فهؤلاء الذين يكفرون بآيات الله يتخذون من دونه آلهة يطلبون عندها العزة، والغلب والنصرة، وكان فيهم من يعبد الملائكة ومن يعبد الجن ويستنصرونهم ويتقوون بهم.. كلا! فسيكفر الملائكة والجن بعبادتهم، وينكرونها عليهم، ويبرأون إلى الله منهم، {ويكونون عليهم ضداً} بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم.وإن الشياطين ليهيجونهم إلى المعاصي. فهم مسلطون عليهم، مأذون لهم في إغوائهم منذ أن طلب إبليس إطلاق يده فيهم..{فلا تعجل عليهم} ولا يضق صدرك بهم؛ فإنهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود.. والتعبير يصور دقة الحساب تصويراً محسوساً {إنما نعد لهم عدا}.. وإنه لتصوير مرهوب، فيا ويل من يعد الله عليه ذنوبه وأعماله وأنفاسه، ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير.. إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف ويعيش في قلق وحسبان.فكيف بالله المنتقم الجبار؟!وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة العد والحساب. فأما المؤمنون فقادمون على الرحمن وفداً في كرامة وحسن استقبال: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا}. وأما المجرمون فمسوقون إلى جهنم ورداً كما تساق القطعان. {ونسوق المجرمين إلى الجهنم وردا}. ولا شفاعة يومئذ إلا لمن قدم عملاً صالحاً فهو عهد له عند الله يستوفيه. وقد وعد الله من آمن وعمل صالحاً أن يجزيه الجزاء الأوفى، ولن يخلف الله وعداً.ثم يستطرد السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولات المشركين. ذلك حين يقول المشركون من العرب: الملائكة بنات الله. والمشركون من اليهود: عزير ابن الله. والمشركون من النصارى: المسيح ابن الله.. فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها فطرته، وينفر منها ضميره:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّاً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا}..إن جرس الألفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو: جو الغضب والغيرة والانتفاض! وإن ضمير الكون وجوارحه لتنتفض، وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية، والمساس بقداسة الذات العلية، كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب الإنسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه ويوقره.هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال، والألفاظ بإيقاعها ترسم حركة الزلزلة والارتجاف.وما تكاد الكلمة النابية تنطلق: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع: {لقد جئتم شيئاً إدا} ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر، ويغضب الكون كله لبارئه. وهو يحس بتلك الكلمة تصدم كيانه وفطرته؛ وتجافي ما وقر في ضميره وما استقر في كيانه؛ وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن إليها: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا}..وفي وسط الغضبة الكونية يصدر البيان الرهيب:{إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}.إن كل من في السماوات والأرض إلا عبد يأتي معبوده خاضعاً طائعاً، فلا ولد ولا شريك، إنما خلق وعبيد.وإن الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان.. {لقد أحصاهم وعدهم عدا} فلا مجال لهرب أحد ولا لنسيان أحد {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} فعين الله على كل فرد. وكل فرد يقدم وحيداً لا يأنس بأحد ولا يعتز بأحد. حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يجرد منها، فإذا هو وحيد فريد أمام الديان.وفي وسط هذه الوحدة والوحشة والرهبة، إذا المؤمنون في ظلال ندية من الود السامي: ود الرحمن:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}.وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب، وروْح رضى يلمس النفوس. وهو ود يشيع في الملأ الأعلى، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلئ به الكون كله ويفيض..عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. قال: فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضه أهل السماء؛ ثم يوضع له البغضاء في الأرض».وبعد فإن هذه البشرى للمؤمنين المتقين، وذلك الإنذار للجاحدين الخصيمين هما غاية هذا القرآن. ولقد يسره الله للعرب فأنزله بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرأوه:{فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدّا}..وتختم السورة بمشهد يتأمله القلب طويلاً؛ ويرتعش له الوجدان طويلاً؛ ولا ينتهي الخيال من استعراضه {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا}.وهو مشهد يبدؤك بالرجة المدمرة، ثم يغمرك بالصمت العميق. كأنما يأخذ بك إلى وادي الردى، ويقفك على مصارع القرون؛ وفي ذلك الوادي الذي لا يكاد يحده البصر، يسبح خيالك مع الشخوص التي كانت تدب وتتحرك، والحياة التي كانت تنبض وتمرح. والأماني والمشاعر التي كانت تحيا وتتطلع.. ثم إذا الصمت يخيم، والموت يجثم، وإذا الجثث والأشلاء والبلى والدمار، لا نأمة. لا حس. لا حركة. لا صوت.. {هل تحس منهم من أحد} انظر وتلفت {هل تسمع لهم ركزا} تسمع وأنصت. ألا إنه السكون العميق والصمت الرهيب. وما من أحد إلا الواحد الحي الذي لا يموت.