فصل: فصل فيما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عِبَادَ اللهِ إن لكم بأبدانكم عناية عظيمة لا تساميها العنايات بل كُلّ حياتكم ذاهبة فيما تبذلونه لخدمة هَذَا البدن من مجهودات ألَيْسَ ليلكمْ ونهاركمْ فِي كد مديم لجمع الأموال وهل كُلّ تلك الأموال إلا وسيلة تصلون بِهَا ما لهَذَا البدن من ملذوذات.
لا بأس بالاعتناء بالبدن لكن بدون هَذَا الإفراط الَّذِي لا يرتضيه العاقل اللبيب لأن البدن مهما أكرم ماله إلى التُّرَاب تتمتع بلذيذ لحمه الديدان والَّذِي ينبغي أن تهتم به وتصرف عنايتك به نفسك قبل جسمك التي أَنْتَ بِهَا من صفوة هَذَا العَالم وعَلَى العناية بِهَا تتوقف سعادتك فِي هذه الحياة وبعد الْمَمَات.
ولهذه النفس غذاء ولعلك تود أن تعرفه وَهُوَ جدير بالاعتناء منك والتقدير والجد لَهُ والتشمير لأن منفعته دنيا وأخرى ولا نسبةَ بينها وبين منفعة هذه الأبدان.
ذَلِكَ الغذاء أو القوت هُوَ أنواع الطاعات كإخلاص الأعمال لله والذكر لَهُ وَالشُّكْر لَهُ ومحبته وتعظيمه والقيام التام بأركَان الإسلام الشهادتين والصَّلاة والزَّكَاة والصيام والحج وسائر الباقيات الصالحات وأنواع العلوم والمعارف أوحاها الله وأودعها هذه المصنوعات.
والاعتناء بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما إلى ذَلِكَ من أنواع القربات والَّذِي يظهر لنا من حالك وسيرتك أنك فِي شغل شاغل عن الإقبال عَلَى النفس وتغذيتها بما قلنا من أنواع الطاعات ذَلِكَ أن قلبك متعلق بتحصيل غذاء الجسم والاعتناء به فهو الَّذِي نصب عينيك.
ولذَلِكَ تشب وتشيب وتموت وأَنْتَ جاهل بضروريات الدين الإسلامي وَرُبَّمَا مر عَلَيْكَ مدة طويلة بدون أن تتفكَّرَ بنعم الله وتذكره بلسانك وتشكره عَلَى ما أولاك وكَذَلِكَ الآخرة ربما أنها تمضي المدة ولا تذكرها ولا تستعد لها.
وكما أن للأبدان أمراض كثيرة فللنفس أمراض أكثر وأعظم وأخطر وتلك الأمراض هِيَ السيئات التي من وقيها رحم قال الله تعالى: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}.
وكَذَلِكَ من أمراض النفس رذائل الأخلاق والجهل بالشرع الحكيم ولهذه الأمراض دواء نافع بإذن الله أن تتوب توبة نصوحاً إلى الله وتتخلق بضد الْفِعْل أو الخلق الذميم فهل لك شوق إلى هَذَا الدواء الشافِي بإذن الله كما أنك تشتاق بل تهرول وتسرع إلى طبيب الأبدان ومعك ما معك من الْمَال إِذَا أحسست بمرض فِي بدنك وإن لم تجد فِي بلادك ذهبت تطلب الشفاء ولَوْ فِي بلاد الحرية والكفر محكمة القوانين أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين.
أما بديع السموات والأرض فلا أراك تلتجي لَهُ إلا عِنْدَ الشدائد وهَذَا وَاللهِ قبيح ممن يدين بدين الإسلام يؤمن بالبعث والنشور، فالتفت يا أخي لنفسك وذكرها بنعم الله عَلَيْكَ لتتمكن محبته وأقبل عَلَيْهَا وعودها عَلَى الآداب الشرعية.
يَا خَادِمَ الجِسْمِ كم تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ** أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيه خُسْرَانُ

أَقْبِلْ عَلَى النَّفَسِ واسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ** فأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالجِسْمِ إِنْسِانُ

آخر:
أَرَى وُجُوْدَكَ هَذَا لم يَكُنْ عَبَثاً ** إلا لِتَكْمُلَ مِنْكَ النَّفْسُ فَانْتَبِهِ

فَاعْدِلْ عن الجِسْمِ لاَ تُقْبِلْ عَلَيْهِ وَمِلْ ** إِلى رِعَايَةِ مَا الإنسان أَنْتَ بِهِ

فَمُؤْيِسُ النَّفْسِ عن أَهْوَائِهَا يَقِظٌ ** وَمُطْوِعُ النَّفْسِ فِيه غَيْرَ مُنْتَبِهِ

واسْلُكْ سَبِيْلَ الهُدَى تَحْمِدْ مَغَبَّتَهُ ** فَمَنْهَجُ الحَقِّ بَادٍ غَيْرَ مُشْتَبِه

إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلم أن غذاء نفسك ودوائها عِنْدَ أَهْل العلم العاملين به الَّذِينَ يصدقون أقوالهم بأفعالهم المعظمون للشريعة الَّذِينَ إِذَا رأيتهم ذكرت الله الَّذِينَ لا يتشبهون بأعداء الله ولا يجاهرون بالمعاصي الصادعون بالحق الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائمٍ الَّذِينَ لا تهمهم الدُّنْيَا وزخارفها البراقة.
وكَذَلِكَ موجود الدواء الَّذِي ذكرنا فِي كتب العلماء السلفيين أتباع الصحابة والتابعين كالائمة الأربعة والموفق وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير ومن تتلمذ عَلَى كتبهم ممن جَاءَ بعدهم واقتفي أثرهم وسار عَلى نهجهم فجزاهم الله عن الإسلام والمُسْلِمِيْنَ خيراً.
عِلْمُ الْحَدِيثِ أَجَلَّ السُؤْالِ والوَطَرِ ** فَاقّطَعْ بِهِ العَيْشَ تَعْرِفْ لَذَّةَ العُمُرِ

وانْقُلْ رِحَالَكَ عن مَغْنَاكَ مُرْتَحِلاً ** لِكَي تَفُوْزَ بِنَقْلِ العِلْمِ والأثَرِ

وَلاَ تَقُلْ: عَاقَنِي شُغْلٌ فلَيْسَ يًرَى ** فِي التَّرْكِ لِلعِلْمِ مِنْ عُذَرٍ لِمُعْتَذِرِ

وَأَيُ شُغْلٍ كَمِثْلِ العِلْمِ تَطْلُبُهُ ** وَنَقْلِ مَا قَدْ رَوَوْا عن سَيِدِ البَشَرِ؟

ألْهَىْ عن العِلْمِ أَقْوَاماً تَطْلُبُهُمْ ** لَذّاتِ دُنْياً غَدَوْا مِنْهَا عَلَى غَرَرِ

وَخَلَفُوا مَالَهُ حَظٌ وَمَكْرُمَةٌ ** إِلى الَّتِي هُيَ دَأْبُ الهُونِ والخَطَرِ

وأَيُ فَخْرٍ بِدُنْيَاهُ لاَ بَقَاءَ لَهَا ** وَبِالعَفَافِ وَكَسْبِ العِلْمِ فَافْتَخِرِ

يَفْنَى الرِّجَالُ وَيَبْقَى عِلْمُهُمْ لَهُمُ ** ذِكْراً يُجَّدِدُ فِي الآصَالِ والبُكُرِ

وَيَذْهَبُ المَوُتَ بِالدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا ** ولَيْسَ يَبْقَى لَهُ فِي النَّاسِ مِنْ أَثَرِ

تَظُنُّ أَنَّكَ بالدُّنْيَا أَخُوُ كِبَرٍ ** وأَنْتَ بِالجَهْلِ قَدْ أَصْبَحْتَ ذَا صِغَرِ

لَيْسَ الكَبْيِرُ عَظِيْمُ القَدْرِ غَيْرَ فَتَى ** مَا زَالَ بَالعِلْمِ مَشْغُولاً مَدَى العُمُرِ

قَدْ زَاحَمَتْ رُكْبَتَاهُ كُلُّ ذِي شَرَفٍ ** فِي العِلْمِ والحِلْمِ لاَ فِي الفَخْرِ والبَطَرِ

فَجَالِسِ العُلًماءِ المُقْتَدَى بِهِمُ ** تَسْتَجْلِبِ النَفْعَ أَوْ تَأمَنْ مِنَ الضَّرَرِ

هُمْ سَادَةُ النَّاسِ حَقاً وَالجُلُوسُ لَهُمْ ** زِيَادَةٌ هَكَذَا قَدْ جَاءَ فِي الخَبَرِ

والمَرْءُ يَحْسَبُ مِنْ قَوْمٍ يُصَاحِبُهُمْ ** فَارْكَنْ إِلى كُلِّ صَافِي العِرْضَ عن كَدَرِ

فَمَنْ يُجَالِسْ كَرِيْماً نَالَ مَكَرْمَةً ** ولم يَشِنْ عِرضَهُ شَيْءٌ مِنْ الغِيْر

كصَاحِبِ العِطْرِ إِنْ لم تَسْتَفِدْ هِبَةً ** مِنْ عِطْرِهِ لم تَخِبْ مِنْ رِيْحِهِ العَطِرِ

وَمَنْ يُجَالِسْ رَدِيءَ الطَّبْعِ يُرْدِ بِهِ ** ونَالَهُ دَنَسٌ مِنْ عِرْضِهِ الكَدِرِ

كصَاحِبِ الكِيْرِ إِنْ يَسْلم مُجَالِسُهُ ** مِنْ نَتْنِهِ لم يُوَقَّ الحَرْقَ بِالشَّرَرِ

وَكُلُ مَنْ لَيْسَ يَنْهِاهُ الحَيَاءُ وَلاَ ** تَقْوَى فَخَفْ كُلَّ قُبْحٍ مِنْهُ وانْتَظِرِ

وَالنَّاسُ أخْلاَقُهُمُ شَتَّى وَأَنْفُسُهُمْ ** مِنْهُمْ بَصِيرُ وَمِنْهُمْ مُخْطِئُ النَّظَرِ

وَأَصُوْبُ النَّاسِ رَأْياً مَنْ تَصَرُّفُهُ ** فِي مَا بِهِ شَرَفُ الألْبَابِ وَالفِكَرِ

وَارْكَنْ إِلى كُلِّ مَنْ فِي وِدِّهِ شَرَفٌ ** مِنْ نَابِهِ القَدْرِ بَيْنَ النَّاسِ مُشْتَهِرِ

فَالمَرْءُ يَشْرُفُ بِالأخْيَارِ يَصْحَبُهُمْ ** وَإِنْ يَكُنْ قَبْلُ شيئاً غَيْرَ مُعْتَبَرِ

إِنَّ العَقْيِقَ لَيَسُمْوُ عِنْدَ نَاظِرِهِ ** إِذَا بَدَا وَهُوَ مَنْظُومُ مَعَ الدُّرَرِ

والمَرْءُ يَخْبُثُ بِالأشْْرَارِ يَألَفُهُمْ ** وَلَوْ غَدَا حَسَنَ الأخلاق وَالسِّيَرِ

فَالمَاءُ صَفْوٌ طَهُورٌ فِي أَصَالَتِهِ ** حَتَى يُجَاوِرَهُ شَيْءٌ مِنْ الكَدَرِ

فَكُنْ بِصَحْبِ رَسُولِ اللهِ مُقْتَدياً ** فَإنهُمْ لِلّهُدَى كَالأنْجُمِ الزُّهُرِ

وَإِنْ عَجَزْتَ عن الحَدِ الَّذِي سَلَكُوا ** فَكُنْ عن الحُبِ فِيهمْ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ

وَالحَقْ بِقَوْمٍ إِذَا لاَحَتْ وُجُوهُهُمُ ** رَأْيْتَهَا مِنْ سَنَا التَّوْفِيقِ كَالقَمَرِ

أضْحَوْا مِنَ السَنَةِ العَلْيَاءِ فِي سَنَنِ ** سَهْلٍ وَقَامُوْا بِحِفْظِ الدِّيْنِ وَالأثَرِ

أَجَلُّ شَيْءٍ لَدَيْهِمْ: قَالَ أَخْبَرَنَا ** عن الرَّسُولِ بِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ خَبَرِ

هَذِي المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ ** وَلاَ التَّمَتُعَ بِاللَّذَاتِ وَالأشَرِ

لاَ شَيْءَ أَحْسَنَ مِنْ: قَالَ لِرَّسُوُل وَمَا ** أَجَلٌّ مِنْ سَنَدٍ عن كُلِّ مُشْتَهِرِ

وَمَجْلِسٍ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ جَادَ بِمَا ** حَلاَ مِنَ الدُرِ أَوْ حُلّيٌ مِنَ الدُّرَرِ

يَوْمٌ يَمُرُّ وَلم أَرْوِ الْحَدِيثَ بِهِ ** فَلَسْتَ أَحْسِبُ ذَاكَ الْيَوْمَ مِنْ عُمُرِي

فَإِنَّ فِي دَرْسِ أَخْبَارِ الرَّسُولِ لَنَا ** تَمَتُّعاً فِي رِيَاضِ الْجَنَةِ الخُضُرِ

تَعَلُلاً إِذْ عَدِمْنَا طِيْبَ رُؤْيَتِهِ ** مَنْ فَاتَهُ العَيْنُ هَدّا الشَوْقَ بِالأثَرِ

كَأَنَهُ بَيْنَ ظَهْرِيْنَا نُشَاهِدُهُ ** فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ بِالآصَالِ وَالبُكُرِ

زَيْنُ النُبُوَةِ عَيْنُ الرُّسْلِ خَاتِمُهُمْ ** بَعْثاً وَأَوّلُهُمْ فِي سَابِقِ القَدَرِ

صَلَى عَلَيْهِ إِلَهُ العَرْشِ ثُمَّ عَلَى ** أشْيَاعِهِ مَا جَرَى طَلِّ عَلَى زَهَرِ

مَعَ السَّلامِ دَوَماً والرِّضَا أَبَداً ** عن صَحْبِهِ الأكْرمِيْنَ الأنْجُمِ الزُّهُرِ

وعن عَبِيْدِكَ نَحْنُ المُذْنِبِيْنَ فَجُدْ ** بِالأمْنِ مِنْ كُلِّ مَا نَخْشَاهُ مِنْ ضَرَرِ

وَتُبْ عَلَى الكُلِّ مِنَا واعْطِنَا كَرَماً ** دُنْيا وأُخْرَى جَمِيْعَ السُؤْلِ وَالوَطَر

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التَّوْحِيد وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: عَلَى حديث ابن عباس المتضمن لوصية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فإنه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها حتي قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي فِي كتابه صيد الخاطر: تدبرت هَذَا الْحَدِيث فأدهشني وكدت أطيش ثُمَّ قال فوا أسفاً من الجهل بهَذَا الْحَدِيث وقلة الفهم لمعناه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله: يحفظك يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذَلِكَ هُوَ الوقوف عِنْدَ أوامره بالامتثال وعِنْدَ نواهيه بالاجتناب وعِنْدَ حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدي ما أمر به إلى ما نهي عنهُ».
ودخل فِي ذَلِكَ فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمَاتَ كُلّهَا كما فِي حديث ثعلبة المرفوع: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمَاتَ فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها». وَذَلِكَ يدخل فِي حفظ حدود الله كما ذكره الله تعالى فِي قوله: {والحافظون لحدود الله} وَقَالَ تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}.
وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله وفسر بالحافظ لذنوبه حتي يرجع منها، وكلاهما يدخل فِي الآية. ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضاً، والكل يرجع إلى معني واحد.
وقَدْ ورد فِي بعض ألفاظ حديث يوم المزيد فِي الْجَنَّة، إن الله تعالى يَقُولُ لأَهْل الْجَنَّة إِذَا استدعاهم لزيارته وكشف لهُمْ الحجاب: «مرحباً بعبادي الَّذِينَ حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وخافوني بالغيب وكَانُوا مني عَلَى كُلّ حال مشفقين».
فأمره صلى الله عليه وسلم لابن عباس أن يحفظ الله يدخل فِيه هَذَا كله. ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: {من حافظ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ الله عهدٌ أن يدخله الْجَنَّة}.
وفِي حديث آخر: «من حافظ عليهن كن نوراً وبرهانَاً ونجاةً يوم القيامة» وكَذَلِكَ الطهارة فإنها مفتاح الصَّلاة.
وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ عَلَى الوضوء إلا مُؤْمِنٌ» فإن الْعَبْد تنتفض طهارته ولا يعلم بذَلِكَ إلا الله، فالمحافظة عَلَى الوضوء للصلاة دَلِيل عَلَى ثبوت الإيمان فِي الْقَلْب.
ومِمَّا أمر الله بحفظه الإيمان لما ذكره كفارة اليمين قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكم إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكم}. فإن الإيمان كثيراً ما تقع من النَّاس وموجباتها مختلفة.
فتَارة يجب بِهَا كفارة يمين وتَارة يجب فيها كفارة مغلظة وتَارة يلزم بِهَا المحلوف عَلَيْهِ من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل عَلَى دخول الإيمان فِي قَلْبهِ.
وكَانَ السَّلَف كثيراً ما يحافظون عَلَى الأيمان فمِنْهُمْ من كَانَ لا يحلف بِاللهِ البتة. وَمِنْهُمْ من كَانَ يتورع حتي يكفر فيما شك فِيه الحنث.
ووصي الإمام أَحَمَد رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ موته أن يخرجَ عنهُ كفارة يمين.
وَقَالَ أظن أني حنثت فِي يمين حلفتها. وقَدْ روى عن أيوب عَلَيْهِ السَّلام: أنه كَانَ إِذَا مر باثنين يحلفان بِاللهِ ذهب فكفر عنهما يمينهما لئلا يأثمان وهما لا يشعران.
ولهَذَا لما حلف عَلَى ضرب امرأته مائة جلدة أفتاه الله بالرخصة لحفظه لأيمانه وأيمان غيره. وقَدْ اختلف العِلماء هل تتعدي الرخصة إلى غيره أم لا؟
وَقَالَ يزيد بن حبيب: بلغني أن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البُكَاء فإِذَا رفع رأسه قال: سبحانك ما تخشي حق خشيتك فَيَقُولُ الله تعالى: «لكن الَّذِينَ يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذَلِكَ» وقَدْ ورد التشديد العَظِيم فِي الحلف الكاذب بِاللهِ.
ولا يصدر كثرة الحلف بِاللهِ إلا من الجهل بِاللهِ تعالى وقلة هيبةٍ فِي الصدور. ومِمَّا يلزم المُؤْمِن حفظه رأسه وبطنه كما فِي حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ المرفوع: «الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس ما وعي ويحفظ البطن وما حوي» أخرجه الإمام أَحمَدُ والترمذي. وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ الْقَلْبِ عن الإصرار عَلَى محرم.
وقَدْ جمَعَ الله ذَلِكَ كله فِي قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عنهُ مَسْؤُولاً}. ويدخل فِي حفظ البطن وما حوي حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات.
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا منَ الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذَاننا عن الاستماع إلى ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل فيما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج:

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ومِمَّا يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج.
وفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الْجَنَّة» أخرجه الحاكَم، وأخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولفظه: «من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن لَهُ الْجَنَّة».
وفِي مسند الإمام أَحَمَد عن أبي موسي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الْجَنَّة». وقَدْ أمر الله بحفظ الفرج خاصة ومدح الحافظين قال الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، وَقَالَ: {والحافظين فروجهم والحافظات} وَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَأنهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}.
وقَدْ روى عن أبي إدريس الخولاني: أن أول ما وصى الله به آدم عِنْدَ إهباطه إلى الأرض بحفظ فرجه وأن لا يضعه إلا فِي حلال.
قوله: «بحفظك» يعني: أن من حفظ حدود الله وراعي حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس الْعَمَل كما قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم} وَقَالَ: {فاذكروني أذكركمْ}.
وَقَالَ: {إن تنصروا الله ينصركم}. وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين: أحدهما حفظه لَهُ فِي مصالح دنياه كحفظه فِي بدنه وولده وأهله وماله.
وفِي حديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللَّهُمَّ إني أسألك العافية فِي الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ إني أسألك العفو والعافية فِي ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللَّهُمَّ استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفِي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». أخرجه الإمام أَحَمَدُ وَأَبُو دَاود والنسائي وابن ماجة.
وهَذَا الدُّعَاء منتزع من قول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإِذَا جَاءَ القدر خلوا عنهُ. وَقَالَ عَلَى رَضِيَ اللهُ عنهُ: إن مَعَ كُل رجل ملكين يحفظانه مِمَّا لم يقدر فإِذَا جَاءَ القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة.
وَقَالَ مجاهد: ما من عبد إلا لَهُ ملك يحفظه فِي نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شَيْء يأتيه إلا قال وراءك إلا شيئاً قَدْ أذن الله فِيه فيصيبه. ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه فِي صحة بدنه وقوته وعقله وماله.
قال بعض السَّلَف: العَالِم لا يحزن، وَقَالَ بَعْضهمْ: مَن حفِظَ القرآنَ متع بعقله، وتأول ذَلِكَ بَعْضهمْ عَلَى قوله: {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين إلا الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات}.
وكَانَ الطيب أبو الطبري قَدْ جاوز المائة سنة وَهُوَ ممتع بعقله وقوته فوثب يوماً من سفينة كَانَ فيها إلى الأرض وثبة شديدة فعوتب عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها فِي الصغر فحفظها الله عَلَيْنَا فِي الكبر.
وعكس هَذَا أن الجنيد رأي شيخاً يسأل النَّاس فَقَالَ: إن هَذَا ضيع الله فِي صغره فضيعه الله فِي كبره. وقَدْ يحفظ الله الْعَبْد بصلاحه فِي ولده وولد ولده كما قيل فِي قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
وَقَالَ مُحَمَّد بن المنكدر إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هُوَ فيها والدويرات التي حولها فما يزالون فِي حفظ الله وستره. وَاللهُ أَعْلم وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.