الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الدرر في اختصار المغازي والسير
.غزوة بني قريظة: فخرج المسلمون مبادرين إلى بني قريظة، فطائفة خافوا فوات الوقت فصلوا، وطائفة قالوا: والله لا صلينا العصر إلا في بني قريظة، فبذلك أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتهادهم فلم يعنف واحدا منهم، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية علي بْن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، وسمعوا سب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرف علي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وَعَرَّضَ له، فقال له: «أَظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ شَتْمِي، لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ» ونهض إليهم، فلما رأوه، أمسكوا، فقال لهم: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته»، فقالوا: ما كنت جاهلا يا مُحَمَّد فلا تجهل علينا، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بْن أسد ثلاث خصال ليختاروا أيها شاءوا: إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا، قَالَ: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا فيقاتلوا حتى يموتوا عن آخرهم، وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا، فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدى في السبت، ثم بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بْن عوف وسائر الأوس، فأتاهم، فجمعوا إليه أبناءهم ورجالهم ونساءهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم مُحَمَّد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح إن فعلتم، ثم ندم أَبُو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فربط نفسه في سارية وأقسم لا يبرح مكانه حتى يتوب الله عليه، فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة، قَالَ ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} وأقسم أن لا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذم، فلما بلغ ذلك النبيَّ من فعل أبي لبابة، قَالَ: «أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، وَأَمَّا إذ فعل فلست أُطْلِقُهُ حتى يطلقه الله» فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية، فلما نزل فيه القرآن، أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإطلاقه، ونزل في تلك الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بْن عبيد، وهم نفر من هدل بني عم قريظة والنضير، وليسوا من قريظة والنضير، نزلوا مسلمين فأحرزوا أموالهم وأنفسهم، وخرج في تلك الليلة عمرو بْن سعدي القرظي، ومر بحرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه مُحَمَّد بْن مسلمة، وكان قد أبى أن يدخل فيما دخل فيه بنو قريظة، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال له مُحَمَّد بْن مسلمة إذ عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذهب فلم يُرَ بعد ولم يعلم حيث سقط، وَذُكِرَ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره، فقال: «ذلك رجل نجاه الله بوفائه»، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتواثب الأوس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: يا رسول الله، قد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد شَفَّعْتَ عَبْدَ اللهِ بْن أبي بْن سلول في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر الأوس، ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى، قَالَ: «فذلك إلى سعد بْن معاذ»، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق، فلما حَكَّمَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحاطوا به في طريقهم، يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنما ولاك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لتحسن إليهم، فقال لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من معه إلى ديار بني عَبْد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة، فلما أطل سعد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ للأنصار: قوموا إلى سيدكم، فقام المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا: نعم، قَالَ: وعلى من هنا؟ من الناحية التي فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو معرض عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالا له، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم»، قَالَ سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة»، وأمر بهم رسول الله فأخرجوا إلى موضع سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم النبي عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذ حيي بْن أخطب، وكعب بْن أسد، وكانوا من الست مائة إلى السبع مائة، وقتل من نسائهم امرأة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي، التي طرحت الرحى على خلاد بْن سويد فقتلته، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل كل من أنبت منهم، وترك كل من لم ينبت، وكان عطية القرظي من جملة من لم ينبت، فاستحياه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مذكور في الصحابة، ووهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بْن قيس بْن الشماس ولد الزبير بْن باطا فاستحياهم، منهم عَبْد الرحمن بْن الزبير، أسلم وله صحبة، ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بْن سموءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سليط بْن قيس، من بني النجار، وكانت قد صلت القبلتين، فأسلم رفاعة، وله صحبة ورواية، وقسم عليه السلام أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما، وقد قيل للفارس سهمان، وللراجل سهم، وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثون فرسا، ووقع للنبي من سبيهم ريحانة بنت عمرو بْن خناقة إحدى بني عمرو بْن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس لله ورسوله، وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عَبْد اللهِ بْن جحش، والله أعلم، وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة بني قريظة أول غنيمة فيها الخمس بعد نزول قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، وكان عَبْد اللهِ قد خمس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل فعله، وذلك من فضائله رحمة الله عليه، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة، فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بْن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه فجرى دمه، ومات رضي الله عنه، وهو الذي أتى الحديث فيه أنه اهتز لموته عرش الرحمن، يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له..ذكر من استشهد من المسلمين يوم الخندق: سعد بْن معاذ أَبُو عمرو من بني عَبْد الأشهل، وأنس بْن أوس بْن عتيك، وعبد الله بْن سهل وكلاهما أيضا من بني عَبْد الأشهل، والطفيل بْن النعمان، وثعلبة بْن عنمة وكلاهما من بني سلمة، وكعب بْن زيد من بني دينار بْن النجار، أصابه سهم غرب فقتله..ذكر من قتل من المشركين يوم الخندق: وأصيب من المشركين يوم الخندق منبه بْن عثمان بْن عبيد بْن السباق بْن عَبْد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة، وقد قيل: إنما هو عثمان بْن أمية بْن منبه بْن عبيد بْن السباق، ونوفل بْن عَبْد اللهِ بْن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فقتل فيه، وعمرو بْن عَبْد ود قتله عَلِيٌّ مبارزة..شهداء يوم قريظة: واستشهد من المسلمين يوم قريظة خلاد بْن سويد بْن ثعلبة بْن عمرو، من بني الحارث بْن الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، ومات في الحصار أَبُو سنان بْن محصن، فدفنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقبرة بني قريظة التي يتدافن المسلمون السكان بها اليوم، ولم يصب غير هذين، ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق..بَعْثُ عَبْدِ اللهِ بْن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بْن أبي الحقيق اليهودي: وانقضى شأن الخندق وقريظة، وكان أَبُو رافع سلام بْن أبي الحقيق ممن حزب الأحزاب وألب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بْن الأشرف في عداوته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحول، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بذلك فضلا علينا، ولا ينتهون حتى يوقعوا مثله، وإذا فعلت الخزرج شيئا كفضل في الإسلام، أو بر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت الأوس مثل ذلك، فتذاكرت الخزرج مَنْ في العدواة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتله فأذن لهمْ، فخرج إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة وهم: عَبْد اللهِ بْن عتيك، وعبد الله بْن أنيس، وأبو قتادة بْن ربعي، ومسعود بْن سنان، وخزاعي بْن أسود حليف لهم من أسلم، وَأَمَّرَ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْن عتيك، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان، فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام في حصنه ساكنا في دار مع جماعة وهو في علية منها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب يطلبون الميرة، فقالت لهم: هذاكم صاحبكم فادخلوا، فلما دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم، فأيقنت بالشر وصاحت، فهموا بقتلها، ثم ذكروا نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والولدان فأمسكوا عنها، ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه أبيض في سواد الليل كأنه قبطية، ووضع عَبْد اللهِ بْن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني، ثم نزلوا، وكان عَبْد اللهِ بْن عتيك سيئ البصر، فوقع فَوَثِئَتْ رِجْلُهُ وَثَأً شَدِيدًا، فحمله أصحابه حتى أتوا منهرا من مناهرهم فدخلوا فيه واستتروا، وخرج أهل الآطام لصياح امرأته وأوقدوا النيران في كل جهة، فلما يئسوا رجعوا، فقال أصحاب ابن عتيك: كيف لنا أن نعلم أن عدو الله قد مات ؟ فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأة ابن أبي الحقيق تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ قَالَ: ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاظ وإله يهود، قَالَ: فسررت، وانصرفت إلى أصحابي فأخبرتهم بذلك، فرجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه، وتداعوا في قتله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاتوا أسيافكم» فأروه إياها، فقال عليه السلام عن سيف عَبْد اللهِ بْن أنيس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» وحديث البراء بْن عازب في قتل ابن أبي الحقيق بخلاف هذا المساق، والمعنى واحد..غزوة بني لحيان: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد فتح بني قريظة بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعا الآخر، وخرج عليه السلام في جمادى الأولى في الشهر السادس من فتح بني قريظة، وهو الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، قاصدا إلى بني لحيان، مطالبا بثأر عاصم بْن ثابت، وخبيب بْن عدي، وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فسلك عليه السلام على طريق الشام من المدينة على جبل يقال له غراب، ثم أخذ ذات الشمال، ثم سلك المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى أتى وادي غران بين أمج وعسفان، وهي منازل بني لحيان، فوجدوهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فتمادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مائتي راكب حتى نزل عسفان، وبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين من أصحابه فارسين حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجعا، ورجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلا إلى المدينة، وفي غزوة بني لحيان قالت الأنصار: المدينة خالية منا، وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدوا يخالفنا إليها، فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله عز وجل..غزوة ذِي قَرَدَ: ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بني لحيان، لم يبق بالمدينة إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بْن حصن في بني عَبْد اللهِ بْن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري، وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من أنذرهم سلمة بْن عمرو بْن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار وأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء عظيما حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت الصيحة بالمدينة، فكان أول من جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حين الصيحة المقداد بْن الأسود، ثم عباد بْن بشر وسعد بْن زيد الأشهليان، وأسيد بْن ظهير الأنصاري، وعكاشة بْن محصن الأسدي، ومحرز بْن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بْن ربعي، وأبو عياش الزريقي، واسمه عبيد بْن زيد بْن صامت، فلما اجتمعوا أَمَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم سعد بْن زيد، وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فرس أبي عياش الزريقي معاذ بْن ماعص أو عائذ بْن ماعص، وكان أحكم للفروسية من أبي عياش، فأول من لحق بهم محرز بْن نضلة الأخرم، فقتل رحمه الله، قتله عَبْد الرحمن بْن عيينة بْن حصن، وكان على فرس لمحمود بْن مسلمة أخي مُحَمَّد بْن مسلمة، أخذه وكان صاحبه غائبا، فلما قتل رجع الفرس إلى آريه في بني عَبْد الأشهل، وقيل: بل أخذ الفرس عَبْد الرحمن بْن عيينة إذ قَتَلَ مُحْرِزَ بْن نضلة عليه وركبه، ثم قتل سلمة بْن الأكوع عَبْد الرحمن بْن عيينة بالرمي في خرجته تلك، واسترجع الفرس، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس لأبي طلحة، وقال: «إِنْ وَجَدْتُهُ لَبَحْرًا»، وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماء يقال له: ذو قَرَدَ، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام على ذلك الماء يوما وليلة، وكان الفضل في هذه الغزاة، والفعل الكريم، والظهور، والبلاء الحسن لسلمة بْن الأكوع، وَكُلُّهُمْ ما قَصَّرَ رضي الله عنهم، وكان المشركون قد أخذوا ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء في غارتهم تلك على سرح المدينة نجوا بها وبتلك المرأة الغفارية الأسيرة، امرأة الغفاري المقتول، وقد قيل: إنها لم تكن امرأة الغفاري المقتول، وإنما كانت امرأة أبي ذر، والأول قول ابن إسحاق وأهل السير، قَالَ: فنام القوم ليلة، وقامت المرأة فجعلت لا تضع شيئا على بعير إلا رغا، حتى أتت العضباء، فإذا ناقة ذلول، فركبتها، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة، عُرِفَتْ نَاقَةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخْبِرَ بذلك، فأرسل إليها، فجيء بها وبالمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرتُ إن نجاني الله أن أنحرها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بئس ما جَزَيْتِهَا، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم»، وأخذ ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|