الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله:
وقد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام وجمع بينهما في أسماء وأحكام وذلك حجة على الطائفتين: على من قال: إن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح. ومن قال: إنهم يستحقون العذاب على القولين. أما الأول فإنه سماهم ظالمين وطاغين ومفسدين؛ لقوله: هذا آخر ما وجد .
هل البخاري؛ ومسلم؛ وأبو داود؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وأبو داود الطيالسي؛ والدارمي؛ والبزار؛ والدارقطني؛ والبيهقي؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى الموصلي هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة؛ أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ؟ وهل إذا وجد في موطأ مالك: عن يحيى بن سعيد؛ عن إبراهيم بن محمد بن الحارث التيمي؛ عن عائشة. ووجد في البخاري: حدثني معاذ بن فضالة؛ قال: حدثنا هشام عن يحيى هو ابن أبي كثير؛ عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة. فهل يقال أن هذا أصح من الذي في الموطأ؟ وهل إذا كان الحديث في البخاري بسند وفي الموطأ بسند فهل يقال: إن الذي في البخاري أصح ؟ وإذا روينا عن رجال البخاري حديثا ولم يروه البخاري في صحيحه فهل يقال. هو مثل الذي في الصحيح؟ فأجاب : الحمد لله رب العالمين. أما البخاري؛ وأبو داود فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد. وأما مسلم؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى؛ والبزار؛ ونحوهم؛ فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي؛ وأحمد؛ وإسحاق وأبي عبيد؛ وأمثالهم. ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز - كمالك وأمثاله - أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق - كأبي حنيفة والثوري -. وأما أبو داود الطيالسي فأقدم من هؤلاء كلهم من طبقة يحيى بن سعيد القطان؛ ويزيد بن هارون الواسطي؛ وعبد الله بن داود. ووكيع بن الجراح؛ وعبد الله بن إدريس؛ ومعاذ بن معاذ؛ وحفص بن غياث؛ وعبد الرحمن بن مهدي؛ وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الإمام أحمد. وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث ومنهم من يميل إلى مذهب العراقيين كأبي حنيفة والثوري ونحوهما كوكيع؛ ويحيى بن سعيد ومنهم من يميل إلى مذهب المدنيين: مالك ونحوه كعبد الرحمن بن مهدي. وأما البيهقي فكان على مذهب الشافعي؛ منتصرا له في عامة أقواله. والدارقطني هو أيضا يميل إلى مذهب الشافعي وأئمة السند والحديث لكن ليس هو في تقليد الشافعي كالبيهقي مع أن البيهقي له اجتهاد في كثير من المسائل واجتهاد الدارقطني أقوى منه؛ فإنه كان أعلم وأفقه منه .
القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه إن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطئوا فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة فإلهام مثل هذا دليل في حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف؛ وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة. وحديث مكحول المرفوع (ما أخلص عبد العبادة لله تعالى أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه؛ وأنطق بها لسانه وفي رواية إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). وقال أبو سليمان الداراني: إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت؛ ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور؛ والصدقة برهان؛ والصبر ضياء) ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟ ولا سيما الأحاديث النبوية؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة؛ لأنه قاصد العمل بها؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا. والعين تعرف من عيني محدثها ** إن كان من حزبها أو من أعاديها إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وفي الحديث الصحيح: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه. وقد قال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب. وأيضا فإن الله فطر عباده على الحق؛ فإذا لم تستحل الفطرة: شاهدت الأشياء على ما هي عليه؛ فأنكرت منكرها وعرفت معروفها. قال عمر: الحق أبلج لا يخفى على فطن. فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن. تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المزايا وانتفت عنها ظلمات الجهالات فرأت الأمور عيانا مع غيبها عن غيرها. وفي السنن والمسند وغيره عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما؛ وعلى جنبتي الصراط سوران؛ وفي السورين أبواب مفتحة؛ وعلى الأبواب ستور مرخاة؛ وداع يدعو على رأس الصراط. وداع يدعو من فوق الصراط؛ والصراط المستقيم هو الإسلام؛ والستور المرخاة حدود الله؛ والأبواب المفتحة محارم الله فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي: يا عبد الله لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب الله؛ والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن) فقد بين في هذا الحديث العظيم - الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق؛ واستغنى به عن علوم كثيرة - أن في قلب كل مؤمن واعظا والوعظ هو الأمر والنهي؛ والترغيب والترهيب. وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت؛ بخلاف القلب الخراب المظلم؛ قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر. وفي الحديث الصحيح: (إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ) فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى إن من رآه افتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله: والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره. وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظن وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه. وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به. وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام؛ وأن هذا الرجل كافر؛ أو فاسق؛ أو ديوث؛ أو لوطي؛ أو خمار؛ أو مغن؛ أو كاذب؛ من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله؛ وأن هذا الرجل صالح؛ وهذا الطعام حلال وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين. وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وأن الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه. وهذا باب واسع يطول بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها .
|