الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية
.خطتنا في هذا البحث: لما كانت الشورى بهذا المكان من الأهمية فقد استجبنا لطلب الكتابة حول هذا الموضوع، وكانت خطتنا في ذلك على النحو التالي:تناولنا بحث هذا الموضوع (الشورى) في ثلاثة فصول:الفصل الأول: وفيه لمحة تاريخية عن الشورى في حياة الأمم.الفصل الثاني: اشتمل على مبحثين، خصصنا المبحث الأول للتعريف بالشورى لغة واصطلاحاً، وفي المبحث الثاني أتينا ببيان مشروعية الشورى.الفصل الثالث: وفيه أوردنا الشورى في الأمور العامة، وتناولنا ذلك في عدة مباحث:المبحث الأول: خصصناه لبيان الشورى في التشريع.المبحث الثاني: أوردنا فيه بيان الشورى في الوظائف العامة.المبحث الثالث: بينّا فيه الشورى في القضاء والحكم.المبحث الرابع: وفيه أوردنا الشورى في الحرب.المبحث الخامس: وفيه بيان من هم أهل الشورى في ذلك؟المبحث السادس: أوضحنا فيه الكيفية التي تتم بها الشورى.المبحث السابع: بينّا فيه نتيجة الشورى ومدى إلزامية ذلك.الفصل الرابع: خصوصية الشورى وأهمية تعليمها.المبحث الأول: خصوصية الشورى ومنفعتها في الأسرة والمجتمع.المبحث الثاني: تعليم الشورى واتخاذها منهجاً تعليمياً..الفصل الأول: لمحة تاريخية عن الشورى: لمحة تاريخية وجيزة عن الشورى في حياة الأمم:إنه من المعلوم لكل العقلاء أن تداول الرأي في كل أمر يترتب عليه إصلاح شئون الأمة أفراداً وجماعات في شتى مجالات الحياة وعلى مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والصحية والاقتصادية والعسكرية... إلخ. ضرورة لا بد منها، ذلك لأن الناس يعيشون في بيئات مختلفة ويكتسبون بمقتضى ذلك خبرات متنوعة ويحملون مواهب متعددة بأفهام متباينة فالإنسان لا يستغني بنفسه عن غيره خاصة في الأمور الهامة والعامة والتي لا بد فيها من الاستفادة من قرائح ومعارف ومهارات، ولكل عقل ميزة، ومن طبيعة الشورى أن تتعدد فيها الآراء وتجول فيها الأفكار ويستفاد من عقول الناس وتجربتهم وخبرتهم صواب الرأي وسداده، وتداول الرأي في الحوادث مارسته شعوب منذ أقدم العصور فمارسه العرب والفرس والمصريون والهنود والرومان، ومارسه الملوك الفراعنة ومارسها الصينيون كما يشير الحكيم الصيني (صون توزور) منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد إلى التشاور والتباحث فيقول: فعندما يجري التجنيد العسكري لتأديب العابثين بحرمة البلد والأمة فإن أهل الحل والربط في ساعات البت العسكري لحاجة الدفاع أو حاجة الردع للعدو يجتمعون في المعبد الديني من أجل التشاور والبحث في صلاح الحكم القائم في البلد أو عدم صلاحه، ومدى ثقة الأمة بذلك العهد الحاكم، ثم يجري بحث أحوال الطقس وتقلباته في ذلك الفصل من مواسم السنة ثم يبحثون طبيعة الأرض وميادين القتال، وبعد مذاكرة هذه العوامل الثلاثة مذاكرة ودراسة وافية يجري اختيار القائد العسكري للحملة ومسئولية الهجوم أو الردع.وقد استعملت عبارة أهل الحل والربط وهو ما يترادف مع أهل الحل والعقد في الإسلام، ثم تعيين مكان الاجتماع، وإنه المعبد ثم وضع جدول العمل وموضوعات البحث، ثم أول ما يجري فيه التشاور صلاح الحكم أو عدم صلاحه وهذا أساس في مواجهة الأعداء فإن الحكم الفاسد غير قادر على الصمود في الحرب، ثم بحث الزمان وجو المعركة وجو الطقس وتقلباته، ثم صلاح ميادين المعركة أي طبيعة الأرض وميادين القتال، ثم اختيار القائد المناسب الجدير بالقيادة بسبب كفاءته.وقد نقل القرآن الكريم بعض نماذج عن أخذ الرأي، من ذلك قصة ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلام وما حكى الله عنها حينما ألقى الهدهد كتاب سليمان إليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}، وكتاب سليمان عليه السلام واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان للحق سبحانه وتعالى بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام، وأن بلقيس دعت الملأ من قومها، وهم أشراف الناس من قومها ووجوه القوم وأهل الرأي، ذكر ذلك ابن جرير وغيره من أئمة التفسير، وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس، ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تستفرد بالرأي دونهم، دل على ذلك ما حكاه الله عنها حيث تقول: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} ونقل القرطبي عن قتادة قوله: ذُكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهم أهل مشاورتها كل رجل منهم على عشرة آلاف. كما نقل القرآن مشاورة ملك مصر في شأن رؤيا رآها فقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة.وهناك نموذج آخر حكاه القرآن الكريم عن فرعون حينما جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه، ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها دل على ذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} والنص واضح الدلالة أن حث الناس على الاجتماع واتباع السحرة كان مشروطاً بفوزهم على موسى عليه السلام بخلاف الملأ من قوم بلقيس فإنهم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}. ولعل فرعون مع نزعته الاستبدادية أراد مشاركتهم الجادة في الوصول إلى ما يريده ليشاركوه في نتيجة ما تسفر عنه المناظرة التي ربما كان يخشى سلفاً أنها قد لا تكون في صالحه تماماً، وكأن من طبيعة الجبابرة والمستبدين إملاء آرائهم والتحريض على الأخذ بها أو الاستعانة بالرأي على الأخذ بما ينزعون إليه، فطبيعة فرعون هي الاستعلاء والتجبر كما حكى الله عنه في أكثر من آية ففي سورة القصص حكى الله عنه إدعاء الألوهية بعد أن دعاه موسى إلى أن يتزكى ويدع إدعاء الألوهية {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} مع أن موسى عليه السلام دعاه إلى دين الحق وطالبه بأن يدين لإله يملك العالمين {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} وهكذا نجد فرعون قد ادعى الألوهية وتنكر لموسى عليه السلام وافتخر بعزة السلطان والملك الواسع فقال مباهياً مفتخراً: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} فكان من عاقبة استبداده إغراقه وجنوده في البحر {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} وآل الملك العظيم لغيره {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}.وهناك أمثلة كثيرة حكاها الله في أخذ المستبدين كقصة النمرود وغيره، ولقد جاء الإسلام فأراد هدم الاستبداد السياسي من أساسه، فها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه وفقير فخور» فالأول يمثل الاستبداد السياسي والثاني يمثل الطغيان المالي والثالث وهو الفقير الفخور يمثل خدم النظامين من الأتباع الذين يمشون في ركاب الكبراء والأغنياء المترفين إنهم صعاليك ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم، ولو ذهبنا نتتبع الشورى في العصور القديمة لاحتجنا إلى مجلدات ولكننا نكتفي بهذه اللمحة لندلل أن الشورى كانت موجودة في الأمم السابقة، وأما الشورى الإسلامية وإن لم تكن ابتكاراً إسلامياً فهي أمر يزكيه القرآن ويأمر به كي تكون الشورى سبيلاً إلى معالجة أمور الدنيا وسياستها في ما لا نص فيه، سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع، بين الحاكم والمحكومين وبين الناس بعضهم مع بعض، ولقد عرض القرآن الكريم لمعنى الشورى محبذاً أسلوبها ومزكياً نمط الحكم الملتزم بها، فكانت الشورى هي المصطلح الذي أوجز أغلب مفكري الأمة الإسلامية تحته فلسفة الحكم كما رآها الإسلام وارتضاها المسلمون منذ ظهور الإسلام وقيام الدولة العربية الأولى ومنذ نشأة التيارات الفكرية السياسية الإسلامية، وإلى فلسفة الشورى انحازت كذلك السنة النبوية فعبرت الأحاديث النبوية عن تحبيذها وامتداحها كما سيأتي بيان ذلك.وأخيراً فإن الفكر الإسلامي عني بالشورى وتطبيقات المسلمين المحدودة لفلسفتها وذلك ما يفتح باب الاجتهاد واسعاً أمام الأساليب والأشكال المنظمة لعملية التشاور، والأمل معقود على الحاضر والمستقبل لتحقيق الازدهار، للشورى فلسفة وسلوكاً في الشئون الخاصة والعامة في جميع البلدان الإسلامية بما يحقق للأمة مصلحتها ويكفل لها نهضتها وازدهارها حتى تأخذ مكانها بين الأمم وتؤدي الرسالة المناطة بها، وسيجد المتتبع لما سنأتي عليه في دراستنا عن الشورى ما يحث الأمة على العمل بالشورى وإحياء هذه الفريضة الربانية والسنة النبوية وأداء هذه الأمانة العظيمة ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم..الفصل الثاني: تعريف الشورى وبيان مشروعيتها:
|