.الفصل الثالث في قوله تعالى {وأذِّن في الناس بالحج}:
لما تكامل بناء البيت، أرسل الله تعالى إلى خليله، أدِّ رسالة
{وأذِّن} فَعَلا على أبي قبيس، ونادى في جميع الوجوه: إن ربكم قد بنى لكم بيتًا فحجوه، فأجاب من جرى القدر بحجه: لبيك اللهم لبيك. فكان ذلك اليوم. أخًا ليوم
{ألست بربكم}:
لما رأيت مناديهم ألم بنا ** شددت ميزر إحرامي ولبيتُوقلتُ للنفس جدي الآن واجتهدي ** وساعديني كهذا ما تمنيتُلو جئتكم زائرًا أسعى على بصري ** لم أقض حقًا وأي الحق أديتُقطع القوم بيد السفر
{بشقِّ الأنفس} فوافقهم الركاب
{وعلى كلِّ ضامرٍ}:
دعِ المطايا تنسم الجنوبا ** إن لها لنبأ عجيباحنينها وما اشتكت لوبا ** يشهدان قد فارقت حبيباما حملت إلا فتى كئيبا ** يسر مما أعلنت نصيبالو غادر الشوق لنا قلوبا ** أذن لأثرنا بهن النيباإن الغريب يسعد الغريباواعجبا من حنين النوق، كأنها قد علمت وجد الركاب، تارة تجد في السير، وتارة تتوقف، وتارة تذل وتطأطئ العناق، وتارة تمرح، كأنها قد استعارت أحوال العارفين:
اذكراها في سراها ما عراها ** فغدت تنفخ شوقًا في براهاتقطع البر وتنسى ما جنى ** سيرُها والسيرُ أمرٌ قد براهاكلما ظنت مني قد قربت ** وتدانت دارها طار كراهاأسعداها يا خليلي على ** ما دعاها في الهوى أو فدعاهاذكرا ما زال من عهد الصبى ** خلياها والصبا فهو رضاهاغنها يا أيها الحادي لها ** بالحمى أو بالنقا وانظر سراهانح عنها السوط يكفي شوقها ** قد رأت في نفسها ما قد كفاهاباعها الوجد بكثبان النقي ** عجبًا إذ باعها كيف اشتراهاأتراها علمتْ من حملتْ ** ليتها قد عرفت من في ذراهاأنتَ إن لاحت لك العلام قف ** فهي المقصود لا شيء سواهاقف على الوادي وسل عن كبدي ** كبدي واكبدي ماذا دهاهايا رفيقي اهدياني دارهم ** ودعاني ودعاني وثراهاأنا مقتول بسهم غرب ** قوسه خيف مني أو ما زماهاحُرِّم الصيد على من حجه ** فانظرا إلى مهجتي من قد رماهااكتبا في لوح قبري عشتما ** مهجة ماتت وما هالت مناهاأمر المحرمون بالتعري. ليدخلوا بزي الفقراء، فيبين أثر
{وما أموالكُم}:
من أعلم السايق العنيف بهم ** بأن روحي تساق مع أبلهوأن دمعي يروي ركايبهم ** لولا دم في انسكاب منهملهتالله لقد جمعوا الخير، ليلة جمع، ونالوا المنى إذ دخلوا منى:
لله در منى وما جمعت ** وبكا الأحبة ليلة النفرِثم اغتدوا فرقًا هنا وهنا ** يتلاحظون بأعين الذكرِما للمضاجع لا تلايمني ** وكأن قلبي ليس في صدريحج جعفر الصادق فأراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله؟ فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب.وقف مطرف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أني فيهم.وقام الفضيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب، قال: واسؤتاه منك وإن عفوت.وقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: ثم وحشة. قيل: فهذا يوم العفو عن الذنوب؟ فبسط يده فوقع ميتًا.
وانزل الوادي بأيمنه ** إنه بالدمع ملآنوارم بالطرف العقيق فلي ** ثم أوطار وأوطانوانشد القلب المشوق عسى ** يرجع المفقود نشدانوابك عني ما استطعت إذا ** ما بدا للطرف نعمانواقره عني السلام فكأن ** قلبي فيه سكانلا تزدني يا عذول جوى ** أنا بالأشواق سكرانحج الشبلي. فلما رأى مكة قال:
أبطحاء مكة هذا الذي ** أراه عيانًا وهذا أناثم غشي عليه فلما أفاق قال:
هذه دارهم وأنت محب ** ما بقاء الدموع في الإماقحج قوم من العباد فيهم عابدة فجعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فيقولون ألا ترينه:
إذا دنت المنازل زاد شوقي ** ولا سيما إذا دنت الخيامفلما لاح البيت، قالوا هذا بيت ربك، فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي. بيت ربي. حتى وضعت جبهتها على البيت، فما رفعت إلا ميتة:
هاتيك دارهم وهذا ماؤهم ** فاحبس ورد وشرقت إن لم تسقنيأودعت إقرارك يوم السبت الحجر الأسود، وأمرتُك بالحج لتستحي بالتذكير من نقض العهد، الحجر صندوق أسرار المواثيق، مستمل لما أملى المعاهد، مشتمل على حفظ العهد، فاستلم المستملي المشتمل، ليعلم أن إقرارك لا عن إكراه، لا تنس عهدي فإني لا أنساك:
فلا تحسبوا أني نسيت ودادكمُ ** فإني وإن طال المدى لست أنساكمُحفظنا وضيعتم ودادًا وحرمةً ** فلا كان من في هجرنا اليوم أغراكمُكم شخص أشخصه الوجد في الحج، فكاد نشابة المواثيق قبل تقبيله تقتله، فلما قضى الناسك المناسك، ورجع باقي سهم الشوق إليه في قلب منى المنى:
يكاد يمسكه عرفان راحته ** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمأخواني: ذكر تلك الأماكن يعمل في القلب قبل السمع، كأنها قد خلقت من طين الطبع، لسلع سلع لسع، ليس لعسل لعس: للمهيار:
هل مجابٌ يدعو مبدِّد أوطا ** ري بجمع يرد أيام جمعِأو أمين القوى أحمِّله هما ** ثقيلًا يحطُّه دون سلعِفافرُجا لي عن نفحةٍ من صباه ** طال مدى لها الصليف ورفعيإن ذاك النسيم يجري على أرضٍ ** ثراها في الريح رقيةُ لَسْعِكم زفير علمت منه حمام ** الدوح ما كان من حنين وسجعِوآخجل المتخلف، وآسف المسوف، أين حسرات البعد؟ أين لذعات الوجد؟.للخفاجي:
أتظن الورق في الأيك تغنِّي ** إنها تضمر حزنًا مثل حزنيلا أراك الله نجدًا بعدها ** أيها الحادي بنا إن لم تجبنيهل تباريني إلى بث الجوى ** في ديار الحي نشوي ذات غصنهب لها السبق ولكن زادنا ** أننا نبكي عليها وتغنييا زمان الخيف هل من عودة ** يسمح الدهر بها من بعد ضنِّأرضينا بثنيات اللوى ** عن زرود يا لها صفقة غبنِسل أراك الجزع هل مرت به ** مزنة روت ثراه غير جفنيوأحاديث الغضا هل علمت ** أنها تملك قلبي قبل أذنييا عجبًا لمن يقطع المفاوز ليرى البيت فيشاهد آثار الأنبياء، كيف لا يقطع نفسه عن هواه؟ ليصل إلى قلبه فيرى آثار
«ويسعني». لمحمد بن أحمد الشيرازي:
إليك قصدي لا للبيت والأثر ** ولا طوافي بأركان ولا حجرِصفاء دمعي الصفالي حين أعبره ** وزمزمي دمعة تجري من البصرِعرفانكم عرفاتي إذ مني منن ** وموقفي وقفة في الخوف والحذرِوفيك سعيي وتعميري ومزدلفي ** والهدى جسمي الذي يغني عن الجزرِومسجد الخيف خوفي من تباعدكم ** ومشعري ومقامي دونكم خطريزادي رجائي لكم والشوق راحلتي ** والماء من عبراتي والهوى سفري.الفصل الرابع:
إخواني: قد نمى إليكم أمر من نما، وسامي وصال الوسام وسما، وافتخر بالنسب والنشب وانتمى، كيف بارزه من أبرزه، عن الحمى، فبات بعد الري يشكو الظما، وقد رأيتم ما جرى، فانتظروا مثل ما. لابن المعتز:
يا نفس ويحك طال ما ** أبصرت موعظة ومانفعتك فاخشي وانتهى ** وعليك بالتقوى كمافعل الأناس الصالحون ** وبادري فلربماسلم المبادر واحذري ** يا نفس من سوف فماخدع الشقي بمثلها ** إياك منها كلماناجت مكايدها ضمير ** ك إنما هي إنماخطرت وكم قتلت ** وأهلكت النفوس وقلماتغني أمانيها إذا ** حضر الردى فكأنمالم يحيي من لاقى ** منيته فيا عجبا أمافي ذاك معتبر ولا ** شاف يبصر من عمىيا ذا المنى يا ذا المنى ** عش ما بدا لك ثم مايا سكران الهوى أما آن الصحو؟ يا ساطرًا قبح الخلاف أما حان المحو؟ أين الراحلون؟ كانوا بالأمس، صحت حجة الموت فبطلت حجة النفس، واعتقلهم حاكم البلى على دين الرمس، وكف أكف الحس، بعد تصرف آلة الخمس، واستوعر عليهم الحصر. واستطال الحبس وأصبحت منازلهم
{كأنْ لم تغنَ بالأمس}.يا قليل اللبث، خل العبث، كم حدث جدث في حدث؟ يا موقنًا بالرحيل وما اكترث، اقبل نصحي. ورم الشعث.
إذا نلت من دنياك خيرًا ففز به ** فإن لجمع الدهر من صرفه شتافكم من مشت لم يصيف بأهله ** وآخر لم يدركه صيف إذا شتىانتهب نثار الخير. في مكان الإمكان، قبل أن تدخل في خبر كان، قبل معاينة الهول المخوف الفظيع، وتلهف المجدب على زمان الربيع، إنما أهل هذه الدار سفر، لا يحلون عقد الركاب إلا في غيرها، فاعجبوا لدار قد أدبرت والنفوس عليها والهة، ولأخرى قد أقبلت والقلوب عنها غافلة.
والله لو كانت الدنيا بأجمعها ** تبقى علينا ويأتي رزقها رغداما كان من حق حر أن يذل لها ** فكيف وهي متاع يضمحل غدايا مكرمًا بحلية الإيمان. بعد حلة الإيجاد، وهو يخلقها في مخالفة الخالق، كم من نعمة نعمة؟ في ترف ترف، وما يخف عليك ذكر شكر. يا عبد السوء ما تساوي قدر قدرتك، لا كانت دابة لا تعمل بعلفها، إلى متى يخدعك المنى؟ ويغرك الأمل؟ ويحك. افتح عينيك متى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي، فاعلم أنه قد مسخ.ما زالت الدنيا مرة في العبرة، ولكن قد مرض ذوقك، لسان قلبك في عقلة غفلة، وسَمْعُ فهمك مسدود عن الفطنة بقطنة. وبصر بصيرتك محجوب بعشا عمى، ومزاج تقواك منحرف عن الصحة، وأما نبض الهوى فشديد الخفقان، سارت أخلاط الأمل في أعضاء الكسل فتثبطت عن البدار، وقد صارت المفاصل في منافذ الفهوم. سددًا، وما يسهل شرب مسهل، ويحك اجتنب حلواء الشره فإنها سبب حمى الروح، خل خل البخل فإنه يؤذي عصب المرؤة، إن عولجت أمراضك فعولجت، وإلا ملكت فأهلكت، لو احتميت عن أخلاط الخطايا لم تحتج إلى طبيب، من ركب ظهر التفريط نزل به دار الندامة ألم تسمع أن داود كان قد أعطي نعمة نغمة. كان يقف لها الماء فلا يسير والطير وقوف الأسير، فامتدت يد الغفلة، فقدت قميص العصمة، فأثر زلله حتى في التلاوة، أعرض المعمار عن المراعاة، فتشعب منزل الصفا، وانقطعت جامكية العسكر، فتفرقت جنود
{أوِّبي} كان يؤتى بالإناء ناقصًا، فيتمه بالدموع.للمهيار:
ما لي شرقتُ بماء ذي الأثل ** هل كدَّر الوُرَّادُ من قبليأما بان سكان فاملح لي ** ما كنت قبل البين أستحليما ابيض لي في الدار بعدهمُ ** يومٌ وهل دارٌ بلا أهلِرحلوا بأيامي الرقاق على ** آثارهم وبعيشي السهلِكان عيش عيشه خضرًا، فأحالت الحال سنة الهجر، فكأن أيام الوصال كانت سنة، وكاد يقطع باليأس، لولا التقاء الخضر باليأس.
أرقي قد رق لي من أرقي ** ورثى لي قلقي من قلقيوبكائي من بكائي قد بكا ** وتشكت حرقي من حرقيكان داود إذا أراد النياحة، نادى مناديه في أندية المحزونين فيجتمعون في مآتم الندوب، فتزداد الحرق بالتعاون.للعباس بن الأحنف:
يا بعيد الدار عن وطنه ** مفردًا يبكي على شجنهْكلما جدَّ النحيب به ** زادت الأسقام في بدنهْولقد زاد الفؤاد شجىً ** هاتفٌ يبكي على فننهْشاقه ما شاقني فبكى ** كلنا يبكي على سكنهْيا مذنبين مصيبتنا في التفريط واحدة وكل غريب للغريب نسيب يا مترافقين: في سفر الطرد. انزلوا للنياحة في ساحة، اندبوا طيب أوطان الوصل، واستغيثوا من هجير الهجر، لعل الغم ينقلب غمامة، تظل من لفخ الكرب.للمصنف:
أين فؤادي إذا به البعد ** وأين قلبي أما صحا بعدحدا بذكر العقيق سايقه ** فطار شوقًا بلبه الوجدجسم ببغداد ليس تصحبه ** روح وروح يضمها نجديا لفؤاد ما يستريح من الكر ** ب له كل لحظة وقدآه لعيش قد كنت أصحبه ** لو كان يومًا لفايت ردأروح في حبكم ووا قلقي ** وهكذا أشتكي إذا أغدواكل زماني جزر عن الوصل أشكو ** هـ فهلا تناوب المديا سعد زدني جوى بذكرهم ** يا سعد قل لي فديت يا سعدبلغهم ما أجن من حرق ** وقل وحدث ببعض ما يدووقل رأيت الأسير في قلق ** وقال لي حرمة ولي عهدثم فسلهم والأمر أمرهم ** يقول مولى ويصمت العبد