الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكرًا؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل: هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد، واستظهره صاحب القاموس. والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ، والنقيع، والسُّكَرْكَةَ، والبِتْع.وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر: نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب، معناه ليس معدودًا في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة. وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم:وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعًا وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذًا بمسمى الخمر عندهم، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب.وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري: يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقًا حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئًا، ويزيد ذلك إيهامًا قاعدة أن المأذون فيه شرعًا لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس: ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان، أحدهما محرم شربه وهو أربعة: الخمر وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد، والطِلاء بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكرًا، والسَّكَر بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكرًا، والنقيع وهو النيء من نبيذ الزبيب، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ. والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة كذا أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه. وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور. وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس، وهذا باطل، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام. اهـ. .قال الألوسي: وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أنّ الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام وقليله ككثيره ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وفي حديث آخر: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء كالعنبرية والإكسير ونحوهما ظنًا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمّة وهيهات هيهات الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل. اهـ..قال البقاعي: وقرنهما سبحانه وتعالى لتآخيهما في الضرر بالجهاد وغيره بإذهاب المال مجانًا عن غير طيب نفس ما بين سبحانه وتعالى من المؤاخاة بينهما هنا وفي المائدة وإن كان سبحانه وتعالى اقتصر هنا على ضرر الدين وهو الإثم لأنه أسّ يتبعه كل ضرر فقال في الجواب: {قل فيهما} أي في استعمالهما {إثم كبير} لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير فهذا مثبت للتحريم بإثبات الإثم ولأنهما من الكبائر. قال الحرالي: في قراءتي الباء الموحدة والمثلثة إنباء عن مجموع الأمرين من كبر المقدار وكثرة العدد وواحد من هذين مما يصد ذا الطبع الكريم والعقل الرصين عن الإقدام عليه بل يتوقف عن الإثم الصغير القليل فكيف عن الكبير الكثير- انتهى. اهـ..قال السمرقندي: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر}.قال بعض المفسرين: إن الله لم يدع شيئًا من الكرامة والبر، إلا وقد أعطى هذه الأمة. ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة؛ فكذلك في تحريم الخمر، كانوا مولعين على شربها، فنزلت هذه الآية: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر}، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار. {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} في تجارتهم. {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها. ثم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] الآية. فصارت حرامًا عليهم حتى كان بعضهم يقول: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر. وقيل: إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها.وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم أنه يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة. فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا له: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: إن اصطناع المعروف واجب. فقيل له إنه ينهى عن الزنى. فقال: إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخًا، فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. قال: أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع. وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يبلغ إلى منزله، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات. وقال بعضهم: في هذه الآية ما يدل على تحريمه، لأنه سماها إثمًا، وقد حرم الإثم في آية أخرى وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سلطانا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقال بعضهم: أراد بالإثم، الخمر بدليل قول الشاعر:وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول: الناس يطلبون زيادة العقل، فأنا لا أنقص عقلي. اهـ. .قال القرطبي: رَوى النَّسائيّ عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أُمُّ الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تَعبَّد فعِلقته امرأة غَويّة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة؛ فانطلق مع جاريتها فطفِقت كلّما دخل بابًا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وَضِيئة عندها غلام وبَاطِيَةُ خمر؛ فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسًا، أو تقتل هذا الغلام.قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسًا؛ فسقته كأسًا. قال: زيدوني؛ فلم يَرِم حتى وقع عليها، وقتل النفس؛ فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر؛ إلاَّ ليوشك أن يُخرج أحدُهما صاحبه؛ وذكره أبو عمر في الاستيعاب. ورُوي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليُسلم فلقيَه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصَّلاة؛ فقال: إنّ خدمة الربّ واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخًا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه؛ فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المِنْقريّ شَرَّابًا لها في الجاهلية ثم حرّمها على نفسه؛ وكان سبب ذلك أنه غمز عُكْنَة ابنته وهو سكران، وسبّ أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمّار كثيرًا من ماله؛ فلما أفاق أخبر بذلك فحرّمها على نفسه؛ وفيها يقول:قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابيّ عن المفضَّل الضِّبيّ أن هذه الأبيات لأبي مِحْجن الثَّقفيّ قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه: وجلده عمر الحدّ عليها مرارًا، ونفاه إلى جزيرة في البحر؛ فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه؛ وكان أحد الشجعان البُهَم؛ فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حلّ قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبدًا. قال أبو مِحْجن: وأنا والله لا أشربها أبدًا؛ فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحدّ وأطهر منها، وأما إذ بَهْرَجْتَنِي فوالله لا أشربها أبدًا. وذكر الهيثم بن عدِيّ أنه أخبره من رأى قبر أبي مِحجن بأذرَبيجان، أو قال: في نواحي جُرْجان، وقد نبتت عليه ثلاث أُصول كَرْم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره؛ ومكتوب على القبر هذا قبر أبي مِحجن قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله: اهـ.
|