فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله إن العاقل اللبيب الفطن الرشيد من يسعى في نفع نَفْسهُ وأهله ودفع الضَّرَر عنهم، وانَا نرى في زمننا الَّذِي كثرت فيه المنكرات وانحطت فيه الأَخْلاق وقل فيه الورع وكثر فيه النفاق والرياء.
تَرَى النَّاس يخشون النَّاس ولا يخافون ربًا قهارًا بطشه شديد وعذابه إليم تَرَى الرجل يفعل الْمُنْكَر جهارًا ولا تنهاه وتنسى أو تتناسى قول الله تَعَالَى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}، وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَليُغَيِّرَهُ بِيَدِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ».
فقل للذي يرى تارك الصَّلاة ولا ينهاه لا يجوز لك ذَلِكَ أنصح أخاك المسلم وقل للذي قَدْ عميت بصيرته فأتى بكفار خدامين أو سواقين أو مربين أو طباخين أو خياطين أو نحو ذَلِكَ وأمِنْهُمْ على محارمه.
خف الله وأحذر من عقوبة الدُّنْيَا قبل عقوبة الآخِرَة كيف تأتي بأعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين، لَقَدْ أسأت إلى نفسك وأهلك والمسلمين.
أما سمعت قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ».
أو ما بلغك قصة الثلاثة الَّذِينَ هجرهم المسلمون نحوا من خمسين ليلة بأيامها حين تخلفوا عن رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
أو ما بلغك أن أبا هريرة أقسم لا يظله سقف هُوَ وقاطع رحم، وأَنْتَ وأعداء الله الكفار متصل بعضكم في بعض في البيت والسوق والسيارة عياذا بِاللهِ من ذَلِكَ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وإذا رَأَيْت من يحلق لحيته ويبقي شاربه متشبها بالمجوس فقل له أما سمعت حَدِيثِ: «أكرموا اللحى» وَحَدِيثِ: «وَفِّرُوا اللِّحَى» وقول الله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إليمٌ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ» وعملك هَذَا مجاهرة.
وإذا رَأَيْت شارب الدخان فإنصحه وبين له مضاره في الدين والبدن والدنيا.
وإذا رَأَيْت من يقتل وقته أمام الملاهي والمنكرات فأنصحه وبين له المضار التي منها ترك الصَّلاة جماعة أو إهمالها بتاتا والعياذ بِاللهِ.
وإذا رَأَيْت الَّذِي يطارد النساء في الأسواق فقل بِاللهِ هل ترضى أن الفسقة مثلك يطاردون نساءك أتق الله وتب إليه من هَذَا الخلق الرذيل.
وإذا رَأَيْت الَّذِي يغش المسلمين فقل له إتق الله أما بلغك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَشَّنَا فلَيْسَ مِنَّا».
وإذا رَأَيْت من يعامل بالربا فقل كيف تحارب ربك الَّذِي أعطاك الْمَال خف الله وأحذر أن يمحقك الله ويمحق مالك.
وإذا رَأَيْت من يسافر إلى بلاد الكفر فأنصحه وقل أما سمعت قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا بَرِىءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَرَأيَ نَارَاهُمَا» وكَانَ صلى الله عليه وسلم يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ علي يد أحدهم «أن لاَ تَرَيَ نَارَك نار المشركين إِلا أن تَكُون حربا لَهُمْ».
وإذا رَأَيْت من يصور أو يبيع صور ذوات الأرواح فأنصحه وقل له أما بلغك: «أنَّ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» أما بلغك مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وقل له أما سمعت حديث: «كُلّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْس فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» اتق الله قبل أن تقف بين يديه حافيًا عاريًا أعزلاً.
وإذا رَأَيْت من يبيع الصور أو آلات اللهو كالتلفزيون والكورة والمذياع والفيديو والسينماء والورق الملهية عما خلق الإِنْسَان له وأبا الخبائث الدخان ونحو هذه البدع المحرمة التي ضاع العمر والْمَال بسببها وقضت على الأَخْلاق والغيرة الدينية فقل له: أترضى لنفسك أن تتجر بالمحرمَاتَ وأن تَكُون ممن يعين على المعاصي وينشر الفساد إتق الله قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتندم ولا يفيدك الندم. ويصدق عَلَيْكَ قول الشاعر:
نَدَمُ الْبُغَاةِ وَلاتَ سَاعَةُ مندم ** وَالْبَغْيَ مَصْرَعُهُ وَخِيمَ الْمَصْرَعِ

وإذا رَأَيْت من يطفف في المكيال والميزان أزو يأخذ راتبه كاملاً ولا يؤدي الْعَمَل كاملاً قل له: إتق الله أما تقَرَأَ قول رب العالمين: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقل له: ستناقش عن عملك وإهمالك له في يوم كَانَ مقداره خمسين ألف سنة.
وإذا رَأَيْت المغتابين نهاشة الأعراض أكالة لحوم الغوافل فقل لَهُمْ: أما قرأتم قول الملك الديان: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} الآيَة.
وإذا رَأَيْت النمام فقل له: أما سمعت قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الْجَنَّة نمام»، وهكَذَا تفعل عِنْدَمَا تريد أن تنصح أَهْل المعاصي نحو هؤلاء من منافقين ومتملقين وكذابين وخداعين ومرائين ومكارين.
ولَقَدْ تضاعفت الغيبة والنميمة والكذب أضعافًا كثيرة بعد ظهور التلفزيون والتلفون والمسجلات فقَدْ كأَنْتَ بالأول لا توَجَدَ إِلا مَعَ اجتماع الأبدان والآن توَجَدَ ولو كَانَ بينهم مسافات بعيدة نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ جنبنا البدع والمنكرات واغفر لنا جَمِيع الزلات ووفقنا للأعمال الصالحات وأسكنا فسيح الجنات وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة:
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قَسْوَة الْقَلْب والبعد عن الله خلقت النار لإذابة القُلُوب القاسية أبعد الْقَلْب من الله الْقَلْب القاسي، إذ قسى قحطت العين.
قَسْوَة الْقَلْب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكَذَلِكَ الْقَلْب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
من أراد صفاء قَلْبهُ فليؤثر الله على شهواته.
القُلُوب المتعلقة بالشهوات محجوبة بقدر تعلقها بها. شغلوا قُلُوبهمْ بالدُّنْيَا، ولو شغلوها بِاللهِ والدار الآخِرَة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفَوَائِد.
إذا غذي الْقَلْب بالتذكر، وسقى بالتفكر، ونقى من الدغل، ورأى العجائب، وألهم الحكمة، خراب الْقَلْب من الأمن والغَفْلَة، وعمارته من الخشية والذكر.
إذا زهدت القُلُوب في موائد الدُّنْيَا قعدت على موائد الآخِرَة بين أَهْل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدُّنْيَا فاتتها تلك الموائد.
والْقَلْب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدئ المرآة وجلاوة بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
للقب ستة مواطن يجول فيه لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية.
فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقُلُوب جوالة في هذه المواطن.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الْقَلْب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، فإذا ذكر جلاه.
وصدأ الْقَلْب بأمرين: بالغَفْلَة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كأَنْتَ الغَفْلَة أغلب أوقاته كَانَ الصدأ متراكمًا على قَلْبهُ، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ الْقَلْب لم تنطبع فيه صور المعلومَاتَ على ما هِيَ عَلَيْهِ فيرى الْبَاطِل في صورة الحق والحق في صورة الْبَاطِل، لأنه لما تراكم عَلَيْهِ الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلاً. وهَذَا أعظم عقوبات الْقَلْب.
وأصل ذَلِكَ من الغَفْلَة وإتباع الهوى فإنهما يطمسان نور الْقَلْب ويعميان بصره، قال تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فإذا أراد الْعَبْد أن يقتدي برجل فلينظر:
هل هُوَ من أَهْل الذكر أو من الغافلين. وهل الحاكم عَلَيْهِ الهوى أو الوحي. فإن كَانَ الحاكم عَلَيْهِ هُوَ الهوى وَهُوَ من أَهْل الغَفْلَة كَانَ أمره فرطًا. ومعنى الفرط قَدْ فسر بالتضييع، أي أمره الَّذِي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قَدْ فرط فيه، وفسر بالإسراف أي قَدْ أفرط، وفسر بالأهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ نهى عن طاعة من جمَعَ هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كَذَلِكَ فليبعد منه وإن وَجَدَ ممن غلب عَلَيْهِ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وإتباع السنة، وأمره غير مفروط عَلَيْهِ بل هُوَ حازم في أمره فليتمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إِلا بالذكر، فمثل الَّذِي يذكر ربه والَّذِي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعًا: «أكثر واذكر الله تَعَالَى حتى يُقَالُ: مجنون».
الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ** لأَنَّهُ قَوْلَ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا

فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ** يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا

وَتَحْمَدِ اللهَ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا ** جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا

للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ** فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا

قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: كل آفة تدخل على الْعَبْد فسببها ضياع الْقَلْب وفساد الْقَلْب يعود بضياع حقه من الله تَعَالَى ونقصان درجته ومنزلته عنده.
ولهَذَا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوَقْت وتفسد الْقَلْب فإن ضاع الوَقْت وفسد الْقَلْب انفرطت على الْعَبْد أموره كُلّهَا وكَانَ ممن قال الله فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
ومن تأمل حال هذه الخلق وجدهم كلهم إِلا أقل القليل ممن غفلت قُلُوبهمْ عن ذكر الله تَعَالَى الَّذِي به تحيا القُلُوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصَارَت أمورهم ومصالحهم فرطا، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عَلَيْهمْ بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
وهؤلاء قَدْ أمر الله سُبْحَانَهُ رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لا تتم إِلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغَفْلَة عن ذكر الله.
والغَفْلَة عن ذكر الله والدار الآخِرَة متى تزوجت باتباع الهوى تولد بينهما كُلّ شر وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخِر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العَالِم عمومًا وخصوصًا وجده ناشئًا عهن هاذين الأصلين فالغَفْلَة تحول بين الْعَبْد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذَلِكَ من الضإلين، وإتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وإتباعه، فيكون من المغضوب عَلَيْهمْ.
وأما المنعم عَلَيْهمْ فهم الَّذِينَ من الله تَعَالَى عَلَيْهمْ بمعرفة الحق عِلْمًا وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك.
ولهَذَا أمرنا الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن نقول كُلّ يوم وليلة عدة مرات: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيْهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهمْ وَلاَ الضَّإلينَ}.
فإن الْعَبْد مضطر كُلّ للاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون موثرًا مريدًا لما ينفعه مجتنبًا لما يضره فبمجموع هذين قَدْ هدى إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذَلِكَ سلك سبيل الضإلين.
وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عَلَيْهمْ وبهَذَا تعرف قدر هَذَا الدُّعَاء العَظِيم وشدت الحاجة إليه وتوقف سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ آخر:
حافظ على الأوقات فإن الوَقْت رأس الْمَال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعًا واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك وجدد توبتك في كُلّ وَقْت.
وقسم وقتك ثلاثة أقسام قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جَلَّ وَعَلا وتقدس فريق في الْجَنَّة وفريق في السعير.
واستحضر قرب الله منك كما في الْحَدِيث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقَدْ أوصى رَسُولِ اللهُ بالجار من النَّاس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فَكَيْفَ بالجار الكريم الَّذِينَ قال الله فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}.
فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أو جب لأنه أسبق وألصق ولَيْسَ بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومَعَ الأسف إلشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر.
اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته واستهداك فهديته ودعاك فأحبته وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.
فصل:
ثُمَّ أعلم أيها الأخر أنه ما من ساعة تمر على الْعَبْد لا يذكر الله فيها إِلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذَلِكَ ينبغي للعاقل أن يجعل معه شَيْئًا يذكره لذكره الله كُلَّما غفل عَنْهُ.
ويُقَالُ إن الْعَبْد تعرض عَلَيْهِ ساعات عمره في اليوم واللَّيْلَة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كُلّ خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآاها فارغة ساءه ذَلِكَ وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كَانَ يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بَعْضهمْ أوقات الإِنْسَان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عَلَيْكَ في كُلّ وَقْت منها سهم من العبودية.
فمن كَانَ وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عَلَيْهِ أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كَانَ وقته المعصية فعَلَيْهِ بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كَانَ وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عَلَيْهِ.
ومن كَانَ وقته البلية فسبيله الرِّضَا بالِقَضَاءِ والصبر والرِّضَا رضي النفس عن الله، والصبر ثبات الْقَلْب بين يدي الرب. اهـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإِنْسَان هُوَ ميدانه للأعمال الصَّالِحَة المقربة من الله تَعَالَى والموجبة له جزيل الثواب في الآخِرَة. ولكن ما يعرف قدر العمر إِلا نوادر الْعُلَمَاء.
قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَإليةِ} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات.
وهذه هِيَ السعادة التي يكدح الْعَبْد ويسعى من أجلها ولَيْسَ له منها إِلا ما سعى كما قال جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
فكل جزء يفوته من العمر خَإليا من عمل صالح.
يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.
فالوَقْت لا يستدرك ولَيْسَ شي أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من الْعَمَل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذَلِكَ لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
ولأجل هَذَا عظمت مراعاة السَّلَف الصالح رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إِلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.
تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ** لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ

قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ** هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ

قال بَعْضهمْ أدركت أقوما كَانُوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخَرَجَ أحدكم دنيارًا ولا درهما إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهِ فكذالك السَّلَف لا يحبون أن تخَرَجَ ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهمْ ضد ما عَلَيْهِ أَهْل هَذَا الزمان من قتل الوَقْت عَنْدَ المنكرات.
بَقيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ ** وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ

يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا مَا فَائِتَةٍ ** مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَن

آخر:
لا يَحَقْرِ الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً ** فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ

فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيِر صَغِيرَةٌ ** وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ

رأى أحد الزهاد إنسانَا يأكل فطوره وَهُوَ يحتاج إلى مضغ فَقَالَ: هَذَا يستغرق وقتًا طويلاً فَلَمَّا أخَرَجَ فطوره وإذا هُوَ ما يستغرق إِلا وقتًا يسيرًا.
فَقَالَ له: ما حَمَلَكَ على هَذَا فَقَالَ: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.
لله دره على هذه الملاحظة ولَقَدْ بلغنا أن أحد علماء السَّلَف كَانَ يأكل بإليمنى والكراس بإليسرى.
وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كُلّ هَذَا محافظة على الوَقْت.
بلغ يا أخي قتالة الأوقات عَنْدَ الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وَقَالَ ونحو ذَلِكَ.
ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الْمَمَات.
وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تَكُون سببًا لهدايتهم.
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا ** وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ

فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ** أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى إليدِ

فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ** وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَد

ثُمَّ اعْلَمْ أيها الأخ إن الوَقْت لَيْسَ من ذهب كما يَقُولُ النَّاس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرةً إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذَلِكَ وحافظ عَلَيْهِ واقتد بالسَّلَف الصالح الَّذِينَ عرفوا قيمة الوَقْت.
قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ما ندمت على شَيْء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي.
وَقَالَ آخر:
كُلّ يوم مر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عَزَّ وَجَلَّ فلا بورك لي في طلوع شمسه.
وَقَالَ آخر:
من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خَيْر أسسه أو علم اقتبسه فقَدْ عق يومه وظلم نَفْسهُ. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
وإذا كَانَ هَذَا حرص السَّلَف على الوَقْت والمحافظة عَلَيْهِ وتقديره عندهم فإن مِمَّا يحزن المسلم ويجرحه ويدمي الْقَلْب ويمزق الكبد أسىً وأسفًا ما نشاهده عَنْدَ كثيرين من الْمُؤْمِنِين من إضاعة للوَقْت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.
وبالحَقِيقَة أن السفيه هُوَ مضيع الوَقْت لأن الْمَال له عوض أما الوَقْت فلا عوض له.
فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عَلَيْهِ كالجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامَاتَ إن من أخسر النَّاس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، وَقَالَ عز من قائل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الَّذِي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الَّذِي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير.
اللَّهُمَّ يا من خلق الإِنْسَان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصِّدِّيقِينَ والشهداء والصالحين، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.
فصل:
عن وهب بن منبه قال الحواريون: يا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟ فَقَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها والَّذِينَ نظروا إلى آجل الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما عملوا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه.
خلقت الدُّنْيَا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيوها.
يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لَهُمْ، رفضوها وكَانُوا برفضها فرحين، وباعوها وكَانُوا ببيعها رابحين.
نظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره.
لَهُمْ خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بِهُمْ قام الْكِتَاب وبه قاموا، وبهم من نطق الْكِتَاب، وبه نطقوا، وبهم علم الْكِتَاب وبه علموا فلَيْسَ يرون نائلاًَ مَعَ ما نالوا ولا أمانَا دون ما يرجون ولا خوفًا دون ما يحذرون. رواه الإمام أَحَمَد.