الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
: هذه الوظيفة يُقال لمتوليها ناظر النظار ويقال له ناظر المال وهو يُعرف اليوم بناظر الدولة وتلي رتبته رتبة الوزارة فإذا غاب الوزير وتعطلت الوزارة من وزير قام ناظر الدولة بتدبير الدولة وتقدّم إلى شادّ الدواوين بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات والكلف واقتصر الملك الناصر محمد بن قلاون على ناظر الدولة مدّة أعوام من غير تولية وزير ومشى أمور الدولة على ذلك حتى مات ولا بد أ يكون مع ناظر الدولة مستوفون يضبطون كليات المملكة وجزئياتها ورأس المستوفين مستوفي الصحبة وهو يتحدث في سائر المملكة مصرًا وشامًا ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان فتكون تارة بما يُعمل في البلاد وتارة بالإطلاقات وتارة باستخدام كتّاب في صغار الأعمال ومن هذا النحو وما يجري مجراه. ديوان النظر: وهي وظيفة جليلة تلي نظر الدولة وبقية المستوفين كلّ منهم حديثه مقيد لايتعدى حديثه قطرًا من أقطار المملكة وهذا الديوان أعني ديوان النظر هو أرفع دواوين المال وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع هذا الديوان وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه وإليه يرجع أمر الاستيمار الذي يشتمل على أرزاق ذوي الأقلام وغيرهم. مياومة ومشاهرة ومسانهنة من الرواتب وكانت أرزاق ذوي الأقلام مشاهرة من مبلاغ عين وغلة وكان لإعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله والخبز والعليق لدوابهم وكان لأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كلّ سنة والأضحية وفي شهر رمضان السكر والحلوى وأكثرهم نصيبًا الوزير وكان معلومه في الشهر مائتين وخمسين دينارًا جيشية مع الأصناف المذكورة والغلة وتبلغ نظير المعلوم. ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه وكان معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون دينارًا في كلّ شهر مضافًا لما بيدهم من المدارس التي يستدرون من وقافها وكان أيضًا يُصرف على سبيل الصدقات الجارية والرواتب الدارة على جهات ما بين مبلغ وغلة وخبز ولحم زيت وكسوة وشعير هذا سوى الأرض من النواحي التي يعرف المرتب عليها بالرزق الإحباسية وكانوا يتوارثون هذه المرتبات ابنًا عن أب ويرثها الأخر عن أخيه وابن العم عن ابن العمّ بحيث أن كثيرًا ممن مات وخرج ادراره من مرتبة لأجنبيّ لما جاء قريبه وقدّم قصته يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه. نظر البيوت: كان من الوظائف الجليلة وهي وظيفة متوليها منوط بالأستادار فكل ما يتحدث فيه أستادار السلطان فإنه يشاركه في التحدّث وهذا كان أيام كون الأستادار ونظره لا يتعدّى بيوت السلطان وما تقدّم ذكره فأما منذ عظيم قدر الأستادار ونفذت كلمته في جمهور أموال الدولة فإن نظر البيوت اليوم شيء لا معنى له. نظر بيت المال: كان وظيفة جليلة معتبرة وموضع متوليها التحدث في حمول المملكة مصرًا وشامًا إلى بيت المال بقلعة الجبل وفي صرف ما ينصرف منه تارة بالوزن وتارة بالتسبيب بالأقلام وكان أبدًا يصعد ناظر بيت المال ومعه شهود بيت المال وصيرفيّ بيت المال وكاتب المال إلى قلعة الجبل ويجلس في بيت المال فيكن له هناك أمر ونهي وحال جليلة لكثرة الحمول الواردة وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة وكانت أمرًا عظيمًا بحيث أنها بلغت في السنة نحو أربعمائة ألف دينار وكان لا يلي نظر بيت المال إلا من هو من ذوي العدالات المبرزة ثم تلاشى المال وبيت المال وذهب الإسم والمسمّى ولا يعرف اليوم بيت المال من القلعة ولا يُدرى ناظر بيت المال من هو. نظر الإصطبلات: هذه الوظيفة جليلة القدر إلى اليوم وموضعها الحديث في أموال الإصطبلات والمناخات وعليقها وأرزاق من فيها من المستخدمين وما بها من الاستعمالات والإطلاق وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها وأوّل من استجدّها الملك الناصر محمد بن قلاون وهو أوّل من زاد في رتبة أميراخور واعتنى بالأوجاقية والعرب الركابة وكان أبوه المنصور قلاون يرغب في خيل برقة أكثر من خيل العرب زينة بخلاف الناصر محمد فإنه شغف باستدعاء الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل وغيرهم وبسببها كان يبالغ في إكرام العرب ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحدّ في ذلك فكثرت رغبة آل مهنا وغيرهم في طلب خيول من عداهم من العربان وتتبعوا عتاق الخيل من مظانها وسموحوا بدفع الأثمان الزائدة على قيمتها حتى أتتهم طوائف العرب بكرائمِ خيولهم فتمكنت آل منا من السلطان وبلغوا في أيامه الرتب العلية وكان لا يحب خيول برقة وإذا أخذ منها شيئًا أعدّه للتفرقة على الأمراء البرّانيين ولا يُسمح بخيول آل مهنا إلاّ لأعز الأمراء وأقربّ الخاصكية منه وكان جيد المعرفة بالخيل شياتها وأنسابها لايزال يذكر أسماء من أحضرها إليه ومبلغ ثمنها فلما اشتهر عنه ذلك جلب إليه أهل البحرين والحساء والقطيف وأهل الحجاز والعراق كرائم خيولهم فدفع لهم في الفرس من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم عنها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب سوى ما ينعم به على مالكه من الثياب الفاخرة له ولنسائه ومن السكر ونحوه فلم تبق طائفة من العرب حتى قادت إيه عتاق خيلها وبلغ من رغبة السلطان فيها أنه صرف في أثمانها دفعة واحدة من جهة كريم الدين ناظر الخاص ألف ألف درهم في يوم واحد وتكرّر هذا منه غير مرّة وبلغ ثمن الفرس الواحد من خيول آل مهنا الستين ألف درهم والسبعين ألف درهم واشترى كثيرًا من الحجور بالثمانين ألفًا والتسعين ألفًا واشترى بنت الكرشاء بمائة ألف درهم عنها خمسة آلاف مثقال من الذهب هذا سوى الإنعامات بالضياع من بلاد الشام وكان من عنايته بالخيل لا يزال يتفقدها بنفسه فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى الجشار وتنزى الفحول المعروفة عنده على الحجور بين يديه وكتّاب الإصطبل تؤرّخ تاريخ نزوها واسم الحصان والحجرة فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن الجلب ومع ذلك فلم تكن عنده في منزلة ما يُجلب منها وبهذا ضخمت سعادة آل مهنا وكثرت أموالهم وضياعهم فعزّ جانبهم وكثر عددهم وهابهم من سواهم من العرب وبلغت عدّة خيول الجشارات في أيامه نحو ثلاثة آلاف فرس وكان يعرضها في كلّ سنة ويدوّغ أولادها بين يديه ويُسلمها للعربان الركابة ويُنعم على الأمراء الخاصكية بأكثرها ويتبجح بها ويقول: هذه افلانة بنت فلان وهذا فلان بن فلانة وعمره كذا وشراء أم هذا كذا وكذا كان لا يزال يؤكد على الأمراء في تضمير الخيول ويلزم كلّ أمير أن يضمر أربعة أفراس ويتقدّم لأميراخور أن يضمر للسلطان عّة منها ويوصيه بكتمان خبرها ثم يشيع أنها لأيدغمش أميراخور ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق خشية أن يسبقها فرس أحد من الأمراء فلا يحتمل ذلك فإنه ممن لا يطيق شيئًا ينقص ملكه وكان السباق في كلّ سنة بميدان القبق ينزل بنفسه وتحضر الأمراء بخيولها المضمرة فاتفق أنه كان عند الأمير قطلو بغا الفخري حصان ادهم سبق خير مصر كلها في ثلاث سنين متوالية أيام السباق وبعث إليه الأمير مهنا فرسًا شهباء على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان وإن سبقها فرس ردّت إليه ولا يركبها عند السابق إلاّ بدوي قادها فركب السلطان للسباق في أمرائه على عادته ووقف معه سليمان وموسى ابنا مهنا وأرسلت الخيول من بكرة الحاج على عادتها وفيها فرص مهنا وقد ركبها البدويّ عريًا بغير سرج فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج والبدويّ عليها بقميص وطاقية فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ: السعادة لك اليوم يا مهنا لا شقيت. فشق على السلطان أن خيله سُبقت وأبطل التضمير من خيله وصارت الأمراء تضمر على عادتها ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريت والقرشيات سوى أتباعها. وبطل بعده السباق فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضًا ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل. ديوان الإنشاء: وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء يجلس فيه كاتب السرّ وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار ويُحمل إليهم من المطبخ السلطانّي المطاعم وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ إلى نحو السبعين والسبعمائة فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عاة اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة وهُجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق وبيعت بالقنطارن ونسي رسمها وكتابة السرّ رتبة قديمة ولها أصل في السنّة فقد خرج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في تاب المصاحف من حديث الأعمش عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد فهل تستطيع أن تُعَلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية " فقلت نعم. قال: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها ما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها وله تصريف المراسيم ورودًا وصدورًا وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس. فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عندما عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير وإليهترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصرًا وشامًا فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لابد من مشاورته فيه وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير فلما عظم تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ أجلّ الرتب وذلك أنها منتزعة من الملك. فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدون بأمروهم فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات فجلّت لذلك رتبته وعظمت من الدولة مكانته وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء ويُطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء وتارة كاتب السرّ ومرجع هذا الديوان إلى الوزير وكان يُقال له الديوان العزيز وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء. وكان في الدولة السلجوقية يُسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ويستغني بها عن علامة السلطان وهي لفظة فارسية وفي بلاد المغرب يقال لرئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى وأما مصر فإنه كان بها في القديم لما كانت دار إمارة ديوان البريد ويقال لمتوليه صاحب البريد وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب وهو الذي يطالع بأخبار مصر وكان الأمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع على قصص الرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله فوقع وجعل أمر فوض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب بن كلس فاستبدّ بجميع أحوال المملكة وجرى مجرى يحيى بن جعفر البرمكيّ وكان يوقع. ومع ذلك ففي أمراء الدولة من يلي البريد وجرى الأمر فيما بعد على أن الوزراء يوقعون وقد يوقع الخليفة بيده فلما كانت أيام المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وصرف أبا جعفر محمد بن جعفر بن المغربيّ عن وزارته أفرد له ديان الإنشاء فوليه مدّة طويلة وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجماليّ وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني فاقتدت بهم الدولة الأيوبية ثم الدولة التركية في ذلك وصار الأمر على هذا إلى اليوم وصار متولي رتبة كتابة السرّ أعظم أهل الدولة إلا أنه في الدولة التركية يكون معه من الأمراء واحد يقال له الدوادرا منزلته منزلة صاحب البريد في الزمن الأوّل ومنزلة كاتب السرّ منزلة صاحب ديوان الإنشاء إلاّ أنه يتميز بالتوقيع على القصص تارة بمراجعة السلطان وتارة بغير مراجعة فلذلك يحتاج إليه سائر أهل الدولة من أرباب السيوف والأقلام ولا يستغني عن حسن سفارته نائب الشام فمن دونه ولله الأمر كله. وأما في الدولة الأيوبية فإن كتاب الدرج كانوا في الدولة الكاملية قليلين جدًا وكانوا في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس واتُفق أن الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات فصرفه من ديوان الإنشاء وقال: هذا الديوان لا يحتمل مثل هذا. وكانت العادة أن لا يحضر كتاب الإنشاء الديوان يوم الجمعة فعُرض للملك الصالح في بعض أيام الجمع شغل مهم فطلب بعض الموقعين فلم يجد أحدًا منهم فقيل له أنهم لا يحضرون يوم الجمعة فقال: استخدموا في الديوان كاتبًا نصرانيًا يقعد يوم الجمعة لمهم يطرأ فاستخدم الأمجد بن العسال كاتب الدرج لهذا المعنى. نظر الجيش: قد تقدّم أنّه كان يجلس بالقلعة دواوين الجيش في أيام الموكب وتقدّم في ذكر الإقطاعات وذكر النيابة ما يدل على حال متولي نظر الجيش ولا بدّ مع ناظر الجيش أن يكون من المستوفين من يضبط كليّات المملكة وجزئياتها في الإقطاعات وغيرها. نظر الخاص: هذه الوظيفة وإن كان لها ذكر قديم من عهد الخلفاء الفاطميين فإن متوليها لم يبلغ من جلالة القدر ما بلغ إليه في الدولة التركية وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أبطل الوزارة واقام القاضي كريم الدين الكبير في وظيفة نظر الخاص صار متحدّثًا فيما هو خاص بمال السلطان يتحدث في مجموع الأمر الخاص بنفسه وفي القيام بأخذ رأيه فيه فبقي تحدّثه فيه وبسببه كأنه هو الوزير لقربه من السلطان وزيادة تصرفه. وإلى ناظر الخاص التحدّث في الخزانة السلطانية وكانت بقلعة الجبل وكانت كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة وكان نظر الخزانة منصبًا جليلًا إلى أن استحدثت وظيفة نظر الخاص فضعف أمر نظر الخزانة وأمر الخزانة أيضًا وصارت تُسمى الخزانة الكبرى وهو اسم أكبر من مسماه ولم يبق بها إلا خُلع يُخلع منها أو ما يحضر غليها ويصرف أوّلًا فأوّلًا وصار نظر الخزانة مضافًا إلى ناظر الخاص وكان الرسم أن لا يلي نظر الخزانة إلاّ القضاة أو من يلحق بهم وما برحت الخزانتة بقلعة الجبل حتى عملها الأمير منطاش سجنًا لمماليك الظاهر برقوق في سنة تسعين وسبعمائة فتلاشت من حينئذٍ ونُسي أمرها وصارت الخلع ونحوها عند ناظر الخاص في داره وكانت لأهل الدولة في الخلع عوايد وهم على ثلاثة أنواع أرباب السيوف والأقلام والعلماء فأما أرباب السيوف فكانت خلع أكابر أمراء المئين الأطلس الأحمر الروميّ وتحته الأطلس الأصفر الروميّ وعلى الفوقانيّ طرز زركش ذهب وتحته سنجاب وله سجف من ظاهره مع الغشاء قندس وكلوتة زركش بذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به في طرفيه حرير أبيض مرقوم بألقاب السلطان مع نقوش باهرة من الحرير الملوّن مع منطقة ذهب ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم فأعلاها ما عُمل بين عُمُدِها بواكبر وسطى ومجنبتان بالبلخس والزمرد واللؤلؤ ثم ما كان ببيكارية واحدة مرصعة ثم ما كان ببيكارية واحدى غير مرصعة. وأما من تقلد ولاية كبيرة منهم فإنه يزاد سيفًا محلى بذهب يحضر من السلاح خاناه ويحليه ناظر الخلوص ويزاد فرسًا مسرجًا ملجمًا بكنبوش ذهب والفرس من الإصطبل وقماشه من الركاب خاناه ومرجع العمل في سروج الذهب والكنابيش إلى ناظر الخاص. وكان رسم صاحب حماه من أعلى هذه الخلع ويُعطى بدل الشاش اللانس شاش من عمل الإسكندرية حرير شبيه بالطول ويُنسج بالذهب يُعرف بالمثمر ويُعطى فرسين أحدهما كما ذكر الآخر يكون عوض كنبوشه زناري أطلص أحمر وكانت لنائب الشام على ما استقرّ في أيام ودون هذه الرتبة في الخلع نوع يُسمىّ طرزوحش يُعمل بدار الطراز التي كانت بالإسكندرية وبمصر وبدمشق وهو مجوّخ جاخات كتابة بألقاب السلطان وجاخات طرزوحش وجاخات أوان بقصب مذهب يفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز هذا يكون من القصب وربما كبر بعضهم فركب عليه طرازًا مزركشًا بالذهب وعليه فرو سنجاب وقندسكما تقدّم وتحت القباء الطرزوحش قباء من المقترح الإسكنداراني الطرح وكلوتة زركش بكلاليب وشاش على ما تقدّم وحياصة ذهب فتارة تكون ببيكارية وتارة لا يكون بها بيكارية وهذه لأصاغر أمراء المئين ومن يلحق بهم. ودون هذه الرتبة في الخلع كمخًا عليه نقش من لون آخر غير لونه وقد يكون من نوع لونه بتفاوت بينهما وتحته سنجاب بقندس والبقية كما تقدّم إلا أن الحياصة والشاش لا يكونان بأطراف رقم بل تكون مجوّخة بأخضر وأصفر مذهب والحياصة لا تكن ببيكارية. ودون هذه المرتبة كمخًا تكون واحدة بسنجاب مقندس والبقية على ما ذكر وتكون الكلوتة خفيفة الذهب وجانباها يكاد أن يكونان خاليين بالجملة ولا حياصة له. ودون هذه الرتبة مجوّم لون واحد والبقية على ما ذكر خلا الكلوتة والكلاليب. ودون هذه الرتبة مجوم مقندس وهو قباء ملوّن بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق وغير ذلك من الألوان بسنجاب وقندس وتحته قباء إمّا أزرق أو أخضر وشاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدّم ذكره ثم دون هذا من هذا النوع. وأما الوزراء والكتاب فأجلّ ما كانت خلعهم الكمخا الأبيض المطرّز برقم حرير ساذج وسنجاب مقندس وتحته كمخا أخضر وبقيار كان من عمل دمياط مرقوم وطرحه. ثم دون هذه الرتبة عدم السنجاب بل يكون القندس بدائر الكمين وطول الفرج ودونها ترك الطرحة ودونها أن يكون التحتانيّ مجومًا ودون هذا أن يكون الفوقانيّ من الكمخا لكنه غير أبيض ودونه أن يكون الفوقانيّ مجومًا أبيض ودونه أن يكون تحته عنابيّ. وأما القضاة والعلماء فإن خلعهم من الصوف بغير طراز ولهم الطرحة وأجلّهم أن يكون أبيض وتحته أخضر ثم ما دون ذلك وكانت العادة أن أهبة الخطباء وهي السواد تُحمل إلى الجوامع من الخزانة وهي دلق مدوّر وشاش أسود وطرحة سوداء وعلمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب وثياب المبلغ قدّام الخطيب مثل ذلك خلا الطرحة وكانت العادة إذا خَلِقَت الأهبة المذكورة أعيدت إلى الخزانة وصرف عوضها وكانت للسلطان عادات بالخلع: تارة في ابتداء سلطنته وتشمل حينئذٍ الخلع سائر أرباب المملكة بحيث خُلع في يوم واحد عند إقامة الأشرف كجك بن الناصر محمد بن قلاون ألف ومائتا تشريف في وقت لعبه بالكرة على أناس جرت عوايدهم بالخلع في ذلك الوقت كالجوكندارية والولاة ومن له خدمة في ذلك وتارة في أوقات الصيد عندما يسرح فإذا حصل أحد شيئًا مما يصيده خلع عليه وإذا أحضر أحد غزالًا أو نعامًا خلع عليه قباء مسجفًا مما يناسب خلعة مثله على قدره وكذلك يخلع على البزدارية وجملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كلّ صيد. وكانت العادة أيضًا أن ينعم على الغلمان الطشت خاناه والشراب خاناه والفراش خاناه ومن يجري مجراهم في كلّ سنة عند أوان الصيد. وكانت العادة أن من يصل إلى الباب من البلاد أو يرد عليه أو يهاجر من مملكة أخرى إليه أن ينعم عليه من الخلع بأنواع الإدرارات والأرزاق والإنعامات وكذلك التجار الذين يصلون إلى السلطان ويبيعون عليه لهم من الخلع الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات بنظير كلّ ما يباع من الرقيق المماليك والجواري مع ما يُسامحون به أيضًا من حقوق أخرى تطلق وكلّ واحد من التجار إذا باع على السلطان ولو رأسًا واحدًا من الرقيق فله خلعة مكملة بحسبه خارجًا عن الثمن وعما يُنعم به عليه أو يسفر به من مال السبيل على سبيل القرض ليتاجر به. وأما جلاّبة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين وبرقة وبلاد المغرب فإن لهم الخلع والرواتب والعلوفات والنزال ورسوم الإقامات خارجًا عن مسامحات تكتب لهم بالمقرّرات عن تجارة يتجرون بها مما أخذوه من أثمان الخيول وكان يثمَّنُ الفرس بأزيد من قيمته حتى ربما بغل ثمنه على السلطان الذي يأخذه محضره نظير قيمته عليه عشر مرّات غير الخلع وسائر ما ذكر ولم يبق اليوم سوى ما يخلع على أرباب الدولة وقد استجدّ في الأيام الظاهرية وكثر في أيام الناصر فرج نوع من الخلع يُقال له الجبة يلبسه الوزير ونحوه من أرباب الرتب العلية جعلوا ذلك ترفعًا عن لبس الخلعة ولم تكن الملوك تلبس من الثياب إلا المتوسط وتجعل حوائصها بغير ذهب فلم تزد حياصة الناصر محمد على مائة درهم فضة ولم يزد أيضًا سقط سرجه على مائة درهم فضة على عباءة صوف تدمري أو شامي فلما كانت دولة أولاده بالغوا في الترف وخالفوا فيه عوايد أسلافهم ثم سلك الظاهر برقوق في ملابسه بعض ما كان عليه الملوك الأكابر لا كله وترك لبس الحرير. الميدان بالقلعة: هذا الميدان من بقايا ميدان أحمد بن طولون الذي تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب ثم بناه الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة إحدى عشرة وستمائة وعمر إلى جانبه بُرَكًا ثلاثًا لسقيه وأجرى الماء إليها ثم تعطل هذا الميدان مدّة فلما قام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر محمد بن الكامل محمد اهتم به ثم اهم به الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل اهتمامًا زائدًا وجدّد له ساقية أخرى وأنشأ حوله الأشجار فجاء من أحسن شيء يكون إلى أن مات فتلاشى أمر الميدان بعده وهدمه الملك المعز ابتدأ الملك الناصر محمد بن قلاون عمارته فاقتطع من باب الإصطبل إلى قريب باب القرافة وأحضر جميع جمال الأمراء فنقلت إليه الطين حتى كساه كله وزرعه وحفر به الآبار وركب عليها السواقي وغرس فيه النخل الفاخر والأشجار المثمرة وأدار عليه هذا السور الحجر الموجود الآن وبنى حوضًا للسبيل من خارجه فلما كما ذلك نزل إليه ولعب فيه الكرة مع أمرائه وخلع عليهم واستمرّ يلعب فيه يومي الثلاثاء والسبت وصار القصر الأبلق يُشرف على هذا الميدان فجاء ميدانًا فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه وإذا ركب السلطان إليه نزل من درج تلي قصره الجوّاني فينزل السلطان إلى الإصطبل الخاص ثم إلى هذا الميدان وهو راكب وخواص الأمراء في خدمته فيعرض الخويل في أوقات الإطلاقات ويلعب فيه الكرة وكان فيه عدّة أنواع الوحوش المستحسنة المنظر وكانت تربط به أيضًا الخيول للتفسح وفي هذا الميدان يُصلي السلطان أيضًا صلاة العيدين ويكون نزوله إليه في يوم العيد وصعوده من باب خاص من دهليز القصر غير المعتاد النزول منه فإذا ركب من باب قصره ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى هذا الميدان ينزل في دهليز سلطانيّ قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة فيُصليّ ويسمعُ الخطبة ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير ويمدّ به السماط ويخلع على حامل القبة والطير وعلى حامل السلام والاستادار والجاشنكير وكثير من أرباب الوظائف وكانت العادة أن تُعد للسلطان أيضًا خلعة العيد على أنه يلبسها كما كانت العادة في أيام الخلفاء فينعم بها على بعض أكابر أمراء المئين ولم يزل الحال على هذا إلى أن كانت سنة ثمانمائة فصلَّى الملك الظاهر برقوق صلاة عيد النجر بجامع القلعة لتخوّفه بعد واقعة الأمير علي باي فهجر الميدان واستمرّت صلاة العيد بجامع القلعة من عامئذ طول الأيام الناصرية والمؤيدية. الحوش: ابتديء العمل فيه على أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وكان قياسه أربعة فدادين وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة حتى صارت غورًا كبيرًا ولما شُرع في العمل رتب على كلّ أمير من أمراء المئين مائة رجل ومائة بهيمة لنقل التراب برسم الردم وعلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه بحسبه وندب الأمير أقبغا عبد الواحد شاد العمل فحضر من عند كلّ من الأمراء أستاداره ومعه جنده ودوا به للعمل وأحضر الأساري وسخر والي القاهرة ووالي مصر الناس وأحضرت رجال النواحي وجلس استاار كلّ أمير في خيمة ووزع العمل عليهم بالأقصاب ووقف الأمير أقبغا يستحث الناس في سرعة العمل وصار الملك الناصر يحضر في كلّ يوم بنفسه فنال الناس من العمل ضرر زائد وأخرق أقبغا بجامعة من أمائل الناس ومات كثير من الرجال في العمل لشدّة العسف وقوّة الحرّ وكان الوقت صيفًا فانتهى عمله في ستة وثلاثين يومًا وأُحضر إليه من بلاد الصعيد ومن الوجه البحريّ ألفي رأس غنم وكثيرًا من الأبقار البلق لتوقف في هذا الحوض فصار مراح غنم ومربط بقر وأجرى الماء إلى هذا الحوش من القلعة وأقام الأغنام حوله وتبع في كلّ المراحات من عيذاب وقوص إلى ما دونهما من البلاد حتى يؤخذ ما بهما من الأغنام المختارة وجلبها من بلاد النوبة ومن اليمن فبلغت عدّتها بعد موته ثلاثين ألف رأس سوى اتباعها وبلغ البقل الأخضر الذي يُشترى لفراخ الإوز في كلّ يوم خمسين درهمًا عنها زيادة على مثقالين من الذهب. فلما كانت أيام الظاهر برقوق عمل المولد النبويّ بهذا الحوض في أوّل ليلة جمعة من شهر ربيع الأول في كلّ عام فإذا كان وقت ذلك ضربت خيمة عظيمة بهذا الحوض وجلس السلطان وعن يمينه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقيني ويليه الشيخ المعتقد إبراهيم برهان الدين بن محمد بن بهادر بن أحمد بن رفاعة المغربيّ ويليه ولد شيخ الإسلام ومن دونه وعن يسار السلطان الشيخ أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزريّ المغربيّ ويليه قضاة القضاة الأربعة وشيوخ العلم ويجلس الأمراء على بعد من السلطان فإذا فرغ القراء من قراءة القرآن الكريم قام المنشدون واحدًا بعد واحد وهم يزيدون على عشرين منشدًا فيدفع لكل واحد منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة ومن كلّ أمير من أمراء الدولة شقة حرير فإذا انقضت صلاة المغرب مدّت أسمطة الأطعمة الفائقة فأكلت وحمل ما فيها ثم مدّت أسمطة الحلوى السكرية من الجواراشات والعقائد ونحوها فتُؤكل وتخطفها الفقهاء ثم يكون تكميل إنشاد المنشدين ووعظهم إلى نحو ثلث الليل فإذا فرغ المنشدون قام القضاة وانصرفوا وأقيم السماع بقية الليل واستمرّ ذلك مدّة أيامه ثم أيام ابنه الملك الناصر فرج.
|