فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}:

.قال الفخر:

أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فقال: {يا أيها الذين آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأن نفسه كانت له، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقًا للنار والعذاب، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاسًا معدودة ويشتري بها نفسه أبدًا لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} [مريم: 31] وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] فإن قيل: إن الله تعالى جعل نفسه مشتريًا حيث قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} [التوبة: 111] وهذا يمنع كون المؤمن مشتريًا.
قلنا: لا منافاة بين الأمرين، فهو كمن اشترى ثوبًا بعبد، فكل واحد منهما بائع، وكل واحد منهما مشتر، فكذا هاهنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.
إذا عرفت هذا فنقول: يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشًا فحاصروا قصرًا فتقدم منهم واحد، فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبتم رحم الله أبا فلان، وقرأ: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله}.
ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لابد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل، قال قتادة: أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهًا آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضبًا لله وجهادًا في سبيله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{يشري} معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا} [البقرة: 41]. واستعمل {يشري} هنا في البذل مجازًا، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكًا في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان. اهـ.

.قال السعدي:

هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيّ الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والله رَءوفٌ بالعباد}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {والله رَءوفٌ بالعباد} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلًا منه ورحمة وإحسانًا. اهـ.

.قال في روح البيان:

{والله رؤف بالعباد} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده أن ما اشتراه منهم من أنفسهم وأموالهم إنما هو خالص ملكه وحقه ثم إنه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة وإحسانا وفضلا وإكراما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والظاهر أن التعريف في قوله العباد تعريف استغراق، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ويجوز أن يكون أَلْ عوضًا عن المضاف إليه كقوله: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41]، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} في [سورة الحجر: 42].
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق مَنْ عامًا كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلًا بنفسه وهو من لوازم التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادًا له، وإن كان ما صْدَق مَنْ صهيبًا رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال، والمناسبة أن صهيبًا كان عبدًا للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رؤوف بالعباد: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته. اهـ.

.فائدة في قوله: {بِالْعِبَادِ}:

وفي قوله: {بِالْعِبَادِ} خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ رَؤوفٌ بِهِ أَوْ بِهِمْ وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ {العِبَادِ} يُؤْذِنُ بالتشرِيف، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

وفي هذه الآية وهي قوله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} [البقرة: 204] إلى قوله: {رؤوف بالعباد} معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري:
وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ ** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء

وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ.
الثَّانِي: فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ: كَذَبُوا؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}.
الثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ قَاصِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ، وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ.
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا.
قَالَ: فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ: اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ.
فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ قُلْت؟ قَالَ: لَا شَيْءَ.
قَالَ: مَاذَا قُلْت؟ قَالَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَيَقُولُ هَذَا: وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ.
فَقَالَ عُمَرُ: لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ.