الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله: {فسخرنا له الريح}.وقرأ الجمهور: بالإفراد؛ والحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس.{تجري} يحتمل أن تكون جملة حالية، أي جارية، وأن تكون تفسيرية لقوله: {فسخرنا له الريح}.{بأمره} أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها.{رخاء} قال ابن عباس والحسن والضحاك: مطيعة.وقال مجاهد: طيبة.{حيث أصاب} أي حيث قصد وأراد، حكى الزجاج عن العرب.أصاب الصواب فأخطأ الجواب: أي قصد.وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقال: هذه طلبتنا.ويقال: أصاب الله بك خيرًا، وأنشد الثعلبي:
وقال وهب: حيث أصاب، أي أراد.قيل: ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر.وقيل: أصاب: أراد، بلغة حمير.وقال قتادة: بلغة هجر.{والشياطين} معطوف على الريح و{كل بناء وغواص} بدل، وأتى ببنية المبالغة، كما قال: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} الآية، وقال النابغة: والمعطوف على العام عام، فالتقدير: وكل غواص، أي في البحر يستخرجون له الحلية، وهو أول من استخرج الدر.{وآخرين} عطف على كل، فهو داخل في البدل، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل، أي من الجنّ، وهم المردة، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم.وقال النابغة في ذلك: تقدم تفسير {مقرّنين في الأصفاد} في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل.{هذا عطاؤنا} إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء.وقفه على قدر النعمة، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعمة الله.قال الحسن وغيره، قاله قتادة: إشارة إلى ما فعله الجن، أي فامنن على من شئت منهم، وأطلقه من وثاقه، وسرحه من خدمته، وأمسك أمره كما تريد.وقال ابن عباس: إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ، ولعله لا يصح عن ابن عباس، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك، و{بغير حساب} في موضع الحال من {عطاؤنا} أي هذا عطاؤنا جمًا كثيرًا لا تكاد تقدر على حصره.ويجوز أن يكون {بغير حساب} من تمام {فامنن}.{أو أمسك} أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه.وختم الله تعالى قصته بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.وقرأ الجمهور: {وحسن مآب} بالنصب عطفًا على {زلفى}.وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: بالرفع، ويقفان على {زلفى} ويبتدآن {وحسن مآب} وهو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: وحسب مآب له. اهـ. .قال الشوكاني في الآيات السابقة: {يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي: وقلنا له {يا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ} استخلفناك على الأرض، أو {جعلناك خَلِيفَةً} لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} أي: بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي: هوى النفس في الحكم بين العباد.وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنصب على أنه جواب للنهي، وفاعل يضلك هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزومًا بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كلّ واحد منهما على حدة.وسبيل الله: هو طريق الحق، أو طريق الجنة.وجملة: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال، والباء في: {بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} للسببية، ومعنى النسيان: الترك، أي: بسبب تركهم العمل لذلك اليوم.قال الزجاج: أي: بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون، ويذكرون.وقال عكرمة، والسدّي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل، والأوّل أولى.وجملة: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من أمر البعث والحساب، أي: ما خلقنا هذه الأشياء خلقًا باطلًا خارجًا على الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا، فانتصاب {باطلًا} على المصدرية، أو على الحالية، أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المنفيّ قبله، وهو مبتدأ، وخبره {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي: مظنونهم، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض، ويقولون: إنه لا قيامة، ولا بعث، ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلًا {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم، وكفرهم.ثم وبخهم، وبكتهم فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض} قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون، فنزلت، وأم هي: المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة، أي: بل أنجعل الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي.ثم أضرب سبحانه إضرابًا آخر، وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه، فقال: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} أي: بل تجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين، والمنافقين، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، وقيل: إن الفجار هنا خاص بالكافرين، وقيل: المراد بالمتقين الصحابة، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.{كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك} ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك خبر ثانٍ للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، والتقدير: القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير، والبركة.وقرئ: «مباركًا» على الحال، وقوله: {لّيَدَّبَّرُواْ} أصله: ليتدبروا، فأدغمت التاء في الدال، وهو متعلق بأنزلناه.وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر، والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر.قرأ الجمهور: {ليدبروا} بالإدغام.وقرأ أبو جعفر، وشيبة: {لتدبروا} بالتاء الفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن عاصم، والكسائي، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا بتاءين، فحذف إحداهما تخفيفًا {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: ليتعظ أهل العقول، والألباب جمع لب وهو: العقل.{وَوَهَبْنَا لِداود سليمان نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} أخبر سبحانه: بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولدًا، ثم مدح سليمان، فقال: {نِعْمَ العبد} والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعم العبد سليمان، وقيل: إن المدح هنا بقوله: {نعم العبد} هو لداود، والأول أولى، وجملة: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لما قبلها من المدح، والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه، والظرف في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} متعلق بمحذوف وهو: اذكر، أي: اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه {بالعشى} وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، وقيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أوابًا بذلك الوقت، والعشي: من الظهر، أو العصر إلى آخر النهار، و{الصافنات} جمع صافن.وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي، والفراء: الصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل، أو غيرها، وبه قال قتادة، ومنه الحديث: «من أحب أن يتمثل له الناس صفونا، فليتبوأ مقعده من النار»، أي: يديمون القيام له، واستدلوا بقول النابغة:ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع، وهو مصادرة؛ لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى اليدين، ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث، وهي: الرجلان، وإحدى اليدين، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي: علامة الفراهة.وأنشد الزجاج قول الشاعر: ومن هذا قول عمرو بن كلثوم: فإن قوله: صفونا لابد أن يحمل على معنى غير مجرّد القيام، لأن مجرّد القيام قد استفيد من قوله: عاكفة عليه.وقال أبو عبيد: الصافن هو: الذي يجمع يديه، ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه، فاسمه: المتخيم، والجياد جمع جواد، يقال: للفرس إذا كان شديدا العدو.وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد، وهو: العنق، قيل: كانت مائة فرس، وقيل: كانت عشرين ألفًا، وقيل: كانت عشرين فرسًا، وقيل: إنها خرجت له من البحر، وكانت لها أجنحة {فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} انتصاب {حب الخير} على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى: آثرت.قال الفراء: يقول: آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئًا، فقد آثره.وقيل: انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل: هو مصدر تشبيهي، أي: حبًا مثل حب الخير، والأول أولى.والمراد بالخير هنا: الخيل.قال الزجاج: الخير هنا: الخيل.وقال الفراء: الخير، والخيل في كلام العرب واحد.قال النحاس: وفي الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير»، فكأنها سميت خيرًا لهذا.وقيل: إنها سميت خيرًا لما فيها من المنافع.وعن في {عَن ذِكْرِ رَبِى} بمعنى: على والمعنى: آثرت حبّ الخيل على ذكر ربي، يعني: صلاة العصر {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} يعني: الشمس، ولم يتقدّم لها ذكر، ولكن المقام يدلّ على ذلك.قال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء، أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل، وهو قوله: بالعشيّ.والتواري: الاستتار عن الأبصار، والحجاب: ما يحجبها عن الأبصار.قال قتادة، وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف، وسمي الليل حجابًا؛ لأنه يستر ما فيه، وقيل: الضمير في قوله: {حتى تَوَارَتْ} للخيل، أي: حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأوّل أولى، وقوله: {رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام قول سليمان، أي: أعيدوا عرضها عليّ مرّة أخرى.قال الحسن: إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله، وقال: ردّوها عليّ، أي: أعيدوها.وقيل: الضمير: في {ردّوها} يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأوّل أولى، والفاء في قوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق والأعناق} هي: الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام، والتقدير هنا: فردّوها عليه.قال أبو عبيدة: طفق يفعل، مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظلّ، وبات.وانتصاب {مسحًا} على المصدرية بفعل مقدّر، أي: يمسح مسحًا؛ لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلًا مضارعًا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، والأول أولى.والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمراد: أنه طفق يضرب أعناقها، وسوقها، يقال: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه.قال الفراء: المسح هنا: القطع، قال: والمعنى: أنه أقبل يضرب سوقها، وأعناقها؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة.قال الزجاج: ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجائز أن يباح ذلك لسليمان، ويحضر في هذا الوقت.وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح ما تقدّم.
|