الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة الرجل تكون داره لاصقة بسكة فأراد تحويل باب داره من موضعه: وقال أشهب: إذا كان تقديمه ذلك يضر بجاره على ما وصفت فليس ذلك له، وإن كان إنما تقديمه تقديما يكون فيما بقي ما لا يقطع عليه فيه المرفق، ويتسع هو حتى لا يكون مضطرا إلى أكثر منه، فليس له أن يمنعه إذا سد الباب الأول، وذلك إذا كان في زقاق غير نافذ، فأما إن كان في سكة مسلوكة فله أن يفتح ما شاء من أبواب في جداره، ويقدم ما شاء من باب ويؤخره. قال: وسألت ابن وهب: عن الرجل يفتح في ناحية من داره حوانيت إلى سكة من سكك الناس ولرجل مقابل تلك الحوانيت دار وباب مفتوح في ذلك الزقاق مقابل الحوانيت التي فتح عليها جاره فشكا أن الحوانيت تضره فيمن يخرج من خدمه وأهله إلى حوائجهم، وأهل الحوانيت قوم مرابطون لا يديمون، فهل له سبيل إلى ذلك أم يمنع منه؟ فقال: سبيل الحوانيت سبيل ما وصفت لك قبل ذلك في السكة النافذة وغير النافذة على ما فسرت لك، إن شاء الله. قال أشهب: له أن يفتح ما شاء من حوانيت، ويفعل ما أراد إن كانت سكة نافذة. قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأشهب هذا في تحويل الباب وفتحه في السكة النافذة وغير النافذة مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك في آخر كتاب القسمة من المدونة حاشا موضعين: أحدهما: قول ابن وهب، وإن كان طريقا سالكا وسكة واسعة لم يمنع من ذلك، وخلَّى بينه وبينه إذ لم يشترط في المدونة سعة السكة، وإنما قال فيها: وإن كانت السكة نافذة فله أن يقيم ما شاء، ويحول بابه إلى أي موضع شاء. والموضع الثاني: قول أشهب في الزقاق الذي ليس بنافذ: إن له أن يحول بابه إلى موضع لا يضر بجاره إذا سد الباب الأول؛ لأن في قوله إذا سد الباب الأول دليلا على أنه ليس له أن يفتح فيه بابا زائدا على حال، وإنما له أن ينقله من موضعه إلى موضع لا ضرر فيه ولا تضييق على جاره. ودليل ما في المدونة: أن له أن يفتح فيه بابا زائدا في موضع لا ضرر فيه على جاره، وأن ينقل بابه إليه، وقد قيل في الزقاق النافذ: إنه لا يجوز لأحد أن يفتح فيه بابا، ولا يتخذ مجلسا قبالة باب جاره إلا أن ينكب عن ذلك قليلا، وهو قول سحنون، روى ذلك عنه حبيب وابنه محمد، وذهب ابن زرب إلى أنه لا يجوز لأحد في الزقاق الذي ليس بنافذ أن يفتح فيه بابا ولا أن يحول بابه فيه من موضع إلى موضع على حال إلا بإذن جميع أهل الدرب، قال: لأنهم كلهم مشتركون فيه، بدليل ما قال في المدونة في الدارين تكون إحداهما في جوف الأخرى، ولأهل الدار الداخلة الممر في الدار الخارجة، فيقسم أهل الدار الداخلة دارهم فيريد كل واحد منهم أن يفتح لداره بابا في الدار الخارجة: إن ذلك ليس لواحد منهم، وإنما لهم الممر الذي كانوا يمرون عليه قبل القسمة. فيتحصل في فتح الرجل الباب أو تحويله عن موضعه في الزقاق الذي ليس بنافذ ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال إلا بإذن جميع أهل الزقاق، وهو الذي ذهب إليه ابن زرب قياسا على مسألة المدونة المذكورة، وبه جرى العمل بقرطبة. والثاني: أن ذلك له فيما لم يقابل دار جاره ولا قرب منه فقطع به مرفقا عنه وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقول ابن وهب هاهنا. والثالث: أن له تحويل بابه على هذه الصفة إذا سد الباب الأول، وليس له أن يفتح فيه بابا لم يكن قبل بحال، وهو دليل قول أشهب هاهنا. ويتحصل أيضا في فتح الرجل بابا أو حانوتا في مقابلة باب جاره في الزقاق النافذ ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك له جملة من غير تفصيل إلا أن ينكب عن ذلك وهو قول سحنون. والثالث: أن ذلك له إذا كانت السكة واسعة، وهو قول ابن وهب هاهنا، والسكة الواسعة ما كان فيها سبعة أذرع فأكثر، لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الطريق سبعة أذرع» وقع ذلك في مسند ابن أبي شيبة من رواية ابن عباس، فوجب أن يكون ذلك حد سعة الطريق، وبالله التوفيق. .مسألة الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين ذراعا أو ذراعين: قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز لأحد أن يقتطع من طريق المسلمين شيئا فيزيده ويدخله في بنيانه وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه، ولم ير بذلك مالك بأسا في المسجد، وحكى ابن وهب عن ربيعة في المجموعة أنه لا يجوز لمن بنى مسجدا في طائفة من داره أن يتزيد فيه من الطريق. واختلفوا إن تزيد في داره من الطريق الواسعة جدا ما لا يضر بها ولا يضيقها على المارة فيها. فقال ابن وهب وأشهب هاهنا: إنه يهدم عليه ما تزيد من الطريق وتعاد على حالها، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وقول مطرف وابن الماجشون في الأبرجة يبنيها الرجل في الطريق ملصقة بجداره، واختار ابن حبيب على ظاهر ما جاء عن عمر بن الخطاب في الكير الذي ابتني في السوق فأمر به فهدم. وقيل: إنه لا يهدم عليه ما يزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها لسعتها لماله من الحق فيه، إذ هو فناؤه له الانتفاع به وكراؤه على ما مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم. والأصل في ذلك ما جاء من أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى بالأفنية لأرباب الدور، أفنيتها ما أحاط بها من جميع نواحيها، فلما كان أحق بالانتفاع به من غيره لم يكن لأحد أن ينتفع به إلا إذا استغنى هو عنه وجب أن لا يهدم عليه بنيانه، فيذهب هدرا ماله وهو أعظم الناس حقا في ذلك الموضع، بل لا حق لأحد معه فيه إذا احتاج إليه، فكيف إذا لم يوصل إلى أخذه منه مع حاجته إليه إلا بهدم بنيانه وتلف ماله، وهذا بين، لاسيما ومن أهل العلم من يبيح له ذلك ابتداء، في المجموعة من رواية ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها أن الأقربين إليها يقتطعونها على قدر ما شرع فيها من رباعهم بالحصص، فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغير بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع. قال محمد بن رشد: وإنما قالوا ثمانية أذرع احتياطا والله أعلم ليستوفي فيها السبعة الأذرع المذكورة في الحديث على زيادة الذراع ونقصانه. ووجه القول: أن الطريق حق لجميع المسلمين كالحبس، فوجب أن يهدم على الرجل ما يزيده في داره منها، كما يهدم عليه ما يزيد من أرض محبسة على طائفة المسلمين، أو من ملك لرجل بعينه، والقول الأول أظهر، والقائلون بالثاني أكثر، وكل مجتهد مصيب. وقد نزلت بقرطبة قديما واختلف الفقهاء فيها فأفتى ابن لبابة وأبو صالح أيوب بن سليمان، ومحمد بن وليد بالقول الأول ألا يهدم ما تزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها، وأفتى عبيد الله بن يحيى وابنه يحيى، ويحيى بن عبد العزيز، وسعد بن معاذ وأحمد بن بيطير بالقول الثاني أن يهدم ما تزيد منه على كل حال، وبالله التوفيق. .مسألة الرجل يغرس في داره شجرة فتطول حتى يشرف على دار جاره: فقال: إن لم يكن ضرره إلا ما شكا وذكر مما يخاف من الطروق من ناحيتها، أو طلوع من يجنيها لم يكن ذلك شيئا ولم تكن له فيه حجة، ومنع من يجنيها من التطلع والإضرار إن علم ذلك منهم، وأما قطعها فليس له قطعها ولكن إن انتشرت وعظمت حتى تخرج فروعها من أرض صاحبها وحدوده وتقع في أرض جاره وحدوده ويضر به قطع ذلك الذي أضر به ووقع في حده وأذاه فقط. قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الرجل إذا غرس في داره شجرة فلجاره أن يقطع ما طال من أغصانها فأذاه في جداره ودخل في حصته وهوائه- له أن يقطع الشجرة أيضا إن كان غرسها بموضع يضر غرسها بالجدار لقربها منه، وأما ما يخاف من أن يطرق منها، أو من يطلع عليه منها من يجنيها فلا حجة له في ذلك، وأما إن كانت الشجرة قديمة من قبل بناء الجدار فليس له أن يقطعها وإن أضرت بالجدار. واختلف هل له أن يقطع ما طال من أغصانها فأضر بجدار جاره؟ فقال ابن الماجشون: ليس ذلك له؛ لأنه قد علم أن هذا يكون من شأن الشجرة، فقد صار ذلك من حريمها وهوائها قبل بناء الجدار، وقال مطرف وأصبغ: ذلك له، وهو أظهر، وإياه اختار ابن حبيب، وإذا كانت لرجل شجرة في أرضه، وإلى جانبها أرض لجاره فله أن يقطع ما طال وانبسط وامتد من فرعها على أرضه، ومن كانت في أرضه شجرة لغيره فليس له أن يقطع ما طال وانبسط منها، قاله ابن القاسم وغيره. .مسألة مبتلى له في منزل سهم وله حظ في شرب فأراد من معه إخراجه منه: فقال ابن وهب: إذا كان له مال أمر بأن يشتري لنفسه من يقوم بأمره، ويخرج له في حوائجه ويلزم بيته ولا يخرج. قيل: فإن لم يكن له مال؟ قال: يخرج من المنزل إذا لم يكن فيه شيء وينفق عليه من بيت مال المسلمين. قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا كان له مال أمر بأن يشتري لنفسه من يقوم بأمره ويخرج له ويستسقي له ماءه أو يستأجر له من يفعل له ذلك كله، فإن لم يكن له مال كان من الحق على الإمام أن يقوم له بذلك من بيت مال المسلمين؛ لأن استسقاءه الماء معهم من مائهم ضرر بهم، فإن لم يكن ثم إمام يقوم له بذلك لم يمنعوا من استسقاء الماء فيموتوا عطشاء، ولا من مخالطة الناس في مجتمعاتهم وأسواقهم لسؤالهم وقضاء حوائجهم فيهلكون ضياعا، وإنما اختلف في منعهم من المساجد والجوامع. فقال عيسى بن دينار في نوازله من هذا الكتاب، وفي بعض الروايات: إنهم لا يمنعون من ذلك بحكم؛ لأن عمر بن الخطاب لم يعزم بالنهي على المرأة المجذومة التي رآها تطوف بالبيت مع الناس، وإنما قال لها: يا أمة الله لو جلست في بيتك كان خيرا لك. ونحو ذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون: أنهم لا يمنعون من مساجد الجماعة لشهود الجمعة المفروضة لأنها على من قوي على شهودها، كما هي على غيرهم، قال: وأما غير الجمعة فلا بأس أن يمنعوا إلا الواحد بعد الواحد، وقال سحنون فيه: يمنعون من ذلك وتسقط إلا الواحد بعد الواحد، وقال سحنون فيه: يمنعون من ذلك وتسقط الجمعة عنهم، واستدل على ذلك بحديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يوفينا بريح الثوم». وبحديث عمر في قوله للمرأة المجذومة: لو جلست في بيتك كان خيرا لك؛ لأنه قضى في طلبها فجلست في بيتها، فلما مات قيل لها: إن الذي نهاك قد مات، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا. وقوله أظهر؛ لأن المنع من إذاية المسلمين واجب، وإذا كان المنع من إذايتهم بريح الثوم واجبا بالسنة، فأحرى أن يكون واجبا من إذايتهم بمخالطة الجذماء لهم، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلول الممرض على المصح، وفي قول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للمجذومة: يا أمة الله لا تؤذي الناس- دليل على أنه أراد بقوله لها: لو جلست في بيتك، الأمر لها بذلك والقضاء عليها به، لكنه رفق بها في الأمر رحمة بها وحنانا عليها، وتوسم فيها أنها تكتفي بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها وأطاعته حيا وميتا. واختلف في إخراجهم عن الحاضرة إلى ناحية منها، قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أما الواحد والنفر القليل من المرضى فلا يخرجون عن حاضرة ولا عن قرية، ولا عن سوق ولا عن مسجد جامع ولا غير جامع، فإذا كثروا في الحاضرة اتخذوا لأنفسهم موضعا كما صنع بمرضى مكة عند النعيم موضعهم وبه جماعتهم، وأما مرضى القرى فإنهم لا يخرجون عنها وإن كثروا، إلا أنهم يمنعون من أذاهم في مسجدهم إذا شكوا ضرر ذلك بهم، وقال أصبغ: لا يقضى عليهم في الحاضرة بالخروج إلى ناحية منها ولكن إن كفوا مؤناتهم يجرى ذلك عليهم منعوا من مخالطة الناس بلزوم بيوتهم أو التنحي ناحية. قال عبد الملك: والحكم عليهم بتنحيتهم ناحية إذا كثروا أحب إلي، وهو الذي عليه الناس. قال مطرف وابن الماجشون: ولا يمنعون من الأسواق لتجارتهم وما يحتاجون إليه من حوائجهم والتطرق للمسألة إلا أن يجري عليهم الإمام أرزاقهم من فيء المسلمين، وبالله التوفيق. .مسألة بيع رقيق اليهود من النصارى والعكس: قال محمد بن رشد: قد مضى التكلم على قول ابن وهب في هذا السماع من كتاب جامع البيوع فإنه وقع هنالك أكمل وأبين، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، والله الموفق لا رب غيره. .مسألة العبد يستبيع من سيده لضرورته: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه، ورسم حلف ليرفعن أمرا ورسم صلى نهارا ثلاث ركعات، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق. .مسألة المدبر يضربه سيده ويؤدبه: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله قياسا على مدبر النصراني يسلم أنه يؤاجر ولا يباع عليه، كما يباع عليه عبده إذا أسلم، وبالله التوفيق. .مسألة الرجل يهدم داره وله الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء: قال أصبغ: سألت أشهب: عن الرجل يهدم داره وله الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء يدخله من بنيانه ثم يعلم بذلك، قال: لا يعرض له إذا كان الفناء واسعا رجراجا لا يضر الطريق، وقد كرهه مالك، وأنا أكرهه ولا آمر به، ولا أقضي عليه أن يهدمه إذا كان واسعا رجراجا ولا يضر ذلك بشيء منه ولا يحتاج إليه ولا يقاربه المشي، قال أصبغ في الرجل يبني دارا له فيأخذ من طريق المسلمين شيئا يزيده فيها، كان ذلك مضرا بطريق المسلمين أو لا يضر: أترى ذلك جائزا، وهل تجوز شهادة من فعل مثل هذا؟ قال أصبغ: إن كان اقتطعه اقتطاعا مما يضر بالطريق والمسلمين وأدخله في بنيانه، وكان إدخاله فيما يرى بمعرفة لا بجهالة، أو وقف عليه فلم ينته، فلا أرى أن تجوز شهادته ويهدم بنيانه إذا أضر جدا، وإن كانت الطريق واسعة جدا كبيرة، وكان الذي أخذ الشيء اليسير جدا الذي لا يضر ولا يكون فسادا في صغير ما أخذ وسعة الطريق وكثرته فلا أرى أن يهدم بنيانه ولا يعرض له، وقد سألت أشهب عنها بعينها ونزلت عندنا فكان هذا رأيي فيها، فسألته عنها فقال لي مثله. قال محمد بن رشد: هذا من قول أصبغ وروايته عن أشهب خلاف ما مضى قبل هذا في سماع زونان، وقد مضى القول على ذلك هنالك مجودا مستوفى فلا وجه لإعادته هنا، والله الموفق. .مسألة النصارى يبيعون الخمر: قال أصبغ: وسمعته يقول: لا يترك النصارى يبيعون الخمر بالجزيرة؛ لأن الجزيرة من الفسطاط، قلت له: فالقنطرة؟ قال: لا ولا القنطرة. قلت: فيتركون في قراهم يبيعونها، قال: نعم، قلت: وإن كان فيها مسلمون؟ قال: نعم، فمتى علم أنه يبيع من المسلمين منع، قال أصبغ: هذا في غير المدن من القرى التي هي مساكنهم، وهم الغالبون عليها، ليس للمسلمين فيها إلا قليل فلا يعرض لهم. قال محمد بن رشد: قول أصبغ سمعت أشهب يقول في رجل حلف، يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وتفسير قوله أن ما كان من مواضعهم قريبا من الفسطاط، كالجزيرة والقنطرة فلا يتركون أن يبيعوا فيها الخمر وإن لم يكن معهم فيها من المسلمين أحد مخافة أن يتناولها منهم أحد من الفسطاط. وما بعد من قراهم عن الفسطاط، فكان منها على مثل الميل، وإن كان دون فرسخ فلا يمنعون من إدخالها وبيعها وشربها وبيعها بعضهم من بعض، وإن كان بين أظهرهم مسلمون. قال ذلك أصبغ في مجالسه، وهو قوله هاهنا. وقال أيضا في مجالسه: إنه لا يباع لهم ذلك إلا ألا يسكن معهم في قراهم أحد من أهل الإسلام، وقد مضى هذا في رسم الشجرة من قول ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة رجل حلف ليقضين رجلا حقه فيأبى أن يقبله: قال أصبغ: سمعت أشهب، يقول في رجل حلف ليقضين رجلا حقه فيأبى أن يقبله، أتراه في سعة من هذا؟ قال: هذا يأتي السلطان، قيل له: أفيجبر السلطان صاحبه على أخذه؟ قال: نعم، صاغرا ويقيمه. قال محمد بن رشد: لا يخلو الحالف ليقضين رجلا حقه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معنى ما حلف عليه وأراده أن يقضيه حقه ليبرئ ذمته من دينه. والثاني: أن يكون معنى ما حلف عليه وأراده ألا يحبس عليه حقه ويمطله به، مثل أن يقضيه حقه فيقول: أقضيكه غدا، فيقول: أخشى ألا تفعل، فيحلف ليقضينه غدا وما أشبه ذلك. والثالث: ألا يكون ليمينه بساط يحمل عليه، ولا يكون له فيها نية ولا إرادة، فأما الوجه الأول فلا يبر فيه إلا بأن يقبض منه حقه، فإن أبى من قبوله كان من حقه أن يجبر على ذلك ليبرئ ذمته من دينه فيبر في يمنيه. وأما الوجه الثاني: فيبر فيه بأن يأتيه بحقه قبله أو لم يقبله، فإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق أو ما أشبه ذلك مما يقضي به عليه القاضي فأتاه بحقه فأبى قبوله أشهد عليه بذلك ولم يلزمه شيء. وأما الوجه الثالث: فيتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا يبر إذا أبى من قبوله إلا بأن يرفع ذلك إلى السلطان يدفع إليه حقه شاء أو أبى. والثاني: أنه يبر إذا أتاه بحقه فأبى أن يقبله منه دون أن يجبره على قبضه منه، وقد مضى ما يبين هذا المعنى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق. .مسألة رهن قدحًا بكساء ثم تنازع فيه: قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات وهي صحيحة على أصولهم، وعلى معنى ما في كتاب طلاق السنة من المدونة، وعلى ما في نوازل سحنون من كتاب المديان والتفليس، فإن باع القدح بأمر السلطان وقبض ثمنه من ثمن كسائه، أي: من قيمته فقدم صاحب القدح بالكساء وأقر بما قال البائع للقدح بأمر السلطان لم يكن له إلا ما باع به القدح لبيعه إياه بأمر السلطان، ولو باعه بغير أمره كانت له قيمته، وإن ادعى القدح وأنكر رهن الكساء حلف في الكساء وأخذ قدحه، وإن أقر بالكساء وادعى القدح وأنكر الرهن فيه حلف على إنكار الرهن ورد الكساء، وأخذ قيمة قدحه أيضا، وهذا خلاف ما جرى به العمل من أن القاضي لا يحكم للمرتهن ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين والرهن وملك الراهن له ويحلف مع ذلك أنه ما وهب دينه ولا قبضه ولا أحال به وأنه لم يزل في ذمته إلى حين قيامه، والذي جرى به العمل من هذا هو على أصل مطرف وابن الماجشون في كتاب طلاق السنة من المدونة التي أشرنا إليها، وبالله التوفيق. .مسألة فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به: قال محمد بن رشد: قد قال مالك في الواضحة: إنها تباع عليه، خلاف قوله في هذه الرواية، وقوله فيها يصح لما ذكره من أنه قد يتوب فيرجع إلى منزله، ولو لم تكن الدار له وكان فيها بكراء أخرج منها وأكريت عليه ولم يفسخ كراؤه فيها، قاله في كراء الدور من المدونة وقد روي عن يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار، وقال: وقد أخبرني بعض أصحابنا أن مالكا كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر، قيل: وقيل النصراني يبيع الخمر من المسلمين، قال: إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بيته بالنار، قال: وحدثني الليث أن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر، وقال له: أنت فويسق ولست رويشد، وبالله التوفيق. تم الكتاب بحمد الله. .كتاب الشهادات الأول:
|