فصل: فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


مرتبة الإحسان

وثالث مرتبة الإحسان *** وتلك أعلاها لدى الرحمن

وهي رسوخ القلب في العرفان *** حتى يكون الغيب كالعيان‏.‏

هذه المرتبة هي الثالثة من مراتب الدين المفصلة في حديث جبريل المتقدم، وهي أعلى مراتب الدين وأعظمها خطرا، وأهلها هم المستكملون لها السابقون بالخيرات المقربون في علو الدرجات‏.‏

وقد قدمنا أن الإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل واقترانه بالإيمان، والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن، وأما عند الإطلاق، فكل منها يشمل دين الله كله، وقد جاء الإحسان في القرآن في مواضع كثيرة، تارة مقترنا بالإيمان، وتارة بالتقوى، وتارة بهما معا، وتارة بالجهاد، وتارة بالإسلام، وتارة بالعمل الصالح مطلقا‏.‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏)‏، ‏(‏المائدة 93‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏)‏، ‏(‏النحل 128‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا‏)‏، ‏(‏الكهف 30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين‏)‏، ‏(‏العنكبوت 69‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏)‏، ‏(‏البقرة 112‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى‏)‏، ‏(‏لقمان 22‏)‏، وتارة بالإنفاق في سبيل الله، وهو من الجهاد، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏)‏، ‏(‏البقرة 195‏)‏، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا لا يستطيعه من المخلوقين أحد غيره صلى الله عليه وسلم لما أعطاه الله تعالى من جوامع الكلم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ أخبر صلى الله عليه وسلم أن مرتبة الإحسان على درجتين، وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين‏:‏

المقام الأول‏:‏ وهو أعلاهما، أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته الله عز وجل بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه، وإقباله عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، وفي حديث حارثة المرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ يا حارثة، كيف أصبحت‏؟‏ قال‏:‏ أصبحت مؤمنا حقا‏.‏ قال‏:‏ انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار في النار كيف يتعاوون فيها‏.‏ قال‏:‏ أبصرت فالزم‏.‏ عبد نور الله تعالى بصيرته‏.‏

المقام الثاني‏:‏ مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، وإطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه، فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله، يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل، وهذا المقام هو الوسيلة الموصلة إلى المقام الأول، ولهذا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا للأول، فقال‏:‏ فإن لم تكن تراه، فإنه يراك‏.‏ وفي بعض ألفاظ الحديث‏:‏ فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك‏.‏ فإذا تحقق في عبادته بأن الله تعالى يراه ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فحينئذ يسهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله تعالى من عبده، ومعيته حتى كأنه يراه‏.‏ وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذا المعنى في غير ما موضع من القرآن، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم‏)‏، ‏(‏يونس 61- 64‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏)‏، ‏(‏البقرة 186‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم‏)‏، ‏(‏الشعراء 217‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏

فأولياء الله المتقون المحسنون، هم الذين آمنوا بالله عز وجل وبإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأفردوه بالعبادة محبة وتذللا وانقيادا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وخشية وخشوعا ومهابة وتعظيما وتوكلا عليه وافتقارا إليه واستغناء به عما سواه، واتقوه بامتثال أوامره ومحبة مرضاته، وترك مناهيه وموجبات سخطه سرا وعلنا، وظاهرا وباطنا قولا وعملا واعتقادا، واستشعرت قلوبهم ونفوسهم إحاطة الله عز وجل بهم علما وقدرة، ولطفا وخبرة بأقوالهم ونياتهم، وأسرارهم وعلانياتهم، وحركاتهم وسكناتهم، وجميع أحوالهم كيف عملوا وأين عملوا، ومتى عملوا، فكان عملهم خالصا لله، موافقا لشرعه مناطا بما جاءت به رسله ونطقت به كتبه، مستحضرين ذلك بقلوبهم، نافذة فيه بصائرهم، فأخلصوا لله العمل وراقبوه مراقبة من ينظر إلى ربه؛ لكمال علمهم بأن الله ينظر إليهم ويرى حالهم ويسمع مقالهم، فطرحوا النفوس بين يديه وأقبلوا بكليتهم عليه، والتجئوا منه إليه وعاذوا به منه، وأحبوه من كل قلوبهم، فامتلأت بنور معرفته، فلم تتسع لغيره، فبه يبصرون وبه يسمعون، وبه يبطشون وبه يمشون، وبرؤيتهم يذكر الله تعالى وبذكره يذكرون‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش‏:‏ سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى قال‏:‏ من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء، أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لاعطينه، ولئن عاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته‏.‏

ذكروا الله تعالى فذكرهم، وشكروه فشكرهم، وتولوه ووالوا فيه فتولاهم، وعادوا أعداءه لأجله، فآذن بالحرب من عاداهم، وأحسنوا عبادة ربهم، فأحسن جزاءهم وأجزله، عبدوه على قدر معرفتهم به، فجازاهم بفضله وزادهم ‏(‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏)‏، ‏(‏يوسف 26‏)‏، ‏(‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏)‏، ‏(‏الرحمن 60‏)‏، ولما ذكر أهل الجنة وما وعدهم به من النعم، وصفهم أن ذلك جزاء إحسانهم، فقال‏:‏ ‏(‏إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين‏)‏، ‏(‏الذاريات 16‏)‏، ثم فسر إحسانهم ‏(‏كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم‏)‏، ‏(‏الذاريات 17- 19‏)‏ وقدمنا في الفصل الأول أن الحسنى التي وعد الله عز وجل المحسنين هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل كما رواه مسلم، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

فلما كانوا يعبدون الله عز وجل في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنهم يرونه بقلوبهم، وينظرون إليه في حال عبادتهم إياه، كان جزاؤهم على ذلك النظر إلى وجهه تبارك وتعالى في الآخرة عيانا بأبصارهم، وعكس هذا ما أخبر به عن المكذبين الذين ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فقال تعالى فيهم‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏، ‏(‏المطففين 15‏)‏، لما كان حالهم في الدنيا التكذيب، وأعقبهم ذلك التكذيب تراكم الران على قلوبهم، حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة، وذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏)‏، ‏(‏النجم 31‏)‏، ‏(‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏)‏، ‏(‏البقرة 201‏)‏‏.‏

هذا آخر ما يسر الله تعالى من الكلام على مفردات حديث جبريل، وقد قال ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح الأربعين بعد كلامه على مراتب الدين في هذا الحديث، قال‏:‏ فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم، علم أن جميع العلوم والمعارف، يرجع إلى هذا الحديث ويدخل تحته، وأن جميع العلماء من فرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث، وما دل عليه مجملا ومفصلا، فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء، وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك، لا يتكلم عليه إلا القليل منهم، ولا يتكلمون على معنى الشهادتين، وهما أصل الإسلام كله‏.‏

والذين يتكلمون على أصول الديانات، يتكلمون على الشهادتين وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله و اليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، والذين يتكلمون على علم المعارف ومقامات العباد، يتكلمون على مقام الإحسان وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضا، كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك، فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلها إليه، ففي هذا الحديث وحده كفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ ست مسائل تتعلق بمباحث الدين في مسائل تتعلق بما تقدم من مباحث الدين

‏(‏الأولى‏)‏‏:‏ كون الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‏.‏

‏(‏والثانية‏)‏‏:‏ تفاضيل أهله فيه‏.‏

‏(‏والثالثة‏)‏‏:‏ أن فاسق أهل الملة الإسلامية، لا يكفر بذنب دون الشرك ولوازمه إلا إذا استحله‏.‏

‏(‏والرابعة‏)‏‏:‏ أنه لا يخلد في النار‏.‏

‏(‏والخامسة‏)‏‏:‏ أنه في العقاب وعدمه تحت المشيئة‏.‏

‏(‏والسادسة‏)‏‏:‏ أن التوبة في حق كل فرد مقبولة، ما لم يغرغر سواء من كفر أو دونه من أي ذنب كان‏.‏

الإيمان يزيد وينقص

إيمانا يزيد بالطاعات *** ونقصه يكون بالزلات‏.‏

هذه هي المسألة الأولى من مسائل الفصل، وهي أن الإيمان يزيد وينقص، وعلى ذلك ترجم البخاري رحمه الله تعالى في كتابه، فقال في جامعه كتاب الإيمان، باب‏:‏ قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم‏)‏، ‏(‏الفتح 4‏)‏، ‏(‏وزدناهم هدى‏)‏، ‏(‏الكهف 13‏)‏، ‏(‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏)‏، ‏(‏مريم 76‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم‏)‏، ‏(‏محمد 17‏)‏، ‏(‏ويزداد الذين آمنوا إيمانا‏)‏، ‏(‏المدثر 31‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما زادهم إلا إيمانا وتسليما‏)‏، ‏(‏الأحزاب 22‏)‏‏.‏

وقال الترمذي- رحمه الله تعالى‏:‏ باب في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان، وساق فيه حديث عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله، وحديث‏:‏ يا معشر النساء تصدقن‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وهو في الصحيحين، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن‏.‏

وذكر حديث أبي هريرة، وهو في الصحيحين أيضا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإيمان بضع وسبعون بابا، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله الا الله‏.‏ هذا لفظ الترمذي، وقال‏:‏ حسن صحيح، ولفظه ‏"‏ بضع وستون ‏"‏‏.‏ ولمسلم رواية ‏"‏ بضع وسبعون ‏"‏ لكن قالا‏:‏ ‏"‏ شعبة ‏"‏ بدل ‏"‏ بابا ‏"‏‏.‏

وقال النسائي‏:‏ باب زيادة الإيمان، وذكر فيه حديث الشفاعة، ودلالته منطوقا على تفاضل أهل فيه، وأما الزيادة والنقص، فدلالته عليها مفهوما لا منطوقا‏.‏

ومثله حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ رأيت الناس وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي‏.‏ الحديث، وفيه‏:‏ وعرض علي عمر بن الخطاب، وعليه قميص يجره، قالوا‏:‏ فما أولت ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الدين‏.‏ ثم ذكر حديث عمر في نزول قوله تعالى‏:‏ ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم‏)‏، ‏(‏المائدة 3‏)‏، ودلالتها على ذلك منطوقا، وعلى ذلك ترجم البخاري رحمه الله تعالى وقال‏:‏ حدثنا الحسن بن الصباح، سمع جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس قال‏:‏ أخبرنا قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخدنا ذلك اليوم عيدا‏.‏ قال‏:‏ أي آية‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏، ‏(‏المائدة 3‏)‏، قال عمر‏:‏ قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة‏.‏ وعلى ذلك ترجم أبو داود وغيره من أئمة السنة، وساقوا في ذلك أحاديث تتضمنه منطوقا ومفهوما‏.‏

قال مسلم بن الحجاج- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا يحيى بن يحيى التيمي وقطن بن نسير، واللفظ ليحيى، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسيدي قال، وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ كيف أنت يا حنظلة‏؟‏ قال قلت‏:‏ نافق حنظلة‏.‏ قال‏:‏ سبحان الله، ما تقول‏؟‏ قال قلت‏:‏ نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عافسنا الأزواج والأولاد الصغار، فنسينا كثيرا‏.‏ قال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ فوالله، إنا لنلقى مثل هذا‏.‏ فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ نافق حنظلة يا رسول الله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده، أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة‏.‏ ثلاث مرات‏.‏

حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، سمعت أبي يحدث، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا، فذكر النار‏.‏ قال‏:‏ ثم جئت إلى البيت، فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال‏:‏ فخرجت فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له‏.‏ قال‏:‏ وأنا قد فعلت مثل ما تذكر‏.‏ فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، نافق حنظلة‏.‏ فقال‏:‏ مه‏!‏ فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر‏:‏ وأنا قد فعلت مثل ما فعل‏.‏ فقال‏:‏ يا حنظلة، ساعة ساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق‏.‏ ومن طريق ثالث‏:‏ فذكرنا الجنة والنار‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم، وأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، وإذا كان ينقص بالفترة عن الذكر، فلأن ينقص بفعل المعاصي من باب أولى، كما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى بيانه قريبا‏.‏

تفاضل أهل الإيمان

وأهله فيه على تفاضيل *** هل أنت كالأملاك أو كالرسل

هذه هي المسألة الثانية، وهي تفاضيل أهل الإيمان فيه، كما ذكر الله تبارك وتعالى أقسامهم التي قسمهم عليها بمقتضى حكمته، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله‏)‏، ‏(‏فاطر 32‏)‏ الآيات‏.‏

فقسم تعالى الناجين منهم إلى مقتصدين، وهم الأبرار أصحاب اليمين، الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك ولم ينقصوا منه، وإلى سابق بالخيرات، وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وتركوا ما لا بأس به خوفا مما به بأس، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، إلى آخر معنى الحديث السابق، فبه يسمعون وبه يبصرون، وبه يبطشون وبه يمشون، وبه ينطقون وبه يعقلون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏.‏ وأما الظالم لنفسه ففي المراد به عن السلف الصالح قولان‏:‏

‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أن المراد به الكافر، فيكون كقول الله عز وجل في تقسيمهم في سورة الواقعة عند البعث ‏(‏وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون‏)‏، ‏(‏الواقعة 7- 11‏)‏ إلى آخر الآيات‏.‏

وقسمهم عند الاحتضار كذلك، فقال عز وجل‏:‏ ‏(‏فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم‏)‏، ‏(‏الواقعة 88- 94‏)‏، فإن تفاضيل أهل الإيمان في تقسيم هذه السورة، إنما هو على درجتين‏:‏ سابقين مقربين، وأبرار هم أصحاب اليمين‏.‏ وأما أصحاب الشمال الذين هم المكذبون الضالون، فليسوا من أهل الإسلام باتفاق، وإنما الخلاف في الظالم نفسه في آية فاطر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المراد به عصاة الموحدين، فإنهم ظالمون لأنفسهم، ولكن ظلم دون ظلم، لا يخرج من الدين ولا يخلد في النار، فعلى هذا يكون قسم ثالث في تفاضل أهل الإيمان‏.‏ ورجح هذا القول ابن القيم- رحمه الله تعالى، فإذا كان هذا التفاوت بين أتباع الرسل، فكيف تفاوت ما بينهم وبين رسلهم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن الرسل متفاضلون، فقال‏:‏ ‏(‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات‏)‏، ‏(‏البقرة 253‏)‏، وقد تقدم تقرير ذلك في موضعه‏.‏

وكما أخبر الله تبارك وتعالى عن تفاوتهم في الإيمان في دار التكليف، كذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها، فقال في سورة الرحمن‏:‏ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46- 59‏)‏ إلى آخر السورة‏.‏

وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين، وكذلك في سورة المطففين، قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون‏)‏، ‏(‏المطففين 22- 28‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن‏.‏

وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات، حتى إنهم يتراءون، أهل عليين يرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي، ومتفاوتون في الأزواج، ومتفاوتون في الفواكه من المطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات، ومتفاوتون في الملك، ومتفاوتون في الحسن والجمال والنور، ومتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، ومتفاوتون في تكثير زيارتهم إياه، ومتفاوتون في مقاعدهم يوم المزيد، ومتفاوتون تفاوتا لا يعلمه إلا الله عز وجل‏.‏

وقد قدمنا أحاديث الشفاعة وفيها أن عصاة الموحدين الذين تمسهم النار بقدر ذنوبهم متفاوتون تفاوتا بعيدا‏:‏ متفاوتون في مقدار ما تأخذ منهم، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود‏.‏

وكذلك يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها، وسرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد، الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبدا‏.‏ فيقال للشفعاء‏:‏ أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم‏؟‏‏!‏ وأين من نوره على الصراط كالشمس، ممن نوره على إبهام قدمه ينونص تارة ويطفأ أخرى‏؟‏ ‏(‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون‏)‏، ‏(‏القلم 36‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ بينا أنا نائم، رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا ‏"‏ فما أولته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الدين‏.‏

وقال ابن أبي ملكية‏:‏ أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول‏:‏ إنه على إيمان جبريل وميكائيل‏.‏ ذكره البخاري تعليقا مجزوما به‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح‏.‏

وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله أول الأنفال حتى بلغ ‏(‏أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم‏)‏، ‏(‏الأنفال 4‏)‏ قال حين فرغ‏:‏ إن هذا الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا، فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة، فهو شاك في كتاب الله مكذب به، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه‏.‏ يا سفيه، ما أجهلك، لا ترضى أن تقول‏:‏ أنا مؤمن حتى تقول‏:‏ أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان‏.‏ والله، لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله منك‏.‏

ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل، وقرأ ‏(‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة‏)‏، ‏(‏البينة 5‏)‏، فقد سمى الله تعالى دين القيمة بالقول والعمل، فالقول الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ ‏(‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا‏)‏، ‏(‏مريم 55‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا‏)‏، ‏(‏الشورى 13‏)‏، فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفرق فيه ترك العمل والتفريق بين القول والعمل، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين‏)‏، ‏(‏التوبة 11‏)‏، فالتوبة من الشرك جعلها الله تعالى قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة‏.‏

وقال أصحاب الرأي‏:‏ ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان، افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون، لم يقاتل أبو بكر أهل الردة‏.‏

وقال فضيل‏:‏ يقول أهل البدع‏:‏ الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان‏.‏ قال‏:‏ فمن قال ذلك، فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏.‏

وتفسير من يقول الإيمان لا يتفاضل، يقول‏:‏ إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا‏:‏ إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك، فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض، رادا على الله أمره‏.‏

ويقول أهل السنة‏:‏ إن الله تعالى قرر العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏(‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏)‏، ‏(‏العنكبوت 7‏)‏، فهذا موصول العمل بالإيمان‏.‏

ويقول أهل الإرجاء‏:‏ لا، ولكنه مقطوع غير موصول‏.‏

وقال أهل السنة‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏)‏، ‏(‏النساء 124‏)‏ فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون‏:‏ بل هو مقطوع‏.‏

وقال أهل السنة‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن‏)‏، ‏(‏الإسراء 19‏)‏ فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا، فأهل السنة يقولون‏:‏ هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون‏:‏ بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون، كان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقال فضيل‏:‏ أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة لله بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض، صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة‏.‏

قيل له- يعني‏:‏ فضيلا- هذا من رأيك، تقوله أو سمعته‏؟‏ قال‏:‏ بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل، لم أتكلم به‏.‏ وقال فضيل‏:‏ يقول أهل الإرجاء‏:‏ الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية‏:‏ الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة‏:‏ الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال الإيمان قول بلا عمل، فقد خاطر؛ لأنه لا يدري، أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه‏؟‏ وقال- يعني فضيلا‏:‏ قد بينت لك إلا أن تكون أعمى‏.‏

وقال فضيل‏:‏ لو قال لي رجل‏:‏ مؤمن أنت‏؟‏ ما كلمته ما عشت‏.‏ وقال‏:‏ إذا قلت آمنت بالله، فهو يجزيك من أن تقول أنا مؤمن، وإذا قلت أنا مؤمن، لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قولوا آمنا بالله‏)‏، ‏(‏البقرة 136‏)‏ الآية، وقولك أنا مؤمن تكلف، لا يضرك أن لا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية‏.‏

وقال فضيل‏:‏ سمعت الثوري يقول‏:‏ من صلى إلى هذه القبلة، فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار في المواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسبهم، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، لا ندري ما لهم عند الله عز وجل‏.‏

وقال فضيل‏:‏ سمعت المغيرة الضبي يقول‏:‏ من شك في دينه، فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله‏.‏

قال فضيل‏:‏ الاستثناء ليس بشك، وقال فضيل‏:‏ المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف، قالوا‏:‏ هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده‏.‏

وقال فضيل‏:‏ الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال‏.‏ قال عبد الله‏:‏ قال أبي‏:‏ أخبرت، عن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‏)‏، ‏(‏البقرة 269‏)‏، قال‏:‏ الفقه والعلم، اهـ من كتاب السنة‏.‏

وفيه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال‏:‏ القلوب أربعة‏:‏ قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلبه، اهـ‏.‏ وهذا الموقوف قد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد حسن، فقال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية، حدثنا شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ القلوب أربعة‏:‏ قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح، فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى، غلبت عليه‏.‏

والآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين في هذا الباب أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، والمقصود بيان أن الناس متفاوتون في الدين بتفاوت الإيمان في قلوبهم، متفاضلون فيه بحسب ذلك، فأفضلهم وأعلاهم أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد، وبين ذلك مراتب ودرجات لا يحيط بها إلا الله عز وجل الذي خلقهم ورزقهم، وكما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، بل والله، يتفاضلون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد وفي مكان واحد، فإن الجماعة في الصلاة صافون كلهم في رأي العين، مستوون في القيام والركوع والسجود، والخفض والرفع، والتكبير والتحميد، والتسبيح والتهليل، والتلاوة وسائر الأذكار، والحركات والسكنات، في مسجد واحد، ووقت واحد وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والتفاضل ما لا يحصى، فهذا قرة عينه في الصلاة، يود إطالتها ما دام عمره، وآخر يرى نفسه في أضيق سجن، يود انقضاءها في أسرع من طرفة عين، أو يود الخروج منها، بل يتندم على الدخول فيها، وهذا يعبد الله على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يشاهده، وآخر قلبه في الفلوات، قد تشعبت به الضيعات وتفرقت به الطرقات، حتى لا يدري ما يقول ولا ما يفعل ولا كم صلى، وهذا ترفع صلاته تتوهج بالنور حتى تخترق السماوات إلى عرش الرحمن عز وجل، وهذا تخرج مظلمة لظلمة قلبه، فتغلق أبواب السماء دونها، فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها، وهذا يكتب له أضعافها وأضعاف مضاعفة، وهذا يخرج منها وما كتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثمنها إلا عشرها، وهذا يحضرها صورة ولم يكتب له منها شيء، وهذا منافق يأتيها رئاء الناس، ولا يؤمن بالله و اليوم الآخر‏.‏

هذا والناظر إليهم يراهم مستوين في فعلها، ولو كشف له الحجاب، لرأى من الفرقان ما لا يقدر قدرة إلا الله، الرقيب على كل نفس بما كسبت، الذي أحاط بكل شيء علما لا تخفى عليه خافية، وكذلك الجهاد، ترى الأمة من الناس يخرجون فيه مع إمام واحد، ويقاتلون عدوا واحدا على دين واحد، متساوين ظاهرا في القوى والعدد، فهذا يقاتل حمية وعصبية، وهذا يقاتل رياء وسمعة؛ لتعلم شجاعته ويرى مكانه، وهذا يقاتل للمغنم ليس له هم غيره، وهذا يقاتل؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وذا هو المجاهد في سبيل الله لا لغيره، وهذا هو الذي يكتب له بكل حركة أو سكون أو نصب أو مخمصة عمل صالح‏.‏

وهكذا الزكاة والصوم والحج، والأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وجميع أعمال الإيمان، الناس فيها على هذا التفاوت والتفاضل بحسب ما وقر في قلوبهم من العلم واليقين، وعلى ذلك يموتون، وعليه يبعثون، وعلى قدره يقفون في عرق الموقف، وعلى ذلك الوزن والصحف، وعلى ذلك تقسم الأنوار على الصراط، وبحسب ذلك يمرون عليه، ومن يبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وبذلك يتسابقون في دخول الجنة، وعلى حسبه رفع درجاتهم، وبقدره تكون مقاعدهم من ربهم تبارك وتعالى في يوم المزيد، وبمقدار ذلك ممالكهم فيها ونعيمهم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان

والفاسق الملي ذو العصيان *** لم ينف عنه مطلق الإيمان

لكن بقدر الفسق والمعاصي *** إيمانه ما زال في انتقاص

هذه هي المسألة الثالثة، وهي أن فاسق أهل القلبة لا ينفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، ولا يوصف بالإيمان التام، ولكن هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم‏.‏

والمراد بالفسق هنا هو الأصغر، وهو عمل الذنوب الكبائر التي سماها الله ورسوله فسقا وكفرا وظلما مع إجراء أحكام المؤمنين على عاملها، فإن الله تعالى سمى الكاذب فاسقا، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏)‏، ‏(‏الحجرات 6‏)‏، ومع هذا لم يخرج ذلك الرجل الذي نزلت فيه الآية من الدين بالكلية، ولم ينف عنه الإيمان مطلقا، ولم يمنع من جريان أحكام المؤمنين عليه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض‏.‏ الحديث وغيره‏.‏

وقد استب كثير من الصحابة على عهده ومن حضوره، فوعظهم وأصلح بينهم، ولم يكفرهم بل بقوا أنصاره ووزراءه في الدين، وقال الله- سبحانه‏:‏ ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الآخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏)‏، ‏(‏الحجرات 9‏)‏، فسمى الله تعالى كلا من الطائفتين المقتتلتين مؤمنة، وأمر بالإصلاح بينهما، ولو بقتال الباغية، ثم قال‏:‏ ‏(‏فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين‏)‏، ‏(‏الحجرات 9‏)‏، ثم لم ينف عنهم الأخوة أخوة الإيمان، لا فيما بين المقتتلين، ولا فيما بينهما وبين بقية المؤمنين، بل أثبتت أخوة الإيمان لهم مطلقا، فقال عز وجل‏:‏ ‏(‏إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون‏)‏، ‏(‏الحجرات 10‏)‏‏.‏

وكذلك في آية القصاص، أثبت الإيمان للقاتل والمقتول من المؤمنين، وأثبت لهم أخوة الإيمان، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏)‏، ‏(‏البقرة 178‏)‏، وكذلك الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏، سماهم أيضا مسلمين بعد أن رجعوا كذلك، فقال في صفة الخوارج‏:‏ وتمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق‏.‏

ومعلوم أن أصحاب علي بن أبي طالب، وأهل الشام هما الفرقتان اللتان مرقت الخوارج من بينهما، وقد اقتتلا قتالا عظيما، فسمى الجميع مسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم في سبطه الحسن بن علي‏:‏ إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله تعالى به بين فرقتين عظيمتين من المسلمين، فأصلح الله تعالى به بين هاتين الفرقتين بعد موت أبيه رضي الله عنهما في عام الجماعة، ولله الحمد والمنة‏.‏

ولا منافاة بين تسمية العمل فسقا أو عامله فاسقا، وبين تسميته مسلما، وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفرا، ولا كل ما سمى كفرا وظلما يكون مخرجا من الملة، حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته، وذلك لأن كلا من الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في النصوص على قسمين‏:‏

أكبر‏:‏ يخرج من الملة؛ لمنافاته أصل الدين بالكلية‏.‏

وأصغر‏:‏ ينقص الإيمان وينافي الملة، ولا يخرج صاحبه منه‏.‏

فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق‏.‏

قال تعالى في بيان الكفر‏:‏ ‏(‏إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين‏)‏، ‏(‏البقرة 34‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا‏)‏، ‏(‏النساء 167‏)‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الكفر الأصغر‏:‏ سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر‏.‏ وقال الله تعالى في الظلم الأكبر‏:‏ ‏(‏إن الشرك لظلم عظيم‏)‏، ‏(‏لقمان 13‏)‏، وقال في الظلم الأصغر‏:‏ ‏(‏واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا‏)‏، ‏(‏الطلاق 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا‏)‏، ‏(‏النساء 10‏)‏، وقال في الفسوق الأكبر‏:‏ ‏(‏إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏)‏، ‏(‏الكهف 50‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والكافرون هم الفاسقون‏)‏‏.‏

وقال تعالى في النفاق الأكبر‏:‏ ‏(‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين‏)‏، ‏(‏البقرة 8‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏)‏، ‏(‏النساء 145‏)‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في النفاق الأصغر‏:‏ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر‏.‏

فهذه الخصال كلها نفاق عملي، لا يخرج من الدين إلا إذا صحبه النفاق الاعتقادي المتقدم‏.‏

وما تمسك به الخوارج والمعتزلة وأضرابهم من التشبث بنصوص الكفر والفسوق الأصغر واستدلالهم به على الأكبر، فذلك مما جنته أفهامهم الفاسدة وأذهانهم البعيدة وقلوبهم الغلف، فضربوا نصوص الوحي بعضها ببعض، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏.‏

فقالت الخوارج‏:‏ المصر على كبيرة من زنا أو شرب خمر أو ربا كافر مرتد، خارج من الدين بالكلية، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو أقر لله تعالى بالتوحيد، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وصلى وصام وزكى وحج وجاهد، وهو مخلد في النار أبدا مع إبليس وجنوده، ومع فرعون وهامان وقارون‏.‏

وقالت المعتزلة‏:‏ العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نسميهم فاسقين، فجعلوا الفسق منزلة بين المنزلتين، ولكنهم لم يحكموا به بمنزلة في الآخرة بين المنزلتين، بل قضوا بتخليده في النار أبدا كالذين قبلهم، فوافقوا الخوارج مآلا وخالفوهم مقالا، وكان الكل مخطئين ضلالا‏.‏

وقابل ذلك المرجئة، فقالوا‏:‏ لا تضر المعاصي مع الإيمان لابنقص لا منافاة، ولا يدخل النار أحد بذنب دون الكفر بالكلية، ولا تفاضل عندهم بين إيمان الفاسق الموحد، وبين إيمان أبي بكر وعمر، حتى ولا تفاضل بينهم وبين الملائكة، لا ولا فرق عندهم بين المؤمنين والمنافقين، إذا الكل مستوفي النطق بالشهادتين كما قدمنا اعتقادهم في بحث الإيمان، نسأل الله تعالى العافية‏.‏

العاصي لا يخلد في النار، وأمره إلى الله

ولا نقول إنه في النار *** مخلد بل أمره للباري

تحت مشيئة الاله النافذة *** إن شا عفا عنه وإن شا آخذه

بقدر ذنبه إلى الجنان *** يخرج إن مات على الإيمان

‏(‏ولا نقول إنه‏)‏ أي الفاسق بالمعاصي التي لا توجب كفرا ‏(‏في النار مخلد‏)‏ هذه هي المسألة الرابعة من مسائل الفصل، ‏(‏بل نقول أمره‏)‏ مردود حكمه ‏(‏للباري‏)‏ في الجزاء والعفو ‏(‏تحت مشيئة الإله النافذة‏)‏ في خلقه، ‏(‏إن شاء‏)‏ الله عز وجل- ‏(‏عفا عنه‏)‏، وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، ‏(‏وإن شاء آخذه‏)‏ أي جازاه وعاقبه ‏(‏بقدر ذنبه‏)‏ الذي مات مصرا عليه، كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه‏:‏ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا، ثم ستره الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه‏.‏ فبايعناه على ذلك‏.‏

‏(‏وإلى الجنان يخرج‏)‏ من النار ‏(‏إن‏)‏ كان ‏(‏مات على الإيمان‏)‏ كما تقدم في أحاديث الشفاعة، وإنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، بل يخرج منها برحمة أرحم الرحمين، ثم بشفاعة الشافعين‏.‏

والعرض تيسير الحساب في النبا *** ومن يناقش الحساب عذبا‏.‏

في هذا البيت إشارة إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا‏)‏، ‏(‏الانشقاق 8‏)‏ الآيات، كما في صحيح البخاري، وغيره من طرق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل ‏(‏فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا‏)‏، ‏(‏الانشقاق 8‏)‏، قال‏:‏ ذلك العرض، يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك‏.‏ وفي رواية ‏"‏ عذب ‏"‏‏.‏

وقد قدمنا من نصوص الحشر وأحوال الموقف والميزان ونشر الصحف والعرض والحساب والصراط والشفاعات وغيرها ما يعلم به تفاوت مراتب الناس، وتباين أحوالهم في الآخرة بحسب تفاوتهم في الدار الدنيا في طاعة ربهم، وضدها من سابق، ومقتصد، وظالم لنفسه‏.‏

إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي أثبتته الآيات القرآنية، والسنن النبوية، ودرج عليه السلف الصالح، والصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة التفسير والحديث والسنة‏:‏ أن العصاة من أهل التوحيد على ثلاث طبقات‏:‏

الطبقة الأولى‏:‏ قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبدا‏.‏

الطبقة الثانية‏:‏ قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وتكافأت، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، كما قال تبارك وتعالى بعد أن دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار‏:‏ ‏(‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏)‏، ‏(‏الأعراف 44- 49‏)‏‏.‏

الطبقة الثالثة‏:‏ قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش، ومعهم أصل التوحيد، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم فوق ذلك، حتى إن منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء من بعده، والأولياء والملائكة، ومن شاء الله أن يكرمه، فيحد لهم حدا فيخرجونهم، ثم يحد لهم حدا فيخرجونهم، ثم هكذا فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم برة، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك إلى أن يقول الشفعاء‏:‏ ربنا لم نذر فيها خيرا، ويخرج الله تعالى من النار أقواما، لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولم يخلد في النار أحد من الموحدين، ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيمانا وأخف ذنبا كان أخف عذابا في النار، وأقل مكثا فيها وأسرع خروجا منها، وكل من كان أضعف إيمانا وأعظم ذنبا كان بضد ذلك، والعياذ بالله‏.‏

والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة، وقد قدمنا منها ما فيه كفاية، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ من قال لا إله إلا الله، نفعته يوما من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه‏.‏ وهذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

قال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد، بعد سرده أحاديث الشفاعة بأسانيدها قال‏:‏ قد روينا أخبارا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يحسب كثير من أهل الجهل والعناد أنها خلاف هذه الأخبار التي ذكرناها مع كثرتها، وعدالة ناقليها في الشفاعة، وفي إخراج بعض أهل التوحيد من النار بعد ما دخلوها بذنوبهم وخطاياهم، وليست بخلاف تلك الأخبار عندنا، بحمد الله ونعمته‏.‏

وأهل الجهل الذين ذكرتهم في هذا الفصل صنفان‏:‏ صنف منهم من الخوارج والمعتزلة، أنكرت إخراج أحد من النار ممن يدخل النار، وأنكرت هذه الأخبار التي ذكرناها في الشفاعة‏.‏

الصنف الثاني‏:‏ الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حرمت على من قال لا إله إلا الله، تتأول هذا الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللفظة على خلاف تأويلها‏.‏

فأول ما نبدأ بذكر الأخبار بأسانيدها وألفاظ متونها، ثم نبين معانيها بعون الله ومشيئته، ونشرح ونوضح أنها ليست بمخالفة للأخبار التي ذكرناها في الشفاعة، وفي إخراج من قضى الله إخراجهم من أهل التوحيد من النار، ثم ساق منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏

وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إني لأعلم كلمة، لا يقولها عبد حقا من قلبه، فيموت على ذلك إلا حرم على النار‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وحديث عتبان بن مالك‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن يوافى عبد يوم القيامة، وهو يقول لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله، إلا حرم على النار‏.‏ وفي رواية‏:‏ فإن الله قد حرم على النار أن تأكل من قال لا إله إلا الله‏.‏

وحديث عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، دخل الجنة‏.‏ وحديث معاذ بن جبل قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه، دخل الجنة‏.‏

وحديث عبادة بن الصامت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من لقى الله، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، دخل الجنة‏.‏ وفي رواية‏:‏ حرمه الله على النار‏.‏ وحديث جابر بن عبد الله‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه، فقال‏:‏ اذهب فناد في الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله موقنا أو مخلصا، دخل الجنة‏.‏

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، ما تركت من حاجة ولا داجة إلا أتيت عليها‏.‏ قال‏:‏ أو تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإن هذا يأتي على ذلك كله‏.‏

وحديث عمر رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله أمره أن يؤذن الناس، أن من يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصا، فله الجنة‏.‏ قال عمر‏:‏ يا رسول الله، إذا يتكلوا‏.‏ قال‏:‏ فدعهم‏.‏

وحديث عبد الله بن سلام قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وجبت له الجنة‏.‏ وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال لي جبريل‏:‏ من مات من أمتك لايشرك بالله شيئا، دخل الجنة ولم يدخل النار‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏.‏

وحديث أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46‏)‏، قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم- ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46‏)‏، قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏)‏، ‏(‏الرحمن 46‏)‏ وإن زنى وسرق، ورغم أنف أبي الدرداء‏.‏ فلا أزال أقرؤها كذلك حتى ألقاه‏.‏

حديث ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وأنا أقول أخرى‏.‏ قال‏:‏ من مات، وهو يجعل لله ندا، دخل النار‏.‏ قال وأقول‏:‏ من مات، وهو لا يجعل لله ندا، دخل الجنة‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ قد كنت أمليت أكثر هذا الباب من كتاب الإيمان، وبينت في ذلك الموضع معنى هذه الأخبار، وأن معناها ليس كما يتوهمه المرجئة، وبيقين يعلم كل عالم من أهل الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذه الأخبار أن من قال لا إله إلا الله، أو زاد معها شهادة أن محمدا رسول الله، ولم يؤمن بأحد من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم ولا آمن بشيء من كتاب الله عز وجل ولا بجنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، أنه من أهل الجنة لا يعذب بالنار، ولئن جاز للمرجئة الاحتجاج بهذه الأخبار، وإن كانت هذه الأخبار ظاهرها خلاف أصلهم، وخلاف كتاب الله عز وجل وخلاف سنن النبي صلى الله عليه وسلم لجاز للجهمية الاحتجاج بأخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تؤولت على ظاهرها، استحق من يعلم أن الله ربه، وأن محمدا نبيه، وإن لم ينطق بذلك لسانه، ولا يزال يسمع أهل الجهل والعناد يحتجون بأخبار مختصرة غير مقتصاة، وبأخبار مجملة غير مفصلة، لا يفهمون أصول العلم، فيستدلون بالمتقصي من الأخبار على مختصرها، وبالمفسر منها على مجملها، قد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه، لو حملت على ظاهرها كما حملت المرجئة الأخبار التي ذكرناها في شهادة أن لا إله إلا الله على ظاهرها، لكان العالم بقلبه أن لا إله إلا الله مستحقا للجنة، وإن لم يقر بذلك بلسانه، ولا أقر بشيء مما أمر الله تعالى بالإقرار به، ولا آمن بقلبه بشيء مما أمر الله بالإيمان به، ولا عمل بجوارحه شيئا أمر الله به، ولا انزجر عن شيء حرمه الله من سفك دماء المسلمين، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، واستحلال حرمهم‏.‏

فاسمع الخبر الذي ذكرت أنه غير جائز أن يحمل على ظاهره، كما حملت المرجئة الأخبار التي ذكرناها على ظاهرها، ثم ذكر حديث عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من مات، وهو يعلم أن لا إله إلا الله، دخل الجنة‏.‏ وحديث عمران بن حصين‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من علم أن الله ربه، وأني نبيه صادقا من قلبه- وأومأ بيده إلى فلذة صدره- حرم الله لحمه على النار‏.‏

وحديث معاذ رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من مات وهو يوقن بقلبه أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ إما دخل الجنة، وإما قال نجا من النار‏.‏

كيف جاز للجهمي الاحتجاج بهذه الأخبار أن المرء يستحق الجنة بتصديق القلب أن لا إله إلا الله، وبأن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور، ويترك الاستدلال بما سنبينه بعد، إن شاء الله من معنى هذه الأخبار، لم يؤمن أن يحتج جاهل، لم يعرف دين الله، ولا أحكام الإسلام بخبر عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من علم أن الصلاة عليه حق واجب، دخل الجنة‏.‏

فيدعي أن جميع الإيمان هو العلم بأن الصلاة عليه حق واجب، وإن لم يقر بلسانه مما أمر الله بالإقرار به، ولا صدق بقلبه بشيء مما أمر الله بالتصديق به، ولا أطاع في شيء أمر الله به، ولا انزجر عن شيء حرمه الله، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من علم أن الصلاة عليه حق واجب، دخل الجنة، كما أخبر أن من شهد أن لا إله إلا الله، دخل الجنة، ثم ذكر حديث عثمان بسنده‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا الخبر المختصر في الإيمان، واستحقاق المرء به الجنة، وترك الاستدلال بالأخبار المفسرة المقتصاة، لم يؤمن أن يحتج جاهل معاند، فيقول‏:‏ بل الإيمان إقام صلاة الفجر وصلاة العصر، وأن مصليها يستوجب الجنة ويعاذ من النار، وإن لم يأت بالتصديق ولا بالإقرار بما أمر أن يصدق به ويقربه، ولا يعمل بشيء من الطاعات التي فرض الله على عباده، ولا الزجر عن شيء من المعاصي التي حرمها الله، ويحتج بخبر عمار بن رؤيبة، فذكره بإسناده إلى عمار بن رؤيبة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، حرمه الله على النار‏.‏ فقال رجل من أهل البصرة‏:‏ وأنا سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قال أبو يكر‏:‏ قد أمليت طرق هذا الخبر في كتاب المختصر من كتاب الصلاة مع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من صلى الصبح فهو في ذمة الله‏.‏ وكل عالم يعلم دين الله وأحكامه، يعلم أن هاتين الصلاتين لا توجبان الجنة مع ارتكاب جميع المعاصي، إنما رويت في فضائل هذه الأعمال، وإنما رويت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة‏.‏ فضيلة لهذا القول، لا أن هذا القول كل الإيمان‏.‏

قلت‏:‏ للا إله إلا الله لوازم ومقتضيات وشروط، مقيد دخول الجنة بالتزام قائلها لجميعها واستكماله إياها، كما قدمنا بسطه، ولله الحمد‏.‏

قال- رحمه الله تعالى‏:‏ ولئن جاز لجأهل أن يقول إن شهادة أن لا إله إلا الله جميع الإيمان، إذ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن قائلها يستوجب الجنة، ويعاذ من النار، لم يؤمن أن يدعي جاهل معاند أيضا أن جميع الإيمان القتال في سبيل الله فواق ناقة، فيحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، دخل الجنة‏.‏ كاحتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة‏.‏

ويقول معاند آخر جاهل‏:‏ إن الإيمان بكماله المشي في سبيل الله حتى تغبر قدما الماشي، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار‏.‏ وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في منخري رجل مسلم‏.‏

ويدعي جاهل آخر‏:‏ أن الإيمان كله عتق رقبة مؤمنة، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار‏.‏

ويدعي جاهل آخر‏:‏ أن جميع الإيمان البكاء من خشية الله تعالى ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى‏.‏

ويدعي جاهل آخر أن جميع الإيمان صوم يوم في سبيل الله، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من صام يوما في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا‏.‏ ويدعي جاهل آخر‏:‏ أن جميع الإيمان قتل كافر، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا‏.‏ ثم ذكره بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

ثم قال- رحمه الله تعالى‏:‏ وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب، وفي قدر ما ذكرنا غنية وكفاية، لما له قصدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بفضائل هذه الأعمال التي ذكرنا، وما هو مثلها، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن كل عمل ذكره أعلم أن عامله يستوجب بفعله الجنة، أو يعاذ من النار أنه جميع الإيمان، وكذاك إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏"‏ من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة ‏"‏ أو ‏"‏ حرم على النار ‏"‏ فضيلة لهذا القول، لا أن جميع الإيمان كما ادعى من لا يفهم العلم ويعاند، فلا يتعلم هذه الصناعة من أهلها، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا ‏"‏، هذا لفظ مختصره الخبر المقتضي لهذه اللفظة المختصرة، ما حدثنا الربيع بن سليمان قال‏:‏ حدثنا شعيب بن الليث قال‏:‏ حدثنا الليث، عن محمد بن العجلان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يجتمعان في النار اجتماعا- يعني‏:‏ أحدهما مسلم قتل كافرا، ثم سدد المسلم وقارب ‏"‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ لذاك نقول في فضائل الأعمال التي ذكرنا‏:‏ من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال، ثم سدد وقارب ومات على إيمانه، دخل الجنة، ولم يدخل النار موضع الكفر منها، وإن ارتكب بعض المعاصي، لذاك لا يجتمع قاتل الكافر إذا مات على إيمانه، مع الكافر المقتول في موضع واحد من النار، لا إنه لا يدخل النار ولا موضعا منها، وإن ارتكب جميع الكبائر خلا الشرك بالله عز وجل، إذا لم يشأ تعالى أن يغفر له ما دون الشرك، فقد أخبر الله عز وجل أن للنار سبعة أبواب، فقال لإبليس‏:‏ ‏(‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله تعالى- ‏(‏لكل باب منهم جزء مقسوم‏)‏، ‏(‏الحجر 42- 44‏)‏‏.‏

فأعلمنا ربنا عز وجل أنه قسم تابعي إبليس من الغاوين سبعة أجزاء على عدد أبواب النار، فجعل لكل باب منهم جزءا معلوما، واستثنى عباده المخلصين من هذا القسم، فكل مرتكب معصية زجر الله عنها، فقد أغواه إبليس، والله عز وجل قد يشاء غفران كل معصية يرتكبها المسلم دون الشرك، وإن لم يتب منها، لذاك أعلمنا في محكم تنزيله قوله ‏(‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏، ‏(‏النساء 116‏)‏‏.‏ وأعلمنا خالقنا عز وجل أن آدم الذي خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأمر ملائكته بالسجود له عصاه فغوى، وأنه عز وجل برأفته ورحمته اجتباه بعد ذلك، فتاب عليه وهدى، ولم يحرمه الله بارتكاب هذا الحوب بعد ارتكابه إياه، فمن لم يغفر الله له حوبته التي ارتكبها، وأوقع عليه اسم غاو، فهو داخل في الأجزاء جزءا وقسما لأبواب النار السبعة‏.‏

وفي ذكره آدم صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏وعصى آدم ربه فغوى‏)‏، ‏(‏طه 121‏)‏ ما يبين ويوضح أن اسم الغاوي قد يقع على مرتكب خطيئة، قد زجر الله عن اتيانها، وأن لم تكن تلك الخطيئة كفرا ولا شركا ولا ما يقاربهما ويشبههما، ومحال أن يكون المؤمن الموحد لله عز وجل قلبه ولسانه المطيع لخالقه في أكثر ما فرض الله عليه، وندبه إليه من أعمال البر غير المفروض عليه، والمنتهي عن أكثر المعاصي، وإن ارتكب بعض المعاصي والحوبات في قسم من كفر بالله، ودعا معه آلهة له أو صاحبة أو ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولم يؤمن بشيء مما أمر الله تعالى بالإيمان به، ولا أطاع الله في شيء أمر به من الفرائض والنوافل، ولا انزجر عن معصية نهى الله عنها، محال أن يجتمع هذان في درجة واحدة من النار، والعقل مركب على أن يعلم أن كل من كان أعظم خطيئة، وأكثر ذنوبا، لم يتجاوز الله عن ذنوبه، كان أشد عذابا في النار، كما يعلم كل عاقل أن كل من كان أكثر طاعة لله عز وجل وتقربا إليه بفعل الخيرات، واجتناب السيئات كان أرفع درجة في الجنان، وأعظم ثوابا وأجزل نعمة، فكيف يجوز أن يتوهم عاقل مسلم أن أهل التوحيد يجتمعون في النار في الدرجة مع من كان يفتري على الله عز وجل فيدعو له شريكا أو شركاء، فيدعون له صاحبة وولدا، ويكفر به ويشرك، ويكفر بكل ما أمر الله بالإيمان به، ويكذب جميع الرسل، ويترك جميع الفرائض، ويرتكب المعاصي، فيعبد النيران ويسجد للأصنام والصلبان، فمن لم يفهم هذا الباب، لم يجد بدا من تكذيب الأخبار الثابتة من التي ذكرتها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار، إذ محال أن يقال أخرجوا من النار من ليس فيها، وأكثر استحالة من هذا أن يقال‏:‏ يخرج من النار من ليس فيها‏.‏

وفي إبطال أخبار النبي صلى الله عليه وسلم اضمحلال الدين وإبطال الإسلام، والله- عزوجل- لم يجمع بين جميع الكفار في موضع واحد من النار، ولا سوى بين عذاب جميعهم، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏)‏، ‏(‏النساء 145‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏)‏، ‏(‏غافر 46‏)‏‏.‏

ثم لما انتهى من الكلام على ما احتج به المرجئة على باطلهم، وكفر به الخوارج وردوه بباطل آخر، شرع رحمه الله في بيان ما تشبث به الخوارج، واحتجوا به على باطلهم، وما كفر به المرجئة وردوه بباطل آخر، فقال- رحمه الله تعالى‏:‏

باب‏:‏ ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة من جهة النقل‏:‏

جهل معناها فرقتان‏:‏ فرقة المعتزلة والخوارج، احتجوا بها، وادعوا أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار، محرم عليه الجنان، والفرقة الأخرى المرجئة، كفرت بهذه الأخبار وأنكرتها، ودفعتها جهلا منها بمعانيها، وأنا ذاكرها بأسانيدها وألفاظ متونها، ومبين معانيها بتوفيق الله‏.‏

ثم ذكر بأسانيده حديث أسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وسعد بن مالك رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام

وحديث عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من انتسب لغير أبيه، فلن يرح بريح الجنة، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاما‏.‏ وحديث حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل الجنة قتات‏.‏ وفي رواية‏:‏ نمام‏.‏

وحديث أبي أمامة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة‏.‏ فقال رجل‏:‏ وإن كان شيئا يسيرا‏؟‏ قال‏:‏ وإن كان قضيبا من أراك‏.‏ وحديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل الجنة نمام ولا عاق ولا مدمن خمر‏.‏

وحديث جبير بن مطعم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل الجنة قاطع‏.‏ وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاثة لا يدخلون الجنة‏:‏ العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء‏.‏

وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة‏:‏ العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى‏.‏ وحديث أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من قتل نفسا معاهده بغير حقها، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها‏.‏

ثم قال- رحمه الله تعالى‏:‏ معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ لا يدخل الجنة أي بعض الجنان، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أنها جنان من جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فمعنى هذه الأخبار التي ذكرها من فعل كذا لبعض المعاصي، حرم الله عليه الجنة أو لم يدخل الجنة، معناه لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيما وسرورا وبهجة وأوسع؛ لأنه أراد لا يدخل شيئا من تلك الجنان التي هي في الجنة‏.‏

وعبد الله بن عمرو قد بين خبره الذي روى، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر‏.‏ إنه إنما أراد حظيرة القدس من الجنة، على ما تأولت على أحد المعنيين، ثم ساق بإسناده، عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق، ولا منان‏.‏

قال‏:‏ والمعنى الثاني ما قد أعلمت أصحابي ما لا أحصي من مرة، أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد، فإنما هو على شريطة، أي ألا أن يشاء الله تعالى أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل، فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة، إذ الله عز وجل قد خبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر دون الشرك من الذنوب في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏، ‏(‏النساء 116‏)‏ قد أمليت هذه المسألة في كتاب معاني القرآن الكتاب الأول، واستدللت أيضا بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وساق بإسناده إلى قيس بن محمد بن الأشعث أن الأشعث وهب له غلاما، فغضب عليه وقال‏:‏ والله، ما وهبت لك شيئا، فلما أصبح رده عليه، وقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من حلف على يمين صبرا؛ ليقتطع مال امرئ مسلم، لقي الله يوم القيامة وهو مجتمع عليه غضبان، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة، وهو دليل على هذا المعنى‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ فاسمعوا الخبر المصرح بصحة ما ذكرت أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها على الانفراد؛ لتستدلوا بذلك على صحة تأويلنا الأخبار التي ذكرنا، عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل كذا وكذا لبعض المعاصي لم يدخل الجنة، إنما أراد بعض التي هي أعلى وأشرف وأفضل وأنبل وأكثر نعيما وأوسع، إذ محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من فعل كذا وكذا، لم يدخل الجنة، يريد لا يدخل شيئا من الجنان، ويخبر أنه يدخل الجنة، فتكون إحدى الكلمتين دافعة الأخرى، وأحد الخبرين دافعا الآخر؛ لأن هذا الجنس مما لا يدخله التناسخ، ولكنه من ألفاظ العام الذي يراد به الخاص‏.‏

ثم ساق بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، أنبئني عن حارثة، أصيب يوم بدر، فإن كان في الجنة، صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك، اجتهدت في البكاء‏.‏ فقال‏:‏ يا أم حارثة، إنها جنان في جنة، وإنه أصاب الفردوس الأعلى‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة، وبعد ما بين الدرجتين، منها أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف، كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء؛ لتفاضل ما بينهما، وقول بعض أصحابه‏:‏ تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم‏؟‏ قال‏:‏ بلى، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين‏.‏

وأمليت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام، فمعنى هذه الأخبار التي فيها ذكر بعض الذنوب التي يرتكبه بعض المؤمنين، أن مرتكبه لا يدخل الجنة، معناها لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والحوبات والخطايا‏.‏

ثم قال وقد يجوز أن يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة، يريد لم يدخل الجنة التي يدخلها فيه من لم يرتكب هذه الحوبة؛ لأنه يحبس عن دخول الجنة، إما للمحاسبة على الذنب، أو لإدخاله النار؛ ليعذب بقدر ذلك الذنب، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب النار، إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم، فيغفر ذلك الذنب، فمعنى هذه الأخبار على هذه المعاني؛ لأنها إذا لم تحمل على هذه المعاني كانت على وجه التهاتر والتكاذب، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه، ثم ساقه بإسناده عن علي رضي الله عنه فذكره‏.‏

انتهى كلامه رحمه الله تعالى باختصار بعض مكررة، فلا تستطله، فإنه كلام متين من إمام متضلع من معاني الكتاب والسنة، ذي خبرة وعلم لمواردها ومصادرها‏.‏

وقوله رحمه الله تعالى وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يعن رحمه الله التأويل الذي اصطلحه المتكلمون لصرف النصوص عن معانيها إلى الاحتمالات البعيدة التي هضموا بها معاني النصوص بما اقتضته عقولهم السخيفة، وليس ذلك من طريقته، ولا من شأنه- رحمه الله، وإنما عنى ما أشار إليه في غير موضع من كتبه من حمل المجمل على المفسر، والمختصر على المتقصي، والمطلق على المقيد، والعموم على الخصوص، وما أشبه ذلك من التأليف بين النصوص ومدلولاتها؛ لئلا تكون متناقضة يرد بعضها معنى بعض؛ لأن ذلك مما ينزه عنه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وهذه طريقة جميع أئمة المسلمين من علماء التفسير والحديث والفقه في أصول الدين وفروعه، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم‏.‏

‏(‏مسألة‏)‏‏:‏ فإن قيل‏:‏ وما الجمع بين ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت فيمن ارتكب حدا، لم يقم عليه، قال‏:‏ فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، وبين ما صرحت به النصوص التي في الميزان والحساب والجنة، من أن من رجحت خطاياه وسيئاته بحسناته، تمسه النار ولا بد‏.‏

قلنا‏:‏ لا إشكال في ذلك ولا منافاة، ولله الحمد‏.‏ وقد حصل الجمع الفاصل للنزاع بحديث عائشة رضي الله عنها- الذي ذكرنا في شرح البيت الأدنى، بأن من يشأ عز وجل أن يعفو عنه، يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض، وقال في معنى العرض في الأحاديث السابقة في صفته‏:‏ يدنوا أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقول‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ ويقول‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقرره ثم يقول‏:‏ إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏.‏

وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم، فهم ممن يناقش الحساب، وقد قال رسول اللله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من نوقش الحساب عذب‏.‏ نسأل الله عز وجل أن ييسر حسابنا ويتجاوز عنا، ويغفر لنا بمنه وكرمه، آمين‏.‏

عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها‏.‏

ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا *** إلا مع استحلاله لما جنى‏.‏

‏(‏ولا نكفر بالمعاصي‏)‏ التي قدمنا ذكرها، وأنها لا توجب كفرا، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك، ولا تستلزمه ولا تنافي اعتقاد القلب ولا عمله، ‏(‏مؤمنا‏)‏ مقرا بتحريمها معتقدا له، مؤمنا بالحدود المترتبة عليها، ولكن نقول يفسق بفعلها، ويقام عليه الحد بارتكابها، وينقص إيمانه بقدر ما تجارأ عليه منها‏.‏

والدليل على فسقه ونقصان إيمانه قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم‏)‏، ‏(‏النور 4- 5‏)‏، وما في معناها من آيات الحدود والكبائر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد‏.‏ الحديث في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

والدليل على أن النفي في هذا الحديث وغيره ليس لمطلق الإيمان، بل لكماله هو ما قدمنا من النصوص التي صرحت بتسميته مؤمنا، وأثبتت له أخوة الإيمان، وأبقت له أحكام المؤمنين‏.‏

‏(‏إلا مع استحلاله لما جنى‏)‏ هذه هي المسألة الخامسة، وهو أن عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها، بل يكفر بمجرد اعتقاده بتحليل ما حرم الله ورسوله، لو لم يعمل به؛ لأنه حينئذ يكون مكذبا بالكتاب، ومكذبا بالرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏

فمن جحد أمرا مجتمعا عليه، معلوما من الدين بالضرورة، فلا شك في كفره‏.‏