الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها قول مالك، في سماع أشهب، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فأغنى عن إعادته هنا.
قال محمد بن رشد: المطر خفيف، وهو مكيال يكال به؛ والمسألة كلها صحيحة بينة المعنى. قوله فيها: إن الكيل الثاني الذي انكسر بعد امتلائه، وقبل أن يصبه في إناء المشتري، ضمانه من البائع لا من المشتري صحيح؛ لأن انكساره بيد أجير البائع، كانكساره بيد البائع لو كان البائع، هو متولي الكيل؛ لأن يد أجيره كيده، ولا ضمان على الأجير فيما سقط من يده مما استؤجر عليه؛ وإذا ضمنه لزمه غرمه من بقية الزيت، إلا أن يرضى المشتري؛ أن يأخذ من غيره، ولو كان آخر كيل وقد فني الزيت، رد إليه ما ينوبه من الثمن، إلا أن يتراضيا على أخذ مثله قبل التفرق؛ ولا اختلاف في أن الكيل لو سقط من يد البائع، وهو يكيل بعد امتلائه وقبل أن يصبه في وعاء المشتري، أنه من البائع، فكذلك إذا سقط من يد أجيره على الكيل، وإنما اختلف إذا كان المبتاع هو الذي يكتال لنفسه أو وكيله على ذلك أو أجيره، إذا قال له البائع: كل لنفسك؛ فاكتال لنفسه، أو استناب في ذلك أحدا، أو استأجره عليه، فسقط الكيل من يده أو من يد وكيله، أو من يد أجيره بعد أن امتلأ، وقبل أن يصبه في وعائه، فانكسر وذهب ما فيه؛ فروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم، في رسم يشتري الدور والمزارع من سماعه بعد هذا: أن مصيبته من البائع؛ وقال سحنون في نوازله: إنه إن انكسر بعد أن امتلأ، فمصيبته من المبتاع، وكذلك لو كان الذي يكيل أجيرا لهما جميعا، أو وكيلا استأجراه للكيل، أو استعاناه في ذلك، وسواء في هذا، كله كان المكيال للبائع أو للمبتاع، إلا أن يكون المكيال هو الذي ينصرف به المبتاع إلى منزله، ليس له إناء غيره، فيكون ضمان ما فيه منه إذا امتلأ، كان له أو للبائع استعاره منه المبتاع، قاله ابن وهب في رواية ابن أبي جعفر عنه، وهو صحيح، والاختلاف في هذا، جار على اختلافهم فيمن اشترى سلعة حاضرة بعينها، هل تدخل بالعقد في ضمان المبتاع، ولا يكون على البائع فيها حق توفية؟ أو لا تدخل في ضمانة حتى يقبضها، أو يمضي من المدة ما كان يمكنه قبضه فيها، لو أراد أن يقبضها؟ لأن الكيل إذا ملأه المشتري لنفسه أو أجيره، فقد تعين ما فيه له، وصار كالسلعة الحاضرة المبتاعة، فتلف ما فيه قبل أن يفرغه في وعائه، كتلف السلعة الحاضرة عقيب البيع قبل إمكان القبض، والقولان في السلعة الحاضرة المبيعة قائمان من المدونة مما وقع في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة، وفي كتاب بيوع الآجال منها. وإنما لم يدخل هذا الاختلاف إذا كان البائع هو الذي يكيل؛ إذ لا يتعين ما في المكيال للمشتري بامتلائه؛ إذ من حق البائع أن يأخذ ما في المكيال لنفسه إذا ملأه، ويقول للمشتري: أكيل لك غيره، ولو كان المكيال الذي انكسر بيد البائع آخر كيل بقي للمشتري، وقد فني زيت البائع الذي باع منه الكيل المسمى؛ لدخل الاختلاف المذكور في ذلك، من أجل أنه قد تعين للمشتري، إذ لم يبق للبائع من الزيت ما يوفيه منه غيره، وكذلك لو كان البائع، وأخذ في صب الكيل في وعاء المشتري بعد أن امتلأ، فسقط من يده فانكسر وذهب ما فيه قبل أن يستوفي تفريغه؛ لدخل الخلاف المذكور أيضا فيما ذهب مما كان بقي في المكيال، إذ قد تعين للمشتري ما بقي في المكيال بشروع البائع في تفريغه في وعاء المشتري، ولا اختلاف بينهم في أن مصيبة ما في المكيال من البائع إذا انكسر قبل أن يمتلئ، ولو كان البائع، فلما امتلأ الكيل دفعه إلى المشتري ليفرغه في وعائه، فسقط من يده قبل أن يفرغه؛ لكان ضمانه منه؛ فلا خلاف في هذا بين ابن القاسم وسحنون، وقوله في الرواية. وأما الأول الذي انكسر في وعاء المشتري، فعلى الأجير ضمانه صحيح؛ لأنها جناية منه على المشتري هو لها ضامن؛ لأن الأجير عند ابن القاسم لا يضمن ما سقط من يده، ولا ما وطئ عليه فكسره؛ وقال أشهب في المدونة: إنه يضمن ما وطئ عليه، بخلاف ما يسقط من يده، ولا اختلاف بينهم في أنه يضمن ما سقط ذلك الشيء عليه من يده فكسره، ولو كان البائع هو الذي سقط من يده المكيال على وعاء المشتري فانكسر، وكسر ما في وعاء المشتري، للزمه غرم ما كان في وعاء المشتري من زيت مثله، ولا يلزمه غرمه من ذلك الزيت إلا أن يشاء، وأما ما كان في المكيال؛ فيلزمه غرمه من ذلك الزيت، إلا أن يرضى البائع أن يأخذ من غيره، فإن كان الكيل آخر كيل، ولم يبق عند المشتري شيء من ذلك الزيت، رد من الثمن ما يجب له، إلا أن يتراضيا على أن يعطيه من زيت غيره، فيجوز قبل التفرق.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في رسم شكل من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته؛ وسيأتي إن شاء الله في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، تمام القول فيما يتعلق بها.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن يبيع منه سلعة بمائة دينار قائمة على أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزن المائة القائمة، أن يجعل المائة القائمة صنجة يأخذ بها دنانير مجموعة، كما لا يجوز ذلك في القضاء، يريد كما لا يجوز إذا كان له عليه مائة دينار قائمة، أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزنها، بأنه يأخذ مائة دينار قائمة فيجعلها صنجة؛ يقضيه بها دنانير مجموعة، وإنما لم يجز ذلك في القضاء ولا في البيع؛ لأن الدنانير القائمة تجوز عددا، ويعرف وزن كل واحد منها على الانفراد، ولابد أن يكون بعضها أوزن من بعض. فإذا جمعت كلها في الوزن لم يعرف حقيقة ما يكون فيها من الوزن، فإذا باع سلعة على هذا، فكأنه قد باعها بثمن مجهول؛ إذ لا يعرف حقيقة وزن ما باعها به من الدنانير المجموعة، إلا أنه رأى الجهل في ذلك يسيرا؛ إذ لا يتفاوت الوزن في ذلك تفاوتا بعيدا، فرآه بيعا مكروها، فسخه في القيام وأمضاه في الفوات، وأما القضاء فهو أشد؛ لأنه إذا أخذ بوزن القائمة التي له مجموعة، لا يدرى هل أخذ أقل في الوزن أو أكثر؛ إذ لابد من أن يزيد في الوزن أو ينقص، وهو يغتفر فضل عدد القائمة التي له رجاء زيادة الوزن، لاسيما والصرافون يزعمون أن الذهب إذا جمع نقص، وإذا فرق زاد، وهذا مثل قوله في المدونة في مسألة الدرهمين الفردين يؤخذ بوزنهما تبر فضة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن الطعام المشترى إذا كان بعينه، ولم يكن فيه وفاء، فالواجب أن ينتقض من البيع بحساب ما نقص من الطعام، ويرد البائع على المبتاع ما يجب لذلك من الثمن، فجاز للمبتاع أن يأخذ منه بما يجب له عليه من الثمن بما شاء من الطعام أو العروض إذا تعجل؛ فإن كان فيه وفاء أو كان سلما مضمونا، لم يجز له أن يأخذ في شيء منه عدسا وما سوى طعامه؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع ما وجب له من الطعام بما أخذ من غير صنفه، أو من العروض، فدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه، من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته.
قال محمد بن رشد: هذا هو المنصوص عليه من قول مالك وأصحابه، المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، أن المكيل والموزون من الطعام وغيره الذي يوجد مثله، لا تفيته حوالة الأسواق، والذي يوجبه النظر أن يفيت ذلك كله حوالة الأسواق كالعروض؛ لأن العلة في أن العروض تفيتها حوالة الأسواق ما يدخل من الضرر على أحد المتبايعين بإيضاع قيمتها أو ارتفاعها، وذلك موجود في المكيل والموزون من الطعام وغيره، فقد يبيعه الطعام في الشدائد بيعا فاسدا، ثم يعثر على الفساد في الرخاء، فيظلم البائع في أن يرد عليه مثل طعامه، وهو لا يساوي إلا يسيرا، أو يبيعه في الرخاء ثم يعثر على الفساد في الشدائد، فيظلم المبتاع بأن يكلف رد مثله فيشتريه بعشرة أمثال ما باع به الطعام الذي اشتراه أو أكثر؛ وقد قال ابن المواز: إن الطعام الجزاف، والحلي الجزاف، تفيته في البيع الفاسد حوالة الأسواق كالعروض؛ فإذا كان الطعام الجزاف والعروض تفيتها حوالة الأسواق مع بقاء العين، فأحرى أن تفيت حوالة الأسواق المكيل والموزون كله من الطعام وغيره مع ذهاب العين؛ لأن مثل الشيء أنزل رتبة من عينه، فإذا كان العرض يفوت بحوالة الأسواق مع بقاء عينه، فأحرى أن يفوت الطعام بحوالة الأسواق مع ذهاب عينه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله في المدونة في اللحمان: أن النار فيها ليس بصنعة يبيح التفاضل في الصنف الواحد منها إذا شوي أو طبخ بغير إبزار، فالسلق في البيض كالشي في اللحم بغير إبزار.
قال محمد بن رشد: الظاهر من هذه الرواية أن البيع ينقض في الخنزير، فيقتل على البائع، وإن كان المبتاع قد قبضه، ويرد الثمن إلى المبتاع، وقد قيل إذا قبضه المبتاع أنه يقتل عليه، ويمضي البيع، ويتصدق بالثمن على المساكين، قبضه البائع أو لم يقبضه؛ إذ لا يحل للبائع، ولا يصح تركه للمبتاع، وقد قتل الخنزير عليه؛ وأما إن عثر على البيع قبل أن يقبض المبتاع الخنزير، فلا اختلاف في أنه يقتل على البائع، ويسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، واختلف إن كان قد دفعه إلى البائع؛ فقيل: إنه يرد على المبتاع، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يتصدق به على المساكين أدبا له، ولو اشتراه المسلم فأكله من ضرورة، لرجب أن يبطل الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وأن يرد عليه بلا خلاف، إن كان قد دفعه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه قد باع بعض الطعام من المقتضي للطعام بعنائه له في اقتضاء باقيه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بعينها في هذا الرسم بعينه من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، ومضى القول عليها مستوعبا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك.
وسئل عن الرجل يشتري من الرجل عشر شياه يختارها من غنمه، قال: لا بأس بذلك؛ قيل له فاشترى عشرة من شرارها، قال: لا خير فيه؛ لأن الخيار فيه للبائع، يعطيه ما أحب، ولا يدري ما اشترى؛ قال ابن القاسم: ولو أن رجلا اشترى عشر شياه من خيار غنم، فلما وجبت له، قال: زدني عشرة أخرى اختارها بعدها؛ قال: لا بأس به، ولو كان قال رجل آخر: بعني بعشرة اختارها بعدها أن يختار هذا عشرته لم يكن فيه خير؛ لأنه غرر لا يدري ما اشترى؛ قال: وأن الذي يزيد عشرة إلى عشرة قد عرف ما اشترى، وهو بمنزلة رجل اشترى عشرين يختارها. قال محمد بن رشد: شراء الغنم على الاختيار، وإن تفاضلت عددا مسمى من جملة، كان أقل الجملة أو أكثرها، جائز إذا كان قد قبلها وأحاط علما بها، وعرف شرارها من خيارها، لم يختلف في جواز ذلك نصوص الروايات عن مالك وأصحابه، وإن جاز أن يدخل الخلاف في جواز ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب: إنه لا يجوز شراء ثوب يختاره من ثياب على أن أحدها لازم له، إلا أن تكون الثياب صنفا واحدا لا تتفاضل في الجودة، وأما مالك في المدونة، فجرى في الثياب على أصله في الغنم، وأجاز شراء العدد منها على الاختيار إذا كانت صنفا واحدا، وصفة واحدة وإن تفاضلت، وإنما لم يجز ذلك إذا اختلفت أصنافها، أو اختلفت رقومها وصفاتها، وأجاز ذلك ابن المواز وإن اختلفت رقومها وصفاتها، ما لم تتباين تباينا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيكون ذلك كالصنفين، وعلى مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة في المدونة، يجوز ذلك في الصنفين، والشافعي وأبو حنيفة لا يجيزان على الشراء على الاختيار بحال، فهي خمسة أقوال. وإنما لا يجوز أن يختار باتفاق فيما لا يجوز أن يحول أحدهما في الآخر، وأما شراء عشرة من الغنم ونحو ذلك مما هو يسير من الجملة، مثل أن يبيع جملة غنمه على أن يختار منها عددا مسمى مما هو جلها أو أكثرها فلا يجوز، لم تختلف نصوص الروايات في أن ذلك لا يجوز، وإن جاز أن يدخل الخلاف في ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب في الرجل يبيع البز المنصف، ويستثني منه ثيابا، أنه إن اشترط أن يختارها من رقم بعينه، فلا بأس به، وإن كان جل ذلك الرقم، قال: وإنما يكره ذلك في الكيل من الجزاف؛ وهو بعيد، وقد قال ابن عبدوس: إن هذا إذا حمل على النظر، بطل كله، ولم يجز منه شيء؛ إذ لا يجوز للبائع أن يجهل ما باع، ولا للمشتري أن يجهل ما اشترى؛ وإذا كان الخيار للمبتاع، فقد جهل البائع ما باع، وإذا كان للبائع قد جهل المبتاع ما ابتاع، وإنما جوز اختيار البيع إذا اتفق الصنف والثمن بالتسهيل؛ لأنه من بياعات الناس، وليس يحتمل النظر مثل الذي يبيع ثمر حائطه، ويستثني منه كيلا دون الثلث، وهو إنما باع منه ما بعد الكيل وهو مجهول، والحد الذي يجوز للبائع أن يستثنيه من غنمه على الخيار الثلث فأقل، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه سحنون؛ يريد والله أعلم ما لم يكن الجل أكثر من النصف، فقد رأيت له أنه أجاز أن يبيع الرجل أحد عبديه أيهما شاء على أن ذلك لازم للمشتري؛ وأن يتزوج المرأة على ذلك، خلاف ما في النكاح الأول من المدونة. وأجاز للذي اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها أن يشتري قبل أن يختارها عشرة أخرى على الخيار أيضا، ولم يجز ذلك لغيره، والفرق بينه وبين غيره، أنه قد علم ما يختار؛ فلم يدخل في العشرة الثانية على جهل، وغيره لا يعلم ما يختار، هو فدخل على جهل، وكذلك يجوز له أن يشتري بقيتها قبل أن يختار العشرة، ولا يجوز ذلك لغيره، وأجاز ذلك محمد بن المواز لغيره في الوجهين، ووجهه أن العشرة التي اشتراها الأول على أن يختارها كأنها معلومة عند الثاني؛ إذ قد علم أنه لا يختار إلا خيارها، وخيارها لا يخفى على أهل المعرفة بها؛ فكأن البائع أبقى تلك العشرة لنفسه، وباع منه الباقي أو عشرة على أن يختارها، فعلى هذا يجوز للأول أن يبيع العشرة قبل أن يختارها من غيره، فيختارها المشتري الثاني لنفسه، خلاف ما يأتي في سماع سحنون لأشهب، وإذا اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها، كان من حقه أن يختارها هو، فإن أراد أن يأتي بمن يختارها له كان ذلك له؛ هذا هو الذي يوجبه النظر، ويأتي على قول أشهب ما في سماع سحنون: أن ذلك ليس له؛ إذ لم يجز له بيعه من غيره على أن يأخذ ما يختار هو، ولا على أن يختارها هو لنفسه؛ إذ لا ينزل أحد منزلته في اختيار ما اشترى إلا ورثته، هذا معنى قوله، وهو بعيد؛ وقد قال بعض الشيوخ على قول أشهب هذا: إنما لم يجز له أن يقدم من يختار له؛ لأن من حق البائع أن يقول: إنما رخصت عليك في الثمن؛ لأني علمت أنك غير ما هي بالاختيار في الغنم؛ فرجوت أن تختار ما ليس بخيارها، وهذا ليس بشيء؛ إذا لو كان البائع إنما دخل معه على ألا يختار إلا هو لهذا المعنى، لكان غررا؛ وقد قال يحيى بن دحون: إن اشترط البائع عليه أن يختار هو لنفسه لزمه، وليس بصحيح؛ فإن اشترى منه عشرة من خيرة غنمه وسكتا فلم يقل: أختارها أنا ولا أنت، واختلف في خيرتها، فقال البائع: هذه هي خيرتها فخذها، وقال المبتاع: بل هذه هي، دعي لذلك أهل المعرفة والبصر، قاله ابن حبيب، وهو صحيح؛ لأن البيع إذا وجب في خيرتها وسكتا عمن يختارها، فكأنه شيء معلوم.
قال محمد بن رشد: وكذلك السلع على قياس قوله في الرقيق، إذ يحتاج إلى الكراء عليهم، كالسلع لا يكون نقل شيء من ذلك من بلد إلى بلد فوتا في البيع الفاسد، إلا أن تختلف أسواق البلدان؛ وقد قيل: إن ذلك كله فوت، وهو الذي يأتي على قول أشهب وأصبغ في سماعه، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ جعل المغصوب منه مخيرا بين أن يأخذ متاعه، أو يضمنه قيمته في البلد الذي غصبه فيه، والغصب لا يفيته حوالة الأسواق؛ فجعلا نقل ذلك من بلد إلى بلد أشد من حوالة الأسواق، ووجه القول الأول أن الأسواق لم تختلف، وما أكرى به المتاع على السلعة مستهلك على كل حال، فسخ البيع أو صحح بالقيمة؛ إذ لا تساوي السلعة إلا القيمة التي صححت بها، فوجب أن يفسخ؛ إذ لا ضرر على المبتاع في الفسخ، ووجه القول الثاني: أن الأسواق وإن لم تختلف مما أكرى المبتاع به على السلعة محسوبا بثمنها، فكأن الأسواق قد حالت بنقصان، فوجب ألا يفسخ البيع لما يدخل على المبتاع من الضرر بالفسخ؛ إذ قد يرتفع سوقها، فيربح فيها ما اكترى به عليها، فمن حقه ألا يعجل عليه الخسارة، وهذا القول أظهر؛ وأما الدواب التي لا يكرى عليها، وإنما تركب أو تكرى، فلا اختلاف في أن حملها من بلد إلى بلد لا يفيتهما في البيع الفاسد إذا لم تختلف أسواق البلدان؛ وكذلك الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، لا يفوت في البيع الفاسد من حمله من بلد إلى بلد، كالدواب يقوم ذلك من رواية ابن القاسم عن مالك، في سماع سحنون، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ فرق فيها بين الرقيق والسلع؛ ومعناه في الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، وأما نقل السلع من بلد إلى بلد بالكراء عليها، فهو فوت في الرد بالعيب؛ وقد مضى القول على ذلك في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، من كتاب العيوب؛ وأما قوله: ولو كان طعاما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية، فمعناه في الطعام المكيل؛ وهو على أصله في أن حوالة الأسواق لا تفيته، وقد مضى القول على ذلك في الرسم الذي قبل هذا.
قال محمد بن رشد: أما إذا باعه من شريكه، فلا اختلاف في جواز البيع، استثنى المبتاع المال أو لم يستثنه؛ لأنه إن لم يستثنه، بقي نصفه للبائع، فكان ذلك مقاسمة له كما قال سحنون؛ وأما إذا باعه من غير شريكه، ولم يستثن المبتاع ماله، فقيل: إن البيع فاسد، وهو قول مالك في هذه الرواية؛ وفي سماع أشهب من كتاب الشركة: وقيل: إن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع أن يسلم ماله إلى المبتاع، وهو دليل ما في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ومثل ما في رسم كتب عليه، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، في مسألة النخل يباع وقد أبر نصف ثمرها حسبما بيناه هناك.
وقال: إذا باع الرجل أرضا، وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع؛ قال: ولا يحل أن تباع أرض فيها زرع بأرض أخرى فيها زرع، وهو جميعه قول مالك؛ والزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، لا يحل على وجه من الوجوه، ويستثنى كل واحد منهما زرع صاحبه، ولا بأس أن يستثني أحدهما زرع صاحبه، ولا يستثني الآخر. قال محمد بن رشد: قوله: إن من باع أرضا وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، هو المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في آخر سماع أشهب؛ وكذلك قوله: إنه لا يحل أن تباع أرض فيها زرع بأرض أخرى فيها زرع، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ وسحنون يجيز ذلك ما لم يحل بيع الزرع، ويجيز أيضا بيع الأرض، وفيها زرع لم يحل بيعه بطعام نقدا وإلى أجل؛ لأنه يجعله ملغى لا تقع عليه حصة من الثمن، وهو مذهب ابن الماجشون؛ وأما قوله: إن الزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، فيقوم منه أن النوار في الشجر بمنزلة الإبار في النخل، خلاف ما مضى في آخر سماع أشهب، وقد مضى هنالك ذكر اختلاف قول مالك في ذلك؛ ويحتمل أن يريد أنه بمنزلته في أنه لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما ثمر حائطه، وإن كان قد ورد، كما لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما زرع حائطه، وإن كان قد ثبت؛ لا أنه بمنزلته في أنه يكون للبائع إذا ورد، وإن لم يستثنه كما يكون الزرع له إذا ثبت، وإن لم يستثنه، وهو الأظهر.
|