الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (45): {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}{واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحًا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم.{كَمَاء} استئناف لبيان المثل أي هي كماء {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} وجوزوا أن يكون مفعولًا ثانيًا لأضرب على أنه عنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل عنى الكلام الواقع فيه التمثيل. وقال الحوفي: الكاف متعلقة حذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربًا كماء وليس بشيء.{فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} أي فاشتبك وخالط بعضه بعضًا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرية سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روى ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى افختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارئ وإن صدق بحسب الوضع على كل من التداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول {فَأَصْبَحَ} ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته {هَشِيمًا} أي يابسًا متفتتًا، وهو فعيل عنى مفعول، وقيل جمع هشيم وأصبح عنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله:وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلًا. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيمًا لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى: {والذى أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى} [الأعلى: 4، 5] {تَذْرُوهُ الرياح} أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود {تذريه} من أذرى رباعيًا وهو لغة في ذري. وقرأ زيد بن علي. والحسن. والنخعي. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. وابن محيصن. وخلف. وابن عيسى وابن جرير {تَذْرُوهُ الريح} بالافراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزًا ثم يصير يابسًا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيمًا {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جملتها الانشاء والافناء {مُّقْتَدِرًا} كامل القدرة. .تفسير الآية رقم (46): {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}{الْمَالُ والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.وعمومه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبره به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعًا الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعًا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها.{والباقيات الصالحات} أخرج سعيد بن منصور. وأحمد. وأبو يعلى. وابن جرير. وابن أبي حاتم وابن مردويه. والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله» وأخرج الطبراني. وابن شاهين في الترغيب. وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من كنوز الجنة» وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن المنذر. وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرها بما ذكر أيضًا لكن بدون الذكر الأخير.وأخرج ابن أبي حاتم. وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس، وأخرج ابن مردويه وابن المنذر. وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضًا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن. وابن عطاى أنها النيات الصالحة؛ واختار الطبري. وغيهر ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها.وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأيًا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولًا أوليًا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنين {خَيْرٌ} من ذلك {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها نزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها من المال والبنبن مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى: {ثَوَابًا} جزاء وأجرًا، وقيل: نفعًا.{وَخَيْرٌ أَمَلًا} حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير {خَيْرٌ} للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية..تفسير الآية رقم (47): {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}{وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال} منصوب باذكر مضمرًا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88]، وقيل: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثًا والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازًا عن الأذهان والأفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفًا فيكون كقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا} [الواقعة: 5، 6]، واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثًا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذًا من الآيات أنه أولًا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبًا مهيلًا ثم هباء منبثًا، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون {يَوْمٍ} ظرفًا للفعل المضمر عند قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} [الكهف: 48] إلخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفًا على ماقبله من قوله تعالى: {عِندَ رَبّكَ} [الكهف: 46] فهو معمول {خَيْرٌ} [الكهف: 46] أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من {عند ربك} [الكهف: 46] في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر. وابن كثير. وأبو عمرو. والحسن. وشبل. وقتادة. وعيسى. والزهري. وحميد. وطلحة. واليزيدي. والزبيري عن رجاله عن يعقوب {مِنْهُ الجبال} برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريًا على سنن الكبرياء وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن. ومحبوب عن أبي عمرو {مِنْهُ الجبال} بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال {وَتَرَى الأرض} خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض {بَارِزَةً} بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ماعداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل: إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر.وقرأ عيسى {وَتَرَى الأرض} ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض {وحشرناهم} أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قبل يكون ذلك مذكورًا، وإيثار الماضي يعد {نُسَيّرُ وَتَرَى} للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيًا وموجبًا، وقال الزمخشري هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه.واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل {نُسَيّرُ}.وقال أبو حيان: الأولى: جعلها حالًا على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التويل الأول، ثم قال: وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودًا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلابد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيدًا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الانصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي لم نترك، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرئ {يُغَادِرُ} بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات.وقرأ قتادة {تغادر} بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى: {مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الإنشقاق: 4] وجوز أبو حيان كونه للقدرة. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيًا للمفعول ورفع {أَحَدٌ} على النيابة عن الفاعل. وقرأ الضحاك {نغدر} بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال.
|