ لقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فذكرنا القدر وما يقولون فيه، فاقتص الحديث كنحو حديثهم عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئا‏.‏

وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا يونس بن محمد حدثنا المعتمر عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم‏.‏

هذه طرقه في مسلم بكاملها، ولم يخرجه البخاري رحمه الله تعالى‏.‏

ورواه أبو داود من حديث كهمس فقال في كتاب السنة من سننه‏:‏ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة فذكره‏.‏ وفيه‏:‏ لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه‏.‏ وفيه‏:‏ فلبثت ثلاثا‏.‏

ومن حديث عثمان بن غياث فقال‏:‏ حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عثمان بن غياث قال‏:‏ حدثني عبد الله بن يريدة‏.‏ وفيه‏:‏ فذكر نحوه، وزاد‏:‏ قال وسأله رجل من مزينة أو جهينة فقال‏:‏ يا رسول الله، فيم نعمل‏؟‏ أفي شيء قد خلا أو مضى، أو شيء يستأنف الآن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ في شيء قد خلا ومضى ‏"‏ فقال الرجل أو بعض القوم‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وإن أهل النار ييسرون لعمل أهل النار ‏"‏‏.‏

ومن حديث سليمان بن بريدة عن ابن يعمر بهذا الحديث يزيد وينقص‏:‏ ‏"‏ قال‏:‏ فما الإسلام‏؟‏ قال‏:‏ إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، والاغتسال من الجنابة ‏"‏‏.‏

ورواه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه من مجتبي سننه فقال‏:‏ ‏"‏ باب نعت الإيمان ‏"‏، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا كهمس ابن الحسن- فذكر حديث عمر بن الخطاب كلفظ مسلم- ولم يذكر حميدا ولم يذكر كلام يحيى بن يعمر ولا كلام ابن عمر قبله‏.‏

رواه الترمذي في أبواب الإيمان فقال‏:‏ باب ما وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام‏:‏ حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث الخزاعي أخبرنا وكيع عن كهمس بن الحسن، فذكر بمعنى لفظ مسلم غير أنه قال‏:‏ فألزق ركبتيه بركبتيه ثم قال‏:‏ يا محمد ما الإيمان‏؟‏ ثم قال‏:‏ فما الإسلام‏؟‏ ثم قال‏:‏ فما الإحسان‏؟‏ وفيه كل ذلك يقول له صدقت، قال‏:‏ فتعجبنا منه يسأله ويصدقه‏.‏ قال‏:‏ فمتى الساعة‏؟‏ وقال‏:‏ فما أماراتها‏؟‏ وفي آخره‏:‏ فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بثلاث فقال‏:‏ ‏"‏ يا عمر، هل تدري من السائل‏؟‏ ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ‏"‏‏.‏ وفي نسخة‏:‏ ‏"‏ معالم دينكم ‏"‏‏.‏

حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا ابن المبارك أخبرنا كهمس بن الحسن بهذا الإسناد نحوه بمعناه‏.‏

حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا معاذ بن هشام عن كهمس بهذا الإسناد نحوه بمعناه‏.‏

وفي الباب عن طلحة بن عبيد الله وأنس بن مالك وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه نحو هذا‏.‏ وقد روي هذا الحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه ابن ماجه في باب الإيمان‏:‏ حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن فذكره كلفظ الترمذي، غير أنه لم يذكر حميدا ولا نفس القصة ولا كلام ابن عمر قبل الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ قال وكيع في قوله‏:‏ ‏"‏ أن تلد الأمة ربتها ‏"‏؛ يعني تلد العجم العرب‏.‏

ورواه عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا كهمس عن ابن بريدة‏.‏ ويزيد بن هارون حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر سمع ابن عمر قال‏:‏ حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ بينما نحن‏.‏ الحديث‏.‏

والحاصل أن راويه عن عمر ابنه عبد الله وعنه يحيى بن يعمر وحميد الحميري، وعن يحيى بن يعمر عبد الله بن بريدة وسليمان بن بريدة وسليمان بن طرخان‏.‏ وعن عبد الله بن بريدة كهمس ومطر الوراق وعثمان بن غياث، وعن كهمس وكيع ومعاذ العنبري والنضر بن شميل ومحمد بن جعفر ويزيد بن هارون، ثم اشتهر عن كل هؤلاء والله اعلم‏.‏