الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (83): {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود، وقيل: اليهود أنفسهم وروى ذلك عن السدي، وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتغبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره صلى الله عليه وسلم ما شاهدوا نوع غرابة، وقيل: للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب، وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل، فعن عقبة بن عامر قال: إن نفرًا من أهل الكتاب جاؤوا بالصحف أو الكتب فقالوا لي: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة والسلام فاختبرته كانهم فقال صلى الله عليه وسلم: ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال: ائتني بوضوء أتوضأ به فاتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال: اذهب فادخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فادخلتهم فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن شئتم اخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا، والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر.واختلف في ذي القرنين فقيل: هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببًا وروي ذلك عن جبير بن نفير، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن الأنباري في كتاب الأضداد. وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلًا ينادي نى ياذا القرنين فقال له همر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح، والخبر على فرض صحته ليس نصًا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السلام فلا تسموا به أنتم وأن تسمى به بعض من قبلكم من الناس.وقيل: هو عبد صالح ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه، الأول أنه دعا إلى طاعة الله تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم الله تعالى وجهه، والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه، الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عبيد بن يعلى، الخامس أنه كان لتاجه قرنان، السادس أنه طاف قرنى الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعًا، السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة.ويونس بن عبيد، الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النرو من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه، التاسع أنه دخل النور والظلمة، العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها.الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بعمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، ولا يخفي أنه يبعد عدم معرفة رجل مكن له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض، وأما الوجوع المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك وقيل: هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكًا عادلًا مطيعًا لله تعالى.وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدًا بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج. وسلم. وتور فأعطى ايرج العراق. والهند. والحجاز. وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونًا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك. ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقًا ولا غربًا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات، ويلزم على هذا القول أيضًا أن يكون الخضر عليه السلام على مقدمته بناءً على ما اشتهر أنه عليه السلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين. وأجيب بأن من يقول: إنه الإسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى، وقيل: هو اسكندر اليوناني ابن فيلقوس، وقيل: قلفيص، وقيل: قليص.وقال ابن كثير: هو ابن فيليس. بن مصريم. بن هرمس. بن مطيون. بن رومي. بن ليطي. بن يونان. بن يافث. بن نونه. بن شرخون. بن تونط. بن يوفيل. بن رومي. بن الأصغر. بن العزير. بن إسحاق. بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان سرير ملكه مقدونيًا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يومًا أو نحو ذلك عند مدينة شيروز، وقول ابن زيدون: إنها مصروهم، وهو الذي غلب دارًا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشر من ملك دارًا الأكبر.وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته بقي في كفالة أبيها فنسب إليه، وقيل: إن دارًا الأكبر تزوج بنت ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل اء السند روس فأذهب كثيرًا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس. ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارًا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له: يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل. وقوله: يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال. وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته. واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمول من الأرض ومثل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدًا. والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر. وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها، وقيل: مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. وقيل: عاش ستًا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة، وقيل: غير ذلك، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال: وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالًا قويًا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم دينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم الله تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لا سبيل إليه. وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذة على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفًا له فيما يوجب الكفر، وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء، ولا يخفى أنه احتمال بعيد، والمشهور أنه كان قائلًا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف، وقيل: إن قوله بذلك وتمذهبه ذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرًا بالصانع تعالى شأنه معظمًا له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالًا وتعظيمًا فقال: لا يجوز السجود لغير بادئ الكل ولم يكن مبعوثًا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكمه حكم أهل الفترة.وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن الله تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات والأخبار، وأيضًا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو نزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السلام فضلًا عن اتخاذه إياه وزيرًا كما هو المشهور في ذي القرنين.واعترض أيضًا بأن اسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة، وقيل: هو الإسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له: ذو القرنين الأكبر، واسمه قيل: مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السلام وكان أسود، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان، وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس، وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل اسبقًا عن ابن كثير.وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضًا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله شروق يوم الاثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادئ والغايات، وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء انطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر، وتوقف بعضهم كالغ بك عن نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة، ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك اسكندران.وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال: إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره، والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرًا طويلًا فقيل: عمر ألفًا وستمائة سنة، وقيل: ألفي سنة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء، وذكر أبو الريحان البيروتي المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي بن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال:ثم قال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن، واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه، ورا يقال: إن عدم شهرة من ذكر تقوى كونه المسؤول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لاسيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السلام ذهب غير واحد، وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السلام، وروي أنه حج ماشيًا فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، وقيل: أتى بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلهتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي إنه هو.وذكر أنه يمكن أن يكون اسكندر لقبًا لمن ذكر معربًا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد، ورا يقال: إن من قال: اسم الإسكندر مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهى إلى قحطان عنى هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان، نعم ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أن يونان أخو قحطان.ورد عليه أبو العباس الناشئ في قصيدته حيث قال: والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان. وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي ابن عمير بن افريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن افريقيس ولم يذكروا بينه وبين افريقيس عميرًا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا: إنه يقال له شمرير عش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش، وقد ذكروا في أبيه افريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى أفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعًا وستين سنة، وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا: إنها معرب شمركند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر لوك اليمن: إنما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعًا وثلاثين سنة وعلى ما قال المسعودي ثلاثًا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعًا وثمانين سنة، ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما الكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وفي ذلك يقول: وأنه كان شديد الوطأة كثير الغزو فمله قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله، ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم ابن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام.وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوًا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منو جهر بن ايرج بن افريدون بعث موسى عليه السلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى، وعليه أيضًا لا يمكن أن يكون شمر هذا هوذا القرنين السابق وهو ظاهر وإذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الاعتبار بناءً على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقتين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام ملك منهم هو ذو القرنين بناءً على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسا تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذا القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضًا، ويجيء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام أيضًا، والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكًا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضًا، واستشكل كون ذي القرنين أيًا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السلام بأن نمرود كان في زمانه أيضًا، وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السلام ممتدًا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبًا وهو كما ترى.ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك بعد نمرود وينحل به الإشكال. وقال بعضهم: الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة. واستشكل أيضًا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودًا. وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم.وموسى. وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال: ومن هو؟ قالوا: ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرًا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر في الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعًا قويًا، هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال، وكأني بك بعد الاطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعى أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنًا بالله تعالى لم يرتكب مكفرًا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك: وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن، وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه، والقول بأن أرسطو كان نزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الاعتقادية على أن الملأ صدر الدين الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيمًا عابدًا موحدًا قائلًا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ} وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشئ من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين، وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرًا عنده في كونه ذا القرنين وقيل: إنه كان وزيرًا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضًا لكنه غير هذا ووقع الاشتباه في ذلك، وقيل: يمكن أن يكون عليه السلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرًا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة. وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيمًا ولعله كان مشتهرًا أيضًا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم، وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين ولا يمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيًا والإسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل؛ وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو اسكندر آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون.والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الاسكندر بن فيلقوس غالب دارا: واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أمرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم، ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين {قُلْ} لهم في الجواب {سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْرًا} الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية، والمراد من أنبائه وقصصه، والجار والمجرور صفة ذكرًا قدم عليه فصار حالًا، والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة الله عز وجل أي سأذكر لكم نبأ مذكورًا من أنبائه، ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن ابتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهر أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرًا أي قرآنًا، والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده صلى الله عليه وسلم وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله: لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى:
|