فصل: ذكر ما جاء من الأحاديث في ذم القدرية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


ذكر ما جاء من الأحاديث في ذم القدرية

تقدم في الحديث الذي رواه مسلم، عن أبي هريرة أن هذه الآية ‏(‏إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر القمر‏)‏، ‏(‏القمر‏:‏ 47- 49‏)‏ أنها نزلت في المخاصمين في القدر‏.‏ وتقدم فيهم أحاديث الصحابة من روايتهم سؤال جبريل عن الدين وغير ذلك من الأحاديث التي سقناها متفرقة في مواضع من هذا المجموع‏.‏

وقال أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال‏:‏ حدثني بمنى، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم‏.‏ ورواه الإمام أحمد عنه بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وفي رواية‏:‏ إن لكل أمه مجوسا، وإن مجوس أمتي المكذبون بالقدر‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية‏.‏ وله عن نافع قال‏:‏ كان لابن عمر رضي الله عنهما صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر‏:‏ إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكب إلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر‏.‏

وللترمذي، عن نافع، عنه رضي الله عنه‏:‏ جاءه رجل فقال‏:‏ إن فلانا يقرأ عليك السلام، فقال‏:‏ إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث، فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ في هذه الأمة، أو في أمتي- الشك منه- خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر‏.‏ هذا الحديث حسن صحيح غريب‏.‏

وقال أبو داود رحمه الله أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن أبي كثير، أخبرنا سفيأن، عن عمر بن محمد، عن عمر مولى غفرة، عن رجل من الأنصار، عن حذيفة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري أبو عبد الرحمن قال‏:‏ حدثني سعيد بن أبي أيوب قال‏:‏ حدثني عطاء بن دينار، عن حكيم بن شريك الهذلي، عن يحيى بن ميمون الحضرمي، عن ربيعة الحرشي، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم‏.‏ صحيح‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبي سنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن الديلمي قال‏:‏ أتيت أبي بن كعب، فقلت له‏:‏ وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال‏:‏ لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالمهم، ولو رحمهم، كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار‏.‏ قال‏:‏ ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك‏.‏ قال‏:‏ ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك‏.‏ قال‏:‏ ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدثني، عن النبي مثل ذلك‏.‏ وتقدم ذكر وصية عبادة لابنه في ذلك‏.‏

وقال الترمذي- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا واصل بن عبد الأعلى، أخبرنا محمد بن فضيل، عن القاسم بن حبيب وعلي بن نزار، عن نزار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب‏:‏ المرجئة، والقدرية‏.‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا أبو داود، أنبأنا شعبة، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع‏:‏ يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ باب ما جاء من التشديد في الخوض في القدر‏.‏ حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي، أنبأنا صالح المري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، فقال‏:‏ أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم‏؟‏ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه‏.‏

ولأحمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، قال وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال فقال لهم‏:‏ ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض‏؟‏ بهذا هلك من كان قبلكم‏.‏ قال‏:‏ فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده‏.‏ ورواه ابن ماجه ولأحمد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر‏.‏

وله عن محمد بن عبيد المكي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قيل لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال‏:‏ دلوني عليه، وهو يومئذ قد عمى‏.‏ قالوا‏:‏ وما تصنع به يا أبا عباس‏؟‏ قال‏:‏ والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه، لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي، لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده، لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا‏.‏

وروى البزار، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ ما نزلت هذه الآيات ‏(‏إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏، ‏(‏القمر 47- 49‏)‏ إلا في أهل القدر‏.‏

ولابن أبي حاتم، عن ابن زرارة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية ‏(‏ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏، ‏(‏القمر 48- 49‏)‏ قال‏:‏ نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله‏.‏

وروى الحسن بن عرفة، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم، وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له‏:‏ تكلم في القدر‏.‏ فقال‏:‏ أو قد فعلوها‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فوالله، ما نزلت هذه الآية إلا فيهم ‏(‏ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏، ‏(‏القمر 48- 49‏)‏ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم، فقأت عينيه بأصبعي هاتين‏.‏

ذكر‏:‏ أقوال الصحابه في هذا الباب

تقدم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر، وقول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت لابن الديلمي، ووصية عبادة بن الصامت لابنه‏.‏

وروى عبد الله بن أحمد، عن ابن عباس قال‏:‏ أول ما خلق الله القلم، ثم قال‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ وله عنه فكتب فيما كتب ‏(‏تبت يدا أبي لهب‏)‏، ‏(‏المسد‏:‏ 1‏)‏‏.‏ وله عنه قال‏:‏ أخرج الله ذرية آدم من ظهره مثل الذر فسماهم، قال هذا فلان وهذا فلان، ثم قبض قبضتين فقال للتي في يمينه‏:‏ ادخلوا الجنة‏.‏ وقال للتي في يده الأخرى‏:‏ ادخلوا النار ولا أبالي‏.‏

وله عنه قال‏:‏ إن الرجل ليمشي في الأسواق، وإن اسمه لفي الموتى‏.‏ وله عنه ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏)‏، ‏(‏الرعد 39‏)‏ قال‏:‏ إلا الشقاوة والسعادة، والحياة والموت‏.‏

وله عنه‏:‏ إن أول ما خلق القلم، فأمره أن يكتب ما يريده أن يخلق، فالكتاب عنده، ثم قرأ ‏(‏وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم‏)‏، ‏(‏الزخرف 4‏)‏‏.‏

وله عن عكرمة قال‏:‏ سئل ابن عباس، كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير‏؟‏ قال‏:‏ إن سليمان نزل منزلا، فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهندسا، قال‏:‏ فأراد أن يسأله عن الماء ففقده‏.‏ قلت‏:‏ وكيف يكون مهندسا، والصبي ينصب له الحبالة فيصيده‏؟‏ قال‏:‏ إذا جاء القدر حال دون البصر‏.‏

وله عن أبي الزبير أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت، فمر بمعبد الجهني، فقال قائل لطاوس‏:‏ هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه، فقال‏:‏ أنت المفتري على الله، القائل ما لا تعلم‏؟‏ قال معبد‏:‏ يكذب علي‏.‏ قال أبو الزبير‏:‏ فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس، فقال له طاوس‏:‏ يا أبا عباس، الذين يقولون في القدر‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ أروني بعضهم‏.‏ قال‏:‏ قلنا صانع ماذا‏؟‏ قال‏:‏ إذن أجعل يدي في رأسه، ثم أدق عنقه‏.‏

وله عنه قال‏:‏ ليس قوم أبغض إلي من القدرية، إنهم لا يعلمون قدرة الله، إن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏لا يسئل عما يفعل وهم يسألون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 23‏)‏‏.‏

وله عن طاوس قال‏:‏ كنت مع ابن عباس في حلقة، قال‏:‏ فذكروا أهل القدر، قال فقال‏:‏ أفي الحلقة منهم أحد فآخذ برأسه، ثم أقرأ عليه ‏(‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا‏)‏، ‏(‏الإسراء 4‏)‏، وأقرأ عليه آية كذا وآية كذا‏.‏ وله عنه وذكر عنده القدرية، قال فقال‏:‏ لو رأيت أحدا منهم لعضضت أنفه‏.‏

وله عنه قال‏:‏ الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن وكذب بالقدر، فهو نقض للتوحيد‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فمن وحد وكذب بالقدر، فقد نقض التوحيد‏.‏

وله عن أبي يحيى مولى ابن عفراء قال‏:‏ أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه، فقلت‏:‏ يا ابن عباس، ما تقول في القدر لو أن هؤلاء أتوك يسألونك- وقال مرة- يسألونك عن القدر، إن زنا وإن سرق أو شرب‏؟‏ فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه، وقال‏:‏ يا أبا يحيى، لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به، والله، لو أعلم أنك منهم أو هذين معك لجاهدتهم، إن زنا فبقدر، وإن سرق فبقدر، وإن شرب الخمر فبقدر‏.‏

وروى إسحاق بن الملائي عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏، ‏(‏الأعراف 172‏)‏ قال‏:‏ إن الله تعالى أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه، وكتب رزقه، وأجله ومصيباته، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم، وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم‏.‏

وفي تفسير أسباط، عن السدي، عن أصحابه أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم في قوله‏:‏ ‏(‏وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏، ‏(‏الأعراف 172‏)‏ الآية، قال‏:‏ لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء، مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال‏:‏ ادخلوا النار ولا أبالي‏.‏ فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية، فقال‏:‏ هو والملائكة ‏(‏شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل‏)‏، ‏(‏الأعراف 172‏)‏ الآية، فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول ‏(‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏)‏، ‏(‏الزخرف 23‏)‏، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏، ‏(‏الأعراف 172‏)‏، وذلك حين يقول تعالى‏:‏ ‏(‏وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها‏)‏، ‏(‏آل عمران 83‏)‏، وذلك حين يقول‏:‏ ‏(‏قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين‏)‏، ‏(‏الأنعام 149‏)‏ قال‏:‏ يعني يوم الميثاق‏.‏ وعن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏)‏، ‏(‏الجاثية 29‏)‏ قال‏:‏ تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب‏.‏ وعنه رضي الله عنه قال‏:‏ كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن، ثم بعث الحفظة على آدم وذريته، وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد، ثم قرأ ‏(‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏)‏، ‏(‏الجاثية 29‏)‏ وفي تفسير الضحاك عنه رضي الله عنه في هذه الآية قال‏:‏ هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات، تنزل من السماء كل غداة وعشية، ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل، والذي يغرق، والذي يقع من فوق بيت، والذي يتردى من جبل، والذي يقع، والذي يحرق بالنار فيحفظون عليه ذلك كله، وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء، فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم‏.‏

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ خلق الله الخلق قبضتين، فقال لمن في يمينه‏:‏ ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى‏:‏ ادخلوا النار ولا أبالي‏.‏

ولعبد الله ابن الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لا يزال أمر هذه الأمة قواما أو مقاربا، ما لم يتكلموا في القدر‏.‏ وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حين طعن‏:‏ ‏(‏وكان أمر الله قدرا مقدورا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 38‏)‏‏.‏

وله عن عبد الله بن الحارث الهاشمي قال‏:‏ خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، وفي لفظ بالشام، والجاثليق ماثل، فتشهد فقال‏:‏ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ فقال الجاثليق بقميصه هكذا- يعني‏:‏ نفضه، وقال‏:‏ إن الله لا يضل أحدا‏.‏ فقال‏:‏ ما يقول‏؟‏ فقالوا ما قال‏.‏ فقال‏:‏ كذبت عدو الله، الله خلقك، والله أضلك، ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء الله، والله، لولا عقد لك لضربت عنقك، ثم قال‏:‏ إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يديه، ثم كتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون، ثم قال‏:‏ هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه‏.‏ قال‏:‏ فتصدع الناس وما يتنازع في القدر‏.‏

وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ما من آدمي إلا ومعه ملك يقيه ما لم يقدر له، فإذا جاء القدر خلاه وإياه‏.‏ وله عنه رضي الله عنه قال‏:‏ وذكر عنده القدر يوما، فأدخل إصبعه السبابة والوسطى في فيه، فرقم بهما باطن يديه فقال‏:‏ أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب‏.‏

وله عن أسير بن جابر قال‏:‏ طلبت عليا في منزله فلم أجده، فنظرت فإذا هو في ناحية المسجد‏.‏ قال فقلت له- كأنه خوفه- قال فقال‏:‏ إيه ليس أحد إلا ومعه ملك يدفع عنه ما لم ينزل القدر، فإذا نزل القدر، لم يغن شيئا‏.‏

وله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال له رجل‏:‏ إنا نسافر فنلقى قوما يقولون‏:‏ لا قدر‏.‏ قال‏:‏ إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات‏.‏ ولعبد الرزاق، عن يحيى بن يعمر قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ إن أناسا عندنا يقولون الخير والشر بقدر، وناس عندنا يقولون الخير بقدر والشر ليس بقدر‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ إذا رجعت إليهم، فقل لهم‏:‏ إن ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه برآء‏.‏

ولعبد الله بن أحمد عنه رضي الله عنه قال‏:‏ من زعم أن مع الله بارئا أو قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا بعثه الله يوم القيامة، فأخرسه وأعمى بصره، وجعل عمله هباء منثورا، وقطع به الأسباب، وكبه على وجهه في النار‏.‏

وله عن نافع قال‏:‏ قيل لابن عمر‏:‏ إن قوما يقولون لا قدر‏.‏ فقال‏:‏ أولئك القدريون، أولئك مجوس هذه الأمة‏.‏ وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ مضت الكتب وجفت الأقلام، فشقي أو سعيد، فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

وله عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال‏:‏ رفع الكتاب وجفت الأقلام، وأمور تقضى في كتاب قد خلا‏.‏ وفي رواية قضى القضاء وجف القلم وأمور تكفي في كتاب قد خلا‏.‏ وله عنه رضي الله عنه قال‏:‏ سيكون ناس يصدقون بقدر ويكذبون بقدر، فيلعنهم أبو هريرة عند قوله هذا‏.‏ وله عن عمار مولى بني هاشم قال‏:‏ سألت أبا هريرة رضي الله عنه عن القدر فقال‏:‏ اكتفي بآخر سورة الفتح‏.‏

وله عن أبي الحجاج الأزدي، عن سليمان رضي الله عنه قال‏:‏ لقيته بماء سبذان، قال فقلت له‏:‏ أخبرني كيف الإيمان بالقدر‏؟‏ قال‏:‏ أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تقل‏:‏ لو كان كذا لكان كذا، ولو نفعل كذا لكان كذا‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر قال‏:‏ قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري‏:‏ وددت أني وجدت من أخاصم إليه ربي‏.‏ فقال أبو موسى‏:‏ أنا‏.‏ فقال عمرو بن العاص‏:‏ أيقدر علي شيئا يعذبني عليه‏؟‏ فقال أبو موسى‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ لأنه لا يظلمك‏.‏ فقال عمرو‏:‏ صدقت‏.‏

وله عن ابن الديلمي، سألت عبد الله بن عمرو عن ‏"‏ جف القلم ‏"‏، فقال‏:‏ إن الله حين خلق الخلق ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه شيء منه اهتدى‏.‏

وكلام الصحابة في هذا الباب يطول ذكره، وقد جمعت فيه التصانيف الكثيرة‏.‏

ذكر أقوال التابعين

قال عبيد بن عمير‏:‏ إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم ونجواكم وحلاكم ومجالسكم‏.‏

وقال سعيد بن جبير ‏(‏يحول بين المرء وقلبه‏)‏، ‏(‏الأنفال 24‏)‏، قال‏:‏ يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان‏.‏

وقال رحمه الله تعالى فذكر قصة بخت نصر وملك ابنه، فرأى كفا فرجت بين لوحين، ثم كتبت سطرين، فدعا الكهان والعلماء فلم يجد عندهم منه علما، فقالت له أمه‏:‏ إنك لو أعدت لدانيال منزلته التي كانت له من أبيك- وكان قد جفاه- أخبرك، فدعاه فقال‏:‏ إني معيد لك منزلتك من أبي، فأخبرنا ما هذان السطران‏؟‏ قال‏:‏ أما ما ذكرت أنك معيد لي منزلتي من أبيك، فلا حاجة لي بذلك، وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة، فأخرج من في القصر أجمعين، وأمر بقفلة جلاد، فقفلت بها الأبواب عليه، وأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيف، وقال له‏:‏ من جاء من خلق الله فاقتله، وإن قال أنا فلان، وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي والآخر مستيقظ، حتى إذا كان على شطر الليل، رقد ورقد صاحبه، ثم نبهه البطن فذهب يمشي والآخر راقد، فرجع فاستيقظ فقال‏:‏ أنا فلان، وضربه بالسيف فقتله‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ ما قدر الله فهو قدر‏.‏ وكان إياس بن معاوية يقول‏:‏ أعلم الناس بالقدر ضعفاؤهم، يقول‏:‏ إن كل من لم يدخل في خصومة القدر كان من قوله إذا تكلم‏:‏ كان من قدر الله كذا وكذا‏.‏

وقال معمر‏:‏ إن ابن شبرمة كان يغضب إذا قيل له مد الله في عمرك، يقول‏:‏ إن العمر لا يزاد فيه ولا ينقص منه‏.‏ وقال أبو حازم‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏فألهمها فجورها وتقواها‏)‏، ‏(‏الشمس 8‏)‏ قال‏:‏ فالفاجر ألهمها الله الفجور، والتقية ألهمها الله التقوى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قول الله ‏(‏إني أعلم ما لا تعلمون‏)‏ قال‏:‏ علم من إبليس المعصية، وخلقه لها‏.‏ وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال‏:‏ وقف رجاء بن حيوة على مكحول وأنا معه، فقال‏:‏ يا مكحول، بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، ووالله، لو أعلم ذلك لكنت صاحبك من بين الناس، فقال مكحول‏:‏ لا والله، أصلحك الله، ما ذاك من شأني ولا من قولي أو نحو ذلك‏.‏

وقال إبراهيم النخعي‏:‏ إن آفة كل دين كان قبلكم، أو قال‏:‏ آفة كل دين القدر‏.‏ وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير‏:‏ لم نوكل في القرآن إلى القدر، وأخبرنا أنا إليه نصير‏.‏ وكان طاوس بمكة يصلي، ورجلان خلفه يتجادلان في القدر، فانصرف إليهما فقال‏:‏ يرحمكما الله، تجادلان في حكم الله‏؟‏

وقال ميمون‏:‏ لا تسبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا تعلموا النجوم، ولا تجادلوا أهل القدر‏.‏ وقال طاوس أيضا‏:‏ أدركت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ كل شيء بقدر‏.‏ وقال أبو حازم‏:‏ لعن الله دينا أنا أكبر منه- يعني‏:‏ التكذيب بالقدر‏.‏ يقول هذا عندما يروى حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره‏.‏

وعن عمرو بن محمد قال‏:‏ كنت عند سالم بن عبد الله، فجاءه رجل فقال‏:‏ الزنا بقدر‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ كتبه علي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ويعذبني عليه‏؟‏ قال‏:‏ فأخذ له الحصى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ من كذب بالقدر، فقد كذب بالقرآن‏.‏

وقال مجاهد في قوله تعالى- ‏(‏لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون‏)‏، ‏(‏المؤمنون 63‏)‏، قال‏:‏ أعمال لا بد لهم من أن يعملوها‏.‏

وعن أبي صالح ‏(‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏)‏، ‏(‏النساء 79‏)‏ وأنا قدرتها عليك‏.‏ وقال حميد‏:‏ قدم الحسن مكة، فقال لي فقهاء مكة- الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد‏:‏ لو كلمت الحسن فأخلانا يوما، فكلمت الحسن فقلت‏:‏ يا أبا سعيد، إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوما‏.‏ قال‏:‏ نعم، ونعمت عين، فواعدهم يوما فجاءوا واجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة، فلم يخطئ فيها شيئا إلا في مسألة‏.‏ فقال له رجل‏:‏ يا أبا سعيد، من خلق الشيطان‏؟‏ قال‏:‏ سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله‏؟‏ ثم قال‏:‏ إن الله تعالى خلق الشيطان، وخلق الشر وخلق الخير‏.‏ فقال رجل منهم‏:‏ قاتلهم الله يكذبون على الشيخ‏.‏ وقال أيضا‏:‏ قرأت على الحسن في بيت أبي خليفة القرآن أجمع، من أوله إلى آخره، وكان يفسره على الإثبات‏.‏ وقال خالد الحذاء‏:‏ قلت للحسن‏:‏ أرأيت آدم أللجنة خلق أم للأرض‏؟‏ قال‏:‏ للأرض‏.‏ قال قلت‏:‏ أرأيت لو اعتصم‏؟‏ قال‏:‏ لم يكن بد من أن يأتي على الخطيئة‏.‏ وقال إياس بن معاوية‏:‏ ما كلمت أحدا من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني قلت لهم‏:‏ ما الظلم فيكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أن يأخذ الإنسان ما ليس له‏.‏ فقلت لهم‏:‏ فإن الله على كل شيء قدير‏.‏

ولعبد الرزاق، عن معمر قال‏:‏ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة‏:‏ أما بعد، فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان كان من الخطايا التي قدر الله عليك، وقدر أن تبتلى بها‏.‏

ولعبد الله بن أحمد عنه رضي الله عنه قال‏:‏ لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس، ثم قرأ ‏(‏ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم‏)‏، ‏(‏الصافات 163‏)‏‏.‏

وله عنه رضي الله عنه أنه قال لغيلان‏:‏ ألست تقر بالعلم‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فما تريد مع أن الله يقول‏:‏ ‏(‏فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم‏)‏، ‏(‏الصافات 162- 163‏)‏‏؟‏

وله عن أبي جعفر الخطمى قال‏:‏ شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر، فقال‏:‏ ويحك يا غيلان، ما هذا الذي بلغني عنك‏؟‏ قال‏:‏ يكذب علي يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لم أقل‏.‏ قال‏:‏ ما تقول في العلم‏؟‏ قال‏:‏ قد نفذ العلم‏.‏ قال‏:‏ فأنت مخصوم، اذهب الآن، فقل ما شئت‏.‏ ويحك يا غيلان، إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك أن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحده فتكفر‏.‏ قال‏:‏ ثم قال له‏:‏ تقرأ يس‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فقال له‏:‏ اقرأ ‏(‏يس والقرآن الحكيم‏)‏، ‏(‏يس 1- 2‏)‏ فقرأ ‏(‏يس والقرآن الحكيم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏)‏، ‏(‏يس 1- 7‏)‏ قال‏:‏ قف، كيف ترى‏؟‏ قال‏:‏ كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ زد ‏(‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا‏)‏، ‏(‏يس 8- 9‏)‏ قال له عمر‏:‏ قل سدا فأغشيناهم، قال‏:‏ قال له عمر‏:‏ قل ‏(‏فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏)‏، ‏(‏يس 9- 10‏)‏ قال‏:‏ كيف ترى‏؟‏ قال‏:‏ كأني لم أقرأ هذه الآيات، وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا‏.‏ قال‏:‏ اذهب‏.‏ فلما ولى، قال‏:‏ اللهم إن كان كاذبا فيما قال، فأذقه حر السلاح‏.‏ قال‏:‏ فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك، جاء رجل لا يهتم لهذا ولا ينظر فيه، قال‏:‏ فتكلم غيلان، فلما ولي هشام، أرسل إليه، فقال‏:‏ أليس قد عاهدت الله تعالى لعمر أن لا تتكلم في شيء من هذا الأمر أبدا‏؟‏ قال‏:‏ أقلني، فلا والله لا أعود‏.‏ قال‏:‏ لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ اقرأها، فقرأ ‏(‏الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين‏)‏، ‏(‏الفاتحة 2- 5‏)‏ قال‏:‏ قف، علام تستعينه‏؟‏ أعلى أمر بيده لا تستطيعه إلا به، أو على أمر في يدك أو بيدك‏؟‏ اذهبا به فاقطعا يديه ورجليه، واضربوا عنقه واصلبوه‏.‏ قال ابن عون‏:‏ أنا رأيت غيلان مصلوبا على باب دمشق‏.‏

وعنه قال في أصحاب القدر‏:‏ فإن تابوا، وإلا نفوا من دار المسلمين‏.‏ وقال مالك، عن عمه سهل قال‏:‏ كنت مع عمر بن عبد العزيز، فقال لي‏:‏ ما ترى في هؤلاء القدرية‏؟‏ قال قلت‏:‏ أرى أن تستتيبهم، فإن قبلوا، وإلا عرضتهم على السيف‏.‏ فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ذلك رأيي‏.‏ قلت‏:‏ أسألك، فما رأيك أنت‏؟‏ قال‏:‏ هو رأيي‏.‏ القائل لمالك فما رأيك‏؟‏ هو إسحاق بن عيسى‏.‏

وكان نافع مولى ابن عمر يقول لأمير كان على المدينة‏:‏ أصلحك الله، اضرب أعناقهم- يعني‏:‏ القدرية‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله، فلا أدري من هم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يكون مجوسية حتى يكون قدرية، ثم تزندقوا، ثم تمجسوا‏.‏

وقال منصور بن عبد الرحمن‏:‏ سألت الحسن عن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك‏)‏، ‏(‏هود 118‏)‏ فقال‏:‏ الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، ومن رحم غير مختلف فيه، فلقنته ‏(‏ولذلك خلقهم‏)‏ قال‏:‏ نعم، خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وهؤلاء لعذابه‏.‏

وقال أيضا‏:‏ قلت للحسن‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏)‏، ‏(‏الحديد 22‏)‏ قال‏:‏ قسمة الله، ومن يشك في هذا‏؟‏ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله تعالى قبل أن يبرأ النسمة‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ نزلت هذه الآية ‏(‏يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏، ‏(‏القمر 47- 49‏)‏ في أهل القدر‏.‏ وفي رواية عنه قال‏:‏ نزلت تعييرا لأهل القدر‏.‏ وعنه أن الفضل الرقاشي قعد إليه، فذاكره شيئا من القدر، فقال له محمد بن كعب القرظي‏:‏ تشهده، فلما بلغ ‏(‏من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له‏)‏ رفع محمد عصا معه، فضرب بها رأسه وقال‏:‏ قم، فلما قام فذهب، قال‏:‏ لا يرجع هذا عن رأيه أبدا‏.‏

وقال مطر- رحمه الله‏:‏ لقيني عمرو بن عبيد فقال‏:‏ والله، إني وإياك لعلى أمر واحد‏.‏ قال‏:‏ وكذب والله، إنما عنى على الأرض‏.‏ وقال‏:‏ والله، ما أصدقه في شيء‏.‏

وعن ثابت البناني قال‏:‏ رأيت عمرو بن عبيد، وهو يحك المصحف، فقلت‏:‏ ما تصنع‏؟‏ فقال‏:‏ أثبت مكانه خيرا منه‏.‏ وعن حماد بن زيد قال‏:‏ كنت مع أيوب ويونس وابن عون وغيرهم، فمر بهم عمرو بن عبيد، فسلم عليهم ووقف وقفته، فما ردوا عليه السلام، ثم جاز فما ذكروه‏.‏

وعن الحسن بن شقيق قال‏:‏ قلت لعبد الله- يعني‏:‏ ابن المبارك‏:‏ سمعت من عمرو بن عبيد‏؟‏ قال هكذا بيده، أي كثيرا‏.‏ قلت‏:‏ فلم لا تسميه وأنت تسمي غيره من القدرية‏؟‏ قال‏:‏ لأن هذا كان رأسا‏.‏

وعن معاذ بن مكرم قال‏:‏ رآني ابن عون مع عمرو بن عبيد في السوق، فأعرض عني، قال فاعتذرت إليه، قال‏:‏ أما إني قد رأيتك فما زادني‏.‏

وعن أبي بحر البكراوي قال‏:‏ قال رجل لعمرو- يعني‏:‏ ابن عبيد- وقرأ عنده هذه الآية‏:‏ ‏(‏بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ‏)‏، ‏(‏البروج 22‏)‏ فقال له‏:‏ أخبرني عن ‏(‏تبت يدا أبي لهب‏)‏، ‏(‏المسد 1‏)‏ كانت في اللوح المحفوظ‏؟‏ قال‏:‏ ليست هكذا كانت‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف كانت‏؟‏ قال‏:‏ كانت تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب‏.‏ فقال له الرجل‏:‏ وهكذا ينبغي لنا أن نقرأ إذا قمنا إلى الصلاة‏؟‏ فغضب عمرو، فتركه حتى سكن، ثم قال له‏:‏ يا أبا عثمان، أخبرني عن تبت يدا أبي لهب كانت في اللوح المحفوظ‏؟‏ فقال‏:‏ ليس هكذا كانت‏.‏ قال‏:‏ فكيف كانت‏؟‏ قال‏:‏ تبت يدا من عمل بمثل عمل أبي لهب‏.‏ قال‏:‏ فرددت عليه، قال عمرو‏:‏ إن علم الله ليس بسلطان، إن علم الله لا يضر ولا ينفع‏.‏ قلت‏:‏ إن كان قال هذا، ومات عليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإن كان ذلك مكذوبا عليه، فلعنة الله على الكاذبين‏.‏

وعن سلام بن أبي مطيع قال‏:‏ كنت أمشي مع أيوب في جنازة، وبين أيدينا ثلاثة رهط قد كانوا مع عمرو بن عبيد في الإعتزال، ثم تركوا رأيه ذلك وفارقوه، قال‏:‏ فقال لي أيوب من غير أن أسأله‏:‏ لا ترجع قلوبهم إلى ما كانت عليه‏.‏

وعن أبي رجاء قال‏:‏ رأيت رجلين يتكلمان في المربد في القدر، فقال فضل الرقاشي لصاحبه‏:‏ لا تقر له بالعلم، إن أقررت له بالعلم فأمكنت من نفسك، يسحبك عرض المربد‏.‏

وعن حوثرة بن أشرس قال‏:‏ سمعت سلاما أبا المنذر غير مرة وهو يقول‏:‏ سلوهم عن العلم، هل علم أو لم يعلم‏؟‏ فإن قالوا قد علم، فليس في أيديهم شيء، وإن قالوا لم يعلم، فقد حلت دماؤهم‏.‏

قال حوثرة‏:‏ وحدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي قال‏:‏ قيل لعمر بن عبد العزيز‏:‏ إن غيلان يقول‏:‏ القدر كذا وكذا، قال‏:‏ فمر به، فقال‏:‏ أخبرني عن العلم‏.‏ قال‏:‏ سبحان الله، فقد علم الله كل نفس ما هي عاملة وإلى ما هي صائرة‏.‏ فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ والذي نفسي بيده، لو قلت غير هذا، لضربت عنقك، اذهب الآن فجاهد جهدك‏.‏

وعن معاد بن معاذ قال‏:‏ صليت خلف رجل من بني سعد، ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة أو ثلاثين سنة‏.‏

وقال إبراهيم بن طهمان‏:‏ الجهمية كفار، والقدرية كفار‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ قال لنا طاوس‏:‏ اخزوا معبدا الجهني، فإنه قدري‏.‏ وقال الحسن بن محمد بن علي‏:‏ لا تجالسوا أهل القدر‏.‏ وقال عكرمة ابن عمار‏:‏ سمعت القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يلعنان القدرية الذين يكذبون بقدر الله حتى يؤمنوا بخيره وشره‏.‏

وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار‏:‏ سمعت أبي وعمي يقولان‏:‏ سمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة معبد الجهني، يقول‏:‏ لا تجالسوا معبدا، فإنه ضال مضل‏.‏ قال مرحوم‏:‏ قال أبي‏:‏ ولا أعلم أحدا يومئذ يتكلم في القدر غير معبد ورجل من الأساورة يقال له سسويه‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ سألت يحيى بن أبي كثير عن القدرية فقال‏:‏ هم الذين يقولون‏:‏ إن الله لم يقدر الشر‏.‏ وقال مسلم بن يسار‏:‏ إن معبدا يقول بقول النصارى‏.‏

وقال عمارة بن زاذان‏:‏ بلغني أن القدرية يحشرون يوم القيامة مع المشركين، فيقولون‏:‏ والله ما كنا مشركين، فيقال لهم‏:‏ إنكم أشركتم من حيث لا تعلمون‏.‏ قال‏:‏ وبلغني أنه يقال لهم يوم القيامة‏:‏ أنتم خصماء الله عز وجل‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة والجهمية‏.‏

وسألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري فقال‏:‏ إن كان يخاصم فيه أو يدعو إليه، فلا يصلى خلفه‏.‏

سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافرا‏؟‏ قال‏:‏ إذا جحد العلم، إذا قال‏:‏ إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم، فجحد علم الله، فهو كافر‏.‏ اهـ من كتاب السنة‏.‏

وكلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة من القرون الثلاثة المفضلة يطول ذكره، ومحله كتب النقل الجامعة، وفيما ذكرنا كفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏ اللهم يا ربنا ومليكنا وإلهنا، قد علمت من سعد بطاعتك والجنة، ومن شقي بمعصيتك والنار، وكتبت ذلك وسطرته وقدرته، وقضيته وشملت الجميع قدرتك، ونفذت فيه مشيئتك، ولك الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولا يدري عبدك في أي القسمين ولا في أي القبضتين هو، وأنت تعلم، اللهم إياك نعبد إيمانا بكتبك، وتصديقا لرسلك، وانقيادا لشرعك، وقياما بأمرك ودينك، وإياك نستعين إيمانا بربوبيتك، واستسلاما لقضائك وقدرك، وافتقارا إليك وتوحيدا لك في إلهيتك وربوبيتك وأسمائك وصفاتك وخلقك وتكوينك، ولا مشيئة إلا أن تشاء، ولا قدرة لنا إلا على ما أقدرتنا عليه، ولا معصوم إلا من عصمت، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اجعلنا ممن أعطى واتقى وصدق بالحسنى فيسرته لليسرى، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، غير المغضوب عليهم ممن علم الحق وكتمه وتركه وأباه واشترى بآياتك ثمنا قليلا، ولا الضالين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، اللهم يا من يحول بين المرء وقلبه، حل بيننا وبين معصيتك والكفر، يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك به، ‏(‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏)‏، ‏(‏آل عمران 8‏)‏‏.‏

الكلام على خصال ست في نفيها إيمان بالقدر

لا نوء لا عدوى ولا طير ولا *** عما قضى الله تعالى حولا

لا غول لا هامة ولا صفر *** كما بذا خبر سيد البشر‏.‏

هذان البيتان من تتمة بحث القدر، فإن نفي هذه الخصال الست وما في معناها إيمان بالقدر وتوكل على خالق الخير والشر الذي بيده النفع والضر، واعتقاد صحة شيء منها شرك مناف للتوحيد أو لكماله، مناقض للتوكل على الله عز وجل عياذا بالله منه‏.‏

الكلام على النوء

فأما النوء فهو من الاعتقاد في النجوم الذي سبق بسط القول في بيان بطلانه، فإنهم يعتقدون أن لمطالع الكواكب ومغاربها وسيرها وانتقالها واقترانها وافتراقها تأثيرا في هبوب الرياح وسكونها، وفي مجيء المطر وتأخره، وفي رخص الأسعار وغلائها وغير ذلك، فإذا وقع شيء من الحوادث، نسبوه إلى النجوم فقالوا‏:‏ هذا بنوء عطارد أو المشتري أو المريخ أو كذا أو كذا‏.‏

ورد الله تعالى ذلك عليهم وأكذبهم بما أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير‏)‏، ‏(‏الروم 48- 50‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزل من السماء

ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين‏)‏، ‏(‏لقمان 10- 11‏)‏ وقال تعالى‏:‏ فلا أقسم بمواقع النجوم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 75‏)‏‏.‏

وقال الإمام مالك بن أنس في موطئه- رحمه الله تعالى‏:‏ باب الاستمطار بالنجوم‏.‏

عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال‏:‏ صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال‏:‏ أتدرون ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب‏.‏

ورواه الشيخان من طريقه بلفظه، وعليه ترجم البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 82‏)‏‏.‏

وقال مسلم بن الحجاج- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا حرملة بن يحيى وعمر بن سواد العامري ومحمد بن سلمة المرادي، قال المرادي‏:‏ حدثنا عبد الله بن وهب، عن يونس، وقال الآخران‏:‏ أخبرنا ابن وهب، قال‏:‏ أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألم تروا إلى ما قال ربكم‏؟‏ قال‏:‏ ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون الكواكب وبالكواكب‏.‏

وحدثني محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، ‏(‏ح‏)‏ وحدثني عمرو بن سواد، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا يونس مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث فيقولون‏:‏ الكواكب كذا وكذا‏.‏ وفي حديث المرادي‏:‏ بكوكب كذا وكذا‏.‏

وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة وهو ابن عمار، حدثنا أبو زميل قال‏:‏ حدثنا ابن عباس قال‏:‏ مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا‏:‏ هذه رحمة الله، وقال بعضهم‏:‏ لقد صدق نوء كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ فنزلت هذه الآية ‏(‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏.‏‏.‏‏.‏ حتى بلغ‏:‏ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 75‏)‏‏.‏

وقال الترمذي- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 82‏)‏ قال‏:‏ شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا‏.‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ ورواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أخبرنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها، فيصبح بها قوم كافرين، يقولون‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا‏.‏ قال محمد هو ابن إبراهيم‏:‏ فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال‏:‏ ونحن قد سمعنا من أبي هريرة‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني يونس، أخبرنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية- فيما أحسبه أو غيره- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ومطروا يقول‏:‏ مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ كذبت، بل هو رزق الله عز وجل‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني أبو صالح الصراري، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي، حدثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين، ثم قال‏:‏ ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 82‏)‏ يقول قائل‏:‏ مطرنا بنجم كذا وكذا‏.‏

وعن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه بلغه أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس‏:‏ مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية ‏(‏ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده‏)‏، ‏(‏فاطر 2‏)‏‏.‏

وروى ابن جرير بسنده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وقرأ ابن عباس ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏، ‏(‏الواقعة 82‏)‏، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس‏.‏

ما ورد في العدوى

وأما العدوى فكانوا يعتقدون سريان المرض من جسد إلى جسد بطبيعته، فنفى الله تعالى ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏)‏، ‏(‏التوبة 51‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه‏)‏، ‏(‏التغابن 11‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين‏)‏، ‏(‏آل عمران 168‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة‏)‏، ‏(‏النساء 78‏)‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم‏)‏، ‏(‏الجمعة 8‏)‏‏.‏

وروى البخاري، عن الزهري قال‏:‏ أخبرني سنان بن أبي سنان الدؤلي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى‏.‏ فقام أعرابي فقال‏:‏ أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فمن أعدى الأول‏.‏

ورواه مسلم من طريق آخر بنحوه‏.‏ وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال‏:‏ سمعت قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل‏.‏ قالوا‏:‏ وما الفأل‏؟‏ قال‏:‏ كلمة طيبة‏.‏ ورواه مسلم‏.‏

ولهما من طرق، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر‏.‏ هذا لفظ البخاري‏.‏

والأحاديث في نفي العدوى كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرهما، ولا يعارض ذلك حديث ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏، وحديث ‏"‏ وفر من المجدوم فرارك من الأسد ‏"‏، وكلاهما في الصحيح متصلا بحديث ‏"‏ لا عدوى ولا طيرة ‏"‏‏.‏ فإن البخاري رحمه الله تعالى قال‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال‏:‏ حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى‏.‏ قال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ سمعت أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا توردوا الممرض على المصح‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ قال عفان‏:‏ حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد‏.‏

الجمع بين نفي العدوى، وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح

والجمع بين نفي العدوى، وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح، والأمر بالفرار من المجذوم، وما في معناها من ثلاثة أوجه، كلها نفي العدوى فيها على إطلاقه‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالفرار من المجذوم؛ لئلا يتفق للمخالط شيء من ذلك ابتداء، لا بالعدوى المنفية، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيعتقد ثبوت العدوى التي نفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقع في الحرج، فأمر صلى الله عليه وسلم بتجنب ذلك، شفقة منه على أمته ورحمة بهم، وحسما للمادة وسدا للذريعة، لا إثباتا للعدوى كما يظن بعض الجهلة من الأطباء، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استشهد لصحة العدوى بكون البعير الأجرب يدخل في الإبل الصحاح فتجرب، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ فمن أعدى الأول- يعني‏:‏ أن الله تعالى ابتدأ المرض في الباقي كما ابتدأه في الأول، لا أن ذلك من سريان المرض بطبيعته من جسد إلى آخر‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخالطة؛ لأنها من الأسباب التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، لا استقلالا بطبعها، ولكن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي خلق الأسباب ومسبباتها، فإن شاء تعالى أبقى السبب، وأثر في مسببه بقضاء الله تعالى وقدره، وإن شاء سلب الأسباب قواها، فلا تؤثر شيئا، ومن قوي إيمانه، وكمل توكله، وثقته بالله، وشاهد مصير الأمور كلها إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، كما أن مصدرها من عنده عز وجل، فنفسه أبيه وهمته علية وقلبه ممتلئ بنور التوحيد، فهو واثق بخالق السبب، ليس لقلبه إلى الأسباب أدنى التفات، سواء عليه فعلها أو لم يفعلها، والدليل على ذلك ما روى أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم، فوضعها معه في القصعة وقال‏:‏ كل ثقة بالله، وتوكل عليه‏.‏ ففي أمره صلى الله عليه وسلم بمجانبة المجذوم إثبات للأسباب التي خلقها الله عز وجل، وفي أكله صلى الله عليه وسلم معه تعليم لنا بأن الله هو مالكها، فلا تؤثر إلا بإذنه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب الله له‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن النفوس تستقذر ذلك وتنقبض عند رؤيته، وتشمئز من مخالطته وتكرهه جدا، لا سيما مع ملامسته وشم رائحته، فيحصل بذلك تأثير بإذن الله في سقمها قضاء من الله وقدرا، لا بانتقال الداء بطبيعته كما يعتقده أهل الجاهلية، والدليل على هذا ما رواه أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا مخلد بن خالد وعباس العنبري قالا‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن يحيى بن عبد الله بن بحير قال‏:‏ أخبرني من سمع فروة بن مسيك، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أرض عندنا يقال لها أرض أبين، هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبئة، أو قال وباؤها شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعها عنك، فإن من القرف التلف‏.‏ والقرف بالتحريك هو مقاربة الوباء ومداناة المرض، والتلف بوزنه هو الهلاك- يعني‏:‏ أنه سبب فيه، قد يؤثر بإذن الله تعالى لا سيما مع كراهة النفس له واشمئزازها منه ‏(‏فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين‏)‏، ‏(‏يوسف 64‏)‏‏.‏

فإذا تبين لك هذا الجمع بين نفي العدوى وبين الأمر بمجانبة الداء، تبين لك الجمع بينها وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح، فإنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد أمر المصح بمجانبة الداء، فلأن ينهى الممرض عن إيراده على المصح من باب أولى، فإن العلل التي قدمنا أنها من سبب النهي عن القدوم على الوباء، والأمر بمجانبته موجودة في إيراد الممرض على المصح، بزيادة كونها ليست باختيار المصح، كقدومه هو بل مع كراهته لها وانقباضه من ذلك الممرض، وربما أدى ذلك إلى بغضه إياه وغير ذلك‏.‏ والمقصود أن نفي العدوى مطلق على عمومه، وفيه إفراد الله- سبحانه وتعالى- بالتصرف في خلقه، وأنه مالك الخير والشر، وبيده النفع والضر، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا مغالب له في شيء من خلقه وأمره، وفي ذلك تقوية لقلوب المؤمنين، وإمداد لهم بقوة التوكل وصحة اليقين، وحجة لهم على المشركين وسائر المعاندين، وليس في الأمر بمجانبة البلاء ولا في النهي عن إيراده على المعافى منه منافاة ولا مناقضة، بل ذلك مع الثقة بالله والتوكل عليه من فعل الأسباب النافعة، وتوقي الأسباب المؤذية، ودفع القدر بالقدر، والإلتجاء من الله إليه، وليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب، وليس التوكل بترك الأسباب، بل التوكل من الأسباب، وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها، كما أن من اضطربت نفسه ووجل قلبه فرقا وخوفا وارتيابا وعدم يقين بالقدر، لا يكون متوكلا على الله بمداناته المرضى والمبتلين، وتركه فعل الأسباب، فكما لا يكون المرتاب متوكلا بمجرد تركه الأسباب، كذلك لا يكون الموحد تاركا التوكل أو ناقصه بمجرد فعل الأسباب النافعة، وتوقي المضرة وحرصه على ما ينفعه، فإنما الشأن فيما وقر في القلوب وسكنت إليه النفوس، والتوفيق بيد الله، والمعصوم من عصمه الله تعالى‏.‏

ومن هذا الباب نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على البلاد التي بها الطاعون، وعن الخروج منها فرارا منه، فإن في القدوم عليه تعرضا للبلاء، وإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وتسببا للأمور التي أجرى الله تعالى العادة بمضرتها، وفي الفرار منه تسخط لقضاء الله عز وجل وارتياب في قدره، وسوء ظن بالله عز وجل، فأين المهرب من الله وإلى أين المفر‏؟‏ لا ملجأ من الله إلا إليه، كما روى مالك في موطئه، عن ابن شهاب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس‏:‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ادع إلي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم‏:‏ قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء‏.‏ فقال عمر‏:‏ ارتفعوا عني، ثم قال‏:‏ ادع لي الأنصار، فدعوهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم‏.‏ فقال‏:‏ ارتفعوا عني، ثم قال‏:‏ ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا‏:‏ نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء‏.‏ فنادى عمر في الناس‏:‏ إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه‏.‏ فقال أبو عبيدة‏:‏ أفرار من قدر الله‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله‏؟‏ فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبا في بعض حاجته، فقال‏:‏ إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرار منه‏.‏ قال‏:‏ فحمد الله عمر، ثم انصرف‏.‏ وأخرجه الشيخان من طريقه بلفظه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فلا تخرجوا فرارا منه ‏"‏ تقييد للنهي بخروج لقصد الفرار، فلا يدخل في ذلك من خرج لحاجته اللازمة، كما قيد صلى الله عليه وسلم الشهادة به للماكث ببلده، بما إذا كان صابرا محتسبا، صحيح اليقين، ثابت العزيمة، قوي التوكل، مستسلما لقضاء الله عز وجل، كما قال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ باب أجر الصابر في الطاعون‏.‏ حدثنا إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا داود بن أبي الفرات، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أنها أخبرتنا أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد‏.‏ فخرج بهذه الأوضاف من مكث في أرضه مع نقصان توكله وضعف يقينه، فليس له هذه الفضيلة، ومع هذا فلا يحل له الفرار منه؛ لعموم النهي، وله أجره على امتثال الشرع بحسب نيته وقوة إيمانه، وإن خرج فرار منه، فهي معصية أضافها إلى ارتيابه وضعف يقينه، والعياذ بالله، وعلى هذا يحمل حديث أنس عند البخاري أيضا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الطاعون شهادة لكل مسلم‏.‏ فإن مفهوم الحديث الأول‏:‏ أن من لم يتصف بالصفات المذكورة، لا يكون شهيدا، وذلك لضعف يقينه، وقد يقال هو شهيد في الصورة، وليس مثل المتصف بتلك الصفات، كما أن شهداء المعركة الذين يقتلون في معركة الكفار ليسوا سواء، بل يتفاوتون بتفاوت نياتهم وما في قلوبهم، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، والله تبارك وتعالى أعلم‏.‏

الكلام على الطيرة والتطير والغول

وأما الطيرة، فهي ترك الإنسان حاجته، واعتقاده عدم نجاحها، تشاؤما بسماع بعض الكليمات القبيحة، كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها‏.‏ وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها إذا صاحت‏.‏

قالوا‏:‏ إنها ناعبة أو مخبرة بشر، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعور أو الأعرج أو المهزول أو الشيخ الهرم أو العجوز الشمطاء، وكثير من الناس إذا لقيه وهو ذاهب لحاجة، صده ذلك عنها، ورجع معتقدا عدم نجاحها، وكثير من أهل البيع لا يبيع ممن هذه صفته إذا جاءه أول النهار، حتى يبيع من غيره تشاؤما به وكراهة له، وكثير منهم يعتقد أنه لا ينال في ذلك اليوم خيرا قط، وكثير من الناس يتشاءم بما يعرض له نفسه في حال خروجه، كما إذا عثر أو شيك، يرى أنه لا يجد خيرا، ومن ذلك التشاؤم ببعض الأيام، أو ببعض الساعات كالحادي والعشرين من الشهر، وآخر أربعاء فيه، ونحو ذلك، فلا يسافر فيها كثير من الناس، ولا يعقد فيها نكاحا، ولا يعمل فيها عملا مهما ابتداء، يظن أو يعتقد أن تلك الساعة نحس، وكذا التشاؤم ببعض الجهات في بعض الساعات، فلا يستقبلها في سفر، ولا أمر حتى تنقضي تلك الساعة أو الساعات، وهي من أكاذيب المنجمين الملاعين، يزعمون أن هناك فلكا دوارا يكون كل يوم أو ليلة في جهة من الجهات، فمن استقبل تلك الجهة في الوقت الذي يكون فيها هذا الفلك، لا ينال خيرا ولا يأمن شرا، وهم في ذلك كاذبون مفترون، قبحهم الله ولعنهم، قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل‏.‏ ومن ذلك التشاؤم بوقوع بعض الطيور على البيوت، يرون أنها معلمة بشر، وكذا صوت الثعلب عندهم، ومن ذلك الاستقسام بتنفير الطير والظباء، فإن تيامنت ذهبوا لحاجتهم، وإن تياسرت تركوها، وهذا من الاستقسام بالأزلام الذي أمر الله تعالى باجتنابه، وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان، وهذا وما شاكله كثير منه كان في الجاهلية قبل النبوة، وقد أبطله الإسلام، فأعاده الشيطان في هذا الزمان أكثر مما كان عليه في الجاهلية بأضعاف مضاعفة، ووسع دائرة ذلك، وساعده عليه شياطين الإنس من الكهنة والمنجمين وأضرابهم وأتباعهم، أرداهم الله وألحقهم به، آمين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إن طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون‏)‏، ‏(‏الأعراف 131‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون‏)‏، ‏(‏النمل 45- 47‏)‏ وقال تعالى في قصة الثلاثة رسل عيسى‏:‏ ‏(‏قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم‏)‏، ‏(‏يس 16- 18‏)‏، قال مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه‏)‏ قالوا‏:‏ العافية والرخاء نحن أحق بها، ‏(‏وإن تصيبهم سيئة‏)‏، قال‏:‏ بلاء وعقوبة ‏(‏يطيروا بموسى‏)‏، قال‏:‏ يتشاءموا به‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس ‏(‏ألا إنما طائرهم عند الله‏)‏، ‏(‏الأعراف 131‏)‏ قال‏:‏ الأمر من قبل الله‏.‏ وقال رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏(‏طائركم عند الله‏)‏، ‏(‏النحل 47‏)‏ قال‏:‏ الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم، وتقدم ذكر الطيرة ونفيها في الأحاديث السابقة‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث‏:‏ في المرأة، والدار، والدابة‏.‏

والشؤم ضد اليمن، وهو عدم البركة، والمراد به الأمر المحسوس المشاهد، كالمرأة العاقر التي لا تلد، أو اللسنة المؤذية أو المبذرة بمال زوجها سفاهة، ونحو ذلك‏.‏ وكذا الدار الجدبة، أو الضيقة، أو الوبيئة الوخيمة المشرب، أو السيئة الجيران، وما في معنى ذلك، وكذا الدابة التي لا تلد ولا نسل لها، أو الكثيرة العيوب الشينة الطبع، وما في معنى ذلك، فهذا كله شيء ضروري مشاهد معلوم، ليس هو من باب الطيرة المنفية، فإن ذلك أمرا آخر عند من يعتقده، ليس من هذا؛ لأنهم يعتقدون أنها نحس على صاحبها لذاتها، لا لعدم مصلحتها وانتفائها، فيعتقدون أنه إن كان غنيا، افتقر، ليس بتبذيرها بل لنحاستها عليه، وإنه إن يأخذها، يموت بمجرد دخولها عليه لا بسبب محسوس، بل عندهم أن لها نجما لا يوافق نجمة، بل ينطحه ويكسره، وذلك من وحي الشيطان يوحيه إلى أوليائه من المشركين، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏)‏، ‏(‏الأنعام 121‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏)‏، ‏(‏الأعراف 27‏)‏‏.‏

حتى إن رجلا في زماننا هذا كان يشعوذ على الناس بذلك، ويفرق به بين المرء وزوجه، فتنبه له بعض العامة ممن يحضر مجالس الذكر، ويسمع ذم المنجمين وتكذيبهم بالآيات والأحاديث، فقال له‏:‏ إني أريد أن أنكح امرأة، ما ترى فيها، هل هي سعد لي أو نحس علي‏؟‏ فعرض ذلك على قواعده الشيطانية، ثم قال له‏:‏ دعها، فإنك إن أخذتها، لا تبلي معها ثوبا- يعني‏:‏ يموت سريعا لا تطول معها صحبته، وكانت تلك المرأة التي سأله عنها، وسماها له هي زوجته، وقد طالت صحبته معها، وله منها نحو خمسة من الأولاد، فدعاهم كلهم بأسمائهم حتى حضروا، فقال له‏:‏ هؤلاء أولادي منها‏.‏ ولهذا نظائر كثيرة من خرافاتهم‏.‏

والمقصود أن الشؤم المثبت في هذا الحديث أمر محسوس ضروري مشاهد، ليس من باب الطيرة المنفية التي يعتقدها أهل الجاهلية ومن وافقهم‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال‏:‏ أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا طيرة، وخيرها الفأل‏.‏ قالوا‏:‏ وما الفأل‏؟‏ قال‏:‏ الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم‏.‏

قال‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة‏.‏

قلت‏:‏ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية حين جاء سهيل بن عمرو، قال‏:‏ سهل الله أمركم‏.‏ الحديث وما شاكله‏.‏

ومن شرط الفأل أن لا يعتمد عليه، وأن لا يكون مقصودا، بل أن يتفق للإنسان ذلك من غير أن يكون له على بال‏.‏ ومن البدع الذميمة والمحدثات الوخيمة مأخذ الفأل من المصحف، فإنه من اتخاذ آيات الله هزوا ولعبا ولهوا، ساء ما يعملون‏.‏

وما أدري كيف حال من فتح على قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل‏)‏، ‏(‏المائدة 78‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وغضب الله عليه ولعنه‏)‏، ‏(‏النساء 93‏)‏، وأمثال هذه الآيات‏.‏

ويروى أن أول من أحدث هذه البدعة بعض المروانية، وأنه تفاءل يوما، ففتح المصحف، فاتفق لاستفتاحه قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد‏)‏، ‏(‏إبراهيم 15‏)‏ الآيات، فيقال‏:‏ إنه أحرق المصحف غضبا من ذلك، وقال أبياتا لا نسود بها الأوراق‏.‏ والمقصود أن هذه بدعة قبيحة، والفأل إذا قصده المتفائل، فهو طيرة كالاستقسام بالأزلام، وقد روى الإمام أحمد في تعريف الطيرة حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما‏:‏ إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك‏.‏

وروى في كفارتها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقفه ‏"‏ من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك ‏"‏ قالوا‏:‏ فما كفارة ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أن تقول‏:‏ اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك‏.‏

وقال أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الطيرة شرك ‏(‏ثلاثا‏)‏ وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل‏.‏ وقوله ‏"‏ وما منا إلا ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ هو من كلام ابن مسعود، كما فصله الترمذي رحمه الله في روايته، عن المرفوع حيث قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل، يقول‏:‏ كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث ‏"‏ وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل ‏"‏‏:‏ كل هذا عندي قول عبد الله بن مسعود‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة قالا‏:‏ حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر ‏(‏قال أحمد‏:‏ القرشي‏)‏ قال‏:‏ ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل‏:‏ اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك‏.‏

وأما الغول فهي واحد الغيلان، وهي من شر شياطين الجن وسحرتهم والنفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية فيهم من الضر والنفع، وكانوا يخافونهم خوفا شديدا، ويستعيذون ببعضهم من بعض، كما قال تعالى- عنهم‏:‏ ‏(‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا‏)‏، ‏(‏الجن 6‏)‏ زاد الإنس الجن جرأة عليهم وشرا وطغيانا، وزادتهم الجن إخافة وخبلا وكفرانا، وكان أحدهم إذا نزل واديا، قال‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهائه، فيأتي الشيطان فيأخذ من مال هذا المستعيذ أو يروعه في نفسه، فيقول‏:‏ يا صاحب الوادي، جارك أو نحو ذلك‏.‏ فيسمع مناديا ينادي ذلك المعتدي أن اتركه أو دعه أو ما أشبه ذلك، فأبطل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك، ونفى أن يضروا أحدا إلا بإذن الله عز وجل، وأبدلنا عن الاستعاذة بالمخلوقين الاستعاذة بجبار السماوات والأرض، رب الكون وخالقه ومالكه وإلهه، وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وكلماته التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر، فقال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون‏)‏، ‏(‏المؤمنون 97‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله‏)‏، ‏(‏الأعراف 200‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أعوذ برب الفلق‏)‏، ‏(‏الفلق 1‏)‏ إلى آخر السورة، ‏(‏قل أعوذ برب الناس‏)‏، ‏(‏الناس 1‏)‏ إلى آخر السورة، وغيرها من الآيات، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين‏:‏ ما سأل سائل بمثلها، ولا استعاذ مستعيذ بمثلها، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من نزل منزلا، فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك‏.‏ وهو في الصحيح، وفي بعض الأحاديث ‏"‏ إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان ‏"‏، وفي الحديث الصحيح إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر وله ضراط، وفي لفظ حصاص، وأحاديث الاستعاذة والأذكار في طرد الشيطان وغيره كثيرة مشهورة مسبورة في مواضعها من كتب السنة، وأما قول من قال‏:‏ إن المراد في الحديث نفي وجود الغيلان مطلقا، فليس بشيء؛ لأن ذلك مكابرة للأمور المشاهدة المعلومة بالضرورة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله، وبعده من إتيانهم وانصرافهم ومخاطبتهم وتشكلهم، والله أعلم‏.‏

وأما الهامة والصفر، فقال أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية قال‏:‏ قلت لمحمد- يعني‏:‏ ابن راشد- قوله ‏"‏ هام ‏"‏ قال‏:‏ كانت الجاهلية تقول‏:‏ ليس أحد يموت فيدفن، إلا خرج من قبره هامة‏.‏ قلت‏:‏ فقوله ‏"‏ صفر ‏"‏ قال‏:‏ سمعت أهل الجاهلية يستشئمون بصفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صفر‏.‏

قال محمد‏:‏ وقد سمعنا من يقول‏:‏ هو وجع يأخذ في البطن، فكانوا يقولون‏:‏ هو يعدي، فقال‏:‏ لا صفر‏.‏

وقال- رحمه الله‏:‏ حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال‏:‏ يقول الناس‏:‏ الصفر وجع يأخذ في البطن‏.‏ قلت‏:‏ فما الهامة‏؟‏ قال‏:‏ يقول الناس‏:‏ الهامة التي تصرخ هامة الناس، وليست بهامة الإنسان، إنما هي دابة‏.‏

وقال- رحمه الله‏:‏ قرئ على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد، أخبركم أشهب قال‏:‏ سئل مالك عن قوله‏:‏ لا صفر، قال‏:‏ إن أهل الجاهلية كانوا يحلون صفر، يحلونه عاما ويحرمونه عاما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صفر‏.‏

قلت‏:‏ وكل هذه المعاني لهذه الألفاظ قد اعتقدها الجهال، وكلها بجميع معانيها المذكورة منفية بنص الحديث، ولله الحمد والمنة‏.‏