الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
أراد ما يكون في غد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت، كما قال تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} المعنى فتدلى ثم دنى، ومثله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وهو كثير. الثانية هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان. الثالثة أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى. وروى عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم». الرابعة روى أبو داود وابن ماجة في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة فقال عمرو: لا أدري أي صلاة هي؟ فقال: «الله اكبر كبيرا الله أكبر كبيرا ثلاثا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه». قال عمرو همزه الموتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجة، الموتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التيه. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل گبر ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثا ثم يقول: الله أكبر كبيرا ثلاثا أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه»، ثم يقرأ. وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه الله أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هم السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم، قال ابن عطية: وأما المقرءون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد، ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: إنه لا يجوز. الخامسة قال المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة الحمد إلا حمزة فإنه أسرها.. روى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتحون القراءة بالبسملة. وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول: يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه، وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق، وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر. السادسة حكى الزهراوي قال: نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض. قال غيره: كانت فرضا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، ثم تأسينا به. السابعة روى عن أبى هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود.قال أبو بكر بن العربي: انتهى العي بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة، وهذا نص وفإن الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، ليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا، وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة، كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}. قال ابن العربي: ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر، فإن كان هذا كما قال بعض الناس: إن الاستعاذة بعد القراءة كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه، فالله أعلم بسر هذه الرواية. الثامنة في فضل التعوذ. روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: استتب رجلان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقام إلى الرجل ممن سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هل تدري ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنفا؟ قال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقال له الرجل: أمجنونا تراني! أخرجه البخاري أيضا. وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حلا بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ منه واتفل عن يسارك ثلاثا» قال: ففعلت فأذهبه الله عني. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سافر فأقبل عليه الليل قال: «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد».وروت خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شي حتى يرتحل». وأخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح. وما يتعوذ منه كثيرا ثابت في الأخبار، والله المستعان. التاسعة معنى الاستعاذة في كلام العرب، الاستجارة والتحيز إلى الشيء على، معنى الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه. وهو عياذي، أي ملجئ. وأعذت غيري به وعوذته بمعنى. ويقال: عوذ بالله منك، أي أعوذ بالله منك، قال الراجز: والعرب تقول عند الأمر تنكره: حجرا له بالضم أي دفعا، وهو استعاذة من الأمر. والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى. واصل أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت.العاشرة الشيطان واتحد الشياطين، على التكسير والنون أصلية، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير. وشطنت داره أي بعدت، قال الشاعر: وبئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن: الحبل، سمى به لبعد طرفيه وامتداده. ووصف أعرابي فرسا لا يحفى فقال: كأنه شيطان في أشطان. وسمي الشيطان شيطانا لبعده عن الحق وتمره، وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان، قال جرير: وقيل: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك، فلنون زائدة. وشاط إذا احترق. وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنصحه. واشتاط الرجل إذا احتد غضبا. وناقة مشياط التي يطير فيها السمن. واشتاط إذا هلك، قال الأعشى: أي يهلك. ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول: تشيطن فلان أذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بين إنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ويرد عليهم أيضا بيت أمية بن أبي الصلت: فهذا شاطن من شطن لا شك فيه. الحادية عشر الرجيم أي المبعد من الخير المهان. واصل الرجم الرمي بأحجاره، وقد رجمته أرجمه، فهو رجيم ومرجوم. والرجم: القتل واللعن والطرد والشتم، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}. وقول أبي إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}. وسيأتي إن شاء اله تعالى.الثانية عشر روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله؟ قال: «هذا الشيطان الرجيم» فقلت: يا عدو الله: والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك، قال: ما هذا جزائي منك، قلت: وما جزاؤك مني يا عدو الله؟ قال: والله ما أبغضك أحد قط إلا شركت أباه في رحم أمه.
قلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل، إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة، أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال أدام الله عزك.الثامنة: ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل، كالأكل والشرب والنحر، والجماع والطهارة وركوب البحر، وإلى غير ذلك من الأفعال، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}... {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها}.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله». وقال: «لو أن أحدكم أذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا».وقال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» وقال: «إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه» وقال: «من لم يذبح فليذبح باسم الله». وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر». هذا كله ثابت في الصحيح.وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله».وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.التاسعة: قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا. فمعنى: {بسم الله}، أي بالله. ومعنى: {بالله} أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.وقال بعضهم: معنى قوله: {بسم الله} يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته، وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.العاشرة ذهب أبو عبيد معمر بن المثني إلى أن اسم صلة زائدة واستشهد بقول لبيد: فذكر اسم زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إ ن شاء الله تعالى.الحادية عشر: اختلف في معنى زيادة اسم فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه.وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لإن أصل الكلام: بالله.الثانية عشر: اختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدا بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان: الأول للقراء، والثاني للزجاج. ف {بسم الله} في موضع نصب على التأويلين.وقيل: المعنى ابتدائي بسم الله، ف {بسم الله} في موضع رفع خبر الابتداء.وقيل: الخبر محذوف، أي ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله، فإذا أظهرته كان {بسم الله} في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار.وفي التنزيل: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} ف {عِنْدَهُ} في موضع نصب، روى هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، ف {باسم} في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.الثالثة عشر: {بسم الله}، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإنها تحذف لقلة الاستعمال.. اختلفوا في حذفها مع الرحمن والقاهر، فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف.وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع {بسم الله} فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه.الرابعة عشر: واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان، فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء.الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما، نحو الكاف في قول الشاعر: أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله.الخامسة عشر: ايم، وزنه أفع، والذاهب منه الواو لأنه من سموت، وجمعه اسماء، وتصغيره سمى. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذع، وقفل وأقفال، وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم بالكسر، واسم بالضم. قال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذ من سمت أسمى. ويقال: سم وسم، وينشد: وقال آخر: قرصب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. سمه بالضم والكسر جميعا. ومنه قول الآخر: وسكنت السين من {باسم} اعتلالا على غير قياس، والفة ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة، كقول الأحوص: السادسة عشر: تقول العرب في النسب إلى الاسم: سموى، وأنشئت اسمى، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء إسام.وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله.السابعة عشر: اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل إنما سمى الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل، فلعلوه عليهما سمى اسما فهذه ثلاثة أقوال.وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا وسم. والأول أصح، لأنه يقال في التصغير سمى وفي الجمع أسماء، والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي:الثامنة عشر: فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته، وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بال اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقي بال اسم ولا صفة، وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطإ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي التاسعة عشر: فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم، فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق، فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل. قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في البقرة والأعراف إن شاء الله تعالى.الموفية عشرين: قوله: {الله} هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، لذلك لم يثن ولم يجمع، وهو أحد تأويلي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي من تسمى باسمه الذي هو الله. فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه.وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد.وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال، والمعنى واحد.الحادية والعشرون: واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله، فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس.وقيل: أصل الكلمة لاه وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد: كذا الرواية: فتخزوني، الخاء المعجمة ومعناه: تسوسني.وقال الكسائي والفراء: معنى: {بسم الله} بسم الإله، فخذوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة، كما قال عز وجل: {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ومعناه، لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من وله إذا تحير، والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل وله وامرأة والهة وواله، وماء مولة: أرسل في الصحاري. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل إلاه ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في أشاح ووشاح، وإسادة ووسادة، وروى عن الخليل.وروى عن الضحاك أنه قال: إنما سمى الله إلها لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام ويألهون أيضا بكسرها وهما لغتان. وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت.وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تنسك، ومن ذلك قوله تعالى: {ويذرك وإلاهتك} على هذه القراءة، فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: لا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. وإلا في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه الهاء التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجدا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار له ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما. القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضا منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفها منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا لله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.الثانية والعشرون: واختلفوا أيضا في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لااشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فحاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ} الآية. ولما كتب على رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال سهيل بن عمرو: أما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فما ندري ما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ}. وذهب الجمهور من الناس إلى أن {الرحمن} مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثني ولا يجمع كما يثنى {الرحيم} ويجمع. قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.الثالثة والعشرون: زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب الزاهر له: أن {الرحمن} اسم عبراني فجاء معه ب {الرحيم}. وأنشد: قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: {الرحيم} عربي و{الرحمن} عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه.وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر.وروى مطرف عن قتادة في قوله عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق:وهذا قول حسن.وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.الرابعة والعشرون: واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للممتلئ غضبا. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس: ف {الرَّحْمنِ} خاص الاسم عام الفعل. و{الرَّحِيمِ} عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو على الفارسي: {الرَّحْمنِ} اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله. و{الرَّحِيمِ} إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.وقال العرزمي: {الرَّحْمنِ} بجميع خلقه في الأمصار ونعم الحواس والنعم العامة، و{الرَّحِيمِ} بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم.وقال ابن المبارك: {الرَّحْمنِ} إذا سئل أعطى، و{الرَّحِيمِ} إذا لم يسأل غضب.وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» لفظ الترمذي.وقال ابن ماجة: «من لم يدع الله سبحانه غضب عليه». وقال: سألت أبا زراعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة. قال الخطابي: وهذا مشكل، لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى.وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل، «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف».الخامسة والعشرون: أكثر العلماء على أن {الرَّحْمنِ} مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فأخبر أن {الرحمن} هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب لعنه الله فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كاذبا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم، ذكره ابن العربي.السادسة والعشرون: {الرَّحِيمِ} صفة للمخلوقين، ولما في: {الرَّحْمنِ} من العموم قدم في كلامنا على {الرَّحِيمِ} مع موافقة التنزيل، قاله المهدوي.وقيل: إن معنى: {الرَّحِيمِ} أي بالرحيم وصلتم إلى الله، ف {الرَّحِيمِ} نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد نعته تعالى بذلك فقال: {لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن وبالرحيم، أي وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلتم إلى، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي، والله أعلم.السابعة والعشرون: روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما {الرَّحْمنِ} فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما {الرَّحِيمِ} فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وقد فسره بعضهم على الحروف، فروى عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال: «أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر منخلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة».وروى عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل أن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حلم، والنون مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كله دعاء الله تعلى عند افتتاح كل شي.الثامنة والعشرون: واختلف في وصل {الرَّحِيمِ} ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، فروى عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ} يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: {الرَّحِيمِ الْحَمْدُ}، تعرب {الرَّحِيمِ} بالخفض وبوصل الألف من {الْحَمْدُ}.وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ {الرَّحِيمِ الْحَمْدُ} بفتح الميم وصلة الألف، كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو هذه القراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: {الم اللَّهُ}.
|