الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **
فيها تسمى المأمون بإمام المؤمنين لما تيقن أن الأمين خلعه وجهز الأمين علي بن عيسى بن ماهان في جيش عظيم أنفق عليهم أموالاً لا تحصى وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه فبلغ إلى الري وأقبل طاهر بن الحسين الخزاعي في نحو أربعة آلاف فأشرف على جيش عيسى بن ماهان - وهم يلبسون السلاح وقد امتلأت بهم الصحراء بياضاً وصفرة في العدد المذهبة فقال طاهر: هذا ما لا قبل لنا به ولكن اجعلوها خارجية واقصدوا القلب ثم قيل ذلك ذكروا ابن ماهان البيعة التي في عنقه للمأمون فلم يلتفت وبرز فارس من جند ابن ماهان فحمل عليه طاهر بن الحسين فقتله وشد داود على علي بن عيسى بن ماهان فطعنه طعنة صرعه بها وهو لا يعرفه ثم ذبحه بالسيف فانهزم جيشه وحمل رأسه على رمح قلت: هكذا في الأصل رشد داود ولم يتقدم له ذكر ولا بين من هو وأعتق طاهر مماليكه شكراً لله عز وجل. قلت: و قد ذكرت في غير هذا الكتاب ما حكى بعضهم أن الوزير علي بن عيسى المذكور ركب في موكب عظيم فصار الغرباء يقولون من هذا فقالت امرأة الى كم تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله تعالى فابتلاه بما ترون فسمعها علي بن عيسى فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة ولحق بمكة فجاور بها إلى أن توفي رحمه الله وهذان النقلان مختلفان والله أعلم أي ذلك كان. وشرع أمر الأمين في سفال وملكه في زوال قيل إنه بلغه قتل ابن ماهان وهزيمة جيشه وكان يتصيد سمكاً فقال للبريد: و يلك دعني لكوثر قد صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئاً بعد وندم في الباطن على خلع أخيه وطمع فيه أمراؤه وفرق عليهم أموالاً لا تحصى حتى فرغ الخزائن وما نفعوه وجهز جيشاً فالتقاهم طاهر أيضاً بهمدان وقتل في المصاف خلق كثير من الفريقين وانتصر طاهر بعد وقعتين أو ثلاث وقتل مقدم جيش الأمين عبد الرحمن الأنباري أحد الفرسان المذكورين بعد أن قتل جماعة وزحف طاهر حتى نزل بحلوان. وفي السنة المذكورة ظهر بدمشق أبو العميطر السفياني فبايعوه بالخلافة واسمه علي بن عبدالله بن خليل ابن الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فطرد عاملها الأمير سليمان بن المنصور فسير الأمين عسكر الحربة فنزلوا الرقة ولم يقدموا عليه. وفيها توفي إسحاق بن يوسف الأزرق محدث واسط روى عن الأعمش وطبقته وكان شيخاً حافظاً عابداً يقال إنه بقي عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء. وفيها توفي أبو معاوية الضرير الكوفي الحافظ وعبد الرحمن بن محمد المحاربي الحافظ. وفيها أو في التي قبلها توفي محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم الكوفي الحافظ ومحدث الشام أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي توفي بذي المروة راجعاً من الحج روى عن ابن أبي مريم وخلائق وصنف التصانيف قال بعضهم: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد صلح أن يلي القضاء وهي سبعون كتاباً. وفيها توفي مروج بن عمرو السدوسي النحوي البصري اخذ العربية عن الخليل بن أحمد وروى الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما وكان الغالب عليه الفقه والشعر وله عدة تصانيف وشعر ومنه: وفارفت حتى ما أراعي ما النوى وإن غاب جيران علي كرام فقد جعلت نفسي على الناس تنطوي وعني على هجر الصديق تنام فيها توفي الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ببغداد فخلع الأمين في رجب وحبسه ودعا إلى بيعة المأمون فلم يلبث أن وثب الجند عليه فقتلوه وأخرجوا الأمين وجرت أمور طويلة وفتنة كثيرة. فيها توفي قاضي البصرة أبو المثنى معاذ بن العنبري وكان أحد الحفاظ. وفيها توفي قاضي شيراز ومحدثها سعد بن الصلت روى عن الأعمش وطبقته وكان حافظاً. وفيها توفي أبو نواس الحسن بن هانىء الشاعر المشهرر وذكر محمد بن داود بن الجراح أن أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة ئم سار إلى بغداد.وقال غيره: و لد بالأهواز ونقل منها وعمره سنتان وأمه هوزانية وكان أبوه من جند مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وكان من أهل دمشق فانتقل إلى الأهواز وتزوج وأولد عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ فأما أبو نواس فأسلمته أمه إلى بعض العطارين فرآه أبو أسامة بن الحباب فاستخلاه وقال له: ارى فيك مخائل أرى لا تضيعها وستقول فاصحبني أخرجك فقال له: و من أنت قال أبو أسامة بن الحباب. قال: نعم أنا والله في طلبك ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك وأسمع منك شعرك فصار أبو نواس معه وقدم به بغداد وأول ما قاله من الشعر وهو صبي. حامل الهوى تعب يستخفه الطرب إن بكى بحق له ليس مابه لعب تضحكين لاهية والمحب ينتحب تعجبين من سقمي صحتي هي العجب قالوا وهو في الطبقة الأولى من المولدين وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة وقد اعتنى بجمع شعره جماعة فلهذا يوجد ديوانه مختلفاً. وحكي في بعض الكتب أن المأمون كان يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس: ألا كل حي هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين غريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وإنما قيل له أبو نواس لذوابتين كانتا له تنوسان على عاتقه وعن ابن عيينة أنه قال: هو أشعر الناس وقال الجاحظ: ما رأيت أعلم باللغة منه وقال أبو حاتم السجستاني: كانت المعاني مدفونة حتى أثرها أبو نواس وقال: لولا أن العامة استبذلت هذين البيتين لكتبتهما بماء الذهب وهما لأبي نواس: ولو أني استزدتك فوق مالي من البلوى لأعوذك المزبد ولو عرضت على الموتى حياتي بعيش مثل عيشي لم يريدوا قلت: و يحكى له من النوادر والغرائب والمخترعات العجائب ما يطول في تعداد الحاسب من ذتك ما حكي عن هارون الرشيد أنه كان ذات ليلة من الليالي يطوف في داره فلقي جارية من جواريه وكان يجد بها وجداً ويلتمس منها حاجته فتأبى عليه فوجدها في تلك الليلة سكرى فجمشها فانحل إزارها وسقط خمارها عن منكبيها فقالت: امهلني تلك الليلة يا أمير المؤمنين فغداً أسير إليك فخلاها فلما كان الصبح أرسل إليها خادماً وقال: اجيبي أمير المؤمنين فقالت: ارجع عليه وقل له: كلام الليل يمحوه النهار فرجع إليه وعرفه بذلك فقال له: انظر من على الباب من الشعراء فلقى الرقاشي وأبا مصعب وأبا نواس فرجع إليه وعرفه بهم فقال أدخلهم إلي فلما حضروا بين يديه قال لهم: عرفتم لم طلبتكم يا شعراء قالوا: لا يا أمير المؤمنين قال: اشتهي من كل واحد منكم شعراً في آخره كلام لليل يمحوه النهار فقال الرقاشي: متى تصحو وقلبك مستطار وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صباً مستهاماً فتاة لا تزور ولا تزار إذا وعدتك صدت ثم قالت كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو مصعب: أما والله لو تجدين وجدي لأذهب للكرى عنك الشرار فكيف وقد تركت العين عبرى وفي الأحشاء من ذكراك نار فقالت: انت مغرور بوعدي كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وهز الريح أردافاً ثقالاً وغصناً فيه رمان صغار وقد سقط الردا عن منكبيها من التجميش وانحل الإزار مددت يدي لها أبغي التماساً فقالت: في غد منك المزار فقلت الوعد سيدتي فقالت: كلام الليل يمحوه النهار فأمر لكل واحد من الاثنين بألف دينار وقال علي بسيف ونطع واضربوا فيه رقبة أبي نواس فقال: و لم تضرب رقبتي يا أمير المؤمنين فقال: كأنك كنت معنا البارحة فقال: و الله يا أمير المؤمنين ما بت إلا في داري وإنما استدللت على ما قلت بكلامك فقبل منه وأمر له بعشرة آلاف دينار. ومما يحكى من غرائب أبي نواس وعجائب اختراعاته أيضاً ما معناه: ان هارون الرشيد طرقه ذات ليلة قلق وسهاد منع الراحة منه والرقاد ففكر فيما يزيل عنه ذلك ويجلب له الانشراح ودار في مواضع فيها النزهة والارتياح فما حصل له الغرض من ذلك حتى دخل على بعض سراريه فوجدها نائمة وجواريها يضربن بالمعازف على رأسها فلما دخل تفرقن من حولها فكشف عن وجهها وقبل موضع خال في خدها فانتبهت ذات فزع وقالت: من هذا فقال: ضيف فقالت: نكرم الضيف بسمعي والبصر فلما أصبح استدعى بأبي نواس فقال: ابو نواس قل له إن ثيابي مرهونة عند الخمارة بست مائة درهم ان استنفكها لي لبست وجئت فالتزم الرشيد ذلك القدر فجاء فقال له أحب أن تنظم لي أبياتاً على هذا اللفظ: نكرم الضيف بسمعي والبصر فقال: طال ليلي عاودني السهر ثم فكرت وأحسنت النظر جئت أمشي في زوايات الخبا ثم طوراً في مقاصير الحجر إذ توجه فمر قد لاح لي آية الرحمن من بين البشر ثم أقبلت إليه مسرعاً ثم طاطيت فقبلت الأثر فاستقامت فزعاً قائلة يا أمين الله ما هذا السفر قلت ضيف طارق في داركم هل تضيفوني إلى وقت السحر فأجابت بسرور سيدي نكرم الضيف بسمعي والبصر فقال هارون: يا تارك كنت البارحة تحت السرير تسمع كلامنا اضربوا عنقه فحلف ما كان هذا وشفعوا فيه فقال: ان كنت صادقاً فقل في شيء أنا أبصره في هذه الساعة وكانت جارية قبالة الرشيد تضرب شذراً في ظل شذرتين لابسة في إحدى كفيها خاتمين وهي في مكان لا يراها أبو نواس ولا أحد غير الرشيد من سائر الناس فقال: نظرت عيني لحيني واشتكى وجدي لبني عند في السدرتين فقال الرشيد أنت تبصرها يا فاعل اقتلوه فحلف ما يبصر شيئاً وتشفع فيه فلم يقبل فقالت جارية بالقرب من الرشيد لا يبصرها غيره ولا إلى سواها يبلغ كلامه بالله يا سيدي خله يروح فقال لها الرشيد سراً إليها: ما أخليه حتى تمشي إلي عريانة فخلت ثيابها ومشت حتى جاءته فخلاه فلما صار أبو نواس عند الباب قال إي والله يا سيدي: ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا فقال له يا شيطان فخرج هارباً من ذلك بعدما أبدع فيما يقول واخترع ما سحر به العقول. قلت وهذا البيت للفرزدق وهو مذكور في موضع آخر من هذا الكتاب في قضية مختصرها أنه اختصم هو وامرأته النوار إلى عبدالله بن الزبير ونزل الفرزدق على حمزة بن عبدالله ونزلت امرأته على امرأته فتشفع كل واحد منهما لنزيله فقبل ابن الزبير شفاعة امرأته دون شفاعة ابنه فقال الفرزدق: ليس الشفيع إلى أخر البيت المذكور. ومما نحن بصدده مناسباً لما ذكرنا من حب الجواري الغانيات وأشعار أبي نواس الرائقات ما حكى الأصمعي قال: كنت عند الرشيد فأتي بجارية ليبتاعها فأعجبته فقال لمولاها: بكم الجارية فقال: بمائة: الف درهم فقال: ادفع المال إليه يا غلام فلما ولى قال: ردوا الجارية فردت فقال: يا جارية أبكر انت أم ثيب فقالت: بل ثيب. فقال: ردوها على مولاها ثم قالوا عشقت صغيرةً فأجبتهم أشهى المطي إلي ما لم تركب كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب فقالت الجارية: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الجواب قال: نعم فأنشدت: إن المطية لا يلد ركوبها حتى تذلل بالزمان وتركبا والحب ليس بنافع أربابه حتى يفضل بالنظام ويثقبا قال فضحك الرشيد وقال يا غلام ادفع ثمنها إلى مولاها وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها قلت: و البيتان اللذان أنشدهما الرشيد هما من شعر أبي نواس واللذان أنشدتهما الجارية هما من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري. قلت ولي قصيدة في الحكم بين هذين المختلفين وفي تفضيل ألوان الغواني بعضها على بعض ووصف أعضائها ومحاسنها الحسناء وذكر غرور الدنيا منها هذه الأبيات: يا مسرعاً نحو الحسان لتخطبا ** تأن واختر مورداً مستعذبا هذا الأجيرع والعوير ** مورد ماء العذيب الخالي المستعذبا ودع المويلج والأزيلم جانباً ** يا من غدا بالغانيات معذبا من بيض مجد عاليات الحسن أو ** من خضر سعد إن نشا أن تخطبا عند الغواني والمعالي أيما تشأ ** فاختر بعد وصفي مذهباسلطان ألوان الغواني أبيض ** وله وزير أصفر قد قربا والأخضر الميمون أضحى عنده ** أيضاً أميراً بالسعادة مخضبا لم يبق إلا جندي أو سائس ** فاختر لما يهواه طبعك فاصحبا كل امرء بالطبع يهوى مشرباً ** يحلو ولو أضحى أجاجاً مشربا لكن بيض الغانيات تفاوتت ** ألوانها فاسمع مقالاً صوبا أبهى أزهاها بياض مشرب ** من صفرة يحكي لجيناً مذهبا إن عذب ما للظما جاء مذهبا ** فظمي الهوى تلقى له ذا مذهبا ذاك الذي ما زلت أهوى والذي ** أختار من بين المذاهب مذهبا دري لون معجب في ناهج ** في كفه العناب يزهو معجبا في خده تفاح روض ** يحببا وبصدره رمانً مرة أرطبا والدر منثوراً يرى في ** لفظه ومنظماً في بسمه مترتبا والمسك مع شهد الماء ** حايم في درة ظلم المفلج أشيبا في فرد بيت حدثاني ما حوى ** بعدها بيت أتى مستنجبا ودعص رمل غصن بان مثقل ** على عمودي وبردي قد ركبا وطول جعد كالغراب مجاور ** وجهأ حكى بدر الدياجي مذهبا ولون بيض من نعام شبه ** المولى به الحور الحسان مرغبا لكن على مقدار أفهام الورى ** قد شبه الرحمن تلك مقربا هيهات ابن البيض ممن لو بدت ** في مشرق ليلاً أضاءت مغربا أو في الأجاج البحر تبرق أودجا ** تبسمت ذا ضاء وذاك استعذابا والمخ في ساق تراه من ورا ** سبعين من جلبابها لن يحجبا وعجبت من قوم صفر رجحوا ** منها وممن مدح خضر أطيبا مع أن لون الحور أقوى حجة ** للبيض لا تلقى بذلك مكذبا والكل ذموا لون جص لم يكن ** ما رونق أو لون در أشربا مع قول هادي العيس أعني مسلما ** بخل الوليد المستنجد المغربا إن المطية لا يلذ ركوبها ** حتى تذلل بالزمام وتركبا والحب ليس بنافع أربابه ** حتى يفضل بالنظام ويثقبا وجوابا جلد يافعي في الحمى أبداً ** مع التفضيل تفضيل النبا أبدا قريضا في يراع حاكما ** ومبينا فضلا لكل مطيبا أولى مطايا العبد ما لم يمتطي لن يعد ** روض ما يرى مستصعبا والدر سهل الانتفاع تقية ** وغير ممغوث سهى جربا هذا لعمري في الحكومة قد كفى ** فضلاً وإن فضلاً ترم يا مرحبا فالبسط في نظم وشر عادة ** لي حببت والقلب مع ما حببا مستثنياً قل في روض هجت ** محبوبة تلك الرعات تحببا ما تهتدي فيه ثواني ** سهلة و تريك ما لا تهتديه مطربا في الكل فضل معجب لكنه ** في غير ممغوث تراه أعجبا مهلاً هديت الرشد يا من قلبه ** نحو الغواني و الأغاني قد صبا اعلم بأناكم نفيس مطية ** قد امتطينا و اختبرنا المركبا فالكل الفينا سراباً كالهبا ** في قاع دنيا حين جر الهبا وإليه عن حصب رأى كم سالك ** في سفره ملنا تام المجدبا فلا سراباً فيه ألقينا ولا سرنا ** فألقينا البهيج المخصبا مع ما ارتكبنا من مخوف كالتي ** عن ركبها مالت اليه لتشربا ظنته ماء فانتحته فلم تجد ** شيئاً و خافت عنده أن ينهبا وهكذا الأيام تنهب عمرنا ** في غير خير يختشى أن تذهبا
فيها حوصر الأمين ببغداد وأحاط به طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وزهير بن المسيب في جيوشهم وقاتلت مع الأمين الرعية وقاموا معه قياماً لا مزيد عليه ودام الحصار سنة واشتد بالبلاء وعظم الخطب. وفيها توفي قاضي صنعاء هشام بن يوسف من أبناء الفرس سمع معمراً وابن جريج وأخذ عنه ابن المدائني وهو من رواة الصحيحين. وفيها توفي محدث الشام الإمام أبو محمد بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي الحافظ رحمه الله. وفيها توفي شعيب بن حرب المدائني الزاهد احد علماء الحديث. وفيها توفي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح روى عن الأعمش قال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع قلت وهو الذي أشار إليه القائل بقوله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأوصاني إلى ترك المعاصي وعلله بأن العلم فضل وفضل الله لا يحويه عاصي قال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعاً وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة و قال أحمد: ما رأت عيني مثل وكيع. وفيها توفي الإمام أحد الأئمة الأعلام عبدالله بن وهب الفهري مولاهم الفقيه المالكي المصري صحب الإمام مالك عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير وقال أحمد بن صالح: حدث بمائة ألف حديث وقال مالك في حقه: عبدالله بن وهب إمام وكان مالك يكتب إليه إذا كتب في المسائل: الى عبدالله بن وهب المفتي ولم يكن يفعل هذا مع غيره. وذكر ابن وهب وابن القاسم عند الامام مالك فقال: ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه وقال يونس بن عبد الأعلى: كتب الخليفة إلى عبدالله بن وهب في قضاء مصر فخير نفسه ولزم بيته فاطلع عليه بعضهم يوماً وهو يتوضأ في صحن داره فقال له ألا تخرج الى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله فرفع إليه رأسه وقال: الى هاهنا انتهى عقلك أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين وكان صالحاً جامعاً بين الفقه والرواية والعبادة وله تصانيف معروفة وسبب موته أنه قرىء عليه كتاب الأهوال من جامعه فأخذه شيء كالغشيان فحمل إلى داره فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه رحمه الله.
فيها ظفر طاهر بن الحسين بعد أمور يطول شرحها بالأمين فقتله وصلب رأسه رمح وكان مليحاً أبيض اللون جميل الوجه طويل القامة عاش سبعاً وعشرين سنة واستخلف ثلاث سنين وأياماً وخلع في رجب سنة ست وتسعين وحارب سنة ونصفاً وهو ابن زبيدة بنت جعفر بن المنصور. وفي أول رجب منها توفي شيخ الحجاز وأحد الأعلام أبو محمد سفيان بن عييبة الهلالي مولاهم الكوفي الحافظ نزيل مكة وله أحد وتسعون سنة وحج سبعين حجة قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز وقال ابن وهب: لا أعلم أحداً أعلم بالتفسير من ابن عيينة وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أعلم بالسنن من ابن عيينة. وقال غيرهم من العلماء: كان إماماً عالمأ ثبتاً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته. روى عن الزهري وأبي إسحاق السبيعي وعمرو بن دينار ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد وعاصم بن أبي النجود المقري والأعمش وعبد الملك بن عمير وغير هؤلاء من أعيان العلماء. وروى عنه الإمام الشافعي وشعبة بن الحجاج ومحمد بن إسحاق وابن جريج والزبير بن بكار وعمرو بن مصعب وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ويحيى بن أكثم القاضي وغير هؤلاء من العلماء الأعلام ممن يكثر عددهم من الأنام. وقال الشافعي: ما رأيت أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان وما رأيت أكف عن الفتيا منه وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار قال فجاء الناس يسألوني عن عمرو بن دينار فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة فذاكرته فقال لي يا بني ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث يضطرب في حفظ تلك الأحاديث توفي سفيان رحمة الله عليه بمكة قلت: و قبره معروف مكتوب عليه بالخط الكوفي اسمه. وفي جمادى الآخرة منها توفي الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي البصري اللؤلؤي الحافظ أحد أركان الحديث بالعراق وله ثلاث وستون سنة. وفيها توفي الإمام أبو يحيى معن بن عيسى المدني القزاز صاحب مالك وفي صفر توفي الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان البصري الحافظ أحد الأعلام قال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله وقال ابن معين: اقام يحيى القطان عشرين سنة يختم في كل ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة.
فيها توفي يونس بن بكير الشيباني الكوفي الحافظ صاحب المغازي. وفيها توفي سليمان بن إسحاف الرازي وكان عابدأ خاشعاً يقال إنه من الأبدال. وفيها توفي حفص بن عبد الرحمن البلخي كان ابن المبارك يزوره ويقول اجتمع فيه الفقه والوقار والورع. فيها توفي أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن مسلم المدني الحافظ رحمه الله تعالى. وفيها على القول الصحيح توفي الولى الكبير العارف بالله الشهير المجتبي المقرب الترياق المجرب مطلع الأنوار ومنبع الأسرار مظهر الآيات ومقر الكرامات العلية والأحوال السنيه أبو محفوظ معروف الكرخي من موالي علي بن موسى الرضا وكان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب وهو صبي وكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول معروف: بل هو الله الواحد القهار فضربه المعلم يوماً على ذلك ضرباً مبرحاً فهرب منه وكان أبواه يقولان ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه ثم إنه أسلم على يدي علي بن موسى الرضا ورجع إلى أبويه فدق الباب فقيل له: من بالباب فقال: معروف فقل: على أي دين فقال: على الإسلام فأسلم أبواه وكان مشهوراً بإجابة الدعوة وأهل بغداد يستسقون بقبره ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان السري تلميذه فقال له يوماً: اذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى فأقسم عليه بي. وأتاه مرة بإنسان إلى دكانه وأمره أن يكسوه فكساه فقال معروف بغض الله اليك الدنيا فقام من مجلسه ذلك وقد بغضت إليه الدنيا. وأتت امرأةً إلى معروف في بغداد وهي حزينة على ولد لها صغير ضاع وقد سألته أن يدعو لها بردة عليها فقال: اللهم إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك فاحفظه واردده على أمه او كما قال في دعائه فإذا به قد جاء فقالت له أمه: اين كنت فقال: كنت الساعة في باب الأنبار. وقال السري: رأيت معروفاً في النوم كأنه تحت العرش والباري جلت قدرته يقول للملائكة: من هذا وهم يقولون: انت أعلم يا رب منا فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق إلا بلقائي. وقال محمد بن الحسين: سمعت أبي يقول: رأيت معروفاً الكرخي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي فقلت: بزهدك وورعك قال: لا بل بقبول موعظة ابن السماك ولزومي الفقر ومحبتي للفقراء. وكانت موعظة ابن السماك قوله: من أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملته ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته عليه وأقبل بوجوه الخلق إليه ومن كان مرة ومرة فالله يرحمه وقتاً ما قال فوقع كلامه في قلبي وأقبلت على الله تعالى وتركت جميع ما كنت عليه. وذكر بعضهم انه سمع مشايخ بغداد يحكون أن عون الدين بن هبيرة كانت سبب وزارته أنه قال: قد ضاق ما بيدي. حتى فقدت القوة أياماً فأشار علي بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه واسأل الله عنده فإن الدعاء عنده مستجاب قال: فأتيت قبر معروف الكرخي فصليت عنده ودعوت ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد فاجتزت بمحلة من محال بغداد فرأيت مسجداً مهجوراً فدخلله لأصلي فيه كعتين فإذا بمريض ملقى على بارية فقعدت عند رأسه وقلت له: ما تشتهي فقال: سفرجلة قال: فخرجت إلى بقال هناك فرهنت ميزرتي على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك فأكل من السفرجلة ثم قال أغلق باب المسجد فأغلقته فتحنى عن البارية وقال: احفرها هنا فحفرت فإذا بكوز فقال: خذ هذا فأنت أحق به فقلت أما لك وارث قال: لا إنما كان لي أخ وعهدي به بعيد وبلغني أنه مات ونحن من الرصافة قال: فبينما هو يحدثني إذ قضى نحبه فغسلته وكفنته ودفنته ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمس مائة ينار وأتيت إلى دجلة لأعبرها وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة فقال: معي معي فنزلت معه وإذا به من أكبر الناس شبهاً بذلك الرجل فقلت: من أين أنت فقال: من الرصافة ولي بنات وأنا صعلوك فقلت: ما لك أحد قال: لا وكان لي أخ ولي عنه زمان وما أدري ما فعل الله به فقلت: ابسط حجرك فبسط فصببت المال فيه فبهت فحدثته الحديث فسألني أن آخذ نصفه فقلت: و الله ولا حبة ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها أشراف المخزن ثم تدرجت إلي الوزارة ومناقب معروف كثيرة وفضائله شهيرة وموضع ذكر شيء منها كتب السلوك.وفيها توفي أبو البختري وهب بن وهب القرشي الأسلي المدني حدث عن العمري وجعفر الصادق وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه غير واحد وكان متروك الحديث ينسب إلى وضعه وتولى القضاء بالمدينة وغيرها ثم عزل وأقام ببغداد إلى أن توفي بها وكان فقيهاً أخبارياً نسابةً جواداً سرياً سخياً يحب المديح ويثيب عليه الجزيل وكان إذا أعطى قليلاً أو كثيراً أتبعه عذراً إلى صاحبه وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه حتى لو رآه من لا يعرفه لقال: هذا الذي قضيت حاجته وكان جعفر الصادق وقد تزوج أمه. وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وبالغ في مدحه وقال دخل شاعر فأنشده: إذا افتر وهب خلته برق عارض ينعق في الأرضين أسعده السكب وما ضر وهباً ذم من خالف الملا كما لا يضر البدر ينبحه الكلب فاستهل ضاحكاً وأمر له بصرة فيها خمس مائة دينار وقوله ينعق أي ابتعج السحاب بالمطر وقوله عقيد الندى وهو بمعنى قولهم فلان عقيد الكرم وفي البخل يقولون عقيد اللؤم إذا بالغوا في المدح والذم قلت ولعله مأخوذ من عقد العسل إذا أثخن قال الجوهري يقال عقد الرب وغيره إذا غلظ فهو عقيد. وحكى الخطيب أن أبا البختري قال: لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هو أعلم مني استفدت. قلت: و التعليل بغير هذا أحسن وأصوب وهو أنه إذا كان أعلم منهم تقلد الأمور الخطيرة وأسندت إليه الخطوب المضرة التي لعله لا يكمل للقيام بها ولا يأمن الوقوع في عطبها وإذا كانوا أعلم منه انتفى عنه ذلك المحذور وأمن من الخوف في عواقب الأمور وله تصانيف منها كتاب فضائل الأنصار وأخباره ومحاسنه كثيرة وأقوال المحدثين في الطعن فيه شهيرة.
فيها عهد المأمون إلى علي بن موسى الرضا العلوي بالخلافة من بعده وأمر الدولة بترك السواد ولبس الخضرة وأرسل إلى العراق بهذا فعظم على بني العباس الذي ببغداد ثم خرجوا عليه وأقاموا منصور بن المهدي ولقبوه بالمرتضى وسيأتي ذكر ذلك مع غيره في وفي السنة المذكورة أعني الأولى بعد المائتين أول ظهور بابك الخرمي من الفرق الباطنية الزنادقة فعاث وأفسد وكان يقول بتناسخ الأرواح.وفيها توفي حماد بن أسامة الكوفي الحافظ مولى بني هاشم قال أحمد: ما كان أثبت لا يكاد يخطىء روى عن الأعمش والكبار.وفيها توفي أبو الحسن الواسطي محدث واسط روى عن الحسين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب والكبار وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفاً فقال وكيع: أدركت الناس والحلقة لعلي بن عاصم بواسط. وقال بعض المؤرخين: كان إماماً ورعاً صالحاً جليل القدر وضعفه غير واحد لسوء حفظه.
فيها توفي الإمام المقرىء النحوي اللغوي صاحب التصانيف الأدبية يحيى بن المبارك العدوي المعروف باليزيدي لصحبته يزيد بن منصور خال المهدي. كان نحوياً لغوياً شاعراً فصيحاً أخذ عن الخليل من الغريب واللغة وكتب عنه العروض وله " كتاب النوارد في اللغة " ودخل مكة في رجب فأقبل على العبادة والاجتهاد والصدقة الكثيرة وقد حدث بها عن أبي عمرو وروى عنه محمد ابنه وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وجماعة من أولاده وأبو عمر الدوري وأبو شعيب السوسي وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل وأبو خلاد سليمان بن خلآد وغيرهم. وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة من القرآن وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور خال المهدي وإليه كان ينسب كما تقدم ثم اتصل بهارون الرشيد فجعل ولده المأمون حجره. فكان يؤدبه وكان ثقة وهو أحد الفصحاء العالمين بلغات العرب وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد. وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو الخليل بن أحمد كما مر ومن كان معاصرهما وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد ويقرآن الناس أن الكسائي يؤدب الأمين ويأخذ عليه حرف حمزة وهو يؤدب المأمون ويأخذ عليه حرف أبي عمر وقال: وجه إليه يوماً بعض خدمه فأبطأ عليه فوجه إليه آخر فكذلك قال: فقلت إن هذا الفتى ربما اشتغل بالبطالة. فلما خرج مرت بحلة وقومته أو كما قال لتدلك عينه من البكاء إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل فأخذ منه منديلاً فمسح عينيه وجمع ثيابه عليه وقام إلى فراشه مد عليه متربعاً ثم قبل ليدخل فدخل وقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه وضحك إليه. فلما هم بالحركة دعا بدابتة وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ثم سأل عني فجئت فقال: خذ على ما بقي من حزبي فقلت: يا أيها الأمير أطال الله بقاءك لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر فقال: حاشا لله أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا. فكيف بجعفر يطلع على أني محتاج إلى الأدب يغفر الله لك لقد بعد ظنك خذ في أمرك فقد خطر ببالك ما لا يكون أبداً ولو عدت في كل يوم مائة مرة. وحكى المرزباني وغيره قالوا: سأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين فقال: لله درك ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظها انتهى. قلت: وإنما حسن وضع الواو في لفظه المذكور لأنه لو حذفها منه لاستحق بذلك الأدب من الملوك بل القتل لأنه حينئذ يكون نافياً لجعله فداء له وإثباتها يثبت جعله فداء نفسه الكريمة مقدماً بقاءه على بقاء نفسه عند نزول النوائب وذلك من أعظم الآداب وأحسن التخاطب. وقال بعضهم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة فأوسع له وأجلسه معه فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك فقال الخليل: ما ضاق موضع على متحابين والدنيا لا تسع متباغضين. وقال اليزيدي: دخلت على المأمون والحنيا غضة وعنده " نعم " تغنيه وكانت من أجمل أهل دهرها فأنشدت. وزعمت أني ظالم فهجرتني ورميت في قلبي بسهم نافذ فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي هذا مقام المستجير العائذ ولقد أخذتم من فؤادي أنسه لا مثل ربي كف ذاك الآخذ فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات ثم قال: يا يزيدي أيكون شيء أحسن مما نحن فيه. قلت: نعم يا أمير المؤمنين فقال: وما هو قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم فقال: أحسنت وصدقت.ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها وحكي: أنه وقع بين اليزيدي والكسائي تنازع في هذا البيت: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر فقال الكسائي: يجب أن يكون مهراً منصوباً على أنه خبر كان ففي البيت على التقدير أقوال وقد علم كون حرف الروي فيما قبله مرفوعاً فقال اليزيدي: الرفع صواب لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية وهي مؤكدة للأولى ثم استأنف وقال: المهر مهر وضرب بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد فقيل له: اتكتني بحضرة أمير المؤمنين. والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه لأحسن من صوابك مع سوء أدبك. فقال: إن حلاوة الظفر أذهب عني حسن التحفظ. وفيها: توفي الفضل بن سهل وزير المأمون أبو العباس السرخسي أخو الحسن بن سهل وعم بوران التي تزوجها المأمون قالوا: لما وزر للمأمون استولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شراءها وكانت فيه فضائل. وتلقب بذي الرياستين وكان من أخبر الناس بعلم النجوم وأكبرهم إصابة في أحكامه فيها. حكى أبو الحسين السلامي في تاريخ ولاة الخراسان أنه لما عزم المأمون على إرسال طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه الأمين نظر الفضل بن سهل في مسألته فوجد الدليل في وسط السماء. وكان ذا عينين فأخبر المأمون بأن طاهراً يظفر بالأمين. وتلقب بذي اليمينين فكان الأمر كذلك. فتعجب المأمون من إصابة الفضل ولفب طاهراً بذلك. وولع المأمون بالنظر في علم النجوم قال السلامي: ومما أصاب الفصل بن سهل فيه من أحكام النجوم أنه اختار للطاهر بن الحسين حين سمي للخروج إلى الأمين وقتاً عقد فيه لواء فسلمه إليه ثم قال له: لقد عقدت لك لواء لا يحل خمساً وستين سنة. وكان بين خروج طاهر بن الحسين إلى وجه علي بن عيسى بن هامان مقدم جيش الأمين وقبض يعقوب بن الليث بنيسابور خمساً وستين سنة. ومن إصاباته أيضاً ما حكم به على نفسه. وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلفه فحملت إليه سكة مختومة مقفلة ففتح قفلها فإذا صندوق صغير مختوم فإذا فيه درج وفي الدرج رقعة حرير مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه قضى أنه يعيش ثمان وأربعين سنة ثم يقتل بين ماء ونار فعاش هذه المدة ثم قتله غالب " خال المأمون " في حمام بسرخس كما سيأتي إن شاء الله تعالى وله غير ذلك إصابات كثيرة. ويحكى أنه قال يوماً لثمامة بن الأشرس: ما أدري ما أصنع في طلاب الحاجات فقد كثروا علي وأضجروني. فقال له: زل عن موضعك وعلي أن لا يلقاك أحد منهم قال: صدقت. وانتصب لقضاء أشغالهم. وكان قد مرض بخراسان وأشفى على التلف. فلما أصاب العافية جلس للناس فدخلوا عليه وهشوا بالسلامة وتصرفوا في الكلام فلما فرغوا من كلامهم أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها بمحيص الذنوب والتعرض لثواب الصبر والإيقاظ من الغفلة والإذكار بالنعمة في حال الصحة واستدعاء التوبة والحض على الصدقة وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء وفيه يقول بعضهم وقيل ابن أيوب التيمي: ترى عظماء الناس للفضل خشعاً إذا ما بدا والفضل لله خاشع تواضع لما زاده الله رفعة وكل جليل عنده متواضع وقال فيه مسلم بن وليد الأنصاري من جملة قصيدة: أقمت خلافة وأزلت أخرى ** جليل ما أقمت وما أزلتا قالوا: ولما ثقل أمره على المأمون دس عليه خاله غالباً فدخل عليه الحمام بسرخس ومعه جماعة فقتلوه مفاوضة وذلك يوم الجمعة ثاني شعبان من السنة المذكورة وقيل في التي تليها وعمره أربعون وقيل إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر والله أعلم ولما قتل مضى المأمون إلى والدته ليعزيها فقال لها: لا تأسي عليه ولا تجزعي لفقده فإن الله قد أخلف عليك مني ولداً به يقوم مقامه فمهما كنت تنشطين إليه فيه فلا تنصصي عني منه. فبكت ثم قالت: يا أمير المؤمنين وكيف لا أحزن على ولد النسبي ولد مثلك " وسرخس " المذكور بالسين المهملة مكررة قبل الراء وبعد الخاء المعجمة الساكنة مدينة بخراسان.
|