فصل: فصل فيمن وَفَّقَهُم اللهُ فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أن الله سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بمَا قَدَّرَ لَهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ:

وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بمَا قَدَّرَ لَهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُطَمِّنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تُصِيبُهُمْ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ تَفِيئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ الْمُجَذِّبَةَ عَلَى أَصْلِهَا لا يَفِيئُهَا شَيْءٌ يَكُونُ انْجَعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فِمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ جَابِرِ مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ البَلاءِ».
وَعَنْ سَعْدِ بن أبِي وَقَّاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ يُبْتَلِيَ الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ، زِيدَ فِي بَلائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةً خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ البَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ولَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة: يُبْتَلى الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُؤْمِنَةُ فِِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأحمد.
وَوَرَدَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَة لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِي كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقْلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُحْتَضَرِ فيؤذيه فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ وَقَدْ روي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ إني أعوذ مِن بك الغَرقِ والحَرَقِ والهَدْمِ وأعُوذُ بكَ أن يَتَخَبَّطَنِي الشيطانُ عِنْدَ الموتِ». أَخْرَجَهُ الطبراني.
وَفِي حديث آخر أن إبليس لا يكون في حالِ أشدَّ منه على ابن آدم عند الموتِ يقول لأَعْوَانِهِ: دُونكُمُوه فإنه إن فَاتكم اليوم لم تَلْحَقُوه.
وقَدْ يَسْتَوْلى عَلَى الإِنْسَان حِينَئِذٍ فَيُضِلَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَرُبَّمَا حَالَ بينه وبينَ التوبة وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِن الْخُرُوجِ من مَظْلَمَةٍ أَوْ أَيَّسَهُ مِن رَحْمَةِ الله.
وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْكَ سَكَرَاتُ الموت التي لا تطيقها الجبال وَنَزْعُ الموت شديد وَرُبَّمَا خَوَّفَهُ وأقلَقَهُ وَأَوْقَعَهُ فِي الوَسَاوِسَ والاعتراضِ على القدرِ والعياذُ بِاللهِ.
فينبغي لِلْمُؤْمِنِ أن يعلم أن هَذَا الساعة ساعةَ خُروجِ الروحُ حِينَ يحمى الوطِيس فَيَتَجَلَّد وَيَتَصَبَّر وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ الحي القيوم على هَذَا الْعَدُوّ المرصد ليرجع هَذَا الْعَدُوّ خائبًا.
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِيُنْضِي شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكم بعيره فِي السفر».
ويعلم أن الجزع لا يفيد شَيْئًا وعن عمر بن عَبْد الْعَزِيز رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما أحب أن تُهَوَّنَ عَليَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إنه آخر ما يكفر به عَنْ المسلم.
وعن إبراهيم قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمَرِيض أن يَحْمَدَ اللهَ عِنْدَ الموت، وعن ابن عباس أَنه قَالَ آخِرُ شِدَّةٍ يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الموت.
واعْلَمْ أنَّ المرضَ يُذْهِبُ الخَطَايا وكُلَّمَا اشْتَدَّ المرضُ كَانَ أَذْهَبَ لها عن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فَمَسَسْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فقَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ َرُجلانِ مِنْكُمْ». قُلْتُ: ذَلِكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَها». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المسلم إلا كفر الله عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشوكة يشاكها». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ البَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وفي ماله وفي ولده».
وعن صهيب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجِبْتُ مِن قَضَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِ إِن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ إلا لِلْمُؤْمِنِ إن أصابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا وإن أصابته ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري قَالَ: دَخَلْتُ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فوجَدتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ- فَوق اللحاف- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أشدَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: «إِنَا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا البَلاء وَيُضَعَّفُ لَنَا الأجْر».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءُ؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاء». قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ لَيُبْتَلِي بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أحَدهم لَيَفْرَحُ بِالبَلاءُ كَما يَفْرَحُ أَحَدُكم بالرَّخَاء.». رَوَاهُ ابن ماجه.
وعن عَبْد اللهِ بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حدثنا وكيع عَنْ أبي حيان عَنْ أبيه قَالَ: دَخَلُوا على سُوَيْدِ بن شُعْبَةَ اليَربُوعِي وقَدْ صَارَ على فراشِهِ كَأنَ فَرْخٌ وامرأتُه تُنَادِيهِ مَا نُطْعِمُكَ ما نَسْقِيكَ، فأجابها بِصوتٍ خِفَى دَبَرَتِ الْحَرَاقِفُ وَطَالَتِ الضَّجْعَةُ وَمَا أَحِبُّ أَن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَصَنِي مِنْهُ قُلامَةَ ظُفرُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكَانَ جماعة من السَّلَف يجعلون مكَانَ الأنين والتأوه من شدة المرض ذِكْرَ الله سُبْحَانَهُ والاستغفار والتعبد وَذَلِكَ لان الأنين ونحوه شكوى فَمَتَى أمكن التصبر عَنْهُ فينبغي أن يصبر.
وَمَا هِيَ إلا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ** وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ

فإن غلب عَلَيْهِ المرض عذر، وقَالَ الإِمَام أحمد لابْنِهِ: أقرا عليَّ حديث طاووس أنه كره الأنين فِي المرض فقرأ عَلَيْهِ فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمِ وحضره أخوه فجعل يَتَقَلَّبُ قَالُوا: كَانَ لَهُ حاجة. قال: نَعَم.
فَقَالَتْ ابْنَتُهُ: مَا لَهُ مِنْ حَاجَةٍ إِلا أنه يُرِيدُ أَنْ تَقُومُوا عَنْهُ فَيَقُومُ فَيُصَلِّي، وَمَا ذَاكَ فِيهِ.
فقامَ القَومُ عَنْهُ وقامَ إِلَى مَسْجِدِه يُصَلِّي فصاحت ابنته بِهِمْ فدخلوا عَلَيْهِ فحملوه فمَاتَ.
ودخلوا على أحد السَّلَف وَهُوَ يعاني سكرات الموت فجعل يكبر ويُهَلل ويذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وجعل النَّاس يدخلون عَلَيْهِ أرسالاً يسلمون عَلَيْهِ فيرد عَلَيْهمْ ويخرجون.
فَلَمَّا كثروا عَلَيْهِ أقبل على ولده فقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْفِنِي رُدَّ السَّلام على هؤلاء لا يشغلوني عَنْ ربي عَزَّ وَجَلَّ.
وقَالَ أبو مُحَمَّد الحريري: حَضَرْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ قَبْلِ وَفَاتِهِ بِسَاعَتَيْنَ فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِم قَدْ بلَغَ بِكَ مَا أَرَى مِنْ الْجُهْدِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد أَحْوَجُ مَا كُنْتُ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَة فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مَنْهَا عَارِيًا كَمَا دَخَلَهَا عَارِيًا.
وَهَكَذَا كُلُّ بَنِي آدم يدخل الإِنْسَان مُجَرَّدًا مِن اللباس وَيَخْرُجُ مِنْهَا عَارِيًا إِلا مِنْ كَفَنِهِ كَمَا قِيْلُ:
نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ** رِدَاءآنِ تُلْوَى فِيهِمَا وَحَنُوطُ

آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ** سِوَى حَنُوط غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ

وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ** وَقَلَّ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِق

أَوْجَدَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْمل بِطاعة الله وَيَتَمَتَّعَ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُسْتَعِينًا فِيهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا انْقَضَى أَجَلُهُ أَخْرَجَهُ اللهُ لِدَارِ الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ عَلَى عَمَلِهِ.
فإنْ أَحْسَنَ التَّصَرُّفَ وَأَطَاعَ رَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ لِيَسْعَد فِيهَا لِلأَبَد، وإِنْ أساء التَّصَرُف وَعَصَى رَبَّهُ أَدْخَلَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَتَعَذَّبُ فِيهَا لِلأَبَد.
وكل ما فِي الدُّنْيَا من أَمْتِعَةٍ وَلَذَائِدَ قليلة وضئيلة ومحدودة بِالنِّسْبَةِ لِلَذَائِد الْجَنَّة بل موضع السوط فِي الْجَنَّة خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والمكث فِي الدُّنْيَا قليل فهو سنوات تمر كالبرق الخاطف لا يشعر الإِنْسَان إلا وقَدْ انْتَهَتْ كأنها سَاعة مِن نهار حَيَاتهُ كُلّهَا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ومِن النَّاس مَن رَآها دَارَ قَرَار، وقَالَ: لا دَارَ لِيَ سِوَاهَا واعْتَنَى بِهَا وَبِزَخَارِفَِِها وَغَرَّهُ إِبْلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ وَزِيَّنَهَا لَهُ فَانْغَمَسَ فِيهَا، وَعَمِلَ لَهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَتَعِبَ فِيهَا مُسْتَمْتِعًا بِخَيْرَاتِهَا الْفَانِيَةِ وَمُلاقٍ بَلاءَهَا وَأَنْكَادَهَا وَأَكْدَارَهَا، وَبَعْدَ قَلِيل هَجَم عَلَيْهِ هَادِمُ اللَّذاتِ وَأَيْقَظَهُ من غَفْلَتِه بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ فَنَدَمَ حَيْثُ لا يَنْفَعُ النَّدَمِ وَعَرَفَ بَعْدَ الْفَوْت أَنَّ الدُّنْيَا دَارَ مَنْ لا دَارَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ من لا عَقْلَ لَهُ.

.فصل فيمن وَفَّقَهُم اللهُ فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ:

وَقِسْمٌ مِن النَّاس وَفَّقَهُم اللهُ وَهُوَ أَعْلَمْ بالمهتدين فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ.
قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وَهؤلاء تَمَشَّوْا مَعَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ أَصْلَحُوا دُنْيَاهُم وَجَدُّوا وَاجْتَهِدُوا وَعَمِلُوا لِلآخِرَةِ.
فَالدُّنْيَا نِعْمَ الْمطيةُ لِلْمُؤْمِنِ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْخَيْر وَيَنْجُو عَلَيْهَا مِن الشَّر فَاتَّخَذَهَا مَطِيَّةً فَعَمَرَهَا كَمَا أَمَرَهُ خَالِقُهُ وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِدَالِ وَتَوَازُنٍ وَلَمْ يُعْلق قَلْبهُ بِهَا.
فَأطَاعَ رَبَّهُ وَاسْتَعَدَّ لآخِرَتَهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى أَتَمِّ الاِسْتِعْدَادِ ومن النَّاس من رأى الدُّنْيَا تافهة وأيامها قليلة وعلم ما فِي الآخِرَة من نَعِيم مُقيم وَعَيْشٍ سَلِيم وعلم أنَّ الدُّنْيَا والآخِرَة ملك: {اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، {الَّذِي لَهُ}، {الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فأحب ربه واشتغل بعبادته وبالتقرب إليه بالعلم وفعل الْخَيْر وترك الدُّنْيَا وزينتها وزهد فيها.
وَهَذَا القسم نادر كندرة الماس والجوهر الثمين فسعدوا بطاعة الله والتقرب إليه وصرف الوَقْت فيما يرضيه. ومن النَّاس من جهل الدُّنْيَا والآخِرَة فعاش فيها عيش البهائم يعمل ليله ونهاره.
ويأكل كما تأكل الأنعام فلم يستفد من الدُّنْيَا ولم يستعد للآخرة هؤلاء هم الأكثرية الساحقة. وأسوء النَّاس من شغل عمره فِي خدمة مخلوق وضيع وقته فِي القِيْل والقَالَ والجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات.
وروي أن شر النَّاس منزلة عَنْدَ الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره.
وَأَسْوء النَّاس تدبيرًا لِعَافِيَةٍ ** مَن أَنفقَ العُمر فيما لَيْسَ يَنْفَعُهُ

أما الاعِتدال والتوسط بين الاستمتاع بالدُّنْيَا بلا إسراف ولا إِضَاعَةِ وَقْتٍ ولا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَكُونُ مُسْتَعِدًا للآخِرَةِ فهَذَا سِمَةُ الْعُقَلاءِ وَالسُّعَدَاء الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَصْرِيفَ أَوْقَاتِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ.
وَلِيَعْلَم الْمُؤْمِنُ أن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِن الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلَهُ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَخَافُونَ عَلَيْهِ.
وَعَلَى الإِنْسَان الْعَاقل أَنْ يَفْهَمْ الدُّنْيَا على حَقِيقَتِهَا فَيَنْظُرَ أَوَّلاً كَيْفَ وُلِدَ يَجِدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَارِيًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى مِن الثِّيَابِ ثُمَّ رَزَقَهُ اللهُ الْكِسْوَةَ مِن الْمَلابِسِ وَالْمَتَاعِ وَالسَّكَنِ وَالْمَالِ عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ مُرَجَعَةُ.
فَإِذَا فَقَدْ مِنْهَا شَيْئًا فَلا يَحْزَنْ لأَنَّ مَنْ أَعَارَهُ شَيْئًا اسْتَرَدَّهُ وَسَوْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ مَا أُعْطِي وَيَخْرُجُ مِن الدُّنْيَا تَارِكًا كُلَّ شَيْءٍ.
وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلا وَدَائِعٌ ** وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ

آخر:
تَجَرَّدْ مِن الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ** خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدً

آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ تَجْمَعُهُ ** سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ

وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ** وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَق

.حِكَم وَمَوَاعِظ وَآدَاب:

قَالَ بَعْضُهُمْ يُوصِي ابْنه: يَا بُنَيَّ لا تدخل فِي الدُّنْيَا دُخُولاً يَضُر بِآخِرَتِكَ وَلا تَتْرُكْهَا تَرْكًا تَكُونُ بِهِ كلاً عَلَى النَّاسِ.
وقَالَ: أُتْرُكْ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ تَتْرُكَكَ، وَاسْتَرْض رَبَّكَ قَبْل لِقَائِهِ، وَأعْمُرْ بَيْتَكَ الَّذِي سَوْفَ تَسْكُنُه قَبْلَ انْتِقَالِكَ إِلَيْهِ.
قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ لِمَنْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: كَيْفَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا مَنْ تَأَمُرونَهُ بِتَرْكِ الدِّينَارِ وَالدِّرهِم وَهُم إِنْ الْقَوهَا أَخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ.
وَقَالَ آخر الْوَقْت آلة الرِّزْقِ إن اسْتُعْمِلَ، وآفةُ الرِّزْقِ إِذَا أُهْمِلْ.
لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مَا أَبْرَزَتْ إِلا مَا هُوَ مُسْتَحَقُّ وَصْفِهَا وَوَاجِبُ نَعْتِهَا فَاحْذَرْهَا.
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ** صَفْوًا مِن الأَقْذَارِ وَالأَكْدَار

مَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِجَانِبِ مَقْبَرَةَ، فقَالَ: هَذِهِ كِنْزُ الرِّجَال، وَهَذِهِ كِنْزُ الأَمْوَالِ. خَلَق اللهُ جَلَّ وَعَلا الدُّنْيَا لِتَكُون فِي خِدْمَتِكَ، فَتَحَوَّلْتَ إِلَى خِدْمَتِهَا وَأَرَادَكَ مَلِكًا لَهَا وَأَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكًا لَهَا.
أَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا بِزُهْدِكَ فِي ** حُطَامِهَا وَطَرِيقُ الْحَقِّ مَسْلُوكُ

وَأَنْتَ عَبْدٌ لَهَا مَادُمْتَ تَعْشِقُهَا ** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوكُ

الدُّنْيَا مَحْبُوبَةٌ لِلإنْسِان ولكن يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لا نَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا كَرهَهُ اللهُ وَلا نَمْنَعْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَبَّهُ اللهُ وبذا لا يَضُرنا حُبُّنَا لَهَا.
الدُّنْيَا بَحْرٌ وَالآخِرَة سَاحِل والمركبُ التَّقْوَى والنَّاسُ سُفر.
الذنب يضر فاعله وقَدْ يضر غيره إن عَيَّرهُ ابتُلِي، وإن اغْتَابَهُ أثُِم، وإن رَضِي به شاركه، قِيْل: إن المسيح عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رَبِّ مَن أَشرفُ النَّاسِ، فَأَوْحَى الله إليه أشرفُ النَّاس مَن إِذَا خلا علم أني ثانيه فأَجَلَّ قَدْرِي عَنْ أن يظهرني على معاصيه.
هجران المعاصي أفضل الهجرة والمحافظة على الفرائض أفضل الجهاد ولا يأتي أحد بشَيْء أحَبَّ إِلَى الله مِنْ ذِكْرِهْ. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} لا تَسْتَبْطِئ إجَابَةَ الدُّعَاء وقَدْ سَدَدَتَ طُرَقَهَا بالمعاصي.
التَّمَادِي بِالْمَعَاصِي يُوجِبُ الإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَالإِصْرَارُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الله ومَن غَفَل عَنْ الله تَجَرَّأَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ.
أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا بِشَهْوَة سَاعة، سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ مِنْ عَلامٍَة لِمَنْ قَبِلَهُ الله؟ فقَالَ: الله أعْلَمْ ولكن هنا قرائن ودلائل ومرجحات مِنْهَا إِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الله جَلَّ وَعَلا قَدْ عَصَمَكَ من المعاصي وَكَرَّهَهَا إليكَ وَوَفَّقَكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِن الطاعات التي أمركَ بِهَا تَرَجّح عِنْدَكَ الْقُبُول لا تَتَهَاون بالذنب الصغير وانظر إِلَى مَن عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا السماوات والأَرْض جميعًا قبضتُه يوم القيامة.
أَفَقْ مِنْ غَفْلَةِ الآمَالِ تَسْلَمْ ** وَقُمْ للهِ أَوَّابًا مُطِيعَا

وَخَالِفْ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ** وَنَفْسِكَ وَالْهَوَى نُمَّ الرَّقِيعَا

فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ بِغَيْرِ شَكٍّ ** إِذَا أَصْبَحْتَ لِلدَّاعِي سَمِيعَا

بَصِيرًا بِالْعَوَاقِبِ فِي أُمُورٍ ** بِهَا أَحْسَنْتَ مَا عِشْتَ الصَّنِيعَا

تَمَسَّكْ بِالشَّرِيعَةِ وَاحْتَرِمْهَا ** تَنَلْ مِنْ فَضْلِهَا الشَّرَفَ الرَّفِيعَا

وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.