فصل: فَصْل في ذكر الدعاء وتحري أوقات الإجابة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

إخواني: إن الليل كما علمتم فيه فضل عَظِيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جَلَّ وَعَلا، وَهُوَ من أثقل شَيْء على النفس ولاسيما بعد أن يرقَدْ الإِنْسَان، وإنما يكون خفيفًا بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عَلَيْهِ والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة فِي الابتداء، ثُمَّ بعد ذَلِكَ ينشرح وينفتح باب الأُنْس بِاللهِ وتلذ لَهُ المناجاة والْخُلْوَة، وعَنْدَ ذَلِكَ لا يشبع الإِنْسَان من قيام الليل، فضلاً عَنْ أن يستثقله أَوْ يكسل عَنْهُ كما وقع لكثير من السَّلَف. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْل الليل فِي ليلهم ألذ من أَهْل اللهو فِي لهوهم ويا بعدها بين الحالتين، فسبحان من وفق أقوامًا فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عَنْ ما ينفعهم فِي حاضرهم ومآلهم غافلون.
ولا خَيْر فِي مَنْ لا يُوَطِّنُ نَفْسهُ ** عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِمَا فِي كِتَابِه

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبة أجمعين.

.فَصْل في ذكر الدعاء وتحري أوقات الإجابة:

اعْلَمْ يَا أخي أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من سؤال الله ويتحرى أوقات الإجابة لعل الله جَلَّ وَعَلا أن يستجيب لَهُ، قَالَ الله تبارك تَعَالَى وَهُوَ أصدق القائلين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وقَالَ تبارك وتَعَالَى وَهُوَ أوفى الواعدين: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقَالَ تَعَالَى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، وقَالَ تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}، وقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وأن يفتح الدُّعَاء بالثناء على الله والصَّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقوم خلق الله لله بالَّذِي ** يحب ويرضاه النَّبِيّ المبجل

فتى جمعت فيه المكارم شملها ** فما فاته مَنْهَا أخَيْر وأول

عنايته بالدين تشهد أنه ** نبي من الرحمن قَدْ جَاءَ مرسل

له مني عظمى على كُلّ مُسْلِم ** وطاعته فرض من الله منزل

دعانَا إِلَى الإِسْلام بعدا اندراسه ** وقام بأمر الله والأَمْر مهمل

وأصلح بين الْمُسْلِمِين بيمنه ** واطفأ نيرانًا على الدين تشعل

يعاقب تأديبًا ويعفو تطولاً ** ويجزى على الحسنى ويعطى فيجزل

ولا يتبع المعروف منا ولا أذى ** ولا البخل من عاداته حين يسأل

رعاه الَّذِي استرعاه أمر عباده ** وكافاه عنا المنعم المتفضل

اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات وَوَفِّقْنَا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته ودعا لَكَ فأجبته، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى صحبه وسلم أجمعين.
فَصْل:
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ولن ينفع حذر من قدر، ولكن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل، فعليكم بالدُّعَاء عباد الله». رَوَاهُ أحمد والطبراني عَنْ معاذ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيى كريم يستحى إِذَا رفع الرجل يديه إن يردهما صفرًا خائبتين». رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجه والحاكم عَنْ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنين بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غَافِل لاه». رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب لَهُ، فَإمَّا أن يعجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يؤخر لَهُ فِي الآخِرَة وإما يكفر عَنْهُ من ذنوبه بقدر ما دعاء، ما لم يدع بإثُمَّ أَوْ قطيعة رحم، أَوْ يستعجل يَقُولُ: دعوت ربى فما استجاب لي». رَوَاهُ الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من سره إن يستجيب الله لَهُ عَنْدَ الشدائد والكرب فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء». رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولَقَدْ علم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمته كيف تدعو فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذ صلى أحدكم فليبداء بتحميد الله تَعَالَى والثناء عَلَيْهِ ثُمَّ ليصل على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ليدع بما شَاءَ». رَوَاهُ أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عَنْ فضالة بن عبيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نَفْسهُ». رَوَاهُ ابن عدي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمَعَ ملأ فيدعوا بَعْضهمْ ويؤمن بَعْضهمْ الا أجابهم الله». رَوَاهُ الطبراني والحاكم والبيهقي عَنْ حبيب بن سَلَمَة الفهري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم». رَوَاهُ أبو داود والبيهقي عَنْ ابن عباس رضي الله عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدعو على أنفسكم إلا بخَيْر فَإِنَّ الملائكة يؤمنون على ما تقولون». رَوَاهُ أحمد ومسلم وَأَبُو دَاود عَنْ أم سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا على تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافق من الله ساعة نيل فيها عطاء مستجاب لكم». رَوَاهُ أبو داود عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء ويستجاب الدُّعَاء فِي أربعة مواطن: عَنْدَ التقاء الصفوف فِي سبيل الله، وعَنْدَ نزول الغيث، وعَنْدَ إقامة الصَّلاة، وعَنْدَ رؤية الكعبة». رَوَاهُ الطبراني عَنْ أبي إمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من كَانَتْ لَهُ إِلَى الله حَاجَة فليدع بها دبر كُلّ صلاة مفروضة». رَوَاهُ ابن عساكر عَنْ أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإِمَام العادل، والصائم حَتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، وَيَقُولُ الرب تبارك وتَعَالَى: وعزتي لا نصرنك ولو بعد حين». رَوَاهُ أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عَنْدَ رأسه ملك موكل به، كُلَّما دعا لأخيه بخَيْر قَالَ الملك: آمين ولك مثل ذَلِكَ». رَوَاهُ أحمد ومسلم وابن ماجه عَنْ أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله حوائجكم حَتَّى الملح». رَوَاهُ البيهقي عَنْ بكر بن عَبْد اللهِ المزني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرسلاً.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتَعَالَى كُلّ ليلة إِلَى السماء الدُّنْيَا حين يبقى الثلث الليل الآخِر فَيَقُولُ: من يدعوني فاستجيب لَهُ، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فاغفر لَهُ». رَوَاهُ أحمد والْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون الرب من الْعَبْد فِي جوف الليل الآخِر فَإِنَّ استطعت أن تكون مِمَّا يذكر الله فِي تلك الساعة فكن». رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم عَنْ عمرو بن عنبسة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «يدعو الله بالمُؤْمِن يوم القيامة حَتَّى يوقفه بين يديه، فَيَقُولُ: عبدي، إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لَكَ، فهل كنت تدعوني؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: أما إِنَّكَ لم تدعنى بدعوة إلا استجيب لَكَ، ألَيْسَ دعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ ففرجت عَنْكَ؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا، ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ فلم تر فرجًا؟ قَالَ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني ادخرت لَكَ بها فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا. ودعوتني فِي حَاجَة اقضيها لَكَ فِي يوم كَذَا وَكَذَا فقضيتها؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا. ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَة أقضيها لَكَ فلم تر قضاء. فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: ادخرتها لَكَ فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا».
وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا يدع الله دعوة دعا عبده المُؤْمِن إلا بين لَهُ، إما أن يكون عجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يكون ادخر لَهُ فِي الآخِرَة. قَالَ فَيَقُولُ المُؤْمِن فِي ذَلِكَ المقام: يَا ليته لم يكن عجل لَهُ شَيْئًا من دعائه». رَوَاهُ الحاكم عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أيها النَّاس إن الله طيب لا يقبل إلا طيب. وإن الله أمر الْمُؤْمِنِينَ بما أمر به المرسلين» فقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إِلَى السماء: يَا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لِذَلِكَ. رَوَاهُ أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. عَنْهُ فمن أراد أن تجاب دعوته فليطب مطعمه.

.فَصْل في ذكر الموت وأحوال يوم القيامة:

فيا أيها الغَافِل المهمل المفرط وكلنا كَذَلِكَ انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه.
وتصور بُدُوَّ الملك لجذب روحك من قدميك ثُمَّ الاستمرار ليجذب الروح مِنْ جَمِيعِ بدنك فَنُشِطَتْ من أسفلك متصاعدة إِلَى أعلاك حَتَّى إِذَا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرِّضَا وإما الْغَضَب.
فبينما أَنْتَ فِي كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقابك أحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أَوْ الفرح والأُنْس والسرور قلبك حين أقضت من الدُّنْيَا مدتك وانقطع مَنْهَا آثرك وحملت إِلَى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وَسُرُورًا وملئ رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبور وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالها لَكَ فِي القبر عَنْ ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك والثاني ما دينك والثالث من نبيك.
فتصور أصواتهما عَنْدَ ندائهما لَكَ لتجلس لسؤالهما لَكَ فيه فتصور جلستك فِي ضيق قبرك وقَدْ سقط كفنك عَنْ حقويك والقطن من عينيك. ثُمَّ تصور شخوصك ببصرك اليهما وتأملك لصورتهما فَإِنَّ رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك.
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ** وموت وقبر ضيق فيه يولج

ويلقى نكيرًا فِي السؤال ومنكرًا ** يسومان بالتنكيل من يتلجلج

آخر:
تفكر فِي مشيبك والمآب ** ودفنك بعد عزك فِي التراب

إذا وافيت قبرًا أَنْتَ فيه ** تقيم به إِلَى يوم الحساب

وفى أوصال جسمك حين تبقى ** مقطعة ممزقة الاهاب

فلولا القبر صار عَلَيْكَ سترًا ** لأنتنت الأباطح والروابي

خلقت من التُّرَاب فصرت حيًا ** وعلمت الفصيح من الخطاب

فطلق هَذِهِ الدُّنْيَا ثلاثًا ** وبادر قبل موتك بالمتاب

نصحتك فاستمَعَ قولي ونصحي ** فمثلك قَدْ يُدَلُّ على الصواب

خلقنا للممَاتَ ولو تركنا ** لضاق بن الفسيح من الرحاب

ينادى فِي صبيحة كُلّ يوم ** لدوا للموت وابنو للخراب

ثُمَّ تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله عَزَّ وَجَلَّ ونظرت إلى ما أعد الله لَكَ وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعانيه من النَّعِيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مِمَّا يسوؤك.
وان كَانَتْ الأُخْرَى فتصور ضد ذَلِكَ من انتهارك ومعينتك جهنم وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقَالَ.
ثُمَّ بعد ذَلِكَ الْفَنَاء والبَلاء حَتَّى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حَسْرَة روحك وغمومها وهمومها، حَتَّى إِذَا تكاملت عدة الأموات وقَدْ بقى الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثُمَّ لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جَلَّ وَعَلا.
قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يأمر الله ملكًا ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقه والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل الِقَضَاءِ.
فتصور وقوع الصوت فِي سمعك ودعائك إِلَى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جَلَّ وَعَلا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
فبينما أَنْتَ فِي فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأَرْض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نَحْوَ النداء، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً}، وقَالَ: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}.
فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك فِي زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة، قَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}، وقَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}.
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفى الآخِرَة واتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفى الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين.
اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار واعتق رقابنا ورقاب إبائنا من النار يَا عزيز يَا غفار ويا كريم يَا ستار ويا حليم ويا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
ثُمَّ تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}.
وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مَعَ كثافة سمكها فيا هول صوت ذَلِكَ الانشقاق.
والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، قَالَ تَعَالَى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}. وقَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}. قِيل تذوب كما تذوب الفضة فِي السبك وتتلون كما تلون الأصباغ التي يدهن بها فتَارَّة حمراء وتَارَّة صفراء وزرقاء وخضراء وَذَلِكَ من شدة الأَمْر وهول يوم القيامة، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قِيْل كالفضة المذابة أَوْ الرصاص المذاب، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}.
فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقَدْ أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق ولا ظِلّ إلا ظِلّ عرش رب العالمين، فبينما أَنْتَ على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثُمَّ ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العَظِيم.
وانضاف إِلَى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأَرْض حَتَّى استنقع ثُمَّ ارتفع على الأبدان عَلَى قَدْرِ مراتبهم ومنازلهم عَنْدَ ربهم بالسعادة والشقاوة.
ثُمَّ تصور مجئ جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الا جثا لركبته يَقُولُ: يَا رب نفسي نفسي. فتصور ذَلِكَ الموقف المهيل المفزع الَّذِي قَدْ ملا الْقُلُوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يَا لَهُ من موقف ومنظر مزعج.
وأَنْتَ لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقَدْ علاك العرق والفزع والرعب الشديد والنَّاس معك منتظرون لفصل الِقَضَاءِ إِلَى دار السعادة أَوْ إِلَى دار الشقاء، قَالَ تَعَالَى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.
فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كُلّ واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية.
فتصور نفسك وحالتك عِنْدَمَا يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصَاحِب لما فِي ذَلِكَ الْيَوْم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت الْقُلُوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
ولولا عظم هول ذَلِكَ الْيَوْم ما كَانَ من الكرم والمروة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إِلَى ذَلِكَ فلا تلام على فرارك مِنْهُمْ ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فروا منك، قَالَ الله تَعَالَى:
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وقَالَ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
فبينما أَنْتَ فِي تلك الحالة مملوء رعبًا قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَال وَالْمُزْعِجَات وَالْخَوف الْعَظِيم إِذَا ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عَلَيْهمْ ويلقيهم فِي النار فتبتلعهم ثُمَّ تصور الميزان وعظمته وقَدْ نصب لوزن الأَعْمَال وتصور الكتب المتطايرة فِي الإِيمَان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك فِي يمينك أَوْ فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك.
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
فالأتقياء يعطون كتبهم بإيمانهم والأشقياء بالشمال أَوْ من وراء الظهر، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}، وقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً}.
قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيات، وقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} الآيات.
فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المُؤْمِن بها حَقًّا.
عَنْ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ رأسه فِي حجر عَائِشَة فنعس فتذكرت الآخِرَة فبكت فسالت دموعها على خد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقَالَ: «ما يبكيك؟» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكرت الآخِرَة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة.
قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده فِي ثلاثة مواطن فَإِنَّ أَحَد لا يذكر إلا نَفْسهُ: إِذَا وضعت الموازين ووزنت الأَعْمَال حَتَّى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل وعَنْدَ الصحف حَتَّى ينظر أبيمينه أم بشماله وعَنْدَ الصراط».
وعن أَنَس بن مالك قَالَ: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حَتَّى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فَإِنَّ ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمَعَ الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإن خف ميزانه نادى بصوت فيسمَعَ الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور بينما أَنْتَ واقف مَعَ الخلائق الَّذِينَ لا يعلم عددهم إلا الله جَلَّ وَعَلا وتقدس إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هَلُمَّ إِلَى العرض على الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقمت أَنْتَ لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أَنْتَ المطلوب فقمت ترتعد فرائضك وتضطرب رجلاك وَجَمِيع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول فِي أشد الخفقان مرتفعًا إِلَى الحنجرة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}.
فتصور خوفك وَذُلُّكَ وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قَدْ حَلَّ بِكَ الْغَمِّ وَالْهَمَّ والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورَأَيْت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}، فيا من يوم، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} والآية بعدها.
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأَرْض الَّذِي الأَرْض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويان بيمينه القوي العزيز وقلبك خائف مملؤء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل.
وجوارحك مرتعدة بيدك صحيفة فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الَّذِي لم يزل أليك محسنًا وعَلَيْكَ سَاتِرًا.
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عَنْ قبيح فعلك وعَظِيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العَظِيم الجليل ومساءلته وتوبيخه.
وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأَرْض كخردلة فِي كفة الكبير المتعال شديد المحال الَّذِي ما من دابة إلا هُوَ آخذ بناصيتها وقُلُوب العباد بين أصابعه لا إله الا هُوَ القوي العزيز.
وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قَدْ نسيتها أثبتها عَلَيْكَ الملك وَكَمْ من بلية أحدثتها فذكرتها وَكَمْ من سريرة قَدْ كنت كتمتها قَدْ ظهرت وبدت.
وَكَمْ من عمل قَدْ كنت تظن أنه قَدْ خلص لَكَ وسلم فإذا هُوَ بالرياء قَدْ حبط بعد ما كَانَ أملك فيه عظيمًا فيا حَسْرَة قلبك وتأسفك على ما فرطت فِي طاعة ربك، قَالَ تَعَالَى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}، وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
حتى إِذَا كرر عَلَيْكَ السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عَنْ مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقَدْ ظهرت قلة هيبتك وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك لَهُ بفعل ما نهاك عنه.
فما ظنك بسؤال من قَدْ امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك أن ذكرك مخالفتك لَهُ وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك فِي الدُّنْيَا بطاعته.
وماذا تَقُول إن قَالَ: يَا عبدي أما استحيت مني أما راقبتني استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عَلَيْكَ ما غرك مني.
شبابك فيما ابليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه.
وورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتَعَالَى لَيْسَ بينه وبينه حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عَنْهُ فَيَقُولُ ألم أنعم، ألم آتك مالاً فَيَقُولُ: بلى. فَيَقُولُ: ألم أرسل أليك رسولاً فَيَقُولُ: بلى. ثُمَّ ينظر عَنْ يمينه فلا يرى إلا النار ثُمَّ ينظر عَنْ شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فَإِنَّ لم يجد فبكلمة طيبة» رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عَلَيْهِ خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت فِي طاعته وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عَنْدَ الملاهي والمنكرات، قَالَ الله تَعَالَى عَنْ حال المجرمين المفرطين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية.
وكيف تَثْبُتُ رجلاك عَنْدَ الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عِنْدَمَا يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جَلَّ وَعَلا ويقدرك على ذَلِكَ فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الْغَضَب أَوْ الرِّضَا عَنْكَ.
فإما أن يَقُولُ: يَا عبدي أَنَا سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فقَدْ غفرت لَكَ كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فَيَسْتَطِيرُ قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لِذَلِكَ وجهك.
فتصور نفسك حين ما يقَالَ لَكَ وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال.
وتصور رضاه عَنْكَ حينما تسمعه منه فثار فِي قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا ما قطع قلوبنا عَنْ ذكرك واعف عَنْ تقصيرنا فِي طَاعَتكَ وشكرك وأدم لَنَا لزوم الطَرِيق إليك وهب لَنَا نورًا نهتدي به إليك، واسلك بنا سبيل أَهْل مرضاتك واقطع عنا كُلّ ما يبعدنا عَنْ سبيلك ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا فِي دنيانَا وأخرتنا واحشرنا فِي زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يَا رب العالمين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَصْل:
وتصور نفسك وقَدْ بدا لَكَ منه الرِّضَا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فَكَيْفَ لو سمعت من الله عَزَّ وَجَلَّ الرِّضَا عَنْكَ والمغفرة لَكَ فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وأبيض وجهك وأشرق وأنار.
ثُمَّ خرجت إِلَى الخلائق مستنير الوجه قَدْ حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقَدْ شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لَكَ وتأسفًا على أن ينالوا من الله عَزَّ وَجَلَّ مثل ما نلت.
وتصور نفسك إن لم يعف عَنْكَ ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إِلَى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك تنادي بالويل ولثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هَذَا فلان بن فلان قَدْ شقي شقاء لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور الصراط وَهُوَ الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته ودحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته.
فيا لَهُ من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيضها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقَدْ اضطررت على المشي عَلَيْهِ وقَدْ مرت عَلَيْكَ صفته.
ثُمَّ قِيْل لَكَ وأَنْتَ تنظر إِلَى الجسر بفظاظته وفظاعته وقِيْل للخلق معك اركبوا الجسر الَّذِي هُوَ الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مِمَّا عانيت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والرَّاحَة.
ولما قِيْل: اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثُمَّ إِذَا رفعت رجلك وأَنْتَ تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأُخْرَى وأَنْتَ مضطرب تمروج من شدة الخوف العَظِيم وقَدْ أثقلتك الأوزار وأَنْتَ حاملها على ظهرك وأَنْتَ تنظر إِلَى النَّاس من يتهافتون من بين يديك ومن ورائك.
فتصور مرورك عَلَيْهِ بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقَدْ تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يتخطفون بالكلاليب وتسمَعَ العويل والبُكَاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور.
فيا له من منظر فظيع ومر تقي ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكَانَ ما أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوءًا من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إِلَى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك فِي جهنم وأَنْتَ تخشى أن تتبعهم إِلَى قعر جهنم.
فتصور هَذَا بعقلك ما دمت فِي قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوأ بالفشل والخيبة والحرمان.
وتصور حالتك إن يؤت بالْخُسْرَانُ وزلت رجلك على الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثُمَّ زلت رجلك الأُخْرَى فنكستَ على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قَدْ دخل فِي جلدك ولحمك.
فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على ضيعتها فيما يسخط الله.
وتصور سماعك لنداء النار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلِ امْتَلَأْتِ} وسمعت أجابتها: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وهي تلتهب فِي بدنك لها قصيف فِي جسدك ثُمَّ لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك.
محترق تطلب مِنْهُمْ ماء أَوْ نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حَسْرَة وأسفًا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فيا خيبة من هَذَا حاله وَهَذَا مآله.
لَقَدْ تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رَأَيْت من غضبهم عَلَيْكَ لغضب رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ ففزعت إِلَى الله بالنداء بطلب الْخُرُوج مَنْهَا فبعده مدة الله أعْلَمْ بها جَاءَ الجواب: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}.
فَلَمَّا سمعت النداء بالتخسئة لَكَ ولأمثالك بقى نفسك من شدة الضيق والألم والحَسْرَة مترددًا فِي جوفك لا مخَرَجَ لَهُ فضاقت نفسك ضَيِّقًا شَدِيدًا لا يعمل مداه ألا الله.
وبقيت قَلِقًا تَزْفر ولا تطيق ثُمَّ أتاك زيادة حَسْرَة وندامة حيث أطبق أبواب النار عَلَيْكَ وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا.
فيا إياسك ويا أياس سكَانَ جهنم حين يسمعوا وقع أبوابها تطبق عَلَيْهمْ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}.
فعلموا عَنْدَ ذَلِكَ أن لا فرج أبدًا ولا مخَرَجَ ولا محيص لَهُمْ من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زَوَال لَهُ عَنْ ابدأنهم ودوام حرق قُلُوبهمْ.
أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك، قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}.
وقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
ثُمَّ اطلعت النار على ما فِي جوفك فأكلت ما فيه وأَنْتَ تنادى وتستغيث فلا ترحم حَتَّى إِذَا طال فيها مكثك واشتد بك العطش.
فذكرت الشراب فِي الدُّنْيَا فزعت إِلَى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فَلَمَّا تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثُمَّ قربته إِلَى فمك والألم بالغ منك كُلّ مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه.
ثُمَّ تجرعته فسلخ حلقك ثُمَّ وصل إِلَى جوفك فقطع أمعاءك، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}، وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
ثُمَّ ذكرت شراب الدُّنْيَا وبرده ولذاته فبادرت إِلَى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت فِي الدُّنْيَا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثُمَّ بادرت إِلَى النار رجَاءَ أن تَكُون أَهْوَن منه ثُمَّ اشتد عَلَيْكَ حريق النار فرجعت إِلَى الحميم قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}، وقَالَ فِي الآية الأُخْرَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}.
فقدر نفسك مَعَ الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأَبْرَار والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كُلّ مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم.
وهاجت الأحزان وهاجت غصة فِي فؤادك إِلَى حلقك أسفًا على ما فات من رضي الله عَزَّ وَجَلَّ حزنًا على نعيم الْجَنَّة.
ثُمَّ ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بَعْض القرابة من أب أَوْ أم أَوْ ابن أَوْ أخ أَوْ غيرهم من القرابة أَوْ الأصدقاء فِي الدُّنْيَا فناديتهم بقلب محزون لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عَنْدَ تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقَالَ عثرتهم غضب الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهمْ فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهَذَا الوصف إن لم يعف عَنْكَ ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك.
فلو رَأَيْت المعذبين قَدْ أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقَدْ قلقوا من شدة تكرار الْعَذَاب الأَلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبُكَاء والعويل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، وقَالَ: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}.
فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فَكَيْفَ لو نظرت نفسك وأَنْتَ لعلك فيهم وقَدْ زال من قلبك الأمل والرجَاءَ ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله.
ونظرت إِلَى النار وهي تشتعل فِي أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عَنْكَ لملازمتها لَكَ، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات والندامة، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} الآية.
فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمتُ فِي قيد الحياة وتب إِلَى الله توبة نصوحًا عَنْ ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقِيْل عثرتك فَإِنَّ الخطر عَظِيم والبدن ضعيف والموت منك قريب، انتهى بتصريف من كلام المحاسبي رَحِمَهُ اللهُ.
مِثْلَ وُقُوفِكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عُرْيَانًا ** مُسْتَعْطِفًا قَلَقَ الأَحْشَاء حَيْرَانا

النَّارُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ وَمِنْ حَنَقٍ ** عَلَى الْعُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا

اقْرَأْ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهْلٍ ** وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَى هَلْ كَانَ مَا كَانَ

لَمَّا قَرَأْتَ كَتِابًا لا يُغَادِرُ لِي ** حَرْفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانَا

قَالَ الْجَلِيلُ خُذُوهُ يَا مَلائِكَتِي ** مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيرَانِ عَطْشَانَا

يَا رَبّ لا تُحْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا ** تَجْعَلْ لِنَارِكَ فِينَا الْيَوْم سُلْطَانَا

اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.