الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة العاديات: آية 8] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}{وَإِنَّهُ} إن واسمها {لِحُبِّ} متعلقان بشديد {الْخَيْرِ} مضاف إليه {لَشَدِيدٌ} اللام المزحلقة {شديد} خبر إن. والجملة معطوفة على ما قبلها..[سورة العاديات: آية 9] {أَفَلا يعلم إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)}{أَفَلا} الهمزة حرف استفهام إنكاري والفاء حرف عطف عطفت على محذوف مقدر ولا نافية {يعلم} مضارع فاعله مستتر والجملة مستأنفة لا محل لها {إِذا} ظرف زمان {بُعْثِرَ} ماض مبني للمجهول {ما} نائب فاعل {فِي الْقُبُورِ} متعلقان بمحذوف صلة الموصول والجملة في محل جر بالإضافة..[سورة العاديات: آية 10] {وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)}{وَحُصِّلَ ما} ماض مبني للمجهول وما نائب فاعل {فِي الصُّدُورِ} متعلقان بمحذوف صلة الموصول.والجملة معطوفة على ما قبلها..[سورة العاديات: آية 11] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}{إِنَّ رَبَّهُمْ} إن واسمها {بِهِمْ} متعلقان بخبير {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف إلى مثله {لَخَبِيرٌ} اللام المزحلقة {خبير} خبر إن والجملة مستأنفة لا محل لها. اهـ..فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة: قال الزيلعي:سورة العاديات فِيهَا حديثان:1524- الحَدِيث الأول:قال النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَا لم يكن نقع وَلَا لقلقَة».قلت غَرِيب مَرْفُوعا وَلم أَجِدهُ إِلَّا من قول عمر رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه فِي الْجَنَائِز أَنا معمر عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل قال قيل لعمر إِن نسْوَة من بني الْمُغيرَة قد اجْتَمعْنَ فِي دَار خَالِد بن الْوَلِيد يبْكين عَلَيْهِ وَإِنَّا نكره أَن يؤذينك فَلَو نَهَيْتُهُنَّ فَقال عمر مَا عَلَيْهِنَّ أَن يُهْرِقَن من دُمُوعهنَّ عَلَى أبي سُلَيْمَان سجلا أَو سَجْلَيْنِ مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة. انتهى.وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك فِي فَضَائِل خَالِد بن الْوَلِيد وَزَاد فِيهِ النَّقْع اللَّطْم وَاللَّقْلَقَة الصُّرَاخ انتهى وَسكت عَنهُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه قال النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة بِسَنَد صَحِيح.وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَعْلِيقا فِي بَاب الْجَنَائِز فَقال بَاب مَا يكره من النِّيَاحَة عَلَى الْمَيِّت وَقال عمر دَعْهُنَّ يبْكين عَلَى أبي سُلَيْمَان مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة قال وَالنَّقْع التُّرَاب عَلَى الرَّأْس وَاللَّقْلَقَة الصَّوْت انتهى.قلت وَرَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي غَرِيب الحَدِيث لَهُ حَدثنِي جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل بِهِ بِلَفْظ عبد الرَّزَّاق.وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي غَرِيب الحَدِيث لَهُ عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ.قال أَبُو عبيد وَالنَّقْع عندنَا رفع الصَّوْت وَهُوَ قول أَكثر أهل الْعلم وَقال بَعضهم هُوَ رفع التُّرَاب عَلَى الرَّأْس وَقال آخَرُونَ هُوَ شقّ الْجُيُوب قال وَأما اللَّقْلَقَة فَهِيَ شدَّة الصَّوْت وَلم أسمع فِيهِ خلافًا انتهى.وَقال إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قال الْأَصْمَعِي النَّقْع الصياح وَقال أَبُو سَلمَة هُوَ وضع التُّرَاب عَلَى الرَّأْس انتهى.وَالْمُصَنّف رَحِمَهُ اللَّهُ احْتج بِالْحديث علي أَن النَّقْع الصياح وَرَوَاهُ ابْن سعد فِي الطَّبَقَات فِي تَرْجَمَة خَالِد بن الْوَلِيد اُخْبُرْنَا وَكِيع ثَنَا الْأَعْمَش بِهِ بِلَفْظ عبد الرَّزَّاق وَزَاد قال وَكِيع قال وَالنَّقْع الشق وَاللَّقْلَقَة الصَّوْت انتهى.1525 – قوله:عَن ابْن عَبَّاس قال كنت جَالِسا فِي الْحجر فجَاء رجل فَسَأَلَنِي عَن {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} قال ففسرتها بِالْخَيْلِ فَذهب إِلَى على وَهُوَ تَحت سِقَايَة زَمْزَم فَسَأَلَهُ وَذكر لَهُ مَا قلت فَقال ادْعُه لي فَلَمَّا وقفت عَلَى رَأسه قال تُفْتِي النَّاس بِمَا لَا علم لَك بِهِ وَالله إِن كَانَت لأوّل غَزْوَة فِي الْإِسْلَام بدر وَمَا مَعنا إِلَّا فرسَان فرس للزُّبَيْرِ وَفرس لِلْمِقْدَادِ إِنَّمَا العاديات ضَبْحًا الْإِبِل من عَرَفَة إِلَى مُزْدَلِفَة وَمن مُزْدَلِفَة إِلَى منى.قلت رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك فِي كتاب الْجِهَاد من طَرِيق ابْن وهب ثني أَبُو صَخْر عَن أبي مُعَاوِيَة البَجلِيّ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قال بَيْنَمَا أَنا فِي الْحجر جَالس... إِلَى آخِره سَوَاء وَقال صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَتعقبه الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصره فَقال لم يحْتَج البُخَارِيّ بِأبي صَخْر وَأما مُعَاوِيَة البَجلِيّ فَلَا ذكر لَهُ فِي الْكتب السِّتَّة انتهى وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره وَمن طَرِيقه رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره.1526- الحَدِيث الثاني:عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ العاديات أعطي من الْأجر عشر حَسَنَات بِعَدَد منبَات فِي الْمزْدَلِفَة وَشهد جمعا».قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث عبد الله بن روح ثَنَا شَبابَة بن سوار بِسَنَدِهِ فِي سُورَة الْقدر.وَبِهَذَا الْمَتْن رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بسنديه فِي آل عمرَان.وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ فِي يُونُس. اهـ..من مجازات القرآن في السورة الكريمة: قال ابن المثنى:سورة العاديات (100):بسم الله الرحمن الرحيم{الْعادِياتِ} (1) الخيل..{ضَبْحًا} (1) أي ضبعا ضبحت وضبعت واحد وقال بعضهم: تضبح تنحم فمن قال هذا ففيه ضمير..{فَالْمُورِياتِ قَدْحًا} (2) تورى بسنابكها النار..{فَالْمُغِيراتِ صُبْحًا} (3) تغير عند الصباح..{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} (4) فرفعن به غبارا، النقع: الغبار..{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (6) لكفور وكذلك الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا قال الأعشى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (8) وإنه من أجل حبّ الخير لشديد: لبخيل، يقال للبخيل: شديد ومتشدد، قال طرفة: [946] ويروى: {إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ} (9) أثير فأخرج..{حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ} (10) ميّز. اهـ. .فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة العاديات:الجهاد يحرس العقيدة، ويحمى الحقيقة، ويصون البلاد والحرمات. إن الباطل يمتد في أي فراغ أمامه، وإذا وجد مقاومة ضعيفة اجتاحها وبلغ غرضه. وقد رأيت الخنا يفرض تقاليده على الشعوب لأنه يستند إلى سلطات قوية، ورأيت الشرف يذوب أمامه ويزول. وكثيرا ما أتذكر قول الفتية أصحاب الكهف، بعضهم للبعض الآخر {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا}. من أجل ذلك أقسم الله بأدوات الجهاد {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود}. عندما تعدو الخيل بفرسانها، وأنفاسها تضطرم في صدورها، وسنابكها تقدح الشرر من شدة جريها، ورجالها يستقبلون الموت هجوما أو دفاعا، عندئذ يعلم المبطلون فداحة ما فعلوا، ويدفعون ثمنه من دمائهم.. أحيانا تكون نيران الجهاد كالسوائل المبيدة للحشرات، تحمى الزرع والضرع. وقديما قال حماة الأعراض: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم والحق في عصرنا يحتاج إلى خيالة ورجالة يذودون عنه، ويستبقون على الأيام معالمه! فإن هناك أهل كنود وجماح يسرقون العقائد والفضائل، ويريدون فرض الزور والظلم على الناس {إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد}. وما أظن الآخرة جحدت في عصر كما جحدت في عصرنا، ولا الدنيا عبدت في أيام كما عبدت في أيامنا {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير}. اهـ..في رياض آيات السورة الكريمة: .فصل في أسرار ترتيب السورة: قال السيوطي:سورة العاديات:أقول: لا يخفى ما بين قوله في الزلزلة: {وأَخرَجتِ الأَرضُ أَثقالها} وقوله في هذه السورة: {إِذا بُعثرَ ما في القبور} من المناسبة والعلاقة. اهـ..تفسير الآيات (1- 8): قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:(بسم الله) الذي له الأمر كله فلا يسأل عما يفعل (الرحمن) الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل (الرحيم) الذي خص خلص عباده بتوفيقه فأتم نعمته عليهم وأكمل.لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع، موبخًا من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال، معنفًا من أثر دنياه على أخراه، مقسمًا بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر، فمن غلب عليه الروح شكر، ومن غلب عليه الطبع- وهم الأكثر- كفر فقال: {والعاديات} أي الدواب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز، وهي لرجل وزر ولرجل أجر، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شرًا، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجرًا، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له سترًا، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلًا والحمار ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار، فالقسم في الحقيقة به سبحانه.ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام، قال ناصبًا به أو بـ: {تضبح} مقدرًا: {ضبحًا} والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس، وليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وأصله للثعلب واستيعر للخيل، وحكاه ابن عباس- رضى الله عنهما- فقال: أح أح، أو الضبح عدو دون التقريب.ولما ذكر عدوها، أتبعه ما ينشأ عنه، فقال عاطفًا بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء: {فالموريات} أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار، لاسيما عند سلوك الأوعار.ولما كان الإيراء أثر القدح قال: {قدحًا} أي تقدح ضربًا بعنف كضرب الزند ليوري النار، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه.ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه، ذكر نتيجته وغايته فقال: {فالمغيرات} أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب.ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال: {صبحًا} أي ذات دخول في الصباح.ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفًا تارة يمينًا وتارة شمالًا وتارة أماما وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه، وكان المقسم به منظورًا فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظورًا فيها إلى الفعل بادئ بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال: {فأثرن به} أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو {نقعًا} أي غبارًا مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكًا ومنعقدًا عليها.ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال: {فوسطن به} أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع {جمعًا} أي وهو المقصود بالإغارة، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها.ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان، وتجري به أفكاره كخيل الرهان، وتقدح المعاني تارة مقترنة بأشرف اللمعان، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران، من الزور والبهتان، والإلحاد والطغيان، وتغير منه ثواقب الأذهان، تارة على شبه الخصوم بالبرهان، وأخرى بما يغير به من الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان، من ذوي البدع والكفران، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان، وأخرى جمع أولي الإيمان، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدوانًا إن كان ذلك في غير الجهاد، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي: «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه» قال مجيبًا للقسم بذكر المقسم عليه حاكمًا على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدمًا، مؤكدًا لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال: {إن الإنسان} أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به الله إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة، فالمراد هنا- بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة- من يزدري القليل ولا يشكر الكثير، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة، ويلوم ربه في أيسر نقمة، وقال الفضيل بن عياض: هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور ضده.وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال: {إن الإنسان لربه لكنود} أي لكفور، يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما سمع بقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} {وإنه لحب الخير} أي المال {لشديد} لبخيل، {وإنه على ذلك لشهيد} فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله {إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور} أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} لا يخفى عليه شيء من أمرهم {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}- انتهى.ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجبًا، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب، قال مؤكدًا لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاققة من إنكار كفرانه: {وإنه} أي الإنسان {على ذلك} أي الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافرًا لإحسانه مستحقًا لعقابه، لا يقدر على إنكار شيء منه.ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم، وهو شاهد على نفسه، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال: {وإنه} أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم {لحب} أي لأجل حب {الخير} أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيرًا {لشديد} أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة، ولا يتخيل أن شديدًا عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف. اهـ.
|