الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} رفع بالابتداء.{جَمِيعًا} نصب على الحال.ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى جزائه.{وَعْدَ الله حَقًّا} مصدران؛ أي وعد الله ذلك وعدًا وحققه {حقًا} صدقًا لا خلف فيه.وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَة {وَعْدُ اللَّه حَقّ} على الاستئناف.قوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} أي من التراب.{ثُمَّ يُعِيدُهُ} إليه.مجاهد: ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال.وقرأ يزيد بن القَعْقَاع {أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} تكون أن في موضع نصب؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق.ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق؛ كما يقال: لَبَّيْكَ أنّ الحمد والنعمة لك؛ والكسر أجود.وأجاز الفرّاء أن تكون أن في موضع رفع فتكون اسما.قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير حقًا إبداؤه الخلق.قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي بالعدل.{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي ماء حار قد انتهى حرّه، والحمِيمة مثله.يقال: حَمَمْت الماء أحُمّه فهو حميم، أي محموم؛ فعيل بمعنى مفعول.وكلُّ مُسَخَّن عند العرب فهو حميم.{وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجِع، يخلص وجعه إلى قلوبهم.{بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم؛ فاحتج عليهم بهذا فقال: من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء. اهـ..قال الخازن: {إليه مرجعكم جميعًا} يعني إلى ربكم الذي خلق جميع المخلوقات مصيركم جميعًا أيها الناس يوم القيامة والمرجع بمعنى الرجوع {وعد الله حقًا} يعني وعدكم الله ذلك وعدًا حقًا {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} أي يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم وهذا معنى قول مجاهد فإنه قاله يحييه ثم يميته ثم يحييه.وفي هذه الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه ورد على منكري البعث ووقوعه، لأن القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفرقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيبًا ثانيًا ويخلق الإنسان الأول مرةأخرى وكما لم يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت كان المقصود منها إيصال الثواب للمطيع والعقاب للعاصي وهو قوله سبحانه وتعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} يعني بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئًا {والذين كفروا لهم شراب من حميم} هو ماء حار قد انتهى حره {وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}. اهـ..قال أبو حيان: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم.وانتصب وعد الله وحقًا على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير: وعد الله وعدًا، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله: {صبغة الله} {وصنع الله} والتقدير: في حقًا حق ذلك حقًا.وقيل: انتصب حقًا بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق.وقال علي بن سليمان التقدير: وقت حق وأنشد:وقرأ عبد الله وأبو جعفر والأعمش وسهل بن شعيب: أنه يبدأ بفتح الهمزة.قال الزمخشري: هو منصوب بالفعل، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه.وعد الله على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعًا بما نصب حقًا أي: حق حقًا بدءُ الخلق كقوله: انتهى.وقال ابن عطية: وموضعها النصب على تقدير أحق أنه.وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير لحق أنه.قال ابن عطية: ويجوز عندي أن يكون أنه بدلًا من قوله: {وعد الله}.قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه يبدأ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت قدرت وعد الله حقًا أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله.وقرأ ابن أبي عبلة: حق بالرفع، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى.وكون حق خبر مبتدأ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول: صحيح إنك تخرج، لأنّ اسم أنّ معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة.والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى، وإعادته هو البعث من القبور، وليجزي متعلق بيعيده أي: ليقع الجزاء على الأعمال.وقيل: البدء من التراب، ثم يعيده إلى التراب، ثم يعيده إلى البعث.وقيل: البدء نشأته من الماء، ثم يعيده من حال إلى حال.وقيل: يبدؤه من العدم، ثم يعيده إليه، ثم يوجده.وقيل: يبدؤه في زمرة الأشقياء، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء، وبعكس ذلك.وقرأ طلحة: يبدئ من أبدأ رباعيًا، وبدأ وأبدأ بمعنى، وبالقسط معناه بالعدل، وهو متعلق بقوله: {ليجزي} أي: ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم، فيوصل كلًا إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال، فينصف بينهم ويعدل، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى.قال الزمخشري: أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنّ الشرك ظلم قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} والعصاة ظلام لأنفسهم، وهذا أوجه لمقابلة قوله: {بما كانوا يكفرون} انتهى، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ، ويحتمل أن يكون معطوفًا على قوله: {الذين آمنوا}، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين.ولما كان الحديث مع الكفار مفتتح السورة معهم، ذكر شيئًا من أنواع عذابهم فقال: {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام. اهـ. .قال أبو السعود: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}{إِلَيْهِ} لا إلى أحد سواه استقلالًا أو اشتراكًا {مَرْجِعُكُمْ} أي بالبعث كما ينبئ عنه قوله تعالى: {جَمِيعًا} فإنه خالٍ من الضمير المجرورِ لكونه فاعلًا في المعنى أي إليه رجوعُكم مجتمعين والجملةُ كالتعليل لوجوب العبادة {وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لنفسه لأن قوله عز وجل: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أي وعَدَ الله وعدًا، وأيًا ما كان فهو دليلٌ على أن المرادَ بالمرجِع هو الرجوعُ بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرئ بصيغة الفعل {حَقًّا} مصدرٌ آخرُ مؤكدٌ لما دل عليه الأول {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} وقرئ يُبدِئ {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهو استئنافٌ عُلّل به وجوبُ المرجعِ إليه سبحانه وتعالى فإن غايةَ البدءِ والإعادةِ وهو جزاءُ المكلّفين بأعمالهم حسنةً أو سيئةً، وقرئ بالفتح أي لأنه، ويجوز كونُه منصوبًا بما نصب وعدَ الله أي وعَد الله وعدًا بدءَ الخلقِ الخلق ثم إعادتَه، ومرفوعًا بما نصب حقًا أي حق بدءُ الخلقِ الخ {ليجزى الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل وهو حالٌ من فاعل يجزي أي ملتبسًا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيَهم بقسطه ويوفيَهم أجورَهم، وإنما أُجمل ذلك إيذنًا بأنه لا يفي به الحصرُ أو بقسطهم وعدلِهم عند إيمانِهم ومباشرتِهم للأعمال الصالحة وهو الأنسبُ بقوله عز وجل: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فإن معناه ويجزي الذين كفروا بسبب كفرِهم، وتكريرُ الإسناد بجعل الجملةِ الظرفية خبرًا للموصول لتقوية الحكمِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغييرُ النظمِ للإيذان بكمال استحقاقِهم للعقاب وأن التعذيبَ بمعزل عن الانتظام في سلك العلةِ الغائيّة للخلق بدءًا وإعادةً وإنما يحيقُ ذلك بالكفرة على موجَبِ سوءِ اختيارِهم، وأما المقصودُ الأصليُّ من ذلك فهو الإثابة. اهـ..قال الألوسي: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} كالتعليل لوجوب العبادة، والجار والمجرور خبر مقدم و{مَرْجِعُكُمْ} مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافًا لمن وهم فيه، و{جَمِيعًا} حال من الضمير المجرور لكونه فاعلًا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لا تحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك: له على ألف عرفًا، ويجوز أن يكون نصبًا على المصدرية لفعل محذوف أي وعد الله وعدًا، وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل عن الوعد كما أنه بمعزل عن الاجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ما ينبغي.وقرئ {وَعَدَ الله} بصيغة الفعل ورفع الاسم الجليل على الفاعلية {حَقًّا} مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصًا فيه فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف.وقيل: إنه منصوب بوعد على تقدير في وتشبيه بالظرف كقوله:والأول أظهر، وقوله سبحانه: {أَنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} كالتعليل لما أفاده {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليق.وقرأ أبو جعفر والأعمش {أَنَّهُ} بفتح الهمزة على تقدير لأنه، وجوز أن يكون منصوبًا بمثل ما نصب {وَعْدُ} أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه، ويكون الوعد واقعًا على المجموع لكن باعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودًا، وأن يكوم مرفوعًا بمثل ما نصب حقًا أي حق بدء الخلق ثم إعادته ويكون نظير قول الحماسي: وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو اما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه، وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له، والرفع بحقًا على أنه فاعل له، وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لابد أن يكون عائدًا على ما تقدمه مما أكده، وقرئ {حَقّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} وهو كقولك: حق أن زيدًا منطلق.وقرئ {يُبْدِئ} من أبدأ، ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته ثم يحييه {لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي بالعدل وهو حال من فاعل {يَجْزِى} أي ملتبسًا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، وإنما أجمل ذلك إيذانًا بأنه لا يفي به الحصر، ويرشح ذلك جعل ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم؛ ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء جار وقد انتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، مع أنه لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الآخرين أولى به كما لا يخفى، وتكرير الإسناد بجعل الجملة الطرفية خبرًا للموصول لتقوية الحكم، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغيير النظم الكريم للمبالغة في استحقاقهم العقاب بجعله حقًا مقررًا لهم والإيذان بأن التعذيب بمعزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها وللبدى بناء على تعلقه بهما على التنازع، وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الاثابة فهي المقصود بالذات والعقاب واقع بالعرض. اهـ.
|